تدوين وتحرير: نافذ أبو حسنة

مراجعة: رجا عدنان[1]

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

سنة النشر: 2021

الطبعة: الثانية

عدد الصفحات: 571

 

جمرٌ لا ينطفئ

أول ما يلفتك بعد الانتهاء من قراءة هذه المذكرات أنها تغطي مراحل سياسية وفكرية عاشتها بلداننا العربية والعالم على مدى ما يقارب السبعين سنة بما تطرحه من رؤى تختلف عن الكثير من الشائع من المقولات، وتنفرد بها، وهو ما يعطي للمذكرات سماتها الخاصة وشخصيتها ورونقها.

إنها تغطي مرحلة النكبة وإقامة الكيان الصهيوني، من خلال قراءة فاحصة لموازين القوى عالميًا وإقليميًا وعربيًا وفلسطينيًا، يمكن الخروج بنتيجة أن موازين القوى التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى لم تكن لتسمح بإحباط المشروع الاستعماري البريطاني- الغربي الذي استقدم مئات الألوف من اليهود الصهاينة إلى فلسطين قبل حرب 1948-1949.

هكذا لم يكن من الممكن لأية قيادة فلسطينية أن تنتصر على بريطانيا والمشروع الصهيوني، بالرغم من المواجهات الباسلة للمجاهدين الفلسطينيين والعرب، من قوات الجهاد المقدس، أو القوات التي قادها فوزي القاوقجي، أو قوات الجيوش العربية. وكانت تلك المواجهات أشبه بالسباحة ضد التيار. فالبريطانيون من خلال احتلالهم كبّلوا الشعب الفلسطيني، وجرّدوه من السلاح وحموا الاستيطان بجميع الأشكال. وتوضح المذكرات أنه في حرب 1948 كان الصهاينة يزجون بثلاث أو أربع كتائب من فئات المقاتلين، ترافقهم المصفحات والدبابات بينما كان المدافعون لا يتعدون العشرات، فكانت تُخلى البيوت بسبب المعارك أملًا في العودة إليها. وبذلك يرد منير شفيق على المقولات السخيفة التي تقول «إن الفلسطيني باع أرضه». كما يرد على المقولات التي فسّرت نكبة فلسطين لأسباب طبقية أو عائلية، أو اجتماعية، أو مرجعية نظرية، أو لأسباب خيانة البعض من البلدان العربية، أو لأخطاء ارتُكِبت وكان تلافيها كفيلًا بالانتصار، بالرغم من حصول الأخطاء والخيانات. ويرى أنه مما زاد من تفاقم ميزان القوى في مصلحة المشروع البريطاني- الصهيوني، انتقال الموقف السوفياتي من رافض للتقسيم إلى مؤيّد له من خلال الموافقة على قرار التقسيم الرقم (181) لعام 1947، ثم الداعم له عسكريًا (أسلحة تشيكية)، ومعترفًا بدولة إسرائيل، الأمر الذي جعل الأحزاب الشيوعية العربية تنجرّ وتؤيد قرار التقسيم وهو ما كان له الأثر السلبي في القضية الفلسطينية، وعلى مستقبل تلك الأحزاب فلسطينيًا، وأردنيًا، وعربيًا.

أولًا: انضمامه إلى الحزب الشيوعي

كان الدافع لانضمام منير شفيق إلى الحزب الشيوعي الأردني تأثره بالماركسية من خلال والده، واقتناعه بها كقوّة بروليتارية ثورية تهدف إلى إقامة العدالة الاجتماعية-الاشتراكية على مستوى العالم، والقضاء على الرأسمالية والإمبريالية. ولكن بعد دخوله إلى الحزب، وإبعاد قرار التقسيم من برنامجه تكتيكيًا، وليس بقناعة من قيادته، أخذ يتبلور عنده نقد للحزب الشيوعي وهو في السجن، الذي أمضى فيه عشر سنوات. وقد وصل إلى قناعة لخّصها في لقائه مع أمين عام الحزب فهمي السلفيني بعد صدور عفو عام، وخروج الشيوعيين من السجن، بما يلي:

1 – إن أكبر آفة مصاب بها الحزب الشيوعي هي تبعيته السياسية للاتحاد السوفياتي، وتبنيه كل المواقف السوفياتية من دون تحفظ أو اعتراض على أيّ منها سواء كانت متعلقة بقرار تقسيم فلسطين والاعتراف بالكيان الصهيوني، أو مواقفه من عبد الناصر والأحزاب القومية، أو من الوحدة المصرية-السورية. وتوجَّه بالنقد للأحزاب الشيوعية التي كانت ترى أن الحزب الشيوعي السوفياتي دائمًا على صواب، وتتبع من دون تحفظ سياسات قياداته من ستالين إلى خروشوف إلى بريجنيف، وطبعًا إلى سياسة البريسترويكا وحتى انهياره.

كان دفاع الحزب الشيوعي عن موقفه المؤيد لقرار التقسيم يستند إلى فرضية، وهي أن قرار التقسيم لو طُبق لما حدثت النكبة، ولما هُجّر ثلثا الشعب الفلسطيني، ولكانت دولة فلسطين. وكان ردّ منير شفيق: أن قرار التقسيم غير قابل للتطبيق لسببين، الأول أن نسبة السكان العرب في المنطقة المخصصة للكيان الصهيوني هي ما بين 48 و49 بالمئة، كذلك فإن ملكية الأرض والمساكن تزيد على 90 بالمئة للعرب الفلسطينيين، لذلك لم يكن من الممكن أن يقيم دولة أو يستقبل مهاجرين صهاينة جددًا إلاّ باقتلاع الفلسطينيين وتهجيرهم.

من هنا كان يُراد من قرار التقسيم فقط إعطاء شرعية لإعلان دولة «إسرائيل»، وليس لتطبيق القرار حتى لو وافق عليه الفلسطينيون والعرب. أضف أن ميزان القوى العسكري كان في مصلحة إشعال الحرب لتهجير الفلسطينيين. فكيف كان يمكن إقامة دولة يهودية من دون اقتلاع ثلثي الشعب الفلسطيني، ومصادرة بيوته؟ (عملية تفريغ وإبادة بشرية).

لذلك طالب قبل خروجه من الحزب أو كشرط لبقائه فيه، أن:

أ‌ – يأخذ الحزب موقفًا مستقلًا في رسم سياساته، وعدم التبعية لموسكو بما في ذلك الموقف من الصراع السوفياتي- الصيني.

ب ‌- رفض قرار التقسيم واعتباره جريمة كبرى، وليس مجرد خطأ جسيم. فهو قرار أُريدَ منه فقط إعطاء «شرعية» لإعلان وإقامة دولة يهودية في فلسطين، ومن ثم شنّ الحرب بعد أن يؤمن له التفوق العسكري الكامل لاقتلاع ثلثي الشعب الفلسطيني من دياره، والحلول مكانه، وإقامة ما سمي «دولة إسرائيل».

جـ – تأييد الوحدة العربية من دون وضع شروط عليها مثل ضرورة تطبيق الديمقراطية، أو التحرر، أو العدالة. لأن من يضع الشروط يكون عمليًا مع شروطه وليس مع الوحدة، التي هي فعل وجود بالنسبة إلى الأمة العربية، وهي الأصل والأساس. وأما الشروط فيمكن النضال من أجلها في ظل الوحدة وبعد تحقيقها.

د – أخذ موقف إيجابي وداعم لعبد الناصر وحركته التحررية وعدم معاداتها، لأسباب سياسية ثانوية، كما فعلت الأحزاب الشيوعية وبعض الحركات القومية أو الديمقراطية.

هـ – حسبان الإمبريالية الأمريكية هي العدو الرقم واحد لشعوب العالم، والنضال ضدها.

 ثانيًا: انتسابه إلى حركة فتح

اختار منير شفيق الانضمام إلى حركة فتح، لأنه رأى في منطلقاتها ما يعبّر عن الموضوعات التي اختلف حولها مع الحزب الشيوعي. مثلت فتح بالنسبة إليه توجهًا مستقلًا قائلًا بعدم شرعية الكيان الصهيوني. ويهدف إلى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. ويربط بين عملية التحرير والوحدة العربية أو بين الثورة الفلسطينية والثورة العربية. كما مثلت فتح بالنسبة إليه توجهًا مستقلًا عن المحاور الدولية، ومتصالحة مع التاريخ العربي-الإسلامي والشعب. واعتبر منطلق عدم التدخل بالشؤون العربية، بالنسبة إلى فتح، معالجة للتناقض الثانوي في علاقته بالتناقض الرئيس المتمثل بالصراع ضد الكيان الصهيوني وراعيته الولايات المتحدة الأمريكية عبر الكفاح المسلح.

فقد تحولت منطلقات فتح إلى أهداف وثوابت. وكانت بالنسبة إليه المرجعية لما قام من تناقض وصراع مع قيادة الحركة، كلما أوغلت في مشروع التسوية، وإقامة دويلة في الضفة الغربية وقطاع غزة. أو كلما تخلت عن منطلق عدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية ابتداء من قرار «عزل الكتائب» بعد مجزرة عين الرمانة، والانخراط في الحرب الأهلية، أو الصراع مع سورية وقبله مع الأردن، ثم الانحياز الكامل مع العراق ضد إيران في ثمانينيات القرن العشرين.

سادت حملة واسعة تقول إن سبب ما حدث، هو موقف الرفض أو قول «لا»، ومن ثم لماذا لا نجرّب الدخول في التسوية، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ما دامت الإرادة الدولية، والسياسات العربية كلها ذاهبة إلى هذه التسوية.

كان موقف منير شفيق منذ البداية، أن تلك السياسات أيضًا غير قابلة للتطبيق، لأن المشروع الصهيوني يريد كل فلسطين، وتهجير كل الشعب الفلسطيني، وإحلال اليهود. لهذا فإن السير في طريق التسوية يعني تقديم تنازلات مجانية على حساب الثوابت والشرعية الفلسطينية، كما يعني الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني ومستوطنيه غير الشرعيين في مجيئهم لفلسطين، وبمخالفة القانون الدولي. لهذا عارض منير شفيق وبشدة تلك المبررات التي أوصلت إلى أوسلو.

من هنا عبّر منير شفيق في ذكرياته أن التيار الذي نشأ داخل فتح، وكان هو من قيادته إلى جانب محمد محمد ابحيص (أبو حسن قاسم) – قائد التيار – وسعد جرادات، وحمدي (باسم سلطان)، كان يمثل فتح المنطلقات الأصيلة. وأما من ذهبوا إلى التسوية، وأعلنوا الدولة «المستقلة» في 1988 في الجزائر، وشاركوا في مفاوضات مدريد، ووقعوا على اتفاق أوسلو هم من خرجوا على منطلقات فتح.

ثالثًا: مع التيار داخل فتح

من الإنجازات النظرية والعملية التي تضمنها كتاب من جمر إلى جمر، تناوله بإسهاب موضوع التيار الذي تشكل من داخل فتح، ومن بعض اليسار اللبناني والعربي من خارجها. طبعًا بثقل كبير وواسع من الشباب والشابات اللبنانيين حيث ما كنت تستطيع أن تفرق بين الكوادر والقيادات التي شكلت التيار. وقد تعدى عددها الآلاف، أو ما بين هويتهم الدينية أو المذهبية.

كشف منير شفيق في تناوله لنشأة التيار عن النواة الأولى التي أسسته مبرزًا قيادة محمد محمد أبحيص (أبو حسن قاسم) له. وهذا لم يكن معروفًا لدى تناوله لدوره إلى جانب دور حمدي (باسم التميمي)، وسعد جرادات ودوره هو، ليبدأ المشروع بالتوسّع في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، وبالتحديد في الدفاع عن سلاح المقاومة ووجودها في محاربة الاحتلال الصهيوني.

من المواقف الاستثنائية التي تبناها التيار، الموقف من عزل الكتائب حيث تم رفضه بقوة. وذلك بالرغم من أنه اتُّخذ على مستوى قيادات كل الفصائل الفلسطينية. فالحركة الوطنية بقيادة الشهيد كمال جنبلاط، ومدعومًا بقوّة من أحزاب وتيارات من أنصار سورية والعراق وليبيا والاتحاد السوفياتي.

كانت الحجة في رفض قرار العزل تستند إلى كون القرار سيؤدي إلى انهيار الدولة واندلاع الحرب الأهلية، وتشكيل إجماع سياسي وراء الكتائب، وإلى أنه ليس من حق المقاومة الفلسطينية أن تأخذ قرارًا بعزل طرف أساسي من مكوّنات الشعب اللبناني، ويتنافى مع مبدأ عدم التدخل بالشؤون العربية. وبعد ست عشرة سنة اعترف عدد من القادة عام 1991 بأنه كان الخطيئة الكبرى، بما ترتب عنه من انقسام ودماء وخسائر وتضحيات. ولكنه في حينه كان مغامرة احتاجت إلى التحدي الذي صلّب موقف التيار، وأسهم في بلورته وقوته ووحدته.

أما الانخراط في القتال من جانب التيار كان دفاعًا عن سلاح المقاومة صاحَبَه دعوة إلى وحدة البنادق ضد العدو الصهيوني، ولا سيما عندما دخلت سوريا شرعيًا بقواتها لإنهاء الحرب الأهلية. هذا الانخراط أدى إلى تأسيس السرية الطلابية بقيادة سعد جرادات عام 1975، وهي التي تحوّلت إلى كتيبة الجرمق بقيادة معين الطاهر بعد أن انتقلت إلى الجنوب.

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، سادت تقديرات وتحليلات أن عهد المقاومة انتهى، وأن من لا يركب القاطرة الأمريكية سيخرج من التاريخ. في حين كان رأي منير شفيق أن أمريكا أصبحت أكثر انتشارًا في عالم متعدّد القطبية، ورأى أن المقاومة الإسلامية انطلقت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في لبنان وفلسطين. وفي كتابه النظام الدولي الجديد وخيار المواجهة إصدار 1992، رأى فيه أن أمريكا أصبحت أضعف وليس أقوى، لأنها لا تستطيع منفردة أن تحكم العالم، في وقت كان العالم يتفلت حتى من حكم المعسكرَين، مثال على ذلك الصين.. الهند.. إيران. وبهذا يكون باب المقاومة ومواجهة الكيان الإسرائيلي لا يزال قائمًا. وقد يثبت في التجربة أن موازين القوى الجديدة ستكون أكثر مؤاتاة لتطوّر مقاومة في لبنان وفلسطين ضد الكيان الصهيوني أشدّ من سابقتها.

حملت كتيبة الجرمق خصائص التيار وشخصيته، وخطه الأخلاقي والفكري الذي مثّل من ناحية ثانية ردًا على القوى الناقدة للقيادة والمطالبة بالإصلاح والتغيير، بأن عليها أن تتولى هي نفسها عبء ممارسة القتال والكفاح المسلح في داخل الأرض المحتلة، وتحمل كتفًا في مواجهة التحديات العملية التي تواجه الثورة، بالقول إن القيادة فاشلة لا يعني أن منتقديها ناجحون.

وبكلمة، هذا ما عكسه التيار الذي قاده أبو حسن قاسم بمساعدة حمدي، إذ إن سعد جرادات استُشهد مبكرًا. وهذا الخط هو الذي سمح له أن يصبح بالآلاف من كوادر ومناصرين ومتطوعين.

رابعًا: بعد استشهاد القادة الثلاثة

وجاء اغتيال القادة الثلاث ليكشف محورية الدور لكل من أبي حسن قاسم وحمدي (باسم التميمي) وذلك لمسؤوليتهما الأولى أيضًا بالنسبة إلى نشاط التيار في المقاومة الفلسطينية في الداخل. وهذا ما أسهمت فيه الانتفاضة الأولى في تحويل الثقل في المقاومة الفلسطينية من الخارج (بلدان الطوق، وخصوصًا لبنان 1971-1983) إلى الداخل. فالأدوار الثورية التي تلت استشهاد أبو حسن قاسم وحمدي كانت حاسمة في تقرير مدى إمكان التيار في أداء دوره المميز في المقاومة من الداخل أو في الداخل. كما وفي إلقاء الضوء على أهمية وأولوية دورهما في المرحلة السابقة.

إن المذكرات في هذه الفترة، بقصد، أو ربما من دون قصد، تبتعد من مناقشة هذه المرحلة مكتفية بالإشارة إلى بروز حركتَي الجهاد وحماس في هذه الفترة. وهو ما أوجب على سرايا الجهاد الإسلامي أن تختار بين أن تكون طرفًا إسلاميًا مقاومًا ثالثًا، أو تختار وقف نشاطها المقاوم، فيتوزع بين حركتَي الجهاد وحماس من أجل مواصلة المقاومة، إذ من الأفضل أن تكون هناك حركتان إسلاميتان في مقدمة المقاومة من وجود ثالثة منافسة. ولعل من الأسباب التي شجعت على هذا الخيار الثاني يتمثل بما أظهرته كل من حماس والجهاد من إنجازات مهمة في المقاومة تأكدت أكثر فأكثر على مدار تسعينيات القرن العشرين، وفي الانتفاضة الثانية 2000 - 2005، وحتى اليوم بالطبع.

صحيح أن ما تقدم يمثل سببًا قويًا مقنعًا لقرار حل سرايا الجهاد الإسلامي. ولكن تبقى هنالك تفاصيل أخرى ثانوية لهذا القرار، لم تكشف عنها المذكرات. وذلك من النواحي الذاتية، وليس فقط بسبب بروز دور كل من حركة الجهاد وحماس. وذلك بالرغم من حكمته وأولويته. ولعل ما يؤكد هذا الاستنتاج أن مجموعة من النواة الأساسية استمرت في التلاقي في كل من الأردن ولبنان، لتواصل طرح خط سياسي ونشاط عملي وفكري، يعدّان امتدادًا للتيار ضمن الظروف والمستجدات الجديدة.

خامسًا: المرجعية الإسلامية

عرف عام 1979 تحوّلين رئيسيين مهمين سيكون لهما الأثر البالغ في المراحل اللاحقة. كان الأول خروج مصر من ساحة المواجهة مع الكيان الصهيوني بعقد معاهدة سلام معه. وكان الثاني انتصار الثورة الإسلامية في إيران ووضعها هدف تحرير فلسطين، وإعلانها عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني، وإلغاء سفارته في طهران، ورفع العلم الفلسطيني مكانها. فالأول شكّل مؤشرًا إلى بداية تراجع قيادة فتح التي كانت منحازة لمصر في عهدي عبد الناصر والسادات، ومن ثم دخول الثورة الفلسطينية بمجموعها في حالة التراجع إن لم يكن في الموقف السياسي ففي القتال. أما الثاني فقد أدخل المرجعية الإسلامية لتصبح حافزًا للجهاد في فلسطين، وتعويض المقاومة، وما أخذت تفقده من اندفاع وروح ثورية. ويمكن أن يضاف من الناحية الإسلامية تطور اندلاع المقاومة الجهادية ضد السوفيات في أفغانستان.

هذه اللحظة التاريخية التي سجلت تراجعًا تدريجيًا لمشروع المقاومة الذي قادته القوى الوطنية والقومية واليسارية، واكبه خروج الإسلام السياسي من حالة الكمون إلى حالة الفعل. أخذ التيار، كما يوضح منير شفيق، بالبحث النظري والفكري والعملي لإبقاء جذوة المقاومة متصاعدة في فلسطين، وعدم السماح بالتراجع الذي أدت إليه سياسات السادات بإخراج مصر من دورها في مواجهة الكيان الصهيوني. وهذا يفسّر بأن التحوّل إلى تبني المرجعية الإسلامية بدأ بهدف ضخّ دماء جديدة في عروق المقاومة التي بدأت جذوتها تخبو. وهذا الأمر دفع التيار إلى الانخراط في الحالة الإسلامية، وإلى الانتقال لبحث تبني المرجعية الإسلامية الجهادية المقاوِمة، ومن ثم البحث في قضايا العقيدة والإيمان.

وكان منير شفيق يرى منذ التسعينيات ولاحقًا أن ميزان القوى العالمي والإقليمي أصبح في غير مصلحة الكيان الصهيوني، فمعارضة اتفاق أوسلو، لم ترتكز على الموقف المبدئي فحسب، وإنما أيضًا على أن موازين القوى أصبحت أكثر مواتاة. وهذا ما أكدته المقاومة في التسعينيات، والانتفاضة الثانية، وحروب 2006 في لبنان، و2008 و2009 و2012 و2014 في قطاع غزة، كما أكده الانسحاب الصهيوني عام 2000 من لبنان، و2005 من غزة بلا قيد أو شرط.

إن موازين القوى أصبحت أكثر مواتاة بالرغم من سلبيات الموقف العربي، حيث أخذت إيران تؤدي دورًا معوّضًا قويًا في ميزان القوى، وتشجيع ودعم المقاومة.

وهنا يوضح منير شفيق أن هذا الانتقال أخذ يتم على أساس فردي داخل التيار العام، الذي استمر يجعل أولويته المقاومة، بما في ذلك الاحتفاظ بالوحدة مع العناصر المقاومة السابقة التي لم تذهب إلى الإسلام العقيدة أو الالتزام، في الوقت الذي ذهب إليه عدد مهم من نواته وكوادره.

 

يمكنكم الحصول على الكتاب عند الضغط على الرابط التالي من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق