أولًا: قراءة مابعد كولونيالية ومابعد استشراقية

ننطلق في هذا البحث من اللحظة الراهنة[1] بكل ما تنطوي عليه من زخم المعرفة والتوجه نحو المزيد من التقدم الذي يوصل ويتواصل مع الماضي. فالراهن في قوته التاريخية يُوْصِل الأبعاد الزمنية الثلاثة في لحظة أبدية هي ما يبدعه العالم في كل مناطقه وشعوبه وحضاراته، حيث نحضر لوجود في لحظة واحدة لكل الحضارات والثقافات[2]. وتلك هي ميزة ما بعد الحداثة التي تنعدم فيها ثنائية المركز- الهامش، كما تنعدم فيها كل الحواجز والمتاريس سواء أكانت مادية أم معنوية، ويبدأ سرد الإنسان لإنسانيته وتبدأ الإنسانية في سرد تاريخها العالمي.

خاض لوي ماسينيون، ومن هنا فرادته، تجربة السعي إلى وضع حد لاحتلال الغير من دون وجه حق، وإلى تصفية الاستعمار من المستعمِر ومن قرون التخلف التاريخي المحلي. وقد اقتضى منه ذلك، استدعاء الخبرة الذاتية وانفتاحها على الأخلاق العليا التي تَنِدُّ عن الطائفية والعنصرية والقوميات الضيقة والنزول إلى واقع البشر الأليم ومصارعة محنهم وهمومهم، مكنته من امتلاك نظرية عملية تتلازم عندها وفيها الروح والمادة، النفس والجسد، الدين والسياسة في توليفة يصعب فصم عراها.

قَارَبَ ماسينيون السياسي بالروحي، أو الروحي العرفاني بالسياسي الدنيوي، وصارت عنده عُدّة فكرية من المفاهيم الإجرائية التي تتوكأ على ما هو صوفي وعلمي، نظري وواقعي بالقدر الذي منح الدين قوته العملية في التغيير والتعديل والإصلاح، وبالقدر الذي أعاد إلى الأخلاق قوتها العملية ليس في حياة الناس العادية فقط، بل على صعيد العلاقات الدولية أيضًا. كان النصف الأول من القرن العشرين قد حفل بحربين عالميتين وباستعمار مدمّر، أوحت إلى ماسينيون ضرورة توظيف خلّاق للدين والأخلاق في معركة تصفية الاستعمار وتجنب حروبٍ أخرى تأتي على خيرات الشعوب وتراثها المُؤَمِّن الحقيقي لحياة الدول والأمم والناس جميعًا. فهناك مصادر أخرى غير السياسة والتقنية للتغلب على الاستعمار وتصفيته من حياة الدول المتقدمة والمتخلفة على السواء.

وعليه، فإن ما نُلِحّ عليه هو البحث عن شخصيات علمية وكبار الفلاسفة ورجال السياسة العظام الذين كانت لهم القدرة على المزاوجة بين الروحي والمادي، والأخلاقي والمعنوي والسياسي، في خوض غمار السياسة والاقتصاد والحياة الدولية الحديثة والمعاصرة. إن الإلحاح والحِرص على استعادة حياة وتجارب الشَّخصيات العظيمة التي تنزهت عن الأغراض الاستعمارية، يُسْعف الأجيال الجديدة على التعرف إليها كشخصيات قدمت فعلًا حلولًا لم تتجاوب معها الأطراف الحاكمة سواء لحظة الاستعمار أو ما بعده. فقد دفعت الدول والمجتمعات في القرن العشرين أثمانًا فادحة بسبب عدم الإصغاء إلى أصوات الحكمة والعقل الراشد والوصايا الأخلاقية النافعة[3].

التحلّي بأكثر من خصلة وتسخير أكثر من عامل، يوفر فرصة اللقاء مع الصحيح والسليم. فقد عانى القرن العشرون ولا يزال مطلع القرن الحادي والعشرين، عنف القطيعة والسِّيَّاجات الدُّغمائية على حد تعبير محمد أركون[4]، التي أدَّت إلى كوارث وويلات ومآسٍ… لم تتمكن الإنسانية إلى حد الساعة من الخروج منها. فقد تبيَّن أن عدم كشف الحقائق على ما هي السياسات الوطنية وعلى ما هي السياسة الدولية أيضًا، لأن الفاعلين الوطنيين أنفسهم زمن الاستعمار هم الذين تحولوا إلى فاعلين في الساحة الدولية بعد انحسار الاستعمار ولو نوعًا من الانحسار.

لعلّ أعظم قضية نمثّل بها في هذا المقام، هي ما يعرف في عالمنا اليوم بالإرهاب الذي صار حالة دولية، تواضع «النادي الإمبريالي العميق»[5] على إلصاقه بالجماعات الإسلامية المتطرفة، وكأن الحالة الدولية ليست انعكاسًا للحالة الوطنية، كما تؤكد بنية السياسة الدولية التي تتلاعب بها الدول الكبرى في غياب تام للشخصيات العظيمة ذات الأخلاق المنفتحة على العالم كله. فالتحليل العميق لمسألة الإرهاب الديني، متأتية من محاولة طمس الديني وإعدامه أصلًا حتى لا تكون له أية مساهمة في حياة البشر، وإبعاده كإمكان للشعوب المغلوبة سابقًا من محاولة إنعاشه كأفضل بديل لما هو قائم الذي يتطلع دائمًا إلى تجاوز «الكل السياسي»، أو «الكل الأمني» أو «الكل العسكري». فقد توارت السياسات الحصرية وولّت ولم تعد كافية لرسم برامج الإنماء والتَّقدم ليس للأوطان فحسب، بل لكل المجتمع الدولي.

ثانيًا: عالم بلا ضفاف

نحاول، في هذا البحث أن نقرأ ونتعرف إلى ماسينيون (1883-1962) في صلته بالحالة الاستعمارية، وهي الحالة التي دفعته إلى النزول من العالم النظري والعلمي المجرد، فقد كان مولعًا بالرِّياضيات وعاشقًا لحقائقها ومنطقها. فالوضع العام سواء في فرنسا أو في العالم «يزخر» بما لا تتحمّله السياسة وحدها و«يحفل» بما تنوء به التجربة الوطنية، بل الحقيقة يمكن التقاطها في مآسي الناس وسبر أعماقهم والغوص في دواخلهم للوقوف على أسرارهم وخباياهم التي يسعى الاستعمار دائمًا إلى طمسها ومواراتها. من هنا رحلاته المتعددة إلى بقاع الدنيا كافة وبخاصة التي تزخر بالمآثر والتراث الروحي وبقايا الحضارات البائدة. عن دور الرحلة في حياة ماسينيون، يقول الباحث الحصيف وأحد مترجمي أعماله، عبد الرحمن بدوي: «كان له من أسفاره التي لا تعد ولا تحصى وتجاربه العديدة في العالم الإسلامي مادة خصبة لا تنفد، ولا شك أنه أكبر عالم رحّالة في هذا العصر»[6]. لعل هذه الرَّحلات والأسفار هي التي جعلته يكتشف ما لدى الغير، ومن ثم يرتقي بفكره واهتماماته من دائرة الوطن الفرنسي إلى دائرة بقية الشعوب والأمم، وبخاصة في البلاد التي كانت تحتلها فرنسا وبريطانيا. فأفضل سبيل إلى معرفة ما يجري في الخارج هو الوصول إليه ومعاشرته عن كثب. يضيف عبد الرحمن بدوي: «وكان في الوقت نفسه يهتم بقضايا الساعة والدعوة إلى التسامح والإخاء بين الأديان وبين الشعوب، اهتمامًا ربما يأسف له الذين كانوا يبغون منه أن يتوفر على انجاز الأبحاث العديدة التي رسم خطوطها أو جمع موادها ولم يحرر دساتيرها»[7].

الانخراط في قضايا المقهورين، يعني عند ماسينيون الالتزام الوجداني والمعايشة الروحية لهمومهم وتراثهم الذي مكنهم في حقبة من حقب التاريخ الإنساني من الحضارة والفكر والمدنية، ولعّل هذا التراث هو الذي ينقص فرنسا والغرب في الوقت الراهن. وعليه، ففكرة الانخراط أو الالتزام بقضايا الناس الذين تخاطبهم الكنيسة وتدعو إلى مواساتهم ورعايتهم والارتقاء بهم إلى مستوى الفاعل الذي يتكفل بمساره ومصيره، يلح على البحث عن توظيف مصادر أخرى يزخر بها «الداخل البشري» و«التراث الإنساني» لكل الشعوب على اختلاف دياناتهم وأصولهم وروحانياتهم. يشرح ماسينيون هذه الحالة التي يجب أن تتوافر في الممسكة بالقدرات التقنية لكي يساعد على تجاوز الوضع المفارق والمتناقض المنافي للتاريخ ولتعاليم الكنيسة: «ليس من السهل أن أدّعي أنني استوعبت بالقدر الكافي القدرة على الانخراط الصوفي مع الإسلام والبلدان الإسلامية. لكنني أريد أن أقف معهم وحيث هم وأمامكم (الفرنسيين والغرب بصورة عامة)، في موضع القادر على فهمهم عن كثب وأقرب إلى نفسيتهم. فقد فكرت في الموضوع من باب التحليل النفسي، كما تعلمته من المحلل النفسي الكبير يانغ الذي كان يعرف كيف يلج بمودة مشاكل الناس في بساطتهم. فقد شفاني من هذه الخشية ومن الاستعلاء الحقير للمثقف الذي يفقد كل تواصل اجتماعي، ويغفل الحقيقة التالية: أن المطالب السياسية التي يجري التعبير عنها بصورة غير واضحة والأكثر وخزًا للضمير والشرف الشخصي، هي التي تكون في الغالب صادقة وعميقة ومؤسسة»[8].

في مشروعه إذًا، الرامي إلى توظيف مصادر أخرى لفهم وتَعَقّل الظاهرة الاستعمارية، تَبَنَّى ماسينيون الفكر العرفاني الذي استوحاه من تجربة المتصوف الكبير أبي منصور الحسين الحلاج. وعن الحالة التي لازمت ماسينيون المثقف والداعي إلى السلام، يقول معاصره المفكر المصري إبراهيم مدكور: «آمن (ماسينيون) بالحقيقة النَّقلية إيمانه بالحقيقة العقلية، وقضى حياته في تعمق أغوارها، والكشف عن أسرارها، سواء لديه، أتلقاها عن عيسى أم عن محمد. كان يرى أن للعقل حدودًا يقف عندها، وأن الوحي والإلهام يصل ما انقطع، وما يربطنا بعالم اللانهاية. الحقيقة النَّقلية خالدة خلود الدهر، يقينية يقين الإيمان، تمتزج بالروح والقلب، وتتفق لمن تدبر مع النظر والعقل. وهي فوق هذا أقرب إلى نفوس الجماهير، وألصق بحياة الشعوب، وأصلح للمجتمع»[9] . فقد كانت تجربة حياتية ومصيرية استغرقته بالكامل، لا ليحل بها مأساة المستضعفين الرازحين تحت النير الاستعماري فحسب، بل لانتشال المستعْمِر ذاته من الانحراف الخطير الذي آل إليه عندما خالف تعاليم الكنيسة والحداثة في مظاهرها وتجلياتها كافة. فقد تَنَكَّرت فرنسا لمبادئ الثورة الفرنسية والإنجازات العظيمة التي تمت على مستوى الفكر والعلم والفن والتقانة، التي تعد نعم الله إلى خلقه… وطوبى لمن تكون له القدرة على توزيعها على الآخرين وإشراكهم فيها.

ثالثًا: ثقافة اللقاء

مفهوم اللقاء عند ماسينيون هو لحظة التواصل مع الآخر من أجل تقريبه والعيش معه إذا أمكن ذلك. فاللقاء[10] هو دائمًا أفضل سبيل إلى ردم الفجوة بين البشر والحضور الحي بين الأطراف. فقد كان ماسينيون يتطلع دائمًا إلى البحث عن الأشخاص الذين بإمكانهم الحديث عن قضاياهم وتقديم الرأي والاقتراح في ما يهمهم، وبخاصة في المسائل المصيرية، مثل المسألة الاستعمارية التي كان ينقص دائمًا رأي المستعمَرين في شرحها وتوضيحها. ويعدّ المفكر مالك بن نبي أحد رجالات الفكر والثقافة التي تعرف إليهم ماسينيون لكي يعرف من خلال مفكر جزائري، يدرك حالة التَّخلف الذي عليه مجتمعه وبإمكانه أن يدلي بدلوه ليس في موضوع الوضع الاستعماري فحسب، بل في موضوع الإسلام في راهن حياة العالم المعاصر أيضًا.

وهكذا، يكون ماسينيون، المستشرق والمستعرب الفرنسي الكبير قد عثر على جزء من ضالّته عندما وجد في بعض الجزائريين التأهيل اللازم لمباشرة حوار بين المستعمِر والمستعمَر من أجل ردم الفجوة السحيقة التي أقامتها فرنسا في الجزائر. وعندما يتعلق الأمر بمثقف فرنسي شغوف ومتيَّم بالثقافة العربية والإسلامية وبمثقف جزائري متأثر بالثقافة الفرنسية إلى حد التفكير والكتابة بها، معنى ذلك أن إطار وأطراف الحوار أو اللقاء قد اكتمل ويجب الشروع في عرض جدول أعماله. ففي حالة مالك بن نبي، لم يعد العالم حكرًا على الفقيه، بل صار المثقف الذي يفكر في قضايا عصره من آخر ما وصلت إليه المدنية الغربية وكيف يجب أن يتعامل معه الإسلام في عصر غير عصر الذي ظهر فيه وعصور التخلف التي انتابت العالم العربي لردح زمني طويل كان أحد نتائجه المرَوّعة هو الاستعمار الأجنبي لأراضيه[11].

الحقيقة، أن ما امتنعت عنه فرنسا حيال المسلمين في الجزائر، حاوله ماسينيون وباقتدار كبير، ساعدته على امتلاك رؤية سليمة من أجل الخروج من المطبّ الاستعماري وحل المسألة الأهلية برمّتها. فقد تعلّم اللغة العربية ودرس الدين الإسلامي وغاص في عمقه حد التحول إلى متصوف يصل نفسه بالله وبالآخر (البديلية).

ثم يواصل أركون كلامه عن ماسينيون، مُشِيدًا بمناقبه وخصاله: «لم يكتف ماسينيون بالرد على رسالتي بكل حماسته المعروفة وقناعته الفكرية الراسخة، وإنما راح يرفعني إلى مستواه عن طريق مخاطبتي: «زميلي العزيز»، ولم أكن آنذاك إلا مجرد طالب بسيط. بعد أن أصبحت بدوري استاذًا جامعيًا في السوربون، لم أنسَ أبدًا الدرس الأخلاقي الكبير الذي لقنني إيَّاه لويس ماسينيون يومًا»[12]. ويضيف أركون في موضع لاحقًا مُنَوِّها بقوة شخصية الرجل: «وعلى الرغم من أنني كنت استمد الشجاعة والأمل والشهادة الروحية من هذا الرجل العظيم في تلك السنوات الفجائعية والتراجيدية، إلا أنني شعرت بالأسف لأنني لم استطع لفت انتباهه إلى حقيقة أن زيادة الإغراق في الاعتقاد الديني قد يكون على حساب ممارسة العقل النقدي. فالإيمان جيد، ولكن لا ينبغي المبالغة فيه، أو قل لا ينبغي أن يحصل ذلك على حساب الاستكشاف التاريخي النقدي لكل جوانب الدين وملابساته. هذه الممارسة النقدية أو الاستكشاف العلمي كان قد أصبح ضروريًا، بل ملحًّا وعاجلًا بالنسبة للإسلام وتراثه الكبير»[13].

رابعًا: المقاربة العرفانية ونهاية الاستعمار

من جملة التحولات التي شهدها القرن العشرون، وعاصرها ماسينيون عن كثب، التحوّل الذي طرأ على السلطة ومفهومها، الذي لم يعد يحتكره نظام الحكم، مهما كان طاغيًا أو ظالمًا على ما هو عليه الوضع الاستعماري في الجزائر. فالوضعية الاستعمارية تحتاج إلى من له المصادر الكافية والوسائل اللازمة لفض الإشكالية برمّتها، بحيث تفضي إلى إخراج المستعمِر والمستعمَر من المأزق التاريخي الخطير الذي إليه إغفال صوت الحكمة والدين والوحي العرفاني الماورائي. فالقضايا السياسية، على تعقّدها وخطورتها، تحتاج من جملة ما تحتاج إلى المقاربة العرفانية التي تَحْدُس السياسة وتتخطاها إلى ما هو قريب من الحكمة والمعقول واللازم الشرعي. فلم يعد، كما يرى ماسينيون، الخلاص إلا داخل الكنسية، لا بل خارجها أيضًا، يكفي أن نعرف كيف نصغي إلى صوت الآخر، أو كيف يمكن أن نفكر من داخل تجربة الآخرين لكي نقف على حقيقة المشكلة القائمة. ولا يجانب ماسينيون، بناء على تجربته الشخصية، الصواب عندما يقدم فكرة «الحلول» الصوفية كإمكان معرفي وسياسي لفضّ مشكلة الاستعمار القائمة في غير بلد عربي ومسلم.

كانت تجربة «الحلول»[14]، التي استمدها ماسينيون من التراث الإسلامي[15]، وعلى وجه الخصوص من الثقافة الصوفية، وبلورها في مفهوم «البديل»[16]، أي التفكير بدلًا من «الغير» الذي لا يستطيع أن يدلي بدلوه في قضاياه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بسبب ركام التخلف الذي يعانيه تاريخيًا وبسبب العائق الاستعماري الرهيب الذي فرض سياسة إبقاء الوضع على ما هو عليه، كأفضل سبيل إلى الاستغلال والاحتلال والنهب المنظم للثروات الطبيعية والبشرية. إن فكرة «الحلول»، أي أن تحل محل الآخر، وتحاول أن تعايش تجربته العقلية والوجدانية، يساعد أكثر على نقلها إلى مستوى أعلى من الإبداع والإتقان. وعندما يكون الوضع التاريخي، وفق ما يجري في القرن العشرين، يتجه أكثر إلى مزيد من التكاثف والعلاقات البينية بين الشعوب والأمم، فإن أفضل مسار لتحضير وتهيئة مصير الإنسانية هو التفكير في ما يفكر فيه الآخر ومحاولة الوقوف على ما يفكر فيه فعلًا، كإجراء لتلافي سوء التفاهم والخطأ في التقدير، الذي يؤدي غالبًا إلى الحروب والنزعات والخلافات المرهقة والمضنية، يدفع ثمنها الأهالي والشعوب المستضعفة.

أشَّرت التجربة التاريخية الحديثة في تجلياتها ومحدداتها كافة أن المشكلة الرئيسة بين الشرق والغرب، وبخاصة بين الجزائر وفرنسا، تتمثل أساسًا في المسألة الثقافية: كيف يمكن حل معضلة التفوق التقني الغربي على حالة التَّدَين المتخلف الذي يوجد عليه الشرق بوجه عام والجزائر بوجه خاص[17]. يشرح ماسينيون هذه الإشكالية على النحو التالي: «يزعم العقلانيون، وأنا لا أشاطرهم الرأي، وجود «صدام» ثقافات يقوم على مواجهة ثقافة تقنية حديثة لثقافة غير تقنية متخلفة لم تعد صالحة. فعند تعريف الصراع بين أوروبا والبلدان المستعمَرَة، التي لم تعد تقبل الاستعمار، يجب الكف عن القول إننا نحن فقط من يملك التقنية، بل الآخرون أيضًا لديهم تقنيات ليس بالضرورة ناجعة وإجرائية، لكنها قد تظهر قوتها في مجال هش مثل الميدان المادي»[18]. فالحل، عندَ مَنْ تبنَّى المقاربة الثقافية يَكْمُن في البحث عن التجاوز بمدلوله الإنساني، كما يلح على ذلك ماسينيون، أي تخطي الوضع الاستعماري البائس بالإصغاء إلى صوت الضمير والوحي الديني وتعاليم الأخلاق، كما يمكن تحقيق التجاوز بالمعنى السياسي عندما يعني تحقيق شرط المواطنة الذي يرَشّح صاحبه إلى التجاوب مع قوانين الدولة المدنية الحديثة ومؤسساتها الدستورية التي يجب أن يستفيد منها الجميع.

إن فكرة التجاوز (Transcendance)[19]، كما يطرحها ماسينيون ضمن إطار «البديلية»، تساعد على تصفية التخلف من وجدان الأهالي المسلمين في الجزائر، إذا تمثلنا قضاياهم وهمومهم، وبخاصة تراثهم الذي يعد ثروة نائمة، يحتاج العقل الغربي الحديث إلى إعادة اكتشافها ليس للأتْبَاع والمستضعفين فقط، بل للفاعلين في العصر الحديث ومخترعيه أيضًا. فتمثل الآخر المستضعف لا يعدّ ضربًا من الخيال الصرف، بل القدرة على استحضار ومعايشة وجدانية وعقلية لما ينطوي عليه الآخر وسَعْي جاد إلى تقاسم يومياته في العبادات والمعاملات. فمن جملة الأوضاع السيئة التي فرضها الاستعمار تعطيل إمكانية الأهالي في التعبير عن الذات، ومنها مطالبهم السياسية والاجتماعية، بما يحفظ كينونتهم ونظمهم المتوارثة عن عصور الحضارة الإسلامية.

خامسًا: ماسينيون وإشكالية الاستعمار

خاض ماسينيون محاولة تخطي الوضع الاستعماري مُحَمَّلًا ليس بالهَمّ السياسي فحسب، بل بالوعي التام أن بلده فرنسا دخل وضعًا إشكاليًا عندما أقدم على احتلال بلدان غير بلده وشعوب غير شعبه، ومن هنا المفارقة أو الوضع الإشكالي الذي رتب وضعًا عرّفه عالم الاجتماع الفرنسي جورج بالاندييه (George Balandier)، بالوضع الاستعماري (Situation Coloniale)[20]. فالحالة التي آلت إليها الجزائر تحت الاحتلال، حالة مفارقة لتاريخ الجزائر كما أنها مفارقة لتاريخ فرنسا أيضًا، وكل محاولة لتسوية الوضع يجب أن تُؤخذ المسألة برمتها في كل أبعادها وجوانبها، لدى الجزائريين المسلمين كما لدى الفرنسيين، وأن دور الكنيسة لا يخلو من واجب ومهمة، وبخاصة أن الملايين من المسلمين عرضة لغبن تاريخي فادح.

تمت الإشارة إلى أن مصطلح الانخراط في العمل السياسي عند ماسينيون ينطوي على مفهوم الالتزام بالمعنى السارتري[21]، الذي يشير إلى الدفاع عن قضايا المطحونين والمستضعفين على خلفية الوعي بالمعنى الإنساني للإنسان مهما كان هذا الإنسان وأنى كان، وبخاصة في مستعمرات ما وراء البحار، والدفاع عن المغلوبين متأتٍّ، كما ينطوي ذلك على مفهوم الالتزام، على أن درجة الوعي السياسي والنضج المدني والفكر العلمي الذي وصل إليه المثقف الغربي، يحتم عليه حماية التابعين والضعفاء ولو بتشكيل سلطة معارضة لسلطة الحكم، بل على المثقف، كما يرى ساتر، أن يقف على طرف مناقض تمامًا للسلطة، على فرض أنها قوة غاشمة تستأثر بالحكم والصلاحيات والامتيازات وهي تمارس مهامها، عن قصد أو من دونه.

لكن، ماسينيون لا يدفع في نشاطه الإصلاحي إلى الثورة والمعارضة، بقدر ما يستأنس بالذخيرة الروحية وسلّم القيم الأخلاقية التي يوفرها التراث الديني المسيحي والإسلامي، كأفضل رافد إلى معالجة قضايا العباد في شروطهم الإنسانية والمجتمعية وحتى الدولية. إن الحديث عن العدالة وممارستها يستدعي ليس السياسة فحسب، بل السياسة في مدلولها النبيل، فضلًا عن الثقافة العرفانية التي تتنزه عن الأغراض الضَّيقة وعن الأنانيات غير الإنسانية.

سادسًا: ماسينيون والجزائر

خاض لويس ماسينيون تجربة تحرير الجزائر من الأسر الاستعماري بكل ما يملك من ذرة إيمان بالحق والحقيقة. فقد سخّر وعيه ووجدانه وما وقر في قلبه من الصًّح والصواب، وكل ما يتوافر عليه عقله الباطني وفكره المأخوذ بقضايا العالم، وبخاصة منها العالم العربي والإسلامي. فقد ابتدر ماسينيون مشروعه لتحرير الجزائر وانعتاقها على خلفية رجل دين مسيحي لا يقتصر على ما يدور داخل الكنيسة فحسب، بل بما رحبت الأرض كلها بقضايا وهموم الناس، وبخاصة الوضع الاستعماري وما يمثله من خطر محدق، ليس بالشعوب المحتلة والمستضعفة فحسب، بل بالدول المستعمِرة كذلك، التي لا تلبث أن تلحقها لا محالة تداعيات ومضاعفات الاستغلال والاحتلال والاضطهاد. فالدين عند ماسينيون أوسع من شعار: لا خلاص خارج الكنيسة، على ما هو عليه المذهب الكاثوليكي، بل أوسع من ذلك، كما سبق أن عرفنا، فكل الأديان جديرة بتخليص المجتمعات من التخلف والرجعية وحالة التدهور التاريخي العام[22]. فالإسلام في الجزائر حالة دينية قابلة للنهضة في سياق حداثة غربية لا يجوز أن يحرم منها المسلمون في الجزائر.

الحقيقة مرهونة بِمَن يَعمل على إيجادها، وبمن يعرف كيف يلتقطها في خضم الحياة في تضاعيفها وتفاصيلها، أي أن يصل إليها عبر القدرة على ملازمة المهمة التي أَوْكل نفسه لها، على ما يقول ماسينيون نفسه في هذه الفقرة العظيمة الدلالة: «لقد قضيت نصف قرن من التفكير ومعاينة العلاقة المكثفة بين العالمين المسيحي والعربي المسلم، مستعينًا باللغتين الفرنسية والعربية من أجل فهم علاقة بلدِي بالبلدان الإسلامية، وبخاصة مسلمو الجزائر، الذين صاروا مواطنين مثلْنَا منذ عام 1947 [23]، وأن أخوض في ما يدخره لنا المستقبل من نزاعات وصراعات حول مسألة الاستقلال الوطني في سياق عالم آيل دائمًا إلى الاتحاد. كل ذلك يشغلني ويدعوني إلى البحث مع أصدقائي المثقفين عن مقاربة صحيحة للمشكلة الجزائرية»[24]. فالوقوف على الحقائق، كما يرى ماسينيون ليست بنت التأمل المجرد والتعامل مع قضايا الواقع كمباحث فلسفية، لا بل في معايشة الدنيا في تفاصيلها مع أهاليها مهما كانت درجة تقدمهم أو تخلّفهم عن المدنية المعاصرة. فأفضل المقاربات تلك التي تأخذ بمواطن الأشياء وبحالاتها المختلفة كعينات تفصح عن ما هو أوسع وعام، أي الفرد الذي يعبِّر عن صيغة الجمع. فقد كان هاجس ماسينيون هو الخروج إلى الميدان والذهاب إلى عين المكان والاتصال بالعباد على اختلاف أصولهم ولغاتهم ومكانتهم السياسية والاجتماعية والفكرية، والرحلات إلى الأماكن المقدسة والحج إليها للتعرف إليها ومعايشتها مع أهاليها. فأفضل التجارب هي تلك التي تأتي من خلال التَّوحد والتَّماهي مع مقدسات الآخرين.

بين فرنسا والإسلام في الجزائر قدر مشترك، ساهم الاستعمار بقدر كبير في تكثيفه وتمتينه، وأن هذا القدر يجب أن يفضي إلى حل المسألة الاستعمارية على الطرفين أيضًا، الجزائري والفرنسي، وأن بداية الحل كما ترى لوسيان بورتييه تتمثل بالاحترام، هذا المفهوم الأخلاقي العظيم الذي قلّما يحظى بالتقدير المطلوب في عالم السياسة: «ما يجب قوله في البداية هو الاحترام، هذا الإعجاب وتقدير الآخر دونما مَكْر أو نِفاق لشعب يتحلّى بحس الضيافة، تلك هي الحقيقة إذا ما أرادنا أن نفهم فكر ماسينيون حول الجزائر»[25]. فالجزائر موضوع لمشروع إمكان حل المعضلة الاستعمارية التي تورطت فيها فرنسا ويجب أن يؤدي ليس إلى تصحيح المسار الإنساني للثورة الفرنسية وفكرها التحرري العالمي، بل أيضًا إلى إعادة الاعتبار إلى الإسلام والمسلمين في الجزائر بوصف الإسلام دينًا توحيديًا إبراهيميًا ربانيًا يلتقي مع مسيانية السيد المسيح وأن اللغة العربية هي لغة الإسلام وبيانه[26].

اللغة العربية والدين الإسلامي متلازمان في تصوّر ماسينيون، عبّرا معًا عن حضارة شملت كل أجناس الأرض وأمصارها، وقد خلّفت تراثًا عظيمًا ساعد الحضارات والمدنيات الحديثة بالارتقاء إلى مستوى النهضة والإحياء والانبعاث الجديد، مثل النهضة الأوروبية الحديثة، وبخاصة في مظهرها الديني الذي يعرف بالإصلاح الكبير. فاللغة العربية وسيلة تواصل لا تزال راسخة في تفكير وتقاليد الشعوب المسلمة ومفكريها في البدو كما في الحضر، تنطوي على ما هو شعبي كما على ما هو عالمي (langue savante) وتحفل بكل الاعتبارات والإمكانات الثقافية التي تؤهلها إلى صَهْرها في بوتقة الحضارة الإنسانية الراهنة. فقد وقف ماسينيون على وضع الإسلام في الجزائر، كما يعيشه المسلمون، واستخلص من هذه التجربة الحقيقة التي طالما ألح وأصر على الوصول إليها، وهي كيف يمكن أن نواصل الحياة مع الدين في عصر العلم والتقنية، وتلافي تجربة الغرب المعادية للدين المسيحي؟ وعليه، فالدين الإسلامي كما يحياه المسلمون حالة من الكشف والاكتشاف لحقيقة التوحيد في زمن العلمانية.

ودائمًا في موضوع اللغة العربية يؤكد ماسينيون: «أن اللغة العربية هي أنقى وأصفى اللغات السامية، وتشكل إسهامًا أساسيًا، يجب أن لا يذوي، في الحضارة العالمية. لا بل على خلاف ذلك، يجب العمل، عبر التواصل مع العقل الفرنسي، على إعادة امتلاك العالم العربي لوعيه بوجهته الأولى، وإعطائه المعنى الرائع للكلمة التي جاءت في قول مالارميه: «المعنى الأكثر صفاءً لكلمة العشيرة»[27]. واضح من هذه الفقرة تنويه ماسينيون بالتراث الإسلامي والبُنَى الهيكلية التي تؤصل تركيبته الاجتماعية وما تنطوي عليه من معاني وقيم الخير والفضيلة وخصال المروءة والضيافة. فالعشيرة أو القبيلة لا ينظر إليها كبقايا عهد انقرض، بقدر ما تحتاج إلى إعادة إحيائها كحافز للتواصل مع الدين والأخلاق والقيم.

كانت المقاربة العيّانية، على ما ينصح ويسعى ماسينيون، بمثابة المُخْتَبر الذي توصّل إليه لدراسة علم الاجتماع الإسلامي، لاستجلاء حقائق الإسلام والمسلمين في التاريخ. يقول ماسينيون في هذا الصدد: «فقد كانت لي هذه التجارب والمهام مختبرًا للكرسي الجامعي الذي اشتغلت عليه «علم الاجتماع الإسلامي»، ساعدتني كثيرًا على الوعي بقيمة المذهب الذي أحرص عليه. وعرفت أن البحث عن الحقيقة بين مجتمعين، يجب أن ترسو على مفهومَي الملجأ والضيافة، الذي نحاول إدراجهما في القانون الدولي، من أجل تلطيف وتنقية العلاقات الاجتماعية»[28]. هناك عبارة مأثورة للمفكر الفرنسي العظيم باسكال: «إن الحقيقة لا تقف عند حدود البيرينيه». وهذا ما كان يؤمن به ماسينيون.

 

قد يهمكم أيضاً الذاتية والوعي الفلسفي بالوجود في نظرات ناصيف نصار

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #لوي_ماسينيون #لويس_ماسينيون #مقاومة_الاستعمار #المعرفة #الأديان #الثقافة_العرفانية #العرفانية