مقدمة:

اندلعت أحداث الثورة الشعبية في ليبيا في السابع عشر من شباط/فبراير 2011، لتعلن للعالم بدايةَ خروج الشعب الليبي عن صمته الطويل على الحكم الاستبدادي الذي عاش تحت وطأته أكثر من أربعة عقود، ولم يكن أمامه من خيار ليتخلص من نظام القذافي سوى ثورة دموية مسلحة سقط فيها الكثير من الضحايا، وما كان لمسلسل القتل أن ينتهي لو لم يتدخل التحالف الدولي بقيادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) للقضاء على مقدرات النظام العسكرية ووسائل مقاومته.

قامت الثورة الليبية بدافع التخلّص من الاستبداد، والمطالبة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. غير أن واقعَ الانتقال إلى بناء ليبيا الجديدة ليس باليسر ذاته، بل يتطلب مواجهة الماضي وتيسير المصالحة بالاستناد إلى جملة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحضر في إطارها مسألة العدالة الانتقالية كمتغيّر مهم في مسار تحقيق المصالحة الوطنية.

هناك من يرى أنّ ثمّة تجاهلاً لمتغيرات الواقع، إذ لا يمكن الحديث عن مصالحة وطنية، وهناك تركة كبيرة من الأحقاد والمظالم التي تنخر في المجتمع الليبي وفي وحدة صفّه وثوابته الوطنية، وتجاوز مثل هذه التحديات يتطلّب الاستماع لصوت المطالب المشروعة، كنوع من جبر ضرر المجتمع الذي تحمّل تبعات النظام السابق بكل سلبياته، ولا يعني ذلك أن تدور بوتقة تلك المطالب بعيداً عن الاهتمامات العامة الثورية التي تنشد المساواة في إطار الإصلاحات السياسية والاقتصادية.

إن من شأن مصالحة وطنية حقيقية وعميقة أن تكون هناك توافقات وطنية على بناء مؤسسات سياسية وأمنية فاعلة، تغيب فيها وتنصهر الأبعاد المناطقية والجهوية التي تقف عائقاً أمام أي جهود لتحقيق المصالحة الوطنية.

ففي غضون السنوات القليلة التي تلت ثورة 17 شباط/فبراير تبيّن لنا أن ليبيا تواجه تحديات كثيرة تتصل بتاريخها ومكّوناتها الاقتصادية والاجتماعية، وبما ترتب على إرث القذافي والثورة ضده، وما ولّدته من استقطاب وشرخ اجتماعي واضح. فضلاً عن التحديات المرتبطة بالعدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية التي لم يتم تنفيذ أي من استحقاقاتها، بالرغم من إقرار المؤتمر الوطني العام قانونَ العدالة الانتقالية في أيلول/سبتمبر 2013.

كل ذلك عمّق التناقضات وهدّد الاستقرار، وأدخل البلاد في دوامة من الأزمات عنوانها: العنف، والاغتيالات، والفساد. وبالتزامن مع بروز النزعات القبلية والمحلية والمناطقية، المتناقضة أحياناً، ساهمت عوامل خارجية أيضاً في زيادة حدة الأزمة، لتؤدّي إلى تصاعد أعمال العنف وتفاقم الأزمة السياسية في ليبيا التي تمثلت في دعم أطراف وجهات إقليمية ودولية لأطراف سياسية ليبية على حساب أطراف أخرى.

في هذا السياق تبرز أمامنا عدة أسئلة لفك شفرة الصعوبات التي تواجه المصالحة الوطنية في ليبيا، هل هناك إمكانية لتشكيل نخبة سياسية جديدة في ليبيا تعتمد مشروعاً سياسياً وأمنيا متكاملاً بعيداً عن نزعات الثأر والانتقام والعنف الأهلي بين شرائح المجتمع التي أيّدت النظام السابق وساهمت في استمراره وبين قوى المجتمع المناضلة التي قاومت بطرق عديدة هذا النظام؟ ثمَّ ما هي العقبات التي تقف حائلاً دون تحقيق مصالحة مجتمعية حقيقية؟ وفي المنحى ذاته ما هي الآليات والمقترحات التي يمكن اتباعها حتى تقود البلد إلى الاستقرار والأمن الاجتماعي؟

تهدف هذه الدراسة إلى التعرّف إلى الأسباب الحقيقية والعوائق التي تقف حائلاً دون تحقيق مصالحة مجتمعية وطنية بين مكونات المجتمع الليبي كافّة، وكذلك التحديات المرتبطة بها، ومدى قدرة البلد على تجاوز هذه العقبات والتحديات، وكيفية الاستفادة من تجارب دولية سابقة، وبالقدر نفسه ما هي قدرة البلد على الوقوف على أهم الأخطاء والعيوب قصدَ تلافيها وتجنّب الوقوع فيها، واستخلاص الدروس منها، وكذلك تقديم مقترحات تهدف إلى تحقيق إصلاح سياسي والخروج من الأزمة الراهنة.

وتكمن أهمية هذه الدراسة في أنّها تتناول التحديات المرتبطة بالمصالحة الوطنية، في إطار عملية التحوّل من النظم الشمولية التسلطية إلى نظم ديمقراطية، والمخاطر أو التهديدات الكامنة وخصوصاً عندما تنطلق عمليات الانتقال عقب ثورة حققت القطيعة الكاملة والمفاجئة مع النظام السابق من خلال ثورة دموية مسلحة سقط فيها الكثير من الضحايا.

أولاً: المصالحة الوطنية… المفهوم والإشكالية

تعني المصالحة الوطنية في أبسط معانيها: «عملية للتوافق الوطني تنشأ على أساسها علاقة بين الأطراف السياسية والمجتمعية قائمة على التسامح والعدل وإزالة آثار صراعات الماضي، لتحقيق التعايش السلمي بين أطياف المجتمع كافة، بما يضمن الانتقال الصحيح للديمقراطية، من خلال آليات محددة، ووفق مجموعة من الإجراءات»[1]، فبلوغ المصالحة الوطنية الحقيقية والشاملة هو أمر ليس بالهيّن، ويتطلب إلماماً تاماً بالواقع السياسي والاجتماعي والقانوني في ليبيا، وإدراك الدرب الصحيح والإجراءات المطلوبة لبلوغ المصالحة الوطنية، إضافة إلى دراسة تجارب الدول الأخرى.

إنّ الدرب الصحيح لتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة يستلزم اتباع الآليات المناسبة للعدالة الانتقالية؛ لذلك من المهم دراسة المصالحة الوطنية جنباً إلى جنب مع آليات العدالة الانتقالية: وهي تحديداً كشف الحقيقة والمحاسبة والتطهير، والإصلاح المؤسسي، والعفو، وجبر أضرار الضحايا، وتخليد ذكراهم، وحفظ الذاكرة الجماعية.

إذاً، فالمصالحة الوطنية المرجوّة من تطبيق آليات العدالة الانتقالية تقوم أساساً على مسارات حقوقية وعدلية، وهي في ذلك تختلف عن المصالحة التي تسعى إليها التيارات والفصائل السياسية التي يضطلع بها أساساً ممثّلو الأحزاب والقوى السياسية المختلفة. ومصطلح العدالة الانتقالية لا يعني إطلاقاً التصالح مع مرتكبي الجرائم الجسيمة؛ لأن مفهوم المحاسبة – وهو أحد أهم دعائم العدالة الانتقالية وفقاً للاتجاهات الدولية الحديثة – يقوم على مبدأ عدم الإفلات من العقاب، ويمنع المصالحة مع مرتكبي الجرائم الجسيمة وجرائم الإرهاب. وبذلك يعني هذا المفهوم – تطبيقاً على الوضع في ليبيا – إجراء عملية الفرز والتصنيف واستخدام آليات العدالة الانتقالية الأخرى المتاحة لمحاولة رأب تصدّعات المجتمع وإعادة الاستقرار إليه عن طريق تحديد أسباب وأنماط العنف واحتوائه، وإعادة إدماج من شردَ عن الطريق أو غُرّر به إلى أحضان المجتمع[2].

ويجب أن نضع في الاعتبار – عند تصحيح مسار العدالة الانتقالية – أنّ أطراف المصالحة الوطنية تتعدّد في ليبيا، وأنهم لا يقتصرون على قبيلة أو منطقة أو فصيل معيّن، وبذلك تتعدّد صور المصالحة المطلوبة،

فهناك مصالحة يجب أن تجري بين رموز النظام السابق وفئات عديدة من المجتمع الليبي ممن ذاقوا الظلم أو التعذيب أو الاعتقال قبل ثورة السابع عشر من شباط/فبراير، ويتفرع عنها مصالحة بين ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في ظلّ هذا النظام ورموز القوى الأمنية التي ارتكبت تلك الانتهاكات، فضلاً عن المصالحة مع العديد من الفئات التي عانت الإقصاء والتهميش.

وتأتي بعد ذلك المصالحة الكبرى التي تهدف إلى إزالة حالة الاحتقان القبلي والانقسام المجتمعي الحادّ التي روّج لها رموز النظام السابق، ونتجت منها صدامات دموية بين أنصاره وغيرهم من فئات الشعب الليبي، تطورت إلى ارتكاب جرائم الإرهاب من جانب أنصار هذا النظام كما هي معروفة في الاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية. ثم تأتي المصالحة الأهم والأصعب، وخصوصاً بعد اندلاع ثورة 17 شباط/فبراير بين شرائح المجتمع الليبي التي ساندت ووقفت مع نظام القذافي وساهمت في استمراره، وبين الأغلبية التي قاومت هذا النظام الدكتاتوري بطرق متعدّدة.

ثانياً: معضلات المصالحة الوطنية في ليبيا

كشفت التجربة الليبية بعد 2011 عن ضعف التعاطي مع مفهوم العدالة الانتقالية والتركيز على المصالحة الوطنية من دون تحديد شروط المصالحة وآليات تطبيقها والقواعد التي تستند إليها، ما أدّى إلى عرقلة عملية إعادة بناء الدولة الوطنية والانتقال السلس إلى الديمقراطية، وتجلّى ذلك في الانقسامات والمحاصصة والتوافقات، إضافة إلى ضعف الوعي بالعدالة وضعف ثقافة التسامح والاعتذار ما عزّز الانقسامات الاجتماعية وخلق معوقات للتعايش تشتد تأثيراتها بدوافع سياسية، مثلما هي الحال اليوم، في حين يحتاج البلد بتجربته الجديدة إلى إشاعة ثقافة التسامح التي تعني: «القبول بالتعددية والاحترام والتنوّع الثقافي… ولهذا فإنّ التسامح يفترض المعرفة بالآخر والانفتاح عليه والاتصال به والحرية في التعامل والتعايش معه»[3].

لم نجد مثل هذا في واقعنا اليوم حيث حلّت المناكفة السياسية والمكابرة والاستعلاء وتزايد الشحن العاطفي والنزعات القبلية وإذكاء التوتر إعلامياً، ما زاد من قلق الأقليات بأنواعها المختلفة. في حين أن المطلوب ليس الاعتراف بالتعددية والتداول السلمي واحترام حقوق الإنسان فقط، وإنما التوافق على إدارة الاختلاف سلمياً من خلال العدالة والديمقراطية أيضاً. والمطلوب أيضاً كما يقول ألان ج. غانيون: «مأْسسة الفضاء التواصلي الذي يجيز لمجتمع تعددي إيجاد لغة موحدة (مشتركة)، عبر تعزيز سياسة التسوية التي تقود إلى إبرام العهود بما يخدم مصلحة العيش المشترك»[4].

ومن شأن توفير وتلبية تلك الحاجات وتشكيل وتعزيز ودعم مراكز علمية متخصصة للبحث والدراسة والاستشارة أن يؤدّي إلى إنجاح مهام أهداف العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، ويقود إلى أَنْسَنة السياسة في ليبيا.

إن الليبيين مدعوون إلى التدبّر في كل ما له صلة بالمصالحة والوحدة الوطنية، فليبيا اليوم بلد هشّ، والهوية الوطنية الجامعة لم تتحقق بعد، بينما تسبّب نظام القذافي والثورة ضدّه في شروخ نالت من الجسد الوطني الغضّ.

أبرز الأمثلة على ذلك هو الانقسام الحاصل بشأن التعامل مع كل ما قام به القذافي خلال 42 عاماً من الاستبداد، حيث نجد تمثّلات ثقافة المنتصر والمهزوم واتساع دائرة الاتهامات، كما أن تحقيق المصالحة الوطنية ليس شرطاً للسلام الاجتماعي وتحقيق الديمقراطية فحسب، بل هو مفتاح صيانة الوحدة الوطنية أيضاً؛ وهنا تكمن الأبعاد السلبية الخطرة لتقسيم البلاد إلى مدن ومناطق وقبائل منتصرة، وأخرى مهزومة، ما يسبّب شرخاً اجتماعياً[5].

غير أن مستقبل البلاد يتأثر أكثر بما نجم عن عددٍ من الممارسات التي جعلت مناطقَ تعيش عداوة مع مناطق أخرى، وخصوصاً بين مصراته وتاورغاء، ما يجعل مسألة المصالحة الوطنية وبناء الدولة الجديدة تواجه تحديات هائلة أثبتت – حتى الآن – أنها عصية على أية معالجة قبل إحقاق الحق وتقديم الجناة إلى العدالة لينالوا جزاءهم. لا جدال في أن الأمر يقتضي حكمة متناهية وصبراً، مثلما يقتضي قدرة على التمييز بين المجرم والمتهم والبريء، وهو ما لن يتحقق حتى يمكن للمصالحة الوطنية أن تثبت نجاحاً في مناطقَ ومساحاتٍ تتسع باستمرار، وحتى يمكن لنظام العدالة الانتقالية أن يقوم بدوره المهم في معالجة هذه المسائل والتحديات[6].

ثالثاً: التحديات السياسية والأمنية التي تواجه ليبيا بعد 2011

بينّت فترة ما بعد سقوط نظام القذافي وضعية ليبيا كبلد غير مستقر وتسوده التنافسات السياسية والأيديولوجية القاسية، ووليد التجربة ما ينذر بدخول البلاد بين المجهول ومخاطر الفوضى. وأفرز الوضع الليبي ظواهر عديدة، أبرزها التدهور السياسي وفقدان الأمن وانتشار الميليشيات والسلاح خارج إطار الشرعية، وغياب الخدمات واستشراء الفساد وتصاعد الأزمات السياسية وضعف المؤسسات وخصوصاً الأمنية والعسكرية، ورافقت ذلك تحوّلات بنيوية في طبيعة الحكم قادت إلى تبلور طبقات سياسية منفصلة عن بنية المجتمع نفسه، ومنها نجد فقدان ثقة المواطن بالنخبة، وفقدان الثقة بين النخب، وفقدان الثقة بين المكّونات، ونختصر الحالة في ما يتم تداوله في الشارع الليبي: سقط الطاغية لكن بقيت مؤسساته وثقافته الاستبدادية قائمة.

وهكذا سقط نظام القذافي ليترك مجتمعاً منقسماً، تسوده فوضى سياسية، وهشاشة مؤسساتية، وقلق على المستقبل في ظل غياب مرجعية متفق عليها، وفي ظل طبقة سياسية تتصرّف بناءً على مصالحها الضيقة، وهي الإرث الذي خلّفه نظام القذافي، في حين أن الليبيين كانوا بحاجة إلى دولة المؤسسات الديمقراطية الحديثة والمجتمع المدني، كما هم بحاجة أكبر إلى هامش كافٍ من الوقت لنجاحها لا إلى دولة الميليشيات التي تصنع وتفرّخ بعيداً عن الأجندة الوطنية.

هناك مخاوف من أن تُضرَبَ المصالحة الوطنية بسبب قانون العزل السياسي[7] الذي تم إقراره تحت تهديد السلاح ومحاصرة واقتحام وزارتي العدل والخارجية من قبل الميليشيات المسلحة. إضافةً إلى أن اعتماد هذا المنهج سيؤدي إلى تهميش جزء كبير من الشعب الليبي وسيهدّد وحدته. وتجدر الإشارة إلى أنَّ تداعيات هذا القانون ظهرت واضحةً في عدد من الأزمات الأخيرة [8].

وفي هذا السياق، لا بد من القول إن المحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة في شباط/فبراير 2014 بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر يجب وضعها في إطار الهزّات الارتدادية لقانون العزل السياسي، ومحاولة القوى والرموز المستهدفة من هذا القانون البقاءَ وضمانَ وجودها في الخريطة السياسية المستقبلية لليبيا. والجدير بالذكر هو أن حفتر كان ضابطاً سابقاً في الجيش الليبي، وقد انشقَّ عن نظام القذافي في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وعاد إلى ليبيا مع بدايات الثورة في العام 2011.

رابعاً: تحدي العامل الخارجي

يجب ألَّا نُغفل أثر العامل الخارجي في ما تمرّ به ليبيا من عدم الاستقرار وغياب الأمن، وحضور العنف بأبشع صورهِ، ليزيد من تعقيدات الوضع الداخلي وصعوبة تحقيق المصالحة الوطنية بين فرقاء الحياة السياسية في ليبيا. وهكذا فإن ترافُق العوامل الداخلية، وبصفة خاصة الاعتبارات القبلية والمناطقية، مع العوامل الخارجية، يؤدي إلى تصاعد أعمال العنف وتفاقم الأزمة السياسية المتمثّلة في تقديم الدعم من القوى الخارجية لطرف دون آخر في الصراع القائم بين القوى السياسية الليبية، ما يؤدي إلى مزيد من الاضطرابات العنيفة التي شهدتها البلاد مؤخراً.

وفي سياق العبث الخارجي الذي يلعب بعيداً عن اعتبارات المصالحة الليبية وأهميتها في معادلة الاستقرار والأمن الداخلي، أكّدت تقارير استخباراتية أن ثمة دوراً لبعض البلدان العربية في ما يحدث في ليبيا، رغبة منها في السيطرة على الحركات المتشددة، وحرصاً على كبح نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا. فضلاً عن رغبة هذه الأطراف الجامحة في تبديد المخاوف الثورية على تخومها، وحشر الربيع العربي في زاوية ضيقة. وترصد هذه التقارير دعماً مالياً ولوجستياً لتحركات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، بالتوازي مع الدعم الاستخباراتي والتقني[9].

هذا وقد أفاد مسؤولون أمريكيون بأن طائرات إماراتية مستخدمةً قواعد عسكرية في مصر نفّذت غارات جوية على متشدّدين في العاصمة الليبية طرابلس في آب/أغسطس الماضي. غير أن مصر نفت، من جانبها، ضلوعها في الغارات، ولم يرد أي تصريح مباشر من الإمارات[10]. ورأى تقرير وكالة أسوشيتد برس الأمريكية أن التدخل العسكري المصري يعزّز فكرة أن ليبيا أصبحت ساحة معركة بالوكالة لصراعات إقليمية أكبر (تركيا وقطر بدعمهما للمتشدّدين الإسلاميين، ومصر والعربية السعودية والإمارات والجزائر بدعمهم للواء المتقاعد خليفة حفتر).

وقد أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، بياناً مشتركاً ندّدوا فيه بالتدخّل العسكري في ليبيا، وقال البيان إن التدخل العسكري يفاقم الأزمة ويعزز الانقسامات الداخلية ويعيق عملية المصالحة والانتقال الديمقراطي في ليبيا[11].

خامساً: التحديات المرتبطة بتطبيق العدالة الانتقالية

في إطار التحديات المرتبطة بتحقيق المصالحة الوطنية تحضر مسألة العدالة الانتقالية كمتغير ذي أهمية كبيرة كونه شديد الصلة باقتراب المصالحة الوطنية، وهنا تبرز مجموعة من التحديات في إطار مفهوم العدالة الانتقالية التي يتوقّف نجاح العملية السياسية والمصالحة الوطنية على طريقة التعاطي معها، سواء القديمة أو الجديدة، ومنها قضية المساءلة والعدالة، والولاءات الفرعية وإشكالية المواطنة، وقضية العنف والإرهاب والاغتيال وانتشار السلاح والميليشيات غير المنضوية إلى سلطة الدولة، وصراع النخب الحاكمة والأحزاب، وقضية التوافقات السياسية، والالتزام والتنصل، والتدخلات الإقليمية والدولية.

يتطلّب تطبيق العدالة الانتقالية في ليبيا فهماً للنطاق الواسع من الانتهاكات التي تشمل القساوة الممنهجة على مدى 42 عاماً من الدكتاتورية، وأعمال القمع التي قام بها النظام إبّان الثورة، ومرحلة الصراع التي شهدت تجاوزات من كلا الطرفين. وتشمل الانتهاكات التي عُرف بها نظام القذافي الاضطهادَ السياسي من خلال تجريم الاختلاف في الرأي والمعارضة، والإعدامات والاختفاءات القسرية والتعذيب، والمحاكمة الصورية أمام المحاكم السياسية، وتأجيج الانقسامات العرقية والقبلية. فمعالجة جرائم الماضي والجرائم التي ارتكبت خلال الثورة مسألة تزداد تعقيداً بسبب تورّط أفراد من كتائب الثورة بتعذيب المحتجزين والهجمات الانتقامية ضدّ جماعات تعتبر مؤيدة للنظام السابق. ولذا ينبغي للعدالة الانتقالية أن تواجه مثل هذه الانتهاكات كذلك.

إن نشوبَ نزاعات محلية في عدة أجزاء من ليبيا بسبب المظالم التاريخية تُظهر الحاجة إلى توجّه شامل لمعالجة الماضي. فمنذ بداية العام 2012 اندلعت نزاعات من هذا النوع في أجزاء متعددة من البلاد، بما في ذلك بني وليد، وفي الزاوية مع قبيلة ورشفانة، وفي الزنتان مع قبيلة المشاشية، وآخِرها كان بين ثوار مصراته وثوار طرابلس في منطقة غرغور للمطالبة بخروج الكتائب المسلحة من العاصمة، ولقد سبّبت هذه النزاعات خسائر في الأرواح ضمن المدنيين. ويظلّ ملف المصالحة بين مصراته وتاورغاء بشكل خاص الملفَّ الشائك والمعقد الذي لم يجد طريقه إلى الحل حتى اللحظة[12].

وبالرغم من إرسال العديد من الوفود المختلفة لمحاولة التوصل إلى مصالحة مجتمعية، فإنّ هذه المبادرات لم تتمكن من معالجة الجذور التاريخية وظلم الماضي بالاستناد إلى الإقرار بالحقوق، وحتى الآن لا توجد عملية موحدة للمصالحة الوطنية في ليبيا، بالرغم من تشكيل هيئة تقصّي الحقائق والمصالحة في ليبيا التي ضمت أربعة من قدامى المستشارين الليبيين برئاسة المستشار حسين مختار البوعيشي، للكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان. كما برزت مقترحات بأن تقسم المصالحة الوطنية إلى مرحلتين لكل منها آلياتها وأدواتها وقواعدها الخاصة. المرحلة الأولى تمتد من بداية ثورة 17 شباط/فبراير حتى الآن، أما المرحلة الثانية فتمتدّ من نظام القذافي في أيلول/سبتمبر 1969 إلى بداية ثورة 17 شباط/فبراير. وتتمثل الأهداف التي تسعى المصالحة إلى تحقيقها في إعادة الثقة بين الليبيين، وتحقيق العدالة، وتعويض المتضرّرين، من خلال آلية محددة وهي تشكيل لجنة عليا أو مؤسسة غير حكومية لإدارة عملية المصالحة، وتدير هذه اللجنة عملية المصالحة وفقاً لما يأتيها من اللجان الفرعية[13].

لا يمكن إغفال العديد من المعوقات التي تقف حائلاً أمام دعم المصالحة الوطنية، ومن أبرزها: تعارض المواقف والتصوّرات بشأن تحقيق المصالحة الوطنية، ومدى استعداد الأطراف المتنازعة للدخول في إجراءات المصالحة، وتقديم التنازلات والتضحيات من أجل إنجاحها، وتجنّب وضع شروط تعجيزية للاندماج في المصالحة الوطنية، وخاصة في ظل نوايا الثأر عند بعض المنتمين إلى النظام الجديد من النخب التي كانت محسوبة على النظام السابق، على الرغم من أن مقتضيات المصالحة أن لا تستثني أحداً من أية فرصة، وأن لا يُستبعد من المشاركة أحد ما دام غير متورط في جريمة محددة. إضافة إلى محدودية التجارب الناجحة في اتجاه المصالحة باستثناء بعض الحالات التي حققت نجاحات نسبية، كحالة جنوب أفريقيا والمغرب[14].

وبخصوص تجربة جنوب أفريقيا، نجد أنّه بفضل لجنة الحقيقة والمصالحة، عُرف جزء مهم من الحقيقة، وتمّ جبر ضرر عدد كبير من الضحايا إلى حدّ كبير بمجرد معرفة الحقيقة والاعتراف الجماعي والرسمي بمعاناتهم، وقد كان من عوامل نجاح لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا استقلال لجنة الحقيقة والمصالحة، ودعم المجتمع المدني والسياسي لها، وتمتعها بسلطات واسعة سهّلت مهمتها، وعلى وقت معقول وموارد مادية وبشرية كافية. بالإضافة إلى توازن القوى السياسية في المجتمع واتفاق المعتدلين على حل وسط[15].

وتعدّ تجربة المغرب إحدى أهم التجارب العربية والدولية في فتح ملفات الاختفاء القسري والتعذيب، وفي ما بعد تأليف هيئة الإنصاف والمصالحة وتعويض الضحايا والعمل على إصلاح وتأهيل عدد كبير من المؤسسات. إضافة إلى معرفة حقيقة الحوادث التي تستدعي العدالة الانتقالية، وأهمها إجراء تحقيقات جادّة في موضوع الانتهاكات المرتكبة، والكشف عن حقيقة الجرائم وأبعادها، ثم جبر الضرر واتخاذ الإجراءات التي تضمن سيادة القانون وعدم تكرار ما حدث. وأخيراً القيام بالإصلاحات السياسية والمؤسسية للحدّ من النزعات التسلطية في الدولة[16].

سادساً: الجهود الإقليمية والدولية لدعم المصالحة الوطنية في ليبيا

في ظلّ استمرار تصاعد أعمال العنف، طالب العديد من الأطراف الإقليمية والدولية الأحزابَ السياسية والقوى المتصارعة في ليبيا بضبط النفس وحلّ النزاع عبر الحوار، وأبدت بعض الدول قلقها من أعمال العنف المتصاعد، وحثت كل الفرقاء السياسيين على التصرّف بمسؤولية، وأكدت أن الاستقرار لن يتحقق إلا من خلال حوار ومصالحة وطنية حقيقية بين كل أطراف الصراع، وعبّروا عن استعدادهم لتقديم الدعم اللازم لمؤسسات الدولة الليبية في مرحلة إعادة البناء المُقبلة[17].

وكانت تونس قد أعلنت في 20 نيسان/أبريل 2014 عن بذل جهودها من أجل إطلاق حوار وطني بين الفرقاء السياسيين في ليبيا تحت إشراف منظّمة الأمم المتحدة في مسعى إلى إنهاء الأزمة التي تهزّ البلاد وذلك لإيجاد حلّ سلمي وتوافقي للأزمة في ليبيا[18].

كما أعرب وزير الشؤون الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة عن إطلاق بلاده مبادرةً من أجل تحقيق المصالحة الوطنية في ليبيا، معرباً عن ارتياحه لآفاق دعم حوار سياسي شامل بين الشخصيات والقوى الليبية. وأعلن مجلس السلم والأمن الأفريقي عن دعمه مبادرةَ الجزائر من أجل الحوار الشامل في ليبيا[19].

مصر من جانبها دعت خلال محادثات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع رئيس الحكومة الليبية المؤقتة عبد الله الثني إلى بذل المزيد من الجهود الإقليمية والدولية لحل الأزمة الليبية، وخاصة مؤتمر المصالحة الوطنية الذي رعته الأمم المتحدة أخيراً في مدينة غدامس على الحدود الليبية الجزائرية. وقالت مصادر الرئاسة المصرية إن السيسي والثني ركَّزا على سبل دعم العملية السياسية لوقف العنف وتحقيق الاستقرار في ليبيا، ودعم الحوار الوطني وصولاً إلى الانطلاق في عملية إعادة بناء الدولة الليبية وكفالة الأمن والأمان لمواطنيها[20].

وفي السياق ذاته، أكدت المغرب حرصها على الانخراط بكل دينامية في الجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى إيجاد مخرج للأزمة الليبية في إطار مقاربة شمولية تدمج الأبعاد الأمنية والسياسية والتنموية والإنسانية، كسبيل لتحقيق الاستقرار والنماء في ليبيا، ودعت المجتمع الدولي إلى بذلِ المزيد من الجهود لدعم وتشجيع الحوار الوطني في ليبيا بهدف الوصول إلى توافقات سياسية، وخاصة ما يتعلق منها ببناء المؤسسات ونزع السلاح، وتحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية[21].

كما دعا الأمين العام للأمم المتحدة «بان كي مون» أيضاً الأطراف الليبية المتصارعة إلى تسوية خلافاتها عبر الحوار، وأعرب عن قلقه من أعمال العنف المتصاعدة. وسعياً منها إلى إيجاد مخرج للأزمة الليبية الراهنة بادرت الأمم المتحدة من خلال مبعوثها الخاص إلى ليبيا برناردو ليون إلى إطلاق المحادثات بين طرفي الأزمة الليبية، وعلّق مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة أن أطراف النزاع في ليبيا اتفقوا على بدء عملية سياسية لمناقشة كل القضايا بصورة سلمية، وذلك بهدف التوصل إلى اتفاق يُنهي الأزمة السياسية التي جعلت البلاد تعيش بحكومتين وبرلمانيْن. وكان ليون التقى عدداً من النواب الليبيين، تمهيداً لجمع شمل الليبيين[22].

وافتتح ليون الحوار بمشاركة وفد من مجلس النواب برئاسة محمد شعيب النائب الأول لرئيسه ومحمد عبد العزيز وزير الخارجية الليبي السابق، وأعضاء المجلس المقاطعين لعقد جلساته في مدينة طبرق بأقصى الشرق الليبي، بالإضافة إلى مندوبين عن بريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا ومالطا[23]. عدّ محمد شعيب من جهته أنّ هذا الاجتماع بمنزلة بداية واعدة لمرحلة من السلام والوئام تنهي إلى الأبد كل أسباب العنف وتعيد الاستقرار والسلام إلى ليبيا.

كما أكّد مندوب ليبيا لدى جامعة الدول العربية عاشور بوراشد أنّ نجاح الحوار متوقّف على نزع السلاح، واجتماع الأطراف كافة حول طاولة واحدة للوصول إلى حلول سلمية، وقال بوراشد إن الحوار هو الوسيلة الوحيدة لبناء مؤسسات الدولة، مشيراً إلى تشجيع ودعم جامعة الدول العربية للحوار في ليبيا، ومعتبراً أن أي حوار خارج ليبيا وبتدخل خارجي لا يمثل الليبيين كافة[24].

سابعاً: مقترحات للخروج من الأزمة وتحقيق الاستقرار

في ظلّ الوضع المأزوم تُطرح الأسئلة الآتية: ما هو الحل الأمثل للخروج من الأزمة؟ وهل القوى والأحزاب السياسية مستعدة لتقديم تنازلات متبادلة؟ هل يتم التخلّص من نفوذ الأطراف الإقليمية والدولية وأجندتها غير المتفقة مع قيام ليبيا كدولة مستقرة الذي أدّى إلى إذكاء التناقضات والصراعات وافتعال الفوضى والحروب الأهلية؟ هل يمكن بناء دولة ليبية مستقرّة تعتمد المصالحة الوطنية وسيلة للتنمية وللبناء؟ من هنا تبرز الحاجة إلى اعتماد آليات واضحة باتجاه إرساء المصالحة الوطنية لتطبيع الأوضاع السياسية، واعتماد الحوار الوطني الشامل. ومن هنا تأتي ضرورةُ إدارة التناقضات وفق آليات عمل سليمة بدلاً من منهجية المواجهة العنيفة، ويقترن ذلك بتوافق وطني مشترك يهدف إلى تقريب وجهات النظر وتقليص الفجوات بين الأطراف المتخاصمة صوب صياغة مشروع مجتمعي مشترك يقوم على الاعتراف بتعددية المصالح وتعددية تمثيلها الفكري والسياسي والاجتماعي والثقافي، لتصبح المصالحة أكبر من مجرد آلية، بل سعياً مشتركاً نحو إلغاء عوائق الماضي وعوائق الحاضر واستمراريتها السياسية والتشريعية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتصحيح ما نتج من أخطاء من كل الأطراف. وبذلك فإن المصالحة كمشروع وطني مجتمعي طويل الأمد تقترن بإنجاز توافق وطني بين مكوّنات المجتمع وفق خطة وبرنامج عمل شاملين ومسترشدين بتجارب العالم في فضّ النزاعات سلمياً، ويخضع كل ذلك لمبادئ القانون الدولي وقواعده الآمرة[25]؛ فالمصالحة ليست تسويات أو صفقات بين أحزاب أو جماعات أو أفراد. وهنا يصبح الحوار وسيلة تحقيق المصالحة من خلال القبول والاعتراف بالآخر ونبذ العنف، وبه يتم الحوار حول كل الإشكاليات القائمة بين شركاء الثورة، وكذلك الدعوة إلى حملة من أجل التسامح والسلم الأهلي. والسبيل الفعلي إلى ذلك لا يتم عبر السلاح بل من خلال مصالحة وطنية وما يتمخض عنها من إرادة مشتركة لوقف العنف بكل أشكاله. وهذه القضايا ينبغي أن تقترن بتشخيص المعوقات التي تقف بوجه المصالحة الوطنية والتسوية السلمية للمشكلات المختلفة[26]. غير أنّه لكي ينجح هذا الحوار، لا بدّ من جَسْر فجوة الثقة القائمة بين الأطراف، واتخاذ الإجراءات التي تخفّف من حالة الاحتقان، ووقف حملات التجريح والتشهير المُتبادلة، وهذه مسؤولية الشرفاء من رجال السياسة والإعلام والدين والعلم والفكر والثقافة.

هذا الهدف لن يتحقّق إلا بالتفكير في تسوية سياسية وتطبيق العدالة الانتقالية من خلال لجنة إنصاف تعمل لإظهار الحقيقة وبعدها المصالحة الوطنية بالكشف عن الحقائق وإظهار التاريخ وتوثيق المنسي للمظلومين والمهمشين والمساجين والمنفيين والمعذبين خلال المرحلة التسلطية الدكتاتورية التي دامت أكثر من أربعين عاماً من حكم القذافي[27].

لذلك، فإن المصالحة الوطنية «ضرورة دينية، وإنسانية، وحضارية، واقتصادية، واجتماعية، وسياسية، ونفسية… من أجل تأكيد التلاحم بين أبناء الشعب، وترسيخ قواعد الوحدة الوطنية، وإشاعة أجواء من المحبة والانسجام بين مكوّناته المختلفة، ومعالجة الآثار التي تركها النظام الدكتاتوري الاستبدادي. وبذلك، فإن المصالحة الوطنية، وفقاً لهذه المقاربة الشرعية، حاجة ماسة وضرورة بالغة وواجبة شرعاً أيضاً، وهي تكليف لكل مسلم ولأولي الأمر. كذلك، فإن المصالحة في السياق الليبي عقب الثورة ستمكن الليبيين جميعاً من التمهيد لـ «خبرة العدل في إحقاق الحقوق والقسط في مراعاة المشاعر والعفو والتسامح، لفتح شموس الآمال وصروح البناء التي ستتحول إلى مناهج للتعليم وموجهات للفكر، ومحددات للثقافة، وإطار لبناء دستور الدولة التي لا تقوم على الإقصاء والانتقام واللمز»[28].

ومن الضرورة هنا تأكيد القضايا الآتية:

1 – ضرورة الارتقاء بمشروع المصالحة الوطنية، ونقل خطوات وقرارات المؤسسات الشرعية إلى حيز التطبيق.

2 – دعم وتطوير مؤسسات العدالة الانتقالية وتطبيق مبادئ إنصاف الضحايا وجبر الأضرار. وهي لازمة للانتقال إلى مرحلة تكون فيها الجروح قد التأمت، وتحققت فيها العدالة، وفتحت كل ملفات الانتهاكات، وبدأت الخطوات الجدية للإنصاف وللعقاب.

3 – الإسراع في جسْر الفراغ الدستوري السائد حالياً وصوغ الدستور، ما يساهم في تفعيل مجموعة من الإجراءات، لا سيما بناء الجيش ومؤسسات الأمن والشرطة، ونزع سلاح الميليشيات خارج إطار سلطة الدولة، وعدم توظيف الاجتثاث (قانون العزل السياسي) باتجاه الانتقام والتشفي والثأر.

4 – اعتماد خطاب إعلامي وسياسي يقوم على العقلانية والتسامح وعدم تأجيج المشاعر والكراهية.

5 – ضرورة توافر إرادة سياسية لدى الأطراف، تنطلق من مصالح الوطن، بعيداً عن الولاءات الفرعية الضيقة، والاهتمام بقضايا الأمن والخدمات، ومحاربة الفساد والإفساد.

6 – ضرورة التفكير في لجنة إنصاف حقيقة ومصالحة وطنية. فالمصالحة الوطنية هي التحدي الأساس للسلم الأهلي ولجنة الحقيقة والمصالحة هي اللبنة الأولى لتضميد جراح الليبيين من غير تجاهل الماضي.

7 – إصلاح وإعادة بناء مؤسسات الجيش والشرطة هو التحدّي الأساس الذي يواجه ليبيا بشكل خاص وخطر، وهي الخطوة الأولية التي لا تسبقها أي خطوة أخرى لضمان النجاح في بناء دولة المؤسسات وإرساء قواعد النظام الديمقراطي.

خاتمة

من خلال استعراض بعض متغيّرات هذه الدراسة اتضح أن جملة صعوبات تواجه عملية المصالحة الوطنية، وتقف عائقاً كبيراً أمام تقدّمها، وترجع تلك الصعوبات إلى طبيعة النظام السابق، ونهجه في إدارة البلاد وتبعات تلك التركة من الحكم على واقع المجتمع، تلا ذلك أن ثورة 17 شباط/فبراير لم تكن بالنضج ذاته والفهم لاستيعاب استحقاقات المرحلة، والتحديات الداخلية والخارجية لم تسعفها في تضميد تلك الجروح التي تركها النظام السابق؛ بمعنى أوضح إن جملة المطالب التي رفعها الشعب الليبي الثائر على نظام القذافي لم تترجم في الواقع الحياتي السياسي والأمني والاقتصادي، وهو ما جعل البلاد تتخبّط في دائرة العنف والعنف المضاد بعيداً عن مطالب المرحلة الراهنة، وتقع تحت أسر الأحقاد والمظالم السابقة وعدم الثقة، وما زاد الأمر سوءاً أن ليبيا كغيرها من بلدان الربيع العربي تتعرّض لضغط تأثير العامل الخارجي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعب الليبي وحاجته إلى بناء تجربة تصالحية تقوم على ضرورة بناء ما دمّرته الأيام الخوالي من حكم القذافي، كأن يركز الليبيون على بناء منظومة أمنية على أسس وطنية تكون مهمّتها حماية العملية السياسية الوليدة والسير قدماً في المطالب الإصلاحية السياسية والاقتصادية.

ولا يبدو أن الطبقة السياسية الموجود الآن التي تشكّل المؤسسات الانتقالية، تعكس ما يمكن أن نسمّيه التوجّه العام المجتمعي، بل تعبّر عن توجهات مختلفة ونزعات متعلّقة بالأطراف التي تنافس المركز، وتعبّر عن مصالح فئوية متنوّعة وتغلب عليها روح الحصول على المكاسب، وهو ما يرسّخ القبلية والجهوية والشخصنة وغيرها من الممارسات، بما يؤدّي إلى المزيد من الانقسامات، فيجعل الطريق نحو المصالحة متعثّراً ومليئاً بما هو أكثر من العقبات والتحديات.

إنّ نجاح المصالحة يتوقّف على مدى استعداد الأطراف المتنازعة للدخول فيها، وتقديم التنازلات والتضحيات من أجل إنجاحها بعمل وطني شامل يتجاوز سلبيات واستقطابات الحرب وتصفية الحسابات، وينأى بالبلد عن الصراعات السياسية والأيديولوجية، وتأثير ثمنها الباهظ في السلام الاجتماعي والتنمية والاستقرار والوحدة الوطنية، والتخلّص من إرث القذافي على كل المستويات. إن ذلك يحتاج، كشرط أولي مسبق، إلى ضبط الحالة الأمنية وإنهاء فوضى السلاح، وبناء الجيش والشرطة على أسس وطنية هي التحدّي الأساسي الذي يواجه ليبيا بشكل خاص وخطر، وهي الخطوة الأولية التي لا تسبقها أي خطوة أخرى لضمان النجاح في بناء دولة القانون والمؤسسات، ومن ثم الدفع بعملية الإصلاح السياسي والاقتصادي إلى الأمام كونها الملاذ المهم لنقل ليبيا إلى مرحلة الانسجام والتوافق.

المصادر:

(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 431.

(**) محمد عبد الحفيظ الشيخ: باحث متخصص في الدراسات الإقليمية والدولية – ليبيا.

[1] محمد عز العرب محمد، «العدالة الانتقالية: آليات تحقيق المصالحة الوطنية بعد الثورات العربية،» المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية (القاهرة) (19 تموز/يوليو 2012)، <http://www.rcssmideast.org/Article/89>.

[2] عادل ماجد، «تحديات تطبيق العدالة الانتقالية في مصر،» الديمقراطية (القاهرة)، العدد 54 (نيسان/أبريل 2014)، ص 12.

[3] عبد الحسين شعبان، فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي: الثقافة والدولة، تقديم جورج خضر، ط 2 (أربيل: دار ئاراس، 2011)، ص 155.

[4] ألان ج. غانيون، دفاعاً عن الاتحادية التوافقية: فك النزاعات بين الهويات والمواطنة، توطئة فادي فاضل؛ تعريب ريتا عيد لافورج (بيروت، منشورات الجامعة الأنطونية، 2010)، ص 19.

[5] يوسف محمد جمعة الصواني، ليبيا: الثورة وتحديات بناء الدولة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2013)، ص 208.

[6] علي محمد الصلابي، العدالة والمصالحة الوطنية: ضرورة دينية وإنسانية (القاهرة: دار ابن خلدون، 2012)، ص 5 – 23.

[7] العزل السياسي هو رفض أي حوار أو مشاركة لمن عملَ ضمن نظام القذافي، وإن شاركوا في الثورة ضدّه أو في دعمها، وإقصاء كلّ من عمل مع نظام القذافي وتدمير مؤسساته. وتمّ رفع شعارات التخلّص من النظام كاملاً، وهو الخيار الذي صيغَ بطريقة مماثلة لسياسة تصفية البعث في العراق.

[8] زهير حامدي، «ثلاث سنوات على الثورة الليبية: التحديات والمآلات،» سياسات عربية (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – الدوحة)، العدد 7 (آذار/مارس 2014)، ص 91.

[9] محمد السنوسي الداودي، «فجوة الأمن: تداعيات انفجار الأوضاع في ليبيا،» السياسة الدولية، العدد 197 (تموز/يوليو 2014)، ص 132.

[10] «مصر تنفي أي تدخل عسكري في ليبيا،» بي بي سي عربي (26 آب/أغسطس 2014)، <http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2014/08/140826_libya_us_egypt_uae>.

[11] «أسوشيتد برس: تدخل مصر العسكري يعقد الصراع في ليبيا،» الميدان (25 تشرين الأول/أكتوبر 2014)،       <http://almydan.tv/archives/45709>.

[12] خالد المهير، «عقبات تعيق ملف المصالحة في ليبيا،» الجزيرة نت (25 نيسان/أبريل 2013)، <http://www.aljazeera.net/home/print/f6451603-4dff-4ca1-9c10-122741d17432/cece35b9-d506-44b2-b504-4adb755e31e5>.

[13] فتحي حمد بن شتوان، «الحوار الاجتماعي… تحدي المصالحة الوطنية الليبية،» المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية (6 كانون الثاني/يناير 2012)،            <http://www.airss.net/site/2012/01/16/>.

[14] بن شتوان، المصدر نفسه.

[15] ماجد، «تحديات تطبيق العدالة الانتقالية في مصر،» ص 16.

[16] كمال عبد اللطيف، العدالة الانتقالية والتحول السياسي في المغرب: تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص 24 – 25.

[17] محمد العجرودي، «مصر وتحركات إقليمية لحل الأزمة الليبية،» الأهرام، 14/7/2014، <http://www.ahram.org.eg/NewsPrint/305361.aspx>.

[18] «حزب المؤتمر يدعو إلى تفعيل مبادرة تونس في المصالحة الوطنية في ليبيا،» الوطنية (21 أيار/مايو 2014)،   <http://www.watania1.tn>.

[19] «وزير الخارجية الكندي يؤكد دعم بلاده لمبادرة الجزائر لمصلحة تحقيق المصالحة في ليبيا،» الإذاعة الجزائرية (30 أيلول/سبتمبر 2014)، <http://www.radioalgerie.dz/news/ar/article/20140930/15129.html>.

[20] خالد محمود، «في أول لقاء بينهما: السيسي يؤكد للثني دعم مصر للشرعية في مواجهة المتطرفين،» 24: الخبر بين لحظة وضحاها (8 تشرين الثاني/نوفمبر 2014)،         <http://www.24.ae/article86.aspx>.

[21] «بوعيدة تجدد التأكيد على انخراط المغرب في الجهود الإقليمية والدولية لإيجاد مخرج للأزمة الليبية،» هبة بريس (17 أيلول/سبتمبر 2014)،       <http://www.hibapress.com/details-27813.html>.

[22] «أطراف النزاع بليبيا يقرّون بدء عملية سياسية،» الجزيرة نت (29 أيلول/سبتمبر 2014)، <http://www.aljazeera.net/news/arabic/2014/9/29>.

[23] «انطلاق الحوار الليبي في غدامس وسط أجواء إيجابية،» الشرق الأوسط، 19/9/2014، <http://www.aawsat.com/home/article/191666>.

[24] «مؤتمر حوار ليبيا.. اتفاق على فتح المطارات،» العربية نت (29 أيلول/سبتمبر 2014)، <http://www.alarabiya.net/ar/north-africa/libya/2014/09/29/>.

[25] محمد عبد الحفيظ الشيخ، «إشكالية تعثر الانتقال الديمقراطي في ليبيا بعد 2011،» دراسات شرق أوسطية (مركز دراسات الشرق الأوسط – عمّان)، العدد 68 (2014)، ص 53.

[26] الصلابي، العدالة والمصالحة الوطنية: ضرورة دينية وإنسانية، ص 56.

[27] علي عبد اللطيف أحميدة، «غياب الحوار الوطني في ليبيا: تحديات وعوائق،» ليبيا المستقبل (12 آذار/مارس 2014)،       <http://www.libya-al-mostakbal.org/news/clicked/46395>.

[28] الصواني، ليبيا: الثورة وتحديات بناء الدولة، ص 209 – 210.


محمد عبد الحفيظ الشيخ

عميد كلية القانون، جامعة الجفرة- ليبيا، وأستاذ متعاون بالأكاديمية الليبية.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز