المؤلف: عادل منّاع

مراجعة: منى سكرية‏[1]

الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت

سنة النشر: 2016

عدد الصفحات: 480

 

مقدمة:

يكشف هذا الكتاب الطبيعة الإجرامية لمؤسسي كيان العدو الإسرائيلي عام 1948، كما يطرح جملة من الإشكاليات العميقة التمدد العنكبوتي في أزماتنا المتراكمة، والممتدة في نسائج بيئاتنا المجتمعية والفكرية وحمولاتها الثقافية من تعبير وسلوك وأداء. هذه الإشكاليات المتماوجة كطبقات الزلازل تحت الأرض، ما تني تنبعث طلسماً يتجلى بأبشع تطبيقاته… ثم تعود وتكمُن بعد هزات ارتدادية سوداء؛ وهكذا دواليك.

* * *

يقول محمود درويش في إحدى قصائده إن الغاضبين يخافون الذكريات. ومعه نقول: كيف إذا كان لهؤلاء الغاضبين سجل في الإجرام، مُؤرشف باليوميات والتواريخ وسفك الدماء، وبشهقات أرواح الضحايا من أبناء الشعب الفلسطيني على أيدي العصابات الصهيونية؟ ثم، وكيف إذا كانت في ذاكرة هؤلاء الضحايا «تغريبات» تُروى، وحكايات غيضها من فيض لا ينقطع، ولم يُقم له نصب – محرقة يجهر بتكذيب الأسطورة، لإسكات مروياتها المُختَرَعة عن «طهارة السلاح»، وعن أكذوبته عن فلسطين البلا شعب.

ما حاوله المؤرخ الفلسطيني عادل منّاع هو استنطاق ذاكرة من شهدوا أعمال التطهير العرقي قبل نكبة عام 1948 وخلالها، في حيفا والجليل، ومنها 15 مذبحة خلال أسبوع واحد بعد إتمام احتلال الجليل في عملية حيرام (ص 118)، وشملت قرى: عيلبون، عرب المواسي، كفر عنان، فراضية، مجد الكروم، البعنة، دير الأسد، نحف، ترشيحا، الصفصاف، الجش، سعسع، حولة، وصلحة… إلخ.

وكما في المجازر على أيدي العصابات الصهيونية لإسكات وتشريد الشعب الفلسطيني، فإن هذه العصابات لا تزال بأشكال متعددة تخشى أنين الضحية بصوت مرتفع، وهو ما لمسه منّاع عند نشره مقالة في هآرتس عام 1984 عن سيرته الذاتية في التهجير الذي وقع له ولعائلته بقوة مجزرة ارتكبتها عصابات الصهاينة في ذلك العام، إذ «لم تتأخر ردات الفعل الهجومية من القرّاء اليهود العاديين والمختصين على أصنافهم، فأسكتوا اهتمامي البحثي بالموضوع» (ص 3)، .. لكنه ما لبث أن استأنف – أي منّاع – فكان هذا الإصدار بين أيدينا، وهو ما يجعلنا نستذكر معه معاناة المفكر الراحل إدوارد سعيد مع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية من جرّاء نشره صورته طفـلاً مع والديه في بيته في مدينة القدس باعتبارها إثباتاً لحقه ودحضاً لادعاءاتهم بملكية أرض فلسطين.

ثمة تجديدات في طيّات الكتاب على ما يذكر منّاع، في النظرية والمنهج ومصادر المعرفة ومراجعها، فيقترح قراءة نقدية لتجربة فلسطينيي الداخل «الذين صاروا مواطنين في إسرائيل وعانوا مدة طويلة جرّاء تهميش مُضاعف على جانبَي خط الصراع»، فـ «أسباب وحيثيات البقاء في فلسطين بعد احتلال 1948 ظلت مدة طويلة منطقة ضبابية قلّما سلّط المؤرخون الأضواء عليها» (ص 17). من هنا تبدأ حكايته في سرد حكايات من بقوا، مع وقائع رافقت نكبتهم، وتَشَبُّث بعضهم المذهل بأرضه وبيته، وبقاء آخرين بامتطائهم العمالة وخدمة الصهاينة وسيلة للبقاء، فكان لبعضها وقع المفصل التاريخي بالمعنى السلبي على الشعب الفلسطيني، وهو ما يبيّنه منّاع بالتفاصيل، ويستبقه ببعض الأسئلة «لأن الكتاب يسلّط الأضواء على مَن لم يُطردوا، أو هُجِّروا ثم عادوا إلى بيوتهم وبلداتهم» (ص 18). من هذه الأسئلة: هل نجح هؤلاء بسبب الجغرافيا وطوبوغرافيا منطقتهم الجبلية؟ وهل كان للتركيبة الطائفية (دروز ومسيحيون ومسلمون) دور مهم؟ وهل أثّر توقيت الاحتلال في بقاء البعض في الجليل؟ وماذا عن القيادات المحلية ونوعية القرارات التي اتُّخذت في لحظات الحرب الحرجة؟ وهل صحيح ما يقال عن مقاومة سياسة الطرد، وخصوصاً من جانب الشيوعيين، مع أن الاستسلام والاستعداد للتعاون مع الجانب الإسرائيلي أديّا الدور الأهم؟ (ص 19).. عن هذه الأسئلة يكشف جوانب مثيرة عن تلك المرحلة من عام النكبة وما تلاها بالوقائع والأسماء.

من فصول الكتاب

سبعة فصول، وخاتمة، ومقدمة، وكلمة شكر «إلى أكثر من مئة شخص قابلتهم في حيفا والناصرة والعديد من قرى الجليل، أدلوا بشهاداتهم، التي لا يمكن المبالغة في أهميتها لإثراء الرواية التي ترسمها الوثائق والمراجع والمصادر المخطوطة والمنشورة» (ص 1)، و«غالبية هؤلاء الذين قابلتهم هم في أغلبيتهم ضحايا التطهير العرقي التي نفذها الجيش الإسرائيلي في الجليل أيام الحرب» (ص 43)، وعن حكايات 69 ألف نسمة شكلوا تعداد النواة الأولى لمجتمع الباقين في حيفا والجليل في تشرين الثاني/نوفمبر 1948، وشاركوا في الانتخابات البرلمانية الأولى مطلع عام 1949 «فحصّنوا بذلك مواطنتهم وبقاءهم تحت حكم إسرائيل، لكنهم في الوقت نفسه أسبغوا الشرعية على «ديموقراطية» الدولة اليهودية» (ص 25)..

في الفصل الأول بعنوان «النكبة ومعانيها المتعددة سنة 1948»، يشير إلى أن قسطنطين زريق «صكّ» المصطلح في كتابه معنى النكبة (ص 49). ويتضمن الفصل عناوين فرعية تعالج «بدايات النكبة»، و«النكبة كما رآها سكان الجليل وجربوها»… إلخ. في حين يعرض في الفصل الثاني بعنوان «إتمام احتلال الجليل في عملية حيرام» (بقيادة بن غوريون) للمجازر وقتل السكان والتهجير ومصير سكان الشريط الحدودي «وبعد هذه العملية وسّعت إسرائيل أراضيها إلى الحدود مع لبنان» (ص 128)، مشيراً إلى أسباب بقاء عدد كبير من سكان الجليل ومنها، نقـلاً عن الوثائق الإسرائيلية: مقاومة ضباط جيش الإنقاذ رحيل السكان العرب عن بلداتهم، والبيئة الطوبوغرافية لجبال الجليل، ووجود «قوى صديقة» وُعِد سكانها مسبقاً بمعاملة جيدة وعدم المسّ بها (ويقصد القرى الدرزية) (ص 135). ويعرض في الفصل الثالث بعنوان «الشيوعيون العرب ما بين النكبة والاستقلال» لمواقف مثيرة في سياسات هؤلاء المتأرجحة بسبب تبعيتهم للاتحاد السوفياتي الداعم يومها بالسلاح والسياسة لقيام إسرائيل. وفي محاور هذا الفصل حاول مناع «الكشف عن تداعيات هذا الدعم» (ص 186)، الذي «يفضِّل رفاق الحزب وأصدقاؤه السكوت على أحداث تلك الفترة» (ص 186) بسبب قتالهم مع عصابات الهاغانا ودعمهم قرار التقسيم وقيام الدولة اليهودية وإحيائهم يوم استقلال إسرائيل… إلخ (من ص 145 إلى ص 189).. كما يتناول الفصل الرابع «استمرار التهجير بعد صمت المدافع» وفيه يبيّن «نجاح عدد مماثل من الفلسطينيين في العودة إلى بيوتهم وقراهم والاستقرار فيها»، وقد «حققوا عودتهم بقواهم الذاتية مع كل المخاطر والسياسات الإسرائيلية لمحاربة تلك الظاهرة» (ص 238). ويروي في الفصل الخامس بعنوان «حكايات أشخاص وحكايات قرى» لتجارب ثلاث قرى حقق أهاليها عودتهم وهي قرى: عيلبون، عيلوط، وكفر قرع (ص247)، ومنها تجربة عودة المحامي خليل توما عبود المميزة (ص 274). ويناقش في الفصل السادس «صراع البقاء بين السياسة وجهاز القضاء» (ص 297)، مثل قضايا التجنيد الإجباري وتغلُّب الفلسطينيين عليه (ص 337). ثم يحكي عن «الانتخابات البرلمانية والسلوك السياسي» في الفصل السابع، وفيه يظهر نجاح الشيوعيين في انتخابات عام 1949 بستة مقاعد، وخسارتهم لثلاثة منها في انتخابات عام 1959 بسبب عدائهم لجمال عبد الناصر (ص 385).

* * *

تتكثف المعلومات ووقائع نكبة عام 1948، من تهجير وقتل وتطهير بالمجازر، وعملاء، ومطاردة بين أهالي منطقة الجليل باختراعهم كل أنواع البقاء للبقاء في بيوتهم وأرضهم، وبين عصابات تستهوي القتل عمداً ووسيلة للاحتلال. غنية المرويات في صفحات الكتاب، على ألسنة الذاكرة المتوقدة، فلم تخلط بين مقاوم ومتعاون، فأصابت الأسماء من قاتلوا مع الصهاينة أو هادنوا برفع العلم الأبيض في تلك المرحلة (من دروز وبدو ومسلمين ومسيحيين وشيوعيين)… فألحّت ذاكرة منّاع وموضوعيته عليه، فطالب الحزب الشيوعي الفلسطيني أن يكشف المزيد من أوراقه حول دوره في تلك النكبة لجهة تعاونه مع العصابات الصهيونية تحقيقاً لأوامر القيادة السوفياتية (الفصل الثالث)، وإن لم ينكر منّاع دور الحزب الشيوعي اللاحق في المساعدة على بقاء السكان.

وإذ يسأل منّاع: من هم هؤلاء الباقون؟ وما هو سر نجاتهم من الاقتلاع؟ فإنه يشير إلى سياسة إسرائيل المتنوعة تجاه أبناء الطوائف الثلاث وهم: المسلمون والمسيحيون والدروز، ويضيف أن «الدروز لم يعانوا قط جراء أعمال القتل والاقتلاع والتشريد، إذ إن اختيار القيادة الإسرائيلية عقد اتفاقية تعاون مع بعض قادة هذه الطائفة عشية قيام الدولة أدى إلى هذه النتيجة»، «كما شاركت فرقة درزية فيما بعد في إتمام احتلال الجليل في عملية حيرام (بالتفاصيل عنها في الفصل الثاني) وهكذا عمّدت هذه المشاركة الدرزية في حرب 1948 ما أصبح يُعرف بعهد الدم في الأدبيات الصهيونية» (ص 152)، مع إشارة منّاع إلى وجود الطائفة الدرزية في فلسطين كأقلية صغيرة أتت إلى شمال البلاد أيام حكم فخر الدين المعني الثاني أوائل القرن السابع عشر، فيقول «مرت العلاقات بين الأغلبية المسلمة وأبناء الطائفة المعروفية (بني معروف) أحياناً بتوتر وصراعات يتذكرها الدروز ببعض الألم، كذلك شهدت العلاقات بالمسيحيين في الجليل توتراً ومشاحنات، وخصوصاً فترة النزاعات الطائفية في جبل لبنان خلال القرن التاسع عشر، لكن العلاقات بين أبناء الطوائف الثلاث في فلسطين لم تتدهور إلى صراعات دموية تقترب مما حدث في سورية ولبنان خلال ذاك القرن، ومع ذلك يبدو أن الترسبات التاريخية كان لها أثر في تهميش الدروز في الحركة الوطنية وقلة مشاركتهم فيها أيام الانتداب البريطاني» (ص 149). أما تجارب المسيحيين فاحتلت مكاناً وسطاً ما بين الدروز والمسلمين، بينما شكّل المسلمون الهدف الأول لعملية الاقتلاع.

خلاصة

تطرح كثافة المعلومات الواردة وغناها كمّاً من الأسئلة والإشكاليات الممتدة عنكبوتياً في مجتمعاتنا ونسائج علائقنا، حول مفهوم الصراع، وحول قضايا تحتاج إلى مراجعة ونقد للذات، وتحرُّر من الأنانيات الفردية والعصبيات القاتلة، وإلى «إصبع توما» في الجَرح والتعديل على ماجريات سياقات الأداء الوطني الفلسطيني والرسمي العربي والإسلامي إزاء هذه النكبة القائمة – الكامنة، وتنزيه الأدوار الحقيقية عن «البطولات الوهمية» بغية إيقاف هذا المسار الانحداري، وكذلك في معنى الإصلاح الديني والتطوير الحضاري.

ومن هذه الأسئلة:

– مناقشة التبعية العمياء للأحزاب الوطنية في الإقامة وارتباطها مع «سيدها» الخارجي، وهو ما حصل مع الشيوعيين العرب في فلسطين (الفصل الثالث).. وتالياً ما تطرحه أزمات هذه الأحزاب إلى يومنا من خطابها غير المتوافق مع سلوكياتها، والتباعد ما بين مضمون برامجها ومحاولات تطبيق تلك البرامج ولنا في تجارب هذه الأحزاب ما يدين فشلها أكثر مما يقارب التصفيق لها (اليسار العربي وكذلك الأحزاب القومية والدينية الإسلامية في العقود الأخيرة).

– العلاقة الغامضة والملتبسة بين طوائف ومذاهب وأقليات النسيج الاجتماعي العربي – الإسلامي – المسيحي، سواء لجهة ما نبشه منّاع، أو في ما لا يزال، وما يعتوره من أقنعة وتبطين، واستبطان التشكيك المتبادل، والمقترن بأغلب المراحل بعقد تحالفات خارجية ترعى الحروب الدموية الداخلية.

– مسألة الوعي الوطني والمفهوم الإدراكي تجاه: خطر العدو، الهوية، المصلحة، الوطن، المواطنة، تغليب «السلامة» بمعناها البدائي – النفعي، وأيضاً في معنى المقاومة بكل أشكالها.

– الاستثمار في المرويات – الشهادات بما يتجاوز سرد المأساة، لأهمية التاريخ الشفوي في توثيق الحق والحقوق وحفز الذاكرة والهوية لدى الأجيال المتعاقبة (نشير في هذا المجال إلى مقولة ماهر الشريف عن أهمية دور التاريخ الشفوي في كتابه فلسطين في الكتابة التاريخية العربية (عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية)، وكذلك إلى ما تنشره فيحاء عبد الهادي المشرفة على مؤسسة الرواة للدراسات والأبحاث – رام الله من توثيق لسلسلة من الشهادات الحية لمن عاشوا وعاينوا نكبة فلسطين، وقد صدر لها قبل أشهر كتابان الأول بعنوان ذاكرة حيّة – شهادات حول تهجير الفلسطينيين عام 1948، والثاني بعنوان مرآة الذاكرة – صوَر ومقتنيات لمهجّرين فلسطينيين عام 1948.

– أن تستدعي هذه الشهادات الحيّة اقتحام عالم المحاكم الدولية والمحاكمات لمرتكبي جرائم تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه… وبمفعول رجعي وآني كي لا تُضجرنا بيانات الاستنكار.