لا يختلف اثنان على أن النظام العربي يواجه أزمة حقيقية طاحنة ربما تشي بعض ملامحها بأنها تقترب – لا قدّر الله – من كونها أزمة وجودية، بمعنى أن مستقبل هذا النظام يبدو على المحك. وليست الأزمات الطاحنة بالجديدة على النظام العربي منذ نشأته، فقد واجه بعد ثلاث سنوات فحسب من تأسيس جامعة الدول العربية تحدي تأسيس الكيان الصهيوني وأخفق في إجهاض مشروع الدولة الصهيونية على أرض فلسطين عام 1948، ثم واجه مرارة الهزيمة العسكرية أمام العدوان الإسرائيلي في حزيران/ يونيو 1967، وواجه أزمة الانقسام المصري – العربي في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين بسبب الخلاف حول نهج أنور السادات إلى التسوية السياسية مع «إسرائيل»، وكذلك واجه الأزمة غير المسبوقة لغزو الكويت عام 1990، التي انقسم العرب حولها كما لم ينقسموا من قبل، ثم تعرّض لمحنة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وتداعيات الانتفاضات الشعبية التي غمرت الأرض العربية منذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن، وأخيرًا وليس آخرًا واجه التغوّل الأمريكي – الإسرائيلي على فلسطين؛ وبالذات إبان ولاية دونالد ترامب (2017 – 2020). غير أن إمعان النظر في كل ما سبق يكشف عن وجود آليات للتصحيح استطاع النظام العربي من خلالها أن يستعيد عافيته دائمًا بدرجة أو أخرى.

تمكن النظام العربي، بعد نحو سنتين من هزيمة عام 1948، من إنجاز تطوير جذري في بنيته التنظيمية، إذ توصل إلى إبرام معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية عام 1950 التي أحدثت نقلة نوعية في منظومة الجامعة. فمن المعروف أن سهام النقد كانت قد وُجهت إلى ميثاق الجامعة بسبب عدم إلزامية قراراته، إذ كان يشير إلى اتخاذ القرارات بالأغلبية، لكنها لا تُلزم إلا من وافق عليها، وبالتالي كانت أي دولة عضو في الجامعة تستطيع أن تتحلل من الالتزام بقراراتها من دون أن تكون مخالفة للميثاق، وهو ما يعيق الدور المنوط بالجامعة في تسوية المنازعات البينية العربية وحماية الأمن العربي وجميع مجالات النشاط الأخرى. أما معاهدة الدفاع المشترك فقد استندت إلى مبدأ الدفاع الجماعي العربي، بمعنى أن أي عدوان على بلد عربي هو عدوان على البلدان العربية كافة تشترك في دفعه. ولهذا الغرض نصت المعاهدة على تأسيس مجلس دفاع عربي مشترك يضم وزراء الدفاع والخارجية من الدول الأعضاء يمكنه – وهذا هو الأهم – أن يتخذ قرارات ملزمة بأغلبية الثلثين. صحيح أن هذا النص لم يكتمل تطبيقه ولا مرة واحدة في مواجهة التهديدات الجسيمة التي تعرض لها الأمن القومي العربي لاحقًا، غير أن معاهدة الدفاع المشترك وفَّرت الإطار القانوني المطلوب لحماية الأمن العربي بآلية جماعية. ومن ناحية أخرى نجحت ثورة تموز/ يوليو 1952 التي تفجرت بعد أقل من أربع سنوات على نكبة 1948 في أن تقود موجة المد التحرري في الوطن العربي منذ منتصف الخمسينيات حتى اكتمل استقلال البلدان العربية عدا فلسطين في مطلع السبعينيات.

وعقب هزيمة 1967 عُقِدَت قمة الخرطوم في آواخر آب/ أغسطس وأوائل أيلول/ سبتمبر من السنة نفسها، أي بعد أقل من ثلاثة أشهر على وقوع الهزيمة، وتم التوصل إلى استراتيجية شاملة للتعامل مع تداعيات الهزيمة استندت سياسيًا إلى رفض التفاوض والصلح والحلول الانفرادية مع «إسرائيل» وعسكريًا إلى دعم دول المواجهة ماليًا كي تتمكن من إعادة بناء قواتها المسلحة. ظلت هذه الاستراتيجية قائمة حتى حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 التي مثلت ذروة العمل العربي المشترك لحماية الأمن القومي بخطة عسكرية مصرية – سورية مشتركة بساعة صفر واحدة ومساهمة تسعة بلدان عربية عسكريًا في جبهات القتال، وتوظيف كبريات الدول المصدرة للنفط له كسلاح في المعركة. وبعد الانقسام المصري – العربي الفادح عقب معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية عام 1973 تم البدء في تجاوز هذا الانقسام في قمة عمان 1987 بعد أن انطوت تطورات الحرب العراقية – الإيرانية على تهديدات للأمن القومي العربي لم تكن مواجهتها ممكنة في غياب وحدة الصف العربي، فقررت القمة السماح للبلدان العربية بإعادة علاقاتها الدبلوماسية مع مصر على أساس سيادي، ثم استُكمل رأب الصدع في العلاقات المصرية – العربية بحضور مصر القمة العربية في الدار البيضاء عام 1989 ثم عودة الجامعة العربية إلى مقرها في القاهرة بعد ذلك. وعقب الانقسام العربي الفادح حول غزو الكويت عام 1990 توقفت القمم العربية عن الانعقاد لست سنوات كاملة في إشارة إلى عمق الخلافات البينية العربية، ولم يُدْعَ العراق أصلًا إلى قمة عام 1996 بالقاهرة التي استوجبها وصول اليمين المتشدد إلى الحكم في «إسرائيل» وانقلابه على اتفاقية أوسلو 1993. وحصلت محاولات في قمتَي القاهرة 2000 وعمان 2001 للتوصل إلى مصالحة كويتية – عراقية لم تُكلل بالنجاح إلا في قمة بيروت 2002. غير أن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 أفسد كل شيء ومثّل نقطة فارقة في تدهور الأوضاع العربية.

ثمة ملاحظة مهمة على عملية التعافي التي تمكن النظام العربي بموجبها من الخروج من أزماته السابقة، وهي الزيادة الواضحة في المدة التي استغرقتها العملية عبر الزمن، إذ مرّت سنتان فحسب بعد هزيمة عام 1948 لينجح النظام العربي في إبرام معاهدة الدفاع المشترك، ومرّت ست سنوات ليثأر النظام العربي لهزيمة عام 1967 بحرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ومر عقد كامل ليمكن تجاوز الانقسام المصري – العربي بعد معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية، وانقضت اثنتا عشرة سنة قبل أن يمكن إنجاز المصالحة العراقية – الكويتية. أما الغزو الأمريكي للعراق فما زالت آثاره باقية حتى الآن، بل إن الانتفاضات الشعبية العربية التي بدأت في مطلع العقد الثاني من هذا القرن والتي انعقدت عليها آمال كبار في تحقيق نقلة نوعية في أوضاع النظام العربي، قد انتهت بها الحال إلى تداعيات بالغة الخطورة ما زالت قائمة حتى الآن؛ لعل أهمها يتمثل أولًا بتهديد فعلي لكيانات عدد من الدول الوطنية العربية التي كانت تعاني الهشاشة أصلًا، بحيث أصبحت سيناريوهات الانقسام والتقسيم مطروحة بقوة، بل وقائمة من الناحية العملية في هذه الدول. وثانيًا حدوث نقلة نوعية في الظاهرة الإرهابية لعل أخطر ملامحها قد تمثل بتأسيس الإرهاب لدولة مكتملة الأركان على جزء يُعتدّ به من إقليمَي العراق وسورية، ناهيك بمحاولات جرت في دول أخرى وإنْ لم يُكتب لها النجاح والاستمرار. وعلى الرغم من القضاء على دولة الإرهاب عام 2017 فإن أحدًا ليس بمقدوره الادعاء بأن خطر الإرهاب قد زال في المنطقة أو غيرها، وبالذات في أفريقيا. وثالثًا تفاقم الاختراق الخارجي للنظام العربي عالميًا وإقليميًا على نحو غير مسبوق كما يبدو بصفة خاصة في التدخل الصارخ من القوى الكبرى والإقليمية في مجريات الصراعات التي تدور على أراضي عدد من البلدان العربية. وأخيرًا وليس آخرًا، الاضطراب الذي لحق بمفهوم الأمن القومي العربي وصولًا إلى غياب مفهوم موحد لهذا الأمن أصلًا نتيجة معضلة ترتيب أولويات التهديد بالنسبة إلى عدد كبير من البلدان العربية. وكان من ضمن تداعيات هذه المعضلة أن عددًا من البلدان العربية قد انخرط في علاقات وثيقة مع «إسرائيل» خلافًا للمبادرة العربية عام 2002 رغم تزايد التغوّل الإسرائيلي على فلسطين والفلسطينيين بدعم أمريكي صارخ.

* * *

يُلاحظ أن هذه التحديات الجسيمة تتزامن مع تحديات مماثلة تواجهها الفكرة العربية بسبب الاحتقانات الطائفية والعرقية التي يغذيها الأعداء الخارجيون لأمتنا، والمشاريع البديلة التي تحاول إسقاط العروبة كأساس للوجود السياسي لشعوب الأمة العربية وإطار لتنظيم تفاعلاتها البينية وعلاقاتها الدولية، مع أن العروبة في تقدير كل عربي مخلص لأمته هي الأساس الوحيد الذي يمكن استنادًا إليه تقديم إجابات صحيحة وشاملة لكل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الأمة العربية في المجالات كافة. وينخرط خصوم العروبة وأعداؤها – كما يعلم الجميع – في أنشطة محمومة بمختلف الوسائل للدفاع عن مشروعاتهم البديلة وتشويه المشروع النهضوي العربي. وللأسف فإن هذه الأنشطة وما تتسلح به من آليات إعلامية تعاظم تأثيرها مع الطفرة التكنولوجية في وسائل التواصل قد تمكنت من تحقيق بعض التأثير، أو على الأقل التشويش على النهج العروبي الذي يُفترض أن يكون هاديًا لنا في نضالنا من أجل تأمين حاضرنا والوصول بأمتنا العربية إلى غاياتها المشروعة. وعلى الرغم من أن أحدًا لا يمكنه أن يزعم وجود تقدير موضوعي للآثار التي أحدثتها الأنشطة المعادية للعروبة إلا أنني أزعم أن حال الأمة العربية في الوقت الراهن لا يمكن مقارنته على سبيل المثال بحالها في خمسينيات القرن الماضي وستينياته حينما كانت جماهير الأمة ونخبها – بل وأحيانًا حكوماتها – موحدة الإرادة بتوجهات عروبية خالصة في مواجهة تحديات انتزاع الاستقلال من الاحتلال الأجنبي وصد محاولات اختراق النظام العربي بمشاريع الأحلاف الغربية والسعي لتحقيق وحدتنا القومية وإنجاز تنميتنا المستقلة.

ويشعر كل عربي مخلص بأن ثمة مهمة ملحة واجبة تتمثل بالدفاع عن العروبة بكل الوسائل الممكنة لقطع الطريق على المشروعات المشبوهة التي تحاول توجيه الأمة إلى المسار الذي يحقق غايات تلك المشروعات. ويتمسك مركز دراسات الوحدة العربية بدوره الرائد في هذه المعركة التي تشاركه فيها القوى والمؤسسات العروبية كافة، ويبذل أقصى الجهد من خلال مطبوعاته وندواته وأنشطته الفكرية من أجل النجاح في تلك المعركة التي يتوقف عليها مستقبل أمتنا، وهي معركة تحتاج إلى تضافر جهودنا جميعًا من أجل الإجابة عن أسئلة المستقبل على النحو الذي يمكننا من مواجهة التحديات. لذلك فإن المركز يدعو كل أصدقائه ومتابعيه إلى الإدلاء بِدَلوهم في ما يتعلق باقتراح الأفكار والآليات المطلوبة من أجل النجاح في هذه المعركة الحاسمة. وينوي المركز بعد أن يتلقى استجابات كافية في خلال شهرٍ مثلًا أن يطور ورقة عمل تلخِّص الأفكار الأساسية التي وردت له وتدير نقاشًا حولها بكل الآليات الممكنة من خلال المستقبل العربي وعقد الندوات والحلقات النقاشية وما إلى هذا تمهيدًا لبلورة وثيقة فكرية تكون أساسًا صلبًا لتحرك المركز وغيره من المؤسسات المشاركة له في معركة المستقبل العربي التي باتت أكثر إلحاحًا في ظل الظروف المتغيرة التي يمر بها العالم الآن، والتي ستنطوي على تغيرات هيكلية لا بد من أن نكون واعين بها ومتحسبين لها حتى نحتل المكان اللائق بأمتنا في عالم الغد. وقد يكون من حسن الطالع ما يبدو الآن من بصيص أمل في أن يكون الصراع الدائر حاليًا من أجل إعادة هيكلة النظام العالمي قد كشف عن أهمية العمل العربي المشترك بهدف توفير قاعدة صلبة يستند إليها الموقف العربي في مواجهة التحولات الراهنة وما انطوت عليه من تحديات جديدة تتطلب الوحدة في مواجهتها، كذلك فإن ثمة مؤشرات غير خافية لحدوث تحولات إيجابية نحو موقف عربي موحد تجاه الصراع العالمي الراهن، والله نسأل أن ينير لنا الطريق إلى ما فيه خير أمتنا العربية المجيدة.

 

قد يهمكم أيضاً  نداء الوحدة: بيان سياسي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الوحدة_العربية #العروبة #العمل_العربي_المشترك