مقدمة:

في ضوء معطيات المشهد الليبي ما بعد سقوط نظام القذافي، دخلت الدولة الليبية في أزمة شديدة التعقيد والتداخل، نتيجة غياب النضج الوطني والمؤسسي للنخب السياسية التي تولت إدارة الشأن العام ورسم خطط سيره، وهو ما فتح الباب واسعًا أمام أطراف دولية فاعلة وإقليمية صاعدة وطامحة للتدخل في الشأن الليبي، حتى غدت تدخلاتها تصلّب مواقف الأطراف المحلية الفاعلة في الساحة الليبية، وهو ما أدى إلى عرقلة الحّل السياسي السلمي وشّله. ونتيجة لهذا التجاذب والصراع المحموم ازداد المشهد الأمني والسياسي الليبي تعقيدًا.

وبرغم كل المساعي والمبادرات السياسية في تقديم تصورات وخرائط لتقاسم السلطة بين الفرقاء الليبيين، فإنها لم تفلح في تحقيق أي تقدم يذكر في مسار حل الأزمة القائمة، ولم يكتب للتهدئة، ووقف إطلاق النار بين طرفَي النزاع الليبي حياة، إلا مع الجهود الأممية الأخيرة، والحضور الأمريكي الفاعل، التي انبثقت عن مؤتمر جنيف وأثمرت عن تسوية سياسية، تسلمت خلالها سلطة انتقالية منتخبة، تضم حكومة وحدة ومجلسًا رئاسيًا، مهماتها بهدف إعادة توحيد مؤسسات الدولة وضمان الأمن، وقيادة البلاد حتى الانتخابات التي كان مزمعًا إجراؤها في كانون الأول/ديسمبر 2021. غير أن ذلك لا يخفي تحديات كثيرة واجهت حكومة الوحدة الوطنية في تحقيق هذا الإنجاز.

تهدف هذه الورقة إلى رصد جملة الصعوبات التي عرقلت إنجاز الاستحقاق الانتخابي الليبي في موعده المقرر، وكذا فرص النجاح في إنجاز هذا الاستحقاق، بحيث يفضي إلى خروج البلاد من أزمتها الراهنة.

تستمد هذه الدراسة أهميتها من أهمية الانتخابات كونها تمثل آلية غير عنيفة لتسوية الصراعات السياسية سلميًا بين الفرقاء الليبيين. إضافة إلى أن الانتخابات ستمثل علامة فارقة في تاريخ ليبيا الحديث والانتقال بالبلاد نحو عهد ومرحلة جديدة من الأمن والاستقرار.

تنطلق الدراسة من التساؤل الرئيس التالي: ما التحديات التي واجهت حكومة الوحدة الوطنية المنبثقة من الاتفاق السياسي الليبي الجديد وحالت دون إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في موعدها المقرر في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021؟

أولًا: مخرجات الحوار السياسي الليبي كفرصة مهمة للخروج من الأزمة

شهدت عملية التوافق السياسي في ليبيا، محطّات ومسارات متعدّدة، واختلفت مضامينها ومخرجاتها، بدءًا من الاتفاق السياسي في «الصخيرات» عام 2015، فباريس وبرلين وجنيف وبوزنيقة ثم القاهرة. وظلت روزنامة المصالحة مفتوحة ومستمرة، وتنتقل من بلد إلى آخر، واستمر الجدل حول أنجع السبل إلى واقع يعبّد الطريق إلى تسوية سياسية، تفتح أمامها مسار الخروج من الأزمة، يمكن من خلالها أن ينعم الليبيّون بسلام منصف ومستدام[2].

مثّل الاتفاق السياسي (الصخيرات) عند توقيعه في كانون الأول/ديسمبر 2015، نجاحًا مهمًا في طريق حل الأزمة، بعدما دفعت البعثة الأمميّة أطراف النزاع الليبي إلى الحوار بدعم إقليمي ودولي. إلا أن الفرقاء الليبيين الذين وصلوا إلى مرحلة توقيع اتفاق التسوية، لم يتمكنوا من تحقيق المصالحة الشاملة ووقف التصعيد العسكري. وهكذا بدلًا من أن يمثل «اتفاق الصخيرات» بداية مرحلة جديدة من التوافق، أصبح يمثل سببًا رئيسًا في تعميق الانقسام المجتمعي، وكرّس على نحو خاص التباين بين الأطراف السياسية المتصارعة في شرق البلاد وغربها، وخلق ذلك خريطة كثيرة التشظي، وهو ما سمح بمزيد من التدخّلات الخارجية. والنتيجة كما رأيناها: حكومتان في البلاد، برلمان وحكومة مستقلة في الشرق الليبي يرأسها عبد الله الثني، يقابلها حكومة الوفاق الوطني في طرابلس الغرب، يقودها فائز السراج، وتداخلت في نطاقهما ليس السياسة والأيديولوجيا فقط، وإنما المصالح والأجندات السياسية والأمنية والاقتصادية المحلية والخارجية أيضًا، في إطار التجاذب الكبير[3].

مع استمرار الجهود الأممية بهدف إخراج ليبيا من أزمتها العميقة، أعلن المبعوث الأممي الخاص السابق إلى ليبيا غسان سلامة، عن تنظيم «الملتقى الوطني الجامع» في مدينة غدامس، في منتصف نيسان/أبريل 2019، وأبدت البعثة الأممية حرصها على عدم استثناء أي طرف، ووجهت الدعوة إلى مختلف الشرائح السياسية الليبية[4]. إلا أن تعاظم الصراع العسكري ودخوله مرحلة حرجة مع بدء المشير خليفة حفتر هجومًا شاملًا على العاصمة طرابلس في الرابع من نيسان/أبريل 2019، أسفر عن إضاعة الفرصة أمام الجهود الأممية المكثفة، لاستكشاف مواقف الفرقاء الليبيين من التسوية، كما نتج منه ردود أفعال دولية واسعة ومتباينة تعكس مدى التخوف من تطور الأوضاع نحو الأسوأ، ليس داخل ليبيا فحسب، وإنما كل دول المنطقة التي باتت في الوضع الليبي بات يشكّل تهديدًا جديًا لأمنها واستقرارها[5].

تسارعت خطى المسار السياسي انطلاقًا من عدد من المؤتمرات الدولية، حيث عُقد في 10 كانون الثاني/يناير 2020، مؤتمر برلين وبمبادرة ألمانية، كان هدفه تسريع الجهود لتحقيق وقف إطلاق النار بين طرفي النزاع الليبي، وكذا إلزام القوى الخارجية بوقف دعم الأطراف الليبية بالسلاح والعتاد، والدفع نحو حل سلمي[6]. إلا أنه فشل في تحقيق ذلك، إذ لم تفِ القوى الفاعلة بتعّهداتها المتعلقة بإنهاء التدخلات الخارجية في الأزمة الليبية. بل إن هناك قوى إقليمية فاعلة في الساحة الليبية ذهبت أبعد من ذلك، إذ شرعت تركيا بالتدخل المباشر والمُعلن والنوعي، استهدفت من خلاله قوات المشير حفتر وخطوط إمداده وقواعده، فاضطرت هذه القوات بعدها إلى الانسحاب من محيط طرابلس إلى حدود سرت شرقًا والجفرة جنوبًا[7]. ولولا ضغوط المجتمع الدولي وإعلان القيادة المصرية في 20 حزيران/يونيو 2020 على نحوٍ حاسم أنّ سرْت والجفرة خط أحمر بالنسبة إلى مصر، لا يمكن لقوات حكومة الوفاق الوطني والقوى الداعمة لها تجاوزه، لكانت قوات الأخيرة قد وصلت تخوم بنغازي، وهو ما يزيد الوضع الليبي تعقيدًا، ويجرّ البلد إلى كارثة حقيقية[8].

ظلت الأزمة الليبية تراوح مكانها، ولعل من أبرز تجلياتها أنها لم تسفر في مجملها، عن نصر حاسم لطرف على حساب طرف آخر. في سياق حالة من الاستقطاب الإقليمي والدولي، وغياب إرادة دولية فاعلة لوضع حدٍ لهذه المأساة. النتيجة الأهم بعد دخول الدعم العسكري التركي في ليبيا، كانت القناعة التامة للأطراف المحلية وكذا الأطراف الخارجية المنخرطة فعليًا في الصراع الليبي باستحالة حسم الأمور عسكريًا وبعدم جدوى السلاح في إقصاء الطرف الآخر من المعادلة السياسية، ومن ثم ضرورة العودة إلى حل السياسي في ظل توازن الأوضاع ميدانيًا، وهو ما أعطى دفعة كبيرة للجهود الأممية والدولية. وأسهم في توقف المعارك عند تخوم سرت والجفرة، وفتح هامشًا لحراك دبلوماسي؛ ليصلا في نهاية الأمر إلى تفاهم يرتكز على وقف دائم لإطلاق النار، والجلوس إلى طاولة حوار بهدف الوصول إلى تسوية سياسية تنتج منها حكومة توافق جديدة تضم جميع الفرقاء. أو تسوية تجنّب ليبيا الدمار، واستنزاف طاقاتها البشرية وإهدار مواردها ومقدراتها[9].

ثانيًا: الدور الدولي في الحوار السياسي الليبي

لا شك في أن دخول أمريكا بثقلها على خط الأزمة الليبية ودعمها جهود المبعوثة الأممية بالإنابة آنذاك «ستيفاني وليامز»، كان له دور حاسم في الضغط على طرفَي الصراع الليبي وتوجيهها نحو الاتفاق بأسرع ما يمكن. وفي السياق نفسه، جاء تصريح وزير الخارجية الأمريكي الأسبق مايك بومبيو رافدًا لذلك، عندما قال إن «على الدول التي تتدخل في الشأن الليبي أن تكف يدها بأقرب وقت، وتترك المجال للفرقاء الليبيين كي يصلوا إلى حلول سريعة، نظرًا إلى ما لطول الأزمة من مخاطر على أمن واستقرار ليبيا وكامل المنطقة.  وفي إثر ذلك، تم التوصل بين طرفي النزاع الليبي إلى اتفاق دائم وشامل لإطلاق النار. وتأليف لجنة عسكرية ليبية مشتركة (5+5)، تحت إشراف الأمم المتحدة، وبدعم من قوى دولية وإقليمية، كما تم التشديد على أن حل المشكلة يبقى بيد الليبيين أنفسهم[10].

يأتي هذا الدور في إطار حرص الولايات المتحدة على كبح الحضور والنفوذ الروسيين المتزايدين والداعمين للمشير حفتر، والحؤول دون استحواذ روسيا على السوق النفطية الليبية، وهو ما بات يؤرق أمريكا ويثير مخاوفها، وهذا ربما ما دفعها إلى التغاضي عن تدخل تركيا وتمتعها بهامش واسع في ليبيا، لوقف التمدد الروسي وحلفائه من المعسكر العربي، ومن هنا باتت أمريكا تنتظر الفرصة المواتية لدخولها على خط الأزمة الليبية بعد أن تكون رحى الصراع قد أنهكت الطرفين، وعدم قدرة أي طرف على حسم الصراع لمصلحته. فأمريكا تدعم القوى الإقليمية للحفاظ على التوازنات، بغية استنزاف القوى الفاعلة وإعادة رسم خارطة النفوذ والتوازنات، وتحتفظ بالتدخل في اللحظات الأخيرة[11].

تبقى أمريكا اللاعب الوحيد القادر على أن يقود جهدًا شاملًا من أجل التوصل إلى اتفاق مُجمع عليه من جانب جميع الأطراف المؤثرة في الساحة الليبية، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى أن أمريكا قادرة بصورة فريدة على دفع الفرقاء الليبيين إلى الدخول في عملية مفاوضات أساسها حسن النيات، وكذلك الضغط على الجهات الدولية والإقليمية الفاعلة في ليبيا كروسيا وتركيا وفرنسا ومصر والإمارات لوقف دعمها للأطراف المتنفذة على الأرض، وخصوصًا أن إدارة جو بايدن، ربما لن تتهاون مع التدخلات العبثية في ليبيا كما هي الحال مع إدارة ترامب السابقة، التي كانت تعبث بتبادل أدوار من طريق وكلائها في المنطقة. وربما أن الحل لن يأتي من قوى منغمسة في الصراع الليبي، وتشحن وتعبئ الساحة الليبية على مقاس مصالحها بعيدًا من مصالح البلد الحيوية والمصيرية[12].

أكدت البعثة الأممية إلى ليبيا، من جانبها، دعمها جهود اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) الرامية إلى الحفاظ على الأمن والاستقرار، وطالبت جميع الأطراف بدعم هذه الجهود بغية خلق بيئة ملائمة لإجراء الانتخابات في نهاية كانون الأول/ديسمبر 2021. كما جددت البعثة دعوتها كل الأطراف الفاعلة المحلية والدولية المعنية إلى ضمان التنفيذ الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار ودعمه وفقًا لقرارات مجلس الأمن. وفي السياق نفسه، أكدت وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية الليبية نجلاء المنقوش، حرص وزارتها على إنجاح هذا الاستحقاق الانتخابي، وعبّرت عن تقديرها للموقف الأمريكي الداعم للمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، وحرصها على أمن ليبيا واستقرارها. وتأتي هذه التطورات وسط تنامي الحديث عن وجود عقبات تعترض مسار العملية الانتخابية المقبلة[13].

وفي السياق نفسه، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ضرورة خروج القوات الأجنبية كافة من ليبيا، ودعم بلاده مخرجات الاتفاق السياسي ولا سيما اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5). وقال لافروف إن هناك حاجة إلى بذل المزيد من الجهود في بناء مؤسسات الدولة الليبية، ولا سيما الأمنية والعسكرية، أما المنقوش فقد ثمّنت من جهتها الدور الروسي الفاعل في وقف إطلاق النار ودعم العملية السياسية في ليبيا[14].

ثالثًا: آلية تأليف الحكومة الليبية ورؤيتها لإنجاز استحقاقات المرحلة

يعَدّ ملتقى الحوار السياسي الليبي إحدى الجهات التي مارست دورًا سياسيًا خلال مرحلة مهمة من تاريخ ليبيا، من خلال تصويته لاختيار السلطة التنفيذية، التي أعقبت حكومة الوفاق الوطني ومجلسها الرئاسي بعد انتهاء مدة ولايتها المتضمنة في الاتفاق السياسي الليبي (اتفاق الصخيرات في 17 كانون الأول/ديسمبر 2015). بدأت مباحثات الملتقى من تونس وبمشاركة 75 عضوًا تم اختيارهم من جانب البعثة الأممية يمثلون ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الليبي، وتم الاتفاق على خارطة طريق انتقالية، تضمنت توحيد مؤسسات الدولة المنقسمة على نفسها بين شرق البلاد وغربها، وتنتهي بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021 [15].

عدّت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا هذا التطور فرصة مهمة ومشجعة لليبيين لإنهاء المرحلة الانتقالية، وكانت البعثة الأممية، قد أقرت آلية معقدة، نسبيًا، للترشح والتصويت تفاديًا للفشل في انتخاب قيادة للمرحلة الانتقالية، أو فوز فريق لا تتوافر فيه الشروط المطلوبة التي توافق عليها أعضاء الملتقى المجتمعون في جولة تونس والمتمثلة باختيار رئيس للمجلس الرئاسي من الشرق ونائبين له من الغرب والجنوب، ورئيس وزراء من الغرب. كما اشترطت البعثة الأممية، بأن المشاركة في منتدى الحوار السياسي الليبي تتطلب تقديم تعهد مكتوب بعدم الترشح في المؤسسات الجديدة التي سيتم إنشاؤها[16].

اختار أعضاء الملتقى السلطة التنفيذية الجديدة، وتمت عملية التصويت على مرحلتين، حيث أُجريت الجولة الأولى في 3 شباط/فبراير 2021، بنظام التصويت الفردي لعضوية المجلس الرئاسي وفقًا للمجمعات الانتخابية، إلا أن فشل التصويت على الأفراد في حسم المنافسة، أفضى بالتوجه نحو مرحلة التصويت على القوائم، بعد عدم حصد أي منهم النسبة المطلوبة من التصويت وفق آلية المجمعات الانتخابية للأقاليم الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان)، حيث اشترطت الآلية التي أقرّتها البعثة الأممية أن تضم كل قائمة أربعة مرشحين، وفق التركيبة المتفق عليها مسبقًا[17].

أُجريت الجولة الثانية والأخيرة في 5 شباط/فبراير 2012، وبعد فرز الأصوات أعلنت مندوبة الأمم المتحدة إلى ليبيا بالإنابة آنذاك، ستيفاني وليامز، عن فوز القائمة الثانية، بأغلبية أصوات أعضاء الملتقى، بــ 39 صوتًا من أصل 74، ليكون محمد يونس المنفي رئيسًا للمجلس الرئاسي، وعبد الله حسين اللافي وموسى الكوني نائبين له، وعبد الحميد محمد الدبيبة رئيسًا لحكومة الوحدة الوطنية. كانت هذه النتائج بمنزلة خلط جديد للخريطة السياسية الليبية، حيث ظهرت أسماء جديدة مقابل اختفاء أسماء كان يعتقد بأنها كبيرة ومؤثرة انتخابيًا، مثل القائمة التي ضمت صالح وباشاغا وجويلي والنصر[18].

بعدما نالت الحكومة ثقة مجلس النواب، في 10 آذار/ مارس 2021، أكد الدبيبة التزامه بدعم المجلس الرئاسي في تحقيق المصالحة الوطنية، وقال إن هناك استحقاقات تنتظرنا، أبرزها اعتماد قانون الانتخابات وقانون الحكم المحلي والموازنة العامة للبلاد. وأضاف أن حكومته «ستلتزم بإجراء الاستحقاقات في مواعيدها، وعلى أسس ديمقراطية، وسوف توفر لها وزارة الداخلية التأمين والحماية، مع اللجوء وطلب المساعدة من المنظمات الدولية، ومنها الأمم المتحدة، لدعم الانتخابات لوجستيًا وأيضًا في مراقبة الانتخابات. من الواضح أن البرنامج الذي أعلن عنه الدبيبة يقفز على الأزمات المعقدة والشائكة التي تربك المشهد السياسي والأمني والاجتماعي الليبي. كما يتجاوز في جانب كبير منه السقف الزمني الممنوح لحكومته[19].

يبدو جليًا أن البعثة الأممية أسهمت في عرقلة عمل الحكومة الليبية الجديدة، وخصوصًا بعدما فرضت قاعدة تقسيم المناصب السياسية على الأقاليم الليبية الثلاثة (طرابلس الغرب، برقة، فزان)، وهو ما صّعب مهمة الحكومة في سياق تعدّ فيه المحاصصة والترضيات السياسية والقبلية والجهوية عامل الفرز الأهم.

أخذت العملية الانتخابية في ليبيا منعطفًا خطيرًا عندما سّن مجلس النواب قانونًا انتخابيًا مثيرًا للجدل في أيلول/سبتمبر 2021 من دون تصويت، وهو ما أثار استياءً كبيرًا في الأوساط السياسية الليبية، كونه صُمم خصيصًا على مقاس أشخاص بعينها (المشير خليفة حفتر)، بحسب رأي الكثيرين، ويفسر ذلك بغياب توافق في الآراء في شأن الأساس القانوني للاقتراع، وتضارب في المصالح وبعض الثغر في وساطة الأمم المتحدة، وهو ما أدى إلى فشل في إجراء الانتخابات الرئاسية في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021. ووجهت الانتقادات إلى رئيس مجلس النواب والمرشح الرئاسي عقيلة صالح على أنه المسؤول عن قوانين الانتخابات التي تمثل كارثة حقيقية[20].

في 21 أيلول/سبتمبر صوّت مجلس النواب على سحب الثقة من حكومة الدبيبة لأسباب تتعلق بسلبيات حول إعداد الميزانية والإنفاق الحكومي، إلا أن هذا الإجراء قوبل بالرفض داخليًا ودوليًا، اعتقادًا بأن طبيعة الحكومة ومهمتها مؤقتة، وتتمثل بتسيير أمور البلاد إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتسليم السلطة للمؤسسات المنتخبة، إذ أعلنت البعثة الأممية في ليبيا عبر بيان لها بهذا الشأن، أن حكومة الوحدة الوطنية هي «الحكومة الشرعية حتى إجراء الانتخابات»[21].

تأتي استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا يان كوبيتش بصورة مفاجئة، الذي بدا بصورة واضحة أنه عاجز عن إدارة الملف الليبي، وهذا ما ذهب إليه هاميش كينير من معهد فريسك ماكلفروت إلى فشل كوبيتش وما تسبب به من إرباك رافق عملية سّن القوانين المنظمة للانتخابات. في إثره، تم تعيين الأمريكية ستيفاني وليامز كمستشارة خاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، حيث عقدت في الآونة الأخيرة عدة اجتماعات بين مختلف القوى السياسية الليبية في محاولة واضحة لإنقاذ الملف الليبي المعقد بفعل التدخلات الخارجية السلبية والاستقطابات الحادة[22].

بدأت الشكوك تحوم حول شرعية الانتخابات وقبول نتائجها، ولا سيّما بعد ترشح كل من سيف الإسلام القذافي، والمشير خليفة حفتر، وبدا التلويح بعدم قبول الاعتراف بأي منهما، مصحوبًا باستخدام القوة المسلحة من جانب بعض الميليشيات والجماعات المسلحة، وكذلك من جانب عملية «بركان الغضب»، التي هددت بإغراق صناديق الاقتراع في غرب البلاد. وفي ظل تبني مجلس النواب الليبي رؤية مغايرة تمامًا عن تلك التي يتبناها المجلس الأعلى للدولة لوّح رئيسه خالد المشري باللجوء إلى القوة وتطبيق سياسة الأمر الواقع، ودعا أنصاره إلى الاحتجاجات والاعتصامات أمام مقر المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، بل ذهب أبعد من ذلك عندما طالب بمحاصرة المفوضية. وكان المجلس الأعلى للدولة قد أصدر بيانًا أكد فيه رفضه التام للقوانين الانتخابية وليس لإجراء الانتخابات في موعدها، مع تحميل المفوضية الوطنية للانتخابات والبرلمان المسؤولية عن ما يترتب عنه من عواقب وخيمة عن مواقفهما والتمسك بتلك القوانين التي يراها – حسب بيان المجلس الأعلى للدولة – أنها مناوئة لاستعادة الثقة والوحدة ومعززة للانقسام بين الليبيين[23].

وفي خطوة مهمة ومشجعة للخروج من الأزمة الليبية القائمة، استقبل المشير خليفة حفتر في بنغازي في 21/12/2021، كلًا من فتحي باشاغا وزير الداخلية السابق، وأحمد معيتيق، نائب رئيس المجلس الرئاسي، إضافة إلى عدد من المرشحين للرئاسة ضم العارف النايض، وعبد المجيد سيف النصر، ومحمد المنتصر، وناقش الاجتماع آخر تطورات العملية الانتخابية وآليات سدّ الفراغ السياسي بعد 24 كانون الأول/ديسمبر. كما شدّد الاجتماع على ضرورة كسر الحاجز القائم بين الشخصيات والفعاليات السياسية في شرق البلاد وغربها، والتشديد على إجراء الانتخابات في أقرب وقت، ومواجهة المعرقلين للانتخابات الرئاسية في ليبيا، ورأب الصدع بعد أن بات تأجيل الانتخابات أمرًا محسومًا وتجنب العودة إلى نقطة الصفر. هذا واتفق المجتمعون على أن تجرى لقاءات مماثلة لاحقًا في العاصمة طرابلس[24].

يبدو واضحًا أن الاجتماع كان يهدف إلى التحضير لمرحلة ما بعد 24 كانون الأول/ديسمبر، من خلال تأليف حكومة جديدة، لا يرأسها الدبيبة، وتغيير أعضاء المجلس الرئاسي، ووضع خارطة طريق للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة. غادر باشاغا، إلى القاهرة وأجرى لقاءً مع رئيس الاستخبارات العامة المصرية، اللواء عباس كامل، وتم التباحث بشأن المصالح المصرية، مقابل تقديم القاهرة كل أوجه الدعم اللازم لباشاغا في أي مهمة مرتقبة خلال المرحلة المقبلة، مع التشديد على الثوابت الخاصة بحفظ الأمن الإقليمي. وفي وقت سابق، تلقت مصر إشارات إيجابية عقب إعلان باشاغا ترشحه للانتخابات الرئاسية، بعدم المساس بكل الاتفاقيات الموقعة بين القاهرة وحكومة الوحدة الوطنية. ولدى مغادرته القاهرة توجه باشاغا إلى أنقرة للقاء المسؤولين الأتراك، حيث تناول اللقاء رؤيته بشأن إدارة البلاد حال قيادته لحكومة «انتقالية» ترتيبات المرحلة المقبلة[25].

رابعًا: تبعات تأجيل الانتخابات الليبية وردود الأفعال المتباينة

بعد الإعلان رسميًا عن تأجيل الانتخابات في ليبيا، أشار عماد السايح رئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات إلى أن أمر التأجيل يعود بالأساس إلى قصور التشريعات الانتخابية في ما يتعلق بدور القضاء في الطعون والنزعات الانتخابية، الأمر الذي انعكس سلبًا على قرارات المفوضية في الدفاع عن قراراتها وأوجدت حالة من عدم اليقين، وخصوصًا في ما يتعلق باستبعاد بعض المرشحين الذين لا تنطبق عليهم شروط الترشح للانتخابات[26] .

وفي السياق نفسه، لفت رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، إلى أن غياب قاعدة دستورية وقوانين توافقية «سبب فشل هذا الاستحقاق الآن». الذي أوضح أن العملية الانتخابية تتطلب أولًا، دستورًا دائمًا أو قاعدة دستورية، وثانيًا قوانين توافقية تضمن عملية نزيهة. وثالثًا ضمان القبول بالنتائج[27].

وكردّ فعل على تأجيلها طالب 19 مرشحًا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية بإجرائها في أسرع وقت، بوصفها استحقاقًا وطنيًا لجميع الليبيين، وطالبوا المفوضية الوطنية العليا للانتخابات بالإعلان عن القائمة النهائية للمرشحين للرئاسة والكشف عن أسباب عدم إجراء الانتخابات في موعدها المحدد[28].

عقب ذلك، أصدر مجلس النواب الليبي في 22 كانون الأول/ديسمبر قرارًا يفضي بتأليف لجنة من 10 أعضاء تتولى إعداد مقترح لخارطة طريق ما بعد 24 كانون الأول/ديسمبر، هذا وطالبت هيئة رئاسة مجلس النواب اللجنة في قرارها الرقم (13) لسنة 2021، بتقديم تقريرها إلى مكتب هيئة الرئاسة خلال أسبوع لعرضه على المجلس لاحقًا. يأتي هذا القرار بعد اقتراح المفوضية الوطنية العليا للانتخابات على مجلس النواب تأجيل الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لشهر واحد، وذلك بعد أن تعذر تنظيمها في موعدها المحدد في 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021 [29].

استقبلت الولايات المتحدة، من جانبها، قرار تأجيل موعد الانتخابات الليبية «بخيبة أمل»، وقال السفير الأمريكي في ليبيا ريتشارد نورلاند، «يجب أن يكتسي العمل باتجاه الانتخابات أولوية، بما يتماشى مع رغبات عموم الليبيين القوية»، مشددًا على أهمية «معالجة جميع العقبات القانونية والسياسية أمام إجراء الانتخابات، بما في ذلك وضع اللمسات الأخيرة على قوائم المرشحين للانتخابات الرئاسية». وأشار إلى أن الحكومة الأمريكية تدعم العملية الانتخابية بكل ما تستطيع لتسير ليبيا نحو الاستقرار. وحول موقف بلاده من تأجيل الانتخابات، ذكر نورلاند أن السيناريو الأفضل هو الذي تتوافق عليه جميع الجهات ذات العلاقة في ليبيا. وطالبت السفارة الأمريكية لدى ليبيا، الأطراف الفاعلة بالإسراع في معالجة العقبات التي تواجه العملية الانتخابية. وقالت في بيان إنه «يتعين على القادة الليبيين، ونيابة عن الشعب، معالجة العقبات القانونية والسياسية لإجراء الانتخابات. ولوّح نورلاند «بعقوبات أمريكية ودولية ضد كل جهة تهدد باستخدام العنف أو حرضت بشكل مباشر على تعطيل الاستحقاق الانتخابي وبث الفوضى في ليبيا»، قائلًا إنهم سيكونون «عرضة للعقوبات ليس من الولايات المتحدة فحسب، بل من المجتمع الدولي أيضًا»[30].

رد الفعل الأمريكي لم يكن وحده عقب إعلان المفوضية الوطنية العليا للانتخابات تأجيل الاستحقاق الانتخابي الليبي، بل تبعه رد فعل آخر من دول الاتحاد الأوروبي، وفي إطار موقف غربي مشترك وقعته حكومات كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا التي تنسق مجتمعة المواقف من الملف الليبي. قالت إنها تدعم بقوة الاستحقاق الانتخابي الليبي وتدعم عمل المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز. وحذرت من الخطوة المقبلة نتيجة تأجيل الانتخابات. كما أعربت عن أملها في استئناف عملية التشاور السياسي بين ما أطلق عليها مراكز القوى المختلفة في ليبيا وتحديد موعد جديد للانتخابات، وأكدت أنها فعلت كل ما في وسعها لمرافقة هذه العملية نحو الديمقراطية في ليبيا، وستواصل فعل كل ما يلزم حيال ذلك، مؤكدة أن الإخفاق في إجراء الانتخابات في موعدها يعود إلى تعقيدات مؤسسية ليبية، لعل من بينها المادة (12) التي وصفها الكثير من المرشحين بــ «المثيرة للجدل»[31].

في 10/2/2022، اختار مجلس النواب الليبي، وزير الداخلية الأسبق فتحي باشاغا كرئيس للحكومة الليبية الجديدة في عملية تصويت أثارت الكثير من علامات الاستفهام وهي من شأنها تأجيج الصراع على السلطة في ليبيا. بدأ باشاغا مشاوراته وقال إنه يعتزم تأليف حكومة كفاءات جامعة بمشاركة كل الأطراف السياسية والمناطق في البلاد، تكون مهمتها الأولية الترتيب لإجراء انتخابات ضمن مواعيد محددة. بيد أن صعوبات كثيرة تواجه باشاغا لتسلم السلطة من رئيس الحكومة «الدبيبة»، الذي يرفض تسليم السلطة، وشدّد على أنه باقٍ في منصبه إلى حين إجراء انتخابات في البلاد، وهو ما قد يؤدي إلى إعادة المشهد السياسي إلى مربعه الأول من الاحتراب ومزيد من الاختلاف وحتى الانقسام[32].

خامسًا: تحديات التعطيل داخليًا وخارجيًا

حتى كتابة هذه السطور، لم يظهر ما يشير إلى نجاح الحكومة الليبية في تحقيق أي إنجاز يذكر في شأن المهمات المنوطة بها خلال الأشهر التسعة الممنوحة لها، إذ تواجه حكومة الدبيبة، مجموعة تحديات داخلية وخارجية، من أبرزها:

1 – إعادة توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية

تمثل عملية توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية تحت سلطة تنفيذية واحدة، ونزع سلاح الميليشيات خارج سلطة الدولة، وإنهاء الفوضى الأمنية، أبرز التحديات التي تواجه الحكومة الليبية ما بعد انتهاء الصراع. ويعد تفكيك الميليشيات المسلحة في ليبيا التي يناهز عددها الـــ 300 مجموعة مسلحة، تحديًا كبيرًا أمام الحكومة التي تعهدت في وقت سابق بإيلاء هذا الملف أولوية قصوى، وخصوصًا أنها تعد العامل الأبرز وراء تعطيل العملية السياسية وما تمثّله من خطر يهدد أمن ليبيا واستقرارها؛ إذ يعزز نجاح هذه العملية من فرص تحقيق الاستقرار والسلم الأهلي في ليبيا، وتوفير السبل الكفيلة بمنع تجدد العنف وعودة الصراع. وهو ما يتطلب لتجاوزه إرادة سياسية صلبة، واستعدادًا للتنازل عن المغانم السياسية والمادية التي تم تحصيلها بفعل الاستثمار في الانقسام[33].

2 – تحديات تعيق المصالحة الوطنية

تعدّ الانتخابات مخرجًا لمعالجة الشروخ السياسية والاجتماعية التي تسببت بها حالة الانقسام والتشظي بين أطياف المجتمع الليبي. بيد أن إجراء الانتخابات يفترض أن تجري بعد حل هذه الشروخ من خلال التسويات السياسية والمجتمعية وغيرها. إن من شأن إنجاز المصالحة والخروج من حالة الانقسام أن يسهم في التخفيف من حدة التوترات ويعود بكثير من النتائج الإيجابية على ليبيا وشعبها. وعليه، فإن إجراء الانتخابات من دون حل هذه القضايا، قد يزيد الأزمة تعقيدًا بل ويفاقمها، كما تبيّن في حالات متعددة[34].

التحدي الأهم الذي سيواجه الحكومات الليبية المتعاقبة، الانقسام السياسي وعدم الاتفاق على عدة قضايا مهمة وخصوصًا في ما يتعلق بالقيادة العامة للجيش الوطني الليبي وموقع المشير خليفة حفتر في الترتيبات الجديدة، وتعد مهمة قيادة الجيش الملف الشائك والمعقد وراء عرقلة مسار التسوية والمصالحة.

3 – عقبات تعترض طريق إجراء الاستحقاق الانتخابي

تمثل الخلافات حول القاعدة الدستورية والقانونية التي سوف تجري الانتخابات وفقها، عقبة في طريق الاستحقاق الانتخابي. فقد أثيرت حولها الكثير من القضايا والمسائل الجدلية التي قد تؤثر في تحقيق أهداف ومقاصد الاستحقاق الانتخابي من بينها التوقيت الأفضل لإجراء الانتخابات. فقد طرحت فكرة تأجيلها، مع وجود محاولات أخرى لعرقلتها، وتبقى الإشارة هنا إلى مسألة ذات علاقة بمسألة توقيت الانتخابات وهي الخاصة بأسبقية إجراء الانتخابات البرلمانية وإن كانت الخلافات في شأنها أقل حدة. إلا أن أبرزها تركزت حول موعد إجراء الانتخابات الرئاسية.

يبدو أن الهدف من إثارة مثل هذه المسائل الخلافية والدفع بها إلى واجهة السجال السياسي لا تخرج عن المناورات السياسية التي تستهدف وضع المزيد من العراقيل للحؤول دون تهيئة الأجواء الملائمة لتنظيم الانتخابات التي كان من المفترض إجراؤها في 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021. إضافة إلى أن هناك أطرافًا خارجية لا تريد للانتخابات والمصالحة الوطنية الليبية النجاح. لذلك، تبقى المخاوف من أن تتحول هذه الانتخابات من وسيلة لتجاوز هذه الأزمة إلى أداة لتكريسها وربما تعميقها[35].

كما أن المآلات المتوقعة للمسار السياسي الليبي في ظل هذه الظروف وتحديد موعد جديد للانتخابات من دون وجود مرجعية دستورية، ربما يفتح الباب مجددًا أمام انسداد سياسي جديد قد تكون طرق الخروج منه أكثر تعقيدًا، وعبر سيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات الداخلية والإقليمية وحتى الدولية منها.

4 – التحديات الخارجية

لا شك في أن العامل الخارجي كان له الدور الرئيسي في صوغ المشهد الليبي ببيئته الاقتصادية والسياسية والأمنية المنكشفة والتابعة، وأتاح له اللعب على تناقضات الأطراف المنقسمة والمتصارعة للمضي في تنفيذ مشاريعه السياسية وفي خلق وقائع جديدة على الأرض، حيث لم تعد أطراف المعادلة السياسية الليبية، في ظل انقسامها قادرة على إدارة علاقاتها وتجاوز خلافاتها بصورة مباشرة، الأمر الذي عرّض البلاد لضغوط وتأثيرات الأطراف الخارجية الساعية لتحقيق مصالحها، حتى لو كان ذلك على حساب الشعب الليبي ومصالحه الوطنية العليا.

وتأتي مسألة إجلاء القوات الأجنبية من الأراضي الليبي البالغ عددها 20 ألف عنصر مسلح، قضية مهمة أخرى للحكومة الليبية الجديدة، ومن أهم التحديات التي سوف تواجهها، وخصوصًا أن المهلة المحددة انتهت من دون أن تتمكن اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5)، الناتجة من اتفاق 25 تشرين الأول/أكتوبر 2020، من إجبار تلك القوات على مغادرة الأراضي الليبية، وهو ما ينبئ بإمكان عودة الصراع المسلح[36].

خاتمة

رغم إصرار وتأكيد المجتمع الدولي أهمية وضرورة تهيئة الأجواء المناسبة لإجراء الانتخابات الليبية في موعدها الذي كان مقررًا في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021، كون الانتخابات نقطة انطلاق نحو تحقيق التوافق الوطني، والحؤول دون أن تتحول إلى سبب جديد من أسباب المواجهة والصراع، فإن عدم قدرة حكومة الوحدة الوطنية على التصدي للتحديات السياسية والأمنية والاجتماعية بحيث وقفت عاجزة عن تحقيق أي إنجاز حقيقي يذكر في مسار حل الأزمة الليبية القائمة ضمن الحيز الزمني الممنوح لها وفق خارطة الطريق، فضلًا عن حدّة التدخلات الخارجية، وعدم توافر إرادة دولية حقيقية، كلها عوامل أسهمت في تعطيل سير العملية الانتخابية بل وتأجيلها.

تبقى المشكلة الجوهرية في أن نخبًا نافذة تخشى تنظيم الانتخابات وما ستفرزه نتائجها، وهو ما يجعل احتمالية استثمار أي ارتباك أو أزمة فرصة كبيرة لإفشال العملية الانتخابية مستقبلًا. إن من شأن ذلك إعادة مشهد الانقسام وأزمة الشرعية مجددًا، وهو ما قد يندر بانتكاسة لن تضع مصير الاستحقاق الانتخابي الليبي على المحك فحسب، بل سيدخل البلاد في مرحلة انتقالية جديدة، وبما يهدد الدخول في أتون حرب أهلية واقتتال داخلي، ويبعد البلاد من الانتخابات ربما لسنوات. وهو ما يحتاج إلى ضمانات وازنة من القوى الفاعلة في المنظومة الدولية كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا حتى يمكن كبح التدخلات الخارجية لضمان نزاهة واحترام العملية الانتخابية وما تفرزه من نتائج، مع تشديد العقوبات على المُعرقلين أو كل من يمثّل تهديدًا للعملية الانتخابية برمتها.

فمن المرجح أن تتزايد الضغوط الدولية على الأطراف المحلية والخارجية الفاعلة في المشهد الليبي، على التوافق حول موعد نهائي يحظى بدعم جميع الأطراف ويضمن تجنب الثغر القانونية والتحديات الأمنية التي واجهت عملية التنظيم لأول انتخابات رئاسية في تاريخ ليبيا.

لا يزال المشهد الليبي تسيطر عليه حالة من الضبابية. ولم يتضح بعد ما إذا كانت التطورات الراهنة المتعلقة بتأليف حكومة جديدة يمكن أن يفضي إلى تأجيج الصراعات الداخلية داخل الغرب هذه المرة، أم أنها يمكن أن تعزز الجهود المبذولة لضمان التوحد بين النخب السياسية والمؤسسة العسكرية في شرق البلاد وغربها.

وفي الحصيلة، إن توافر إرادة حقيقية لدى الفرقاء الليبيين لتحقيق المصالحة وحشد الجهود والطاقات لمواجهة الأخطار التي تستهدف الدولة الليبية، كفيل بأن يذلل العقبات، ويفتح آفاقًا رحبة أمام دخول مرحلة جديدة من التعاون وتكامل الأدوار، وإعادة بناء المؤسسات والخروج من حالة الانقسام إلى غير رجعة. إن الرهان بالأساس يظل على عاتق الأطراف الليبية، وهي المستفيد الأول من الاتفاق السياسي، وهي المتضرر الأكبر من حالة التشرذم والصراع والاستنزاف الداخلي.

من هنا، يمكن تقديم بعض المقترحات لتعزيز فرص نجاح الاتفاق السياسي والخروج بليبيا من أزمتها الراهنة، التي تتمثل في الآتي:

1 – اعتماد الحوار والتوافق خيارًا استراتيجيًا من جانب القوى الليبية كافة، لا أن يكون خيارًا تكتيكيًا مرحليًا تفرضه متغيرات ومصالح آنية ضيقة.

2 – اعتماد الانتخابات المقبلة كنقطة انطلاق نحو تحقيق الوحدة الوطنية والتوافق الوطني وإعادة ترتيب البيت الليبي، والحؤول دون أن تتحول من نقطة التقاء إلى نقطة تزيد من مساحة التباعد والخلاف.

3 – الضغط على الأطراف الخارجية لوقف تدخلاتها السلبية في ليبيا ومحاولاتها وضع العراقيل أمام إجراء الاستحقاق الانتخابي المقبل.

4 – مشاركة القوى الدولية الفاعلة في الإشراف على سير واستكمال العملية الانتخابية حتى نهاية حلقاتها، بما يضمن نزاهتها وشفافيتها، ويحول دون أي عملية تزوير لإرادة الناخبين، بحيث ينضوي في إطارها جميع قوى الشعب الليبي.

5 – قبول نتائج الانتخابات واحترام إرادة الشعب الليبي، في اختيار قياداته، وتجنُّب التعامل بازدواجية مع إرادة الناخبين ونتائج العملية الديمقراطية.

 

قد يهمكم أيضاً  تحديات المصالحة الوطنية في ليبيا بعد 2011

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #ليبيا #الانتخابات_الرئاسية_في_ليبيا #الإنتخابات_الرئاسية_الليبية #الأزمة_الليبية