ليس ثمة شك أن لكل أمة تاريخًا يعكس هويتها وثقافتها، وتاريخ فلسطين حافل بالذكريات التي تبرز عظمة شعبها وبسالته أمام إعصار الكيان الصهيوني.

ومن الذكريات الجريحة التي يستحضرها أجيال من فلسطين نكبة 1948؛ تلك النكبة بالنسبة إلى الفلسطينيين، لا تمثّل هزيمة العرب في الحرب فحسب، حيث فقدَ أغلبية الشعب المحلي دياره وأراضيه وغيرها من الممتلكات من دون توقّعات مسبقة وعانى آلامًا ومرارة لا توصف من فراق الأقرباء والأصدقاء؛ إنما هي مأساة غير مسبوقة ترمز إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني وانهيار هيكله الاجتماعي. وقد تركت هذه النكبة في أعماق الفلسطينيين جرحًا عميقًا وألمًا شديدًا لا شفاء له. فذلك الشعور بشدة الحزن والخوف والقلق واليأس والعار والعجز وما أشبه ذلك يبدو كأنه ظلٌّ لا يمكن التخلّص، أو التهرّب، منه. مع ذلك، لم تلقَ معاناة الفلسطينيين المأسوية اهتمامًا كبيرًا إلا قسطًا صغيرًا من العزاء والإشفاق في ظل تأثيرات «الهولوكوست» الواسعة النطاق في العالم؛ إذ إنّ فكرة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» التي رُوّج لها في كل العالم ضمنت بنجاح شرعية إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين التي كانت تضم أكثر من مليون عربي قبل النكبة.

فكيف يثبت الفلسطينيون هويتهم كشعب فلسطيني؟ وما الدليل على امتلاكهم لأرض فلسطين أمام إنكار ونفي الجهات الأخرى وبخاصة الجهة الإسرائيلية المتطرفة التي كانت تدّعي بأنه لا يوجد شعب فلسطيني؟

الذاكرة هي وسيلة فعّالة يمكن بها تثبيت ارتباط الفلسطينيين بأرضهم، وشرعية هذا الارتباط وبخاصة بالنسبة إلى الفلسطينيين الشباب، إذ إن الذاكرة هي ليست مجرّد أمر شخصي، بل إنها تنسب إلى ما يسمّى «الذاكرة الجماعية» التي تترتّب على التفاعل والتواصل الاجتماعي. فلا ذاكرة فردية إلّا من خلال التفاعلات والتبادلات الاجتماعية تحت إطار اجتماعي معيّن؛ حتى ولو كانت الذكريات الأكثر خصوصية. تحصل الذاكرة الفردية من الذاكرة الجماعية على معانيها الاجتماعية، وفي المقابل، فإن الذاكرة الجماعية لا يمكن تحقيقها وتجسيدها إلا بواسطة الذاكرة الفردية. لذلك، فإن الذاكرة الجماعية هي من الوسائل الفعالة التي بها تم البحث في الهوية الجماعية.

«الجماعة ذات الذكريات تعززت هويتها من خلال تذكّر الماضي. فأي جماعة لا يمكنها تثبيت هويتها نفسها إلا بتذكّر ما مضى عليها من التاريخ وبإحياء صور الأشياء والأمور والحوادث التي تؤدي دورًا أساسيًا محوريًا في تاريخها»[2]. والذاكرة الجماعية هي عبارة عن مجمل المعارف والعلوم المادية والمعنوية والروحية لجماعة ما، وما يترتّب عليها من الوعي الجماعي يرتبط بتوحّد الجماعة وتضامنها ومواصلتها. إضافة إلى ذلك، فإن الحقيقة والعاطفة التي توفّرها الذاكرة الجماعية تمثّل أساس هوية الجماعة. بهذا، يساهم بناء الذاكرة الجماعية والحفاظ عليها في تطوير الهوية الجماعية، أو بالأصح يمكن القول إنّ عملية التشكيل والتغيير والبناء وإعادة البناء للذاكرة الجماعية لها علاقة وثيقة ببناء الهوية وتغيّرها.

على هذا الأساس، تمثّل نكبة عام 1948 بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني عنصرًا مهمًا في الذاكرة الجماعية لدى الفلسطينيين، وذلك بوصفها نقطة تحوّل رئيسية في تاريخهم. فذاكرة النكبة قد وفّرت وما زالت توفّر كمية هائلة من الموارد التاريخية لتشكيل الهوية الفلسطينية، وهي دفعت، ولا تزال تدفع؛ بل سوف تدفع، الكفاح في سبيل حق العودة لدى اللاجئين الفلسطينيين. لذلك، فمن المهم والضروري دراسة ذاكرة النكبة الفلسطينية وتأثيراتها في بناء الهوية الفلسطينية دراسة جدية.

أولًا: موضوعات الذكريات الرئيسية للنكبة

تعد نكبة فلسطين رمزًا من رموز الذاكرة الجماعية للمجتمع الفلسطيني، وهي كذلك تدل على انقطاع مجرى التاريخ الفلسطيني الطبيعي حيث قامت حياة الفلسطينيين المستقرة الماضية وموطنهم المعتاد الساحر، ومن جانب آخر تكشف حالتهم المأسوية الحاضرة بلا مأوى ولا أمان ولا استقرار. ومن طبيعة الإنسان أنْ يتذكّر ما مضى عليه من الأمور الجميلة كلّما أوقعته الحياة في الشقاء رغبة في التهرّب من الواقع والرجوع إلى ما لا يمكن الرجوع إليه في الواقع، ورغبة منه أيضًا في إثبات وجوده ومعيشته على تلك الأرض من خلال التذكّر الدائم ثم لإثبات هويته. ومن ضمن ذكريات الفلسطينيين المتعلّقة بالنكبة موضوعات كثيرة منها:

1 – انقسام الشعب وانقطاع العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد

أثناء الحرب هرب الفلسطينيون خائفين مرعوبين، بغية حماية أنفسهم وأهلهم من الخطر، الأمر الذي أدّى إلى تمزق النسيج الاجتماعي الفلسطيني التقليدي وقطع الأواصر العائلية والقبلية وغيرها من العلاقات الاجتماعية. فقد كثرت الحكايات والسرد في المقابلات والمذكرات وتسجيلات التاريخ الشفوي عن كيف تشتّت واختفى الناس في ظلّ الخوف والذعر الشديدين أثناء الحرب، وكيف فارقوا الأهل والأصدقاء والأقرباء وبتروا العلاقات والاتصالات بين المجتمع.

لا تقتصر آثار النكبة في المجتمع الفلسطيني على قطع العلاقات بين أفراد المجتمع وانهيار الهيكل المجتمعي، فهي لم تؤدِّ إلى تقسيم الشعب إلى الذين بقوا في داخل الحدود الفلسطينية والذين أقاموا في قطاع غزة والضفة الغربية لنهر الأردن والذين عاشوا لاجئين في البلدان العربية المجاورة وغيرها من المجموعات من منظور التوزيع الجغرافي فحسب، بل أدت إلى انقسام الشعب إلى «الذين من الداخل» و«الذين من الخارج» من حيث النفسية أيضًا. فالبعد بين الجماعات المذكورة أعلاه لا يتمثل بالمسافة الجغرافية والتواصل الاجتماعي، بل يمتدّ إلى الأفكار والنفوس.

كما ذكر إدوارد سعيد في مؤلَّفه بعد السماء الأخيرة: حياة الفلسطينيين، كان الفلسطينيون حملة الجنسية الإسرائيلية قبل السبعينيات من القرن العشرين من بين المجموعات الفلسطينية يعدون المجموعة الخاصة في عيون الذين عاشوا خارج الحدود، فسهُل على الفلسطينيين اللاجئين والمنفيين أن يشكّوا فيهم. كان يغلب على الظنّ بأنّهم قد تغيّروا بسبب التأثيرات الإسرائيلية فيهم، إذ يحملون جواز السفر الإسرائيلي ويتقنون اللغة العبرية ويفقدون الوعي الذاتي في التعامل مع اليهود الإسرائيليين ويتخّذون «إسرائيل» كدولة حقيقية بدلًا من الكيان الصهيوني. إنّهم يختلفون عنا لأننا عرب يعيشون في الدول العربية…[3] من هنا يمكن ملاحظة أنّ «الذين من الداخل» – في عين «الذين من الخارج» – مشكوك في فقدان شخصيتهم الفلسطينية الخاصة وفي استيعاب إسرائيل لهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم بقوا في داخل فلسطين من أجل الكفاح واستعادة أرضهم.

لكن في الواقع لم يعش «الذين من الداخل» عيشة سهلة تحت حكم إسرائيل العسكري، بل كانوا يعيشون من دون مساندة وتفاهم، وكانت اتصالاتهم مع الخارج مقطوعة. ففي رأيهم أنّ «الذين من الخارج» كانوا يمثّلون الجزء الرئيسي من الشعب الفلسطيني وقد حظوا باهتمام المجتمع الدولي بوصفهم لاجئين ومنفيين رغم البعد عن الأرض، أما الذين في الداخل فقد أهملهم المجتمع الدولي والمنظمات القومية ليصبحوا أجانب في بلادهم ومحاطين باليهود والثقافة اليهودية مشاهدين بأم عيونهم عملية تهويد أراضيهم.

لذلك قد أثر البعد والحاجز بين المجموعات الفلسطينية جغرافيًا ونفسيًا وفكريًا في وحدة الشعب الفلسطيني.

2- الشعور السائد بلا جذور بعد مغادرة الفلسطينيين القسرية منازلهم وأرضهم

إن الشعب الفلسطيني له عشق خالص وحنين شديد لوطنه وأرضه، وهذا ما مثّل أبرز الخصائص للذاكرة الجماعية الفلسطينية، بحيث فاضت ذكريات الفلسطينيين بالرغبة والشوق إلى ديارهم وأرضهم قبل النكبة. ومهما مضت السنوات استطاع الفلسطينيون أن يتذكّروا بسهولة بيوتهم والشوارع حولها بجميع تفصيلاتها، كأنهم لم يفترقوا أو يبتعدوا منها أبدًا. لكن مما يسخر منه أنّ كل هذه المنازل والشوارع والمباني والشوارع وغيرها من الخصائص الجيومورفولوجية الفلسطينية التي تتمسك وتعلق بها عواطف ومشاعر وذكريات الفلسطينيين هي الآن قد دُمّرت وتهلكت ولم يبقَ منها إلّا قليل من الأطلال، وقد حلت محلّها المعالم والمشاهد المعبّرة عن الثقافة اليهودية أو العبرية الإسرائيلية. إذًا، فلا شيء يدلّ على وجود الشعب الفلسطيني على هذه الأرض وحقّه في الأرض إلا نفسه وذاكرته الجماعية. فكلما تقوّت هذه الذاكرة ازدادت قوة الإقناع بأن هذه البقعة من الأرض كانت وطنًا للشعب الفلسطيني الذي ولد محلّيا وترعرع محليًا جيلًا بعد جيل.

والأدب الفلسطيني لا يخلو من التعبير عن حب الوطن والاشتياق إليه. على سبيل المثال كان الكاتب الفلسطيني المقاوم المشهور غسان كنفاني ماهرًا في وصف مشاعر الفلسطينيين تجاه الوطن وهو يكتب في روايته رجال في الشمس:

«أراح أبو قيس صدره فوق التراب النديّ، فبدأت الأرض تخفق من تحته: ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل مرتجة ثم تعبر إلى خلاياه… في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال، منذ أن استلقى هناك أول مرة، يشق طريقًا قاسيًا إلى النور قادمًا من أعمق أعماق الجحيم، حين قال ذلك مرة لجاره الذي كان يشاطره الحقل، هناك، في الأرض التي تركها منذ عشر سنوات، أجابه ساخرًا: «هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض»، أي هراء خبيث! والرائحة إذن؟ تلك التي إذا تنشقها ماجت في جبينه ثم انهالت مهوَمة في عروقه؟ كلما تنفس رائحة الأرض وهو مستلقٍ فوقها خُيّل إليه أنه يتنسم شعر زوجه حين تخرج من الحمام وقد اغتسلت بالماء البارد.. الرائحة إياها، رائحة امرأة اغتسلت بالماء البارد وفرشت شعرها فوق وجهه وهو لم يزل رطيبًا.. الخفقان ذاته: كأنك تحمل بين كفيك الحانيتين عصفورًا صغيرًا…»[4].

كذلك في أشعار الشاعر الفلسطيني الشهير محمود درويش ظهر الوطن كالأم والحبيب والعالم والحلم… إلخ. كتب في شعره يوميات جرح فلسطيني: «آه يا جرحي المكابر/ وطني ليس حقيبة/ وأنا لست مسافر/ إنني العاشق والأرض حبيبة…» وفي شعره الآخر عاشق من فلسطين شبّه الوطن بالعاشق الذي اتّسمت عيناها واسمها وجسمها ولغتها وصمتها وموتها وغيرها بخصائص فلسطينية لا تمحى. فقد علّق حبّه وآماله ومشاعره العميقة للوطن فلسطين على كل بيت مكتوب وكل صورة مبدعة في أشعاره.

البيت هو جذر الإنسان، والوطن هو جذر الشعب. ومن مصادر شقاء الشعب الفلسطيني هذا النوع من الشعور بالتشرّد من دون البيت والجذر. ومن ناحية معاني البيت والوطن لا يوجد أدل قول من كلام هشام شرابي قائلًا: «ليس في اللغة العربية تعبير يقابل التعبير الإنكليزي (هوم)، أو التعبير الألماني (هايمات) للدلالة على إحدى أعمق العلاقات الإنسانية التي نعبر عنها في لغتنا الفصحى بكلمة (وطن)، أو (مسقط الرأس)، أو (بيت الأجداد). ولا يستمدّ هذا التعبير معناه الحقيقي إلا من خلال التجربة المباشرة، كتلك التي عاناها أهل يافا وجميع الذين هاجروا من المدن والقرى الفلسطينية، فيصبح الحنين أو التوق إلى الموطن أو مسقط الرأس – أو المدينة والحي والبيت الذي ترعرع فيه الفرد وذاق أول أنواع السعادة في حياته – جزءًا من حياته الداخلية لا سبيل إلى اقتلاعه. فهذا المكان – الذي يصبح مع مرور الزمن شيئًا يفوق مجرّد المحسوس – يصبح رمزًا لكلّ ما مضى ومسقط رأسه في سلام وأمان لا يمكن له أن يعرف – إلا عند السفر وذلك بشكل ضعيف – معنى الوطن ومعنى الحنين كما نعرفها نحن. المرء لا يمتلك موطنه حقًا إلا عندما يفقده…»[5].

بهذا يمكن القول إنّ الحبّ العميق والرغبة الشديدة اللذين يختلجان في الشعب الفلسطيني للبيت والشوارع والمدينة والوطن وغيرها من الأماكن ليسا مجرّد نتيجة لمواصلة نمط الحياة الفلسطينية التقليدية والمحافظة عليها، بل هما ردّ فعل نفسي على الحالات السيّئة التي طالما عاناها المهاجرون الفلسطينيون منذ النكبة. والشعور الفائض بالتشرّد النابع من هذه الحالات السيئة يزيد أهمية الموطن والأرض اللذين كانوا يمتلكونهما ثم فقدوهما بلا توقّع مسبّق. وهذا التضاد الصارخ يدفع الشعب الفلسطيني إلى التمسك بذكرى الوطن، وهذه الذكرى قوة مغناطسية تجذب إليها أبناءها أينما كانوا.

3 – انعدام الأمن نتيجة معاناة النكبة

تركت النكبة في أعماق قلوب الشعب الفلسطيني ندبات وجروحًا دامية لا يمكن إزالتها. وإن أغلبية الفلسطينيين لا يستطيعون نسيان معاناتهم أثناء تهجيرهم من الوطن الأم وما شهدوه في سنوات المنفى من المشاهد والتجارب المؤلمة والتقلبات المدمرة. وقد سبق لإدوارد سعيد أن وصف المنفى بأنّه «هو أحد أكثر الأقدار مدعاة للكآبة، وفي أزمنة ما قبل العصر الحديث كان الإبعاد عقابًا مرعبًا بصفة خاصة، لأنه لم يكن يعني فقط أعوامًا يعيشها الإنسان تائهًا بدون هدف، بعيدًا من الأسرة ومن الأماكن المألوفة، بل يعني أن يكون أشبه بمنبوذ دائم، لا يشعر أبدًا كأنه بين أهله وخلانه، لا يتفق البتة مع محيطه، لا يتعزى عن الماضي، لا يذيقه الحاضر والمستقبل إلا طعم المرارة»[6]. قد تكون هذه الجمل أدقّ وصف لما يشعر به الفلسطينيون المنفيون المتذوقون مرارة النكبة وما بعد النكبة. وكتب إدوارد أيضًا: «في نظري أنّ ما من شيء يميّز حياتي على نحو أشد إيلامًا – والمفارقة أنه هو ذاته ما أتوق إليه توقًا – أكثر من تنقلاتي العديدة عبر البلدان والمدن والمساكن واللغات والبيئات. وهي تنقلات ظلّت تحرّكني خلال تلك السنوات… عندما أسافر أصطحب معي دائمًا كمية لا حاجة لي بها من الأمتعة. وحتى لو كانت رحلتي لا تتعدى وسط المدينة، فإنها تتطلب توضيب حقيبة يدوية محشوة بأغراض أكبر حجمًا وأكثر عددًا مما يتطلب زمن الرحلة الفعلي. في تحليلي لذلك، استنتجت أني مدفوع بخوف سرّيٍ لا فكاك منه، هو خوفي من عدم العودة…»[7].

صحيح أنّ إدوارد كان يتنقّل بين عدة أماكن في حياته، لكن تجاربه لا يمكن قياسها بما قاساه معظم الفلسطينيين الآخرين من التجارب المؤلمة، لكونه نشأ في أسرة غنية حاصلًا على جواز سفر أصدرته أمريكا، وقد تلقّى منذ صغره التعليم الغربي، فأينما كان، سواء أكان في مصر أو أمريكا أو لبنان، لم يعانِ الحياة العسيرة والفقيرة التي عاناها الفلسطينيون، ولكنه خاض في القضية الفلسطينية طوال عمره ليصبح ممثل الشعب الفلسطيني في الولايات المتحدة، فرأى أنّ هذا الشعب في جوهره قائم على المنفى والشقاء، وقد كتب من أجل توضيح معاناة الشعب الواقعية وأذيته النفسية، اللتين تتحولان إلى شعور بعدم الأمن، مما يجعل الشعب الفلسطيني يشعر بأنه خارج المكان المحيط به دائمًا حيثما يكون، وهذا الشعور لا يمكن مفارقته أو محوه مثلما فعل الظلّ لصاحبه حتى يؤثّر في حاضر الشعب ومستقبله تأثيرًا ملحوظًا.

إضافة إلى ذلك، كان من منابع الشعور بعدم الأمن بين الفلسطينيين بعد النكبة حوادث عنف وإرهاب شهدها الناس في المنفى وما نتج منها من خوف وذعر شديدين. فالحوادث الإرهابية ليست نادرة بالنسبة إلى الفلسطينيين حسبما سجّل ياسر علي في مؤلّفه المجازر الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني الذي يقدّم معلومات مفصّلة عن مجازر متعددة ضدّ الفلسطينيين، منها مذبحة دير ياسين الأكثر إثارة للخوف والرعب، إذ لا يُحصى إلى حد الآن عدد الروايات والحكايات والأقوال المسجّلة المتعلقة بها وبما شعر به الناس من خوف ويأس وألم وحزن من جراء هذه الحوادث غير الإنسانية التي ولدت فيهم حب التمسك بالقضية الفلسطينية والمطالبة بالعودة إلى أرضهم.

4 – الإصرار على التمسّك بتذكّر ما قبل النكبة

إذا سئل الفلسطينيون عن حياتهم قبل النكبة فإن كثيرًا منهم سيجيبون بأننا «كنّا نعيش في الفردوس» أو «حياة سعيدة» أو «معيشة جيّدة لا بأس لها» وما أشبه ذلك من العبارات. فما مضى عليهم قد أصبح ذكريات جميلة لا تمحى في أذهانهم. المعيشة الماضية بكلّ تفاصيلها ترسّخت في قلوبهم وأذهانهم. فقد أظهر لنا شفيق الحوت صورة مصغّرة عن معالم حياة الشعب الفلسطيني قبل النكبة كأنّه دليل يتجوّل بين شوارع يافا في الأربعينيات من القرن الماضي. ومن نظره نشاهد: يقطع الباص الساحة ويتّجه يسارًا ليدخل بداية سوق الصلاحي، أحد شوارع يافا التجارية الأخرى وملتقى تجار البرتقال، وجميع العاملين في هذه التجارة الكبرى من سماسرة يتمتّعون بخبرة واسعة ومعلومات لا حدود لها عن كل بيارة… كل تجّار البرتقال في يافا كانوا يبدأون يومهم بفنجان قهوة في مقهى داود ذي الساحة الرحبة والأشجار الظليلة، وربّما مع صحن فول من مطعم كحلة، فهناك حول تلك الطاولة كنت تجد أمثال سعيد بيدس، ومحمد عبد الرحيم، وإبراهيم وخليل الحوت، والحاج ديب حمدان، وأبو هاشم القدسي، وحمدان مرسي، وإبراهيم وزكي بركات، وعبد المحسن حجازي، ومحمد علي القطان، وغيرهم… وعند نهاية السوق، تبدأ سوق أخرى هي سوق الخضار ومطعم أركانها من أصل قروي، ومن غزة التي كانت تربطها بيافا روابط تجارية متينة…[8] رغم عدم وجود الكلمات مثل «جميلة» أو «سعيدة»، إلا أنّه ليس من الصعب أن نشعر بنوع من الأمن والاستقرار والاطمئنان والحرية من بين السطور، وأيضًا من السهل أن ندرك شوق وتطلّع الكاتب إلى العودة إلى تلك الحياة التي لم تبقَ آنذاك.

وتذكرت زينب حياتها الريفية قبل النكبة هكذا: كنا نقطف كلّ يوم 65 صندوقًا من الطماطم. سبق لنا عمر، وخميس، وزوجة أخي وأنا أن زرعنا الطماطم والبصل، والثوم، وغيرها. فكانت لدينا مصادر دخل متنوعة… أبو زوجي كان يملك قدرًا كبيرًا من الأرض، فيشتغل دائمًا في التعامل مع ماله وأرضه…[9].

كثيرة هي الحكايات والذكريات التي يشير كلّ منها إلى رأي جامع فحواه «كنا نعيش في الجنّة» سواء أكانت تصف صور الحياة الحضرية أو الريفية. لكن مقارنة بذلك، تحوّل معظم الفلسطينيين بعد النكبة إلى لاجئين بلا هوية إلا هوية اللاجئ. قد عانوا فقدان الوثائق والشهادات عند الحدود منذ فترة طويلة. وأيأس من ذلك أن هذه المشكلة لم تقتصر على اللاجئين بل امتدت إلى جميع الفلسطينيين الذين يضطرّون إلى الفحص الدقيق المتعب وما أشبه ذلك من الإجراءات المرهقة. وما يمثّل التضاد الواضح والمقارنة بين الماضي والحاضر أنّ عددًا كبيرًا من الفلسطينيين كانوا يهاجرون فجأة من دون استعداد مسبّق ومن دون مواد لازمة كافية، الأمر الذي جعل طريق هجرتهم وحياتهم بعد الهجرة مليئًا بالأشواك والصعوبات.

إضافة إلى ذلك، كانت الحياة في المخيّمات قاسية جدًا، إذ كان كل مخيّم تسكن فيه ثلاث أسر أو أربع حتى خمس. لا بد من تحمّل ازدياد الأقذار والوساخة على أجسامنا بسبب عجزنا عن الاستحمام لمدة طويلة. هذا النوع من المعيشة نخجل من ذكرها حتى ولو في المناسبات اللازم ذكرها… نعيش عيش الحيوانات…كانت الحياة صعبة جدًا، اشترك في مخيم واحد سبع عائلات قد يفدون من مختلف القرى. وكانت المخيمات لا تكفي، بحيث سكن بعض العائلات في الكهوف. ازداد الزحام وانتشرت الأمراض من حولنا حتى مات كثير من المسنين والأطفال من ذلك…[10]

ثانيًا: اختيار الذكريات عما قبل النكبة ومعانيها

من أجل دراسة الذاكرة الفلسطينية دراسة جيّدة لا بد من توضيح الأسئلة التالية: الحياة قبل عام 1948 هل كان موجودًا فيها غير الخير؟ لماذا لم تبقَ في ذهن الشعب إلا الذكريات السعيدة الجميلة؟ أما الإجابة فتتمثل بما يلي:

أولًا، الحياة قبل النكبة كلها سعيدة بالنسبة إلى معظم الفلسطينيين رغم وجود الفقر والمتاعب فيها، لأنّهم كانوا يسكنون في بيوتهم ويزرعون أرضهم ثم يحصلون على رزقهم وتلك هي سعادتهم. وذلك يختلف كل الاختلاف عن حياتهم بعد النكبة، التي اختلفت اختلافًا كبيرًا حيث ساد الفقر المدقع، فتشرد الأهالي وهجروا من ديارهم وغُربوا وسلبت الممتلكات فتجرعوا مرارة المنفى. لذلك فالحياة الماضية التي لا بأس لها أصبحت جميلة وسعيدة بكل معنى قياسًا على حالاتهم الراهنة التي هي في غاية الصعوبة والقسوة.

ثانيًا، لا يوجد في العالم من عانى مثل معاناة الشعب الفلسطيني، فقد تجرع الفلسطيني الألم وذرف الدموع بسبب الحرب فتشرد وهجر قسرًا من دياره.

إضافة إلى الأسباب السالفة الذكر فالسبب الأهمّ يقع في عملية اختيار الذكرى، التي تنفجر دائمًا من ظروف أو مناسبات اجتماعية ما؛ واسترجاع الماضي في الذهن لا يحدث إلا لخدمة مصالح الإنسان الحاضرة، وذلك بحسب آراء نظرية الذاكرة الجماعية. على هذا الأساس، يمكن أن تكون الذكريات دليلًا على حق الفلسطينيين في أرضهم ومدى ارتباطهم بهذه الأرض المسلوبة في ظلّ تكرار الحكومة الإسرائيلية نفيها وشكّها في هويتهم كشعب فلسطيني. وإن وجود ذكريات الحياة الماضية، بتفاصيلها وتكاثرها، وبقاءها في ذاكرة الشعب الجماعية توضّح – من جهة أخرى – أنّ معاناة الشعب الفلسطيني وحالاته الحالية ليست عادلة وليست من مسيرة التاريخ الطبيعية، لذلك فإنه يستحقّ اهتمام المجتمع الدولي بقضيته ويستحقّ العودة إلى الوطن الأم وإلى حياته وتاريخه الطبيعي.

لكن لا يمكن ادخار كلّ ما حدث في الماضي بأسره في ذهن الإنسان وذاكرته، لأن النسيان لا التذكّر هو أمر طبيعي. إذًا فإن أيًا من الحوادث والتجارب يتم تذكرها وفقًا للظروف التي يقع فيها الإنسان. وعليه يمكن لهذه الظروف والمصالح أن تؤثر في اختيار المواد المتذكرة[11]. فالذكرى كالبضائع المخزونة في المخزن يمكن استخراجها وسردها أثناء الحاجة إليها، لكنها قد تتغيّر وتتأثر بمدة وظروف التخزين. فتلك الذكريات التي لا يحتاج إليها الإنسان في الحياة الواقعية قد تختفي تدريجًا أو تترك في ركن النسيان، ولا يتذكرها الإنسان أبدًا إلا بعد أن يصبح محتاجًا إليها مرة أخرى. هكذا تُركت المساوئ في حياة الشعب الفلسطيني قبل النكبة في زاوية النسيان حتى لا يذكرها أو يتذكّرها أحد.

من الناحية الأخرى، لا تذكّر الحوادث والتجارب الماضية بشكلها الأصلي – كما ذكر أعلاه ـ بل تتغيّر وتتحوّل بفعل الظروف، لذا تبدو الحوادث مختلفة حين يتذكرها الإنسان باختلاف الظروف. وعندما يتذكّر الفلسطيني ماضيه لا تظهر في ذهنه إلا الأشياء والأمور الصالحة لنفسه وجماعته، وذلك بلا وعي. وكذلك، من أجل الدفاع عن مصالحه والمصالح الجماعية المشتركة، يميل الشعب الفلسطيني إلى إعادة بناء ذكراه الجماعية لتصبح صالحة من خلال تكرار الحوادث المأسوية والمعاناة غير الإنسانية وعدم عدالة تصرفات الصهيونية.

يتبين من ذلك أنّ الذكرى ليست موثوقة تمامًا، وربما لا تُظهِر كلّ ما حدث في الماضي من الواقع بشكله الأصلي. لكن هذا لا يعني أنّ الذكرى ليس لها معنى، بل على العكس، يكمن معناها في تبيين موقف الإنسان إزاء الحوادث المتذكّرة وكيفية إعطائها أهميتها فضلًا عن توضيح ما حدث في الماضي. لذلك يمكن معرفة موقف الشعب الفلسطيني للنكبة والتجارب المتعلقة بها، وكذلك يمكن البحث في معاني اختياره للمواد المتذكرة وأهدافه في ذلك، وتأثيرات هذا النوع من سلوك التذكر.

وإن تكوين الماضي من خلال التذكّر هو عبارة عن تصرف من تصرفات كشف النفس وتمييزها من غيرها. لذلك عندما قام الإنسان باستذكار التجارب الماضية كان في الواقع يكوّن الماضي لنفسه، ثم يحدّد مكانه من خلال كل ما مضى عليه ليعرف «من هو؟» و«من أين جاء» ثم يعرف «إلى أين». بهذا يمكن القول إن هوية الإنسان تنبع من عملية تكوين ماضيه، فالحكايات والتفسيرات والسرديات للماضي تساهم في تكوين هوية الإنسان الفردية وهويته الجماعية، وبالمقابل الهوية أيضًا تؤثّر في هذه الحكايات والتفسيرات للماضي. كذلك ساعدت التجارب والذكريات المتعلقة بالنكبة الفلسطينية وما سبقها من معيشة على تبلور الهوية الفلسطينية المستقلة واستقرارها في قلوب الفلسطينيين، في حين دفعت هذه الهوية الفلسطينيين إلى تكوين الماضي الجميل الصالح لهم بوصفه «الفردوس المفقود». من هنا لا يصعب علينا أن نفهم لماذا لم يبق في أذهان الفلسطينيين إلا الذكريات الفلسطينية الجميلة السعيدة الخالية من الحزن والشقاء لما مضى على فلسطين قبل النكبة، كذلك يسهل أن نفهم شوقهم وحنينهم العنيد إلى أرضهم وديارهم، وإصرارهم على تذكر تجارب النكبة وتفاصيلها المؤلمة رغم مرور عشرات السنوات.

ورغم أنّ الهوية الفلسطينية تنبع في الأول من ذلك الماضي الجماعي الجميل، إلا أنّها تنقصها السجلات التاريخية والتعداد والأرشيفات وغيرها من المعلومات التفصيلية التي يمكنها إثبات وإعادة إظهار مجتمع وملامح معيشة الشعب المحلي قبل النكبة إلى جانب المعلومات وتسجيل التحقيقات التي أجرتها الجهات البريطانية والصهيونية. وهذه المعلومات المجموعة والمحفوظة بأيدي غير الفلسطينيين يصعب التدقيق في صدقها وواقعيتها وحيادها، لكنه من الواضح أنها لم تجمع في الأصل لخدمة الاستمرارية التاريخية للشعب الفلسطيني ومصالحه الشرعية. لذلك فإن التاريخ الفلسطيني ينبغي أن يدوَّن بقلم الفلسطينيين أنفسهم الذين عاشوا على هذه البقعة من الأرض أجيالًا وأجيالًا، إذ إن أي شعب لا يمكنه الاستفادة من تاريخه وتحقيق التقدّم إلا إذا كبته وسجّله بنفسه، وبالنسبة إلى الشعب الفلسطيني لا يمكنه إثبات وتأكيد حقه الشرعي والطبيعي في الأرض الفلسطينية من دون كتابة تاريخه، كذلك لا يجد مبرّرات شرعية كافية تبرّر كفاحه للدفاع عن الأرض واستعادة الأرض إلا من خلال التاريخ الماضي.

فالاهتمام بالتاريخ والمحافظة على الماضي لهما دور مهم في الدفاع عن الوطن والثقافة والهوية وحمايتها من التهديدات الخارجية، وبخاصة بالنسبة إلى الفلسطينيين، فمن طريق كتابة وتدوين تاريخهم الخاص بهم، يمكنهم إظهار معيشتهم ووضعهم المزري للمجتمع الدولي، وإقناعه بأن تشرّد الفلسطينيين هو حادث لاإنساني وغير عادل، وهو ما يعطي شرعية ومنطقية لكفاحهم من أجل بناء هويتهم الوطنية وتأسيس دولة فلسطينية مستقلة، ويجعل تجاربهم  ونكباتهم راسخة باقية غير منسية في تاريخ البشرية وخوفًا من أن تصبحوا «شعبًا بلا تاريخ» أو قد تصبحون في النهاية «شعب لم يوجد أو لا يوجد».

لذا يمكن القول إنَّ الحفاظ على ماضي الشعب يعني الحفاظ على هويته وحمايتها. ففي حين يحافظ عامة الناس على تجاربهم ونكباتهم راسخة باقية غير منسية في تاريخ البشرية بواسطة تصرفات التذكّر والتناقل والحكايات الشفوية بكمية هائلة، يساهم المثقفون الفلسطينيون بواسطة الإبداع والكتابة في بناء ماضي الشعب الفلسطيني الفريد في نوعه. منهم وليد الخالدي الذي أظهر تفاصيل حياة الفلسطينيين الماضية بنحو خمسمائة صورة عنها في كتابه قبل الشتات: التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876-1948، فبهذه الصور وهذا الكتاب لم يسجّل الكاتب في كتابه هذا فلسطين الماضية التي قد بدأت اليوم تبتعد أكثر فأكثر فحسب، بل أثبت من جديد واقع وجود المجتمع الفلسطيني على أرض فلسطين قبل انهياره.

ومن هذا النوع من الكتب ألبوم رسومات يافا عطر مدينة الذي عرض المجتمع الفلسطيني الماضي بمختلف مجالاتها، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية… إلخ. يتكوّن الألبوم من شهادات عدد من الفلسطينيين ويحتوي على 175 صورة ليبرز أمام عيون القرّاء أهل يافا بمختلف الأعمار والمهن والوظائف وحياتهم العادية، كذلك يشتمل على المصانع والمقاهي والمدارس والمهرجانات وغيرها من المشاهد. بكل هذه الصور والرسومات الواقعية وتفاصيل المعيشة اليومية نجح المؤلِّف في إظهار حياة الفلسطينيين اليومية العادية المستقرّة في الماضي جاعلًا القراء يعرفون المجتمع الفلسطيني الحقيقي قبل النكبة ويشعرون بشعور أهل فلسطين. ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنّ ماضي أهل يافا حتى كل الشعب الفلسطيني وتاريخهم مخزون بين صفحات الكتاب حيث تم إعادة إظهار التاريخ والماضي، فهذه الصفحات أصبحت حاملة ماضي الشعب وذاكرته الجماعية.

ومن أمثالها أيضًا النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود بقلم عارف العارف، وكي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها لوليد الخالدي وغيرهما. كلاهما سجّل ودوّن حياة الفلسطينيين والمجتمع الفلسطيني قبل النكبة وحدوث النكبة وعملية سقوط المدن والقرى الفلسطينية بكل التفاصيل والوضوح.

كلّ هذه المؤلفات والإبداعات يجب ألّا تعَدّ من الكتب التاريخية بقدر ما تُعد من كتب الذكريات، إذ إن أهدافها تكمن في إظهار المجتمع الفلسطيني قبل النكبة حتى لا يُنسى. رغم أنّ الذكريات لا تساوي التاريخ، إلا أنهما ليسا متناقضين، بل لهما علاقة وثيقة، فكلاهما يشير إلى الماضي ومحتوياتهما ومضامينهما متشابهة إلى حد بعيد. الذكريات تختلف عن التاريخ، فهي تمتاز بالذاتية وقابلية إعادة التشكيل وعدم الاستقرار، لكن صفاتها هذه تساعد على دراسة هوية الفرد القائمة على الشعور والوعي الذاتي. إن دراسة ذاكرة الجماعة لا تهتم بالبحث عن الصواب أو الخطأ، ولا تهمها ما إذا كانت الذاكرة واقعة أم لا، فمحورها يكمن في تفتيش ودراسة اختيار الذكريات وبنائها وإعادة بنائها وعملية تغيّرها وتطوّرها.

كذلك هنا في شأن دراسة الذاكرة الفلسطينية، فليس من المهم أنْ نحدّد أي جزء من التجارب الماضية هو تاريخي وأي جزء هو من الذكريات، إذ ليس من المهم أن يكون إثبات واقعية أو موضوعية التجارب الفلسطينية ممكنًا أو مستحيلًا، فذلك لا يأتي بأهمية كبيرة، بل من المهم أن تكون هذه التجارب واقعًا عند الفلسطينيين، وأن يثقوا بأنّ تجاربهم وحياتهم حقيقية وليست خيالية وأن ذلك هو تاريخهم وماضيهم المشترك.

على هذا الأساس، يمكننا أن نجد من خلال حكايات جيل النكبة التي لا يحصى عددها، ومن خلال إبداعات المثقفين الفلسطينيين، أنّ المجتمع الفلسطيني قبل النكبة قد كان «الفردوس المفقود» في عيون الفلسطينيين، وأنّ ذكرياتهم لتفاصيل الحياة الماضية ومشاهدها – تلك الذكريات المفعمة بالجمال والسعادة اللتين قد أصبحتا صعبة المنال الآن بعيدًا من الوطن – قد استقرّت في أعماق قلوبهم. تلك السعادة قبل النكبة في «الفردوس المفقود» واليأس بعد النكبة لهما فرق هائل مثل ما هو الفرق بين ما في السماوات وما في الأرض. لذلك أصبحت النكبة جرحًا مفتوحًا لا يمكن شفاؤه في قلوب الفلسطينيين.

ثالثًا: ذاكرة النكبة كالذاكرة الثقافية ودورها في تعزيز الهوية الجماعية

ما يجمع كل فلسطيني – كبيرًا كان أم صغيرًا، غنيًا أم فقيرًا، رجلًا أم امرأة – هو التجربة المشتركة للنكبة. فقد مثّلت هذه التجربة ميزة مشتركة تربط بينهم وكذلك صفة خاصة بهم تميّزهم عن غيرهم، الأمر الذي يرمز إلى إبراز الفلسطينيين كجماعة اجتماعية مستقلة عن العرب.

وكما هو معلوم، فإن الارتباط والتواصل بين أعضاء أي جماعة اجتماعية يعتمد على اللغة والدين وقرابة الدم والتاريخ والأرض وغيرها من العوامل التي تجمع كل الأفراد كرابطة ليكونوا جماعة واحدة. وفي المقابل، فأعضاء الجماعة يشعرون بشعور الانتماء إلى الجماعة، لكن هذا النوع من الشعور بالانتماء لا يبقى ثابتًا بلا تغيير، بل يتغير بتغيّر الظروف، وذلك ما زال قائمًا على المواد التاريخية والثقافية المشتركة. لذلك قد يختار الإنسان أن ينسحب من جماعة وينتمي إلى أخرى ما دامت هويته وانتماؤه إليها أصبحت لغير مصلحته تحت ظروف معيّنة.

على هذا الأساس، من الطبيعي أن يختار الفلسطينيون انتماءهم الجديد تحت ظروف جديدة بعد أن انهار مجتمعهم التقليدي وتشتّت أعضاؤه وانقطع التواصل بينهم في إثر النكبة عام 1948. لا بد أن نذكر أنَّ معظم الفلسطينيين في الشتات أقاموا في البلدان العربية المجاورة. ذلك يعني أنهم لم تواجههم ثقافة مختلفة عن ثقافتهم بل ما زالوا يعيشون في الثقافة العربية – الإسلامية. بالنسبة إليهم، يبدو أكثر معقولية أنْ يختاروا الانتماء إلى الدول المضيفة لمصلحتهم الاقتصادية أو السياسية. لذلك في ظل نقصان الإطار الاقتصادي والمناطق المشتركة، يسهل على الفلسطينيين أنْ يندمجوا في المجتمع المضيف تدريجيًا، وكذلك ما دامت تضاعفت ذكرياتهم لتجربتهم المشتركة للنكبة مع مرور الوقت، قد تتلاشى ببطء ميزتهم المشتركة بينهم وصفتهم المتميزة عن باقي العرب، إلى أن يهلك المجتمع الفلسطيني وتختفي الجماعة الفلسطينية أو الشعب الفلسطيني في النهاية في تاريخ البشرية. وذلك هو ما كانت ترجوه الجهة الإسرائيلية.

لكن، في الواقع، كما نعرف، لم تختفِ الجماعة الفلسطينية، ولا الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يدل على أنَّ بين الأعضاء الفلسطينيين قوة تماسك ما زالت توحّد بين قلوبهم، وأنَّ انتماءهم إلى الجماعة الفلسطينية لم يتغير ولم يتحول. من المؤكد أن هناك عوامل خارجية تحول دون انتمائهم إلى جماعة جديدة وتعزز بالفعل انتماءهم الأصلي أي انتماءهم إلى الجماعة الفلسطينية. من هذه العوامل الخارجية مشكلة اقتصادية تواجه أغلبية الفلسطينيين، فالفقر والبطالة ونقصان موارد التعليم وظروف المعيشة السيئة وغيرها من المشاكل زادت صعوبة اندماج الفلسطينيين في المجتمع المضيف. وفي الوقت نفسه، كانت الشعارات والبطاقات التي ألصقها العالم الخارجي عليهم مثل «لاجئ فلسطيني»؛ «منكوب فلسطيني»؛ «اللاجئون»… تساهم من دون قصد في تحديد نطاق الجماعة الفلسطينية وإبراز خاصيتهم، فزاد معرفتهم للفرق والتناقض بينهم وبين المجتمع المحيط بهم، ثم ساعد على تعزيز معرفتهم لانتمائهم كفلسطينيين.

ومع ذلك، لا يكفي أي جماعة أنْ يعتمد وجودها على العوامل الخارجية، مهما كانت. فالأهم بالنسبة إلى الجماعة الاجتماعية هو قوة الجاذبية بين أعضائها، أي قوة التماسك التي تربط الإنسان بالذين من حوله داخل فضاء واحد، وتحافظ على الصفة المشتركة بين الأعضاء، وتربط الحاضر بالماضي أيضاً، وتجعل الأعضاء يلحون إلى الحاضر والمستقبل بتجاربهم وخبراتهم وذكرياتهم، وهو ما يساهم في الحفاظ على استمرارية الجماعة وتطوّرها.

إنّ هذه القوة بالنسبة إلى الفلسطينيين بعد النكبة هي تجاربهم المشتركة وذكرياتهم للمعيشة الماضية، هي التي تربط بينهم، وتميزهم عن باقي العرب. قبل النكبة، كان الفلسطينيون يُعرَفون بالعرب الذين يعيشون في منطقة فلسطين كالذين يعشون في المناطق الأخرى. لكن بعد النكبة، اختلف مصير الفلسطينيين تمامًا عن مصير باقي العرب. في حين أسس العرب في المناطق الأخرى دولهم المستقلّة الخاصة بهم، كان الفلسطينيون يعانون مأساة الهروب والشتات والنزوح عن قراهم ومدنهم وأرضهم من دون جنسية وهوية، إضافة إلى ذلك، مسح تاريخهم وآثار معيشتهم على تلك الأرض المقدسة. لكن هذا المصير المأسوي كان حافزًا لهم، إذ وحّد جميع الفلسطينيين باختلاف طبقاتهم، فعزز خصائص الجماعة الفلسطينية المتميزة عن الأخرى وإبراز اختلافها عن العالم الخارجي، ومن جهة أخرى ساهم في تضييق الفوارق الموجودة ضمن الجماعة بحيث ضعفت تدريجيًا الاختلافات بين الغني والفقير وبين الفئات والطبقات وغيرها من المجالات في المجتمع الفلسطيني في ظل المصير المشترك المأسوي.

وقد دلّت ذكريات الفلسطينيين على أنّ النكبة لم تنته بعد فهي، ما تزال محفورة في قلوبهم، بل هي مستمرة في تأثيراتها في حياتهم لتصبح «الحاضر المستمرّ» لهم. فقد ربطت هذه الذكريات بين الحاضر والماضي ليجعل الأخير منهما يؤثّر في الأوّل باستمرار، وهو ما يساعد على تشكيل هوية جماعية تستطيع أن تصمد أمام تجارب الزمان، ومن ثم تحافظ على استمرارية الجماعة الفلسطينية المستقلة.

هنا يمكن القول إنّ النكبة ليست نقطة تحوّل بالنسبة إلى الفلسطينيين فحسب، بل هي مصدر الهوية الفلسطينية المستقلة، وقد أصبحت من ثقافتهم الفريدة، إذ أتت بتأثيراتها العظمى في تحويل المصير الجماعي، فتُحكى وتُقُص وتُذكر جيلًا بعد جيل، ولن تُنسى أبدًا كأنّها محفورة في حنايا قلوب الشعب. النكبة بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني بمثابة «أسطورة الأصل» التي تفسر «من نحن؟» و«من أين جئنا؟» و«إلى أين» … فالنكبة، رغم أنها حدثت قبل سبعين سنة، إلا أنها لا تزال ترشد الحاضر وتشير إلى المستقبل وتنيره. لذلك أصبحت النكبة بداية تاريخ فلسطين الحاضر وسبب الواقع الفلسطيني الحالي.

كان للنكبة دوران أساسيان في عملية بناء الهوية الجماعية الفلسطينية ألا وهما دور «حجر الأساس» ودور «وجه متعارض مع الواقع». فالدور الأول تجلى في فقدان وسقوط فلسطينيين عام 1948 حيث يرجع كل فلسطيني إليها حين يفكّر في ظرفه الحالي والأسباب المؤدية إليه. فالوضع الحالي هو بلا ريب نتيجة النكبة وعواقبها، حيث أصبح الفلسطيني مختلفًا عن باقي العرب ومر بتجارب تاريخية مختلفة عن تجاربهم وحظي بالهوية الفلسطينية كهويته الأولى، سواء أكان مستعدّا لذلك أم لا. أما الدور الثاني فيتمثّل بالتضاد والتناقض بين الحاضر والماضي، بين الواقع والذاكرة. فتتسع بذلك الفجوة كلما تذكر الفلسطيني «الجنة المفقودة» وقارنها بمعيشته الواقعية الصعبة. يبدو الواقع أمام السعادة المفعمة في الذكريات كأنه نتيجة تحريف التاريخ. كلما ازدادت صعوبة المعيشة حاليًا اشتد جمال الذكريات للحياة الماضية، والعكس صحيح، فكلما ازدادت السعادة في الحياة الماضية اشتد الاستياء من الأوضاع الصعبة الحاضرة وازدادت رغبته في العودة إلى الماضي لاستعادة السير الطبيعي للتاريخ. إن هذا التناقض بين الحاضر والماضي، ولد قوة تدفع أجيالًا من الفلسطينيين إلى الكفاح والمقاومة المستمرة بلا كلل ولا ملل من أجل استعادة حقهم في العودة وحقهم في تقرير المصير.

خاتمة

إن النكبة ليست حادثة واحدة من الحوادث التي طرأت على أرض فلسطين، بل هي تعاقب سلسلة من التحولات التاريخية. رغم أنّ المجتمع الفلسطيني انهار بعد النكبة وتشتت ولم يجد أي هيئة حكومية أو شبه حكومية يستند إليها، إلا أن الجماعة الفلسطينية لم تتفرق وتتفكك من الداخل، بل نما فيها وعي الهوية الجماعية أي الهوية الفلسطينية. فالنكبة غيّرت مصير جميع الفلسطينيين، وأصبحت الحافز الذي يدفعهم إلى الاتحاد والتضامن أمام المأساة ويجعلهم يدركون وجود الصفات المشتركة المتزايدة بينهم وكذلك صفاتهم المتميزة عن باقي العرب.

وقد تحتاج أي جماعة اجتماعية، صغيرة كانت أم كبيرة، إلى الاستمرارية إذا توافرت فيها الصفات المشتركة بين أعضائها والصفات المتميزة عن الآخرين. أما بالنسبة إلى الجماعة الفلسطينية، الصفات المشتركة والمتميزة بين أعضائها تتمثل بتجربتهم المشتركة للنكبة، واستمرارية هذه الجماعة تعتمد إلى حد بعيد على ما إذا كانت هذه التجربة المشتركة في زاوية النسيان، في ذاكرة الفرد أو الذاكرة الجماعية. لذلك، تمسّك الفلسطينيون بذكرياتهم لأرضهم ومدنهم وأريافهم ومعيشتهم الماضية… وهذا يدلّ على أنّ هذا النوع من الذاكرة هو الذاكرة الأبدية التي لا يمكن نسيانها مما يساهم في استمرار هويتهم الجماعية.

ولعل ذلك «الفردوس المفقود» في الذاكرة الجماعية الفلسطينية يمكنه تعزيز انتماء الفلسطينيين إلى الهوية الفلسطينية، ويجعلهم يبنون ماضيهم بما يتوافق مع هويتهم ومصالحهم كجماعة. فاختيار محتويات الذاكرة في عملية بناء الذاكرة الجماعية، وبناء الهوية على ذكريات الفلسطينيين عمليتان يتفاعل الواحد منهما مع الأخرى. وهذا ما فعله الفلسطينيون، فقد ساعدت ذكرياتهم عن أرضهم ووطنهم ومعيشتهم السعيدة قبل النكبة وتمسكّهم العنيد بهذه الذاكرة الجريحة، على بناء ماضيهم وتحميله في ذاكرتهم الجماعية وهويتهم. وهكذا عُدت النكبة الفلسطينية من مصادر هويتهم وصنعت منهم شعبًا مؤمنًا بشعار «العودة إلى فلسطين حقي وقراري».

 

قد يهمكم أيضاً  أدب النكبة: المناضل الثائر كامل توفيق الدجاني مثالاً

اضغطوا على الرابط التالي للحصول على كتاب  فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #النكبة #النكبة_الفلسطينية #الهوية_الفلسطينية #الذاكرة_الجماعية_الفلسطينية

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 507 في أيار/مايو 2021.

[1] لونغ يالينغ: باحثة صينية، وأستاذة في قسم اللغة العربية وثقافتها في كلية اللغات الشرقية، جامعة سيتشوان للدراسات الدولية – الصين.

البريد الإلكتروني: fawziyalong@sisu.edu.cn

[2]  جان أسمان، الذاكرة الثقافية: الكلمات والذكريات والهوية السياسية في الثقافة المتقدمة المبكرة، ترجمة جين شوفو وهوانغ شياوشن (بكين: مطبعة جامعة بكين، 2015) (بالصينية).

[3] Edward W. Said, After The Last Sky: Palestinian Lives (New York: Columbia University Press, 1999), p. 5.

[4]  غسان كنفاني، رجال في الشمس (قبرص: دار منشورات الرمال، 2013)، ص 7.

[5]  مركز يافا للأبحاث، يافا عطر المدينة (بيروت: دار الفتى العربي للنشر والتوزيع، 1991)، ص 15.

[6]  إدوارد سعيد، صور المثقّف، نقله إلى العربية غسان غصن (بيروت: دار النهار للنشر، 1996)، ص 57.

[7]  إدوارد سعيد، خارج المكان، ترجمة فواز طرابلسي (بيروت: دار الآداب، 2000)، ص 271.

[8]  مركز يافا للأبحاث، يافا عطر المدينة، ص 23-24.

[9] Zarefa Ali, A Narration Without an End: Palestine and the Continuing Nakba, The Forced Migration and Refugee Unit (Birzeit, Palestine: Birzeit University, The Ibrahim Abu-Lughod Institute of International Studies, 2013), p. 33.

[10] Rosmary Sayigh, The Palestinians: From Peasants to Revolutionaries (London: Zed Books Ltd., 1979), p. 108.

[11]  بينغ جانغ، «الذاكرة التاريخية والكتابة التاريخية: تحول الذاكرة من منظور النظرية التاريخية،» البحث في تاريخ التاريخ، العدد 2 (2014)، ص 1-12 (بالصينية).

 


لونغ يالينغ

باحثة صينية، وأستاذة في قسم اللغة العربية وثقافتها في كلية اللغات الشرقية، جامعة سيتشوان للدراسات الدولية- الصين.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز