هل يُمكن أن نتخيّل استعمال نقيض الحريّة في سبيل تحقيقها؟ بعبارة أُخرى، هل يمكن التحرر بأساليب تتنافى مع الحريّة؛ أي، هل يُمكن إدراك الحريّة بالسلطويَة؟ أو التحرر في إطار نظام سلطوي يشكّل الطريق الوحيد نحو الحريّة المنشودة؟

تُعالج هذه الدراسة موضوعاً في غاية التعقيد؛ يتعلق أساساً بقضية التحرر بالسلطوية وليس التحرر منها. انطلاقاً من مثال واقعي، هو الحركة النسوية الجزائرية المُعاصرة، التي أضحت لا ترى سبيـلاً للحرية خارج رعاية النظام الحاكم الذي يوصف بأنه غير ديمقراطي. يُقدّم النظام السياسي الحالي، الذي تشكلت معالمه بعد الحرب الأهلية الجزائرية، التي تُحفظ في ذاكرة الوطنية تحت مسمّى العشرية السوداء، كونهُ نظاماً صديقاً للنساء. حيث إنّ رئيس الجمهورية عندما كان بصحة جيّدة لم يكن يفوّت فرصة حضور حفل اليوم العالمي للمرأة. وحتّى عند مرضه لا يفوّت فرصة مخاطبتهم عبر رسائل يتلوها عادة الوزراء. وقد عرفت فترة بوتفليقة بناء ترسانة قانونية ومؤسسيّة الهدف منها «حماية النساء» كأخذ رأي الزوجة الأولى عند رغبة الزوج في التعددّ، وإعطاء حقّ للمرأة في خلع زوجها، وكذا قانون التحرّش الذي أثار جدلاً واسعاً نهاية 2016. من ناحية السيّدات، ترى الحركة النسوية الجزائرية أن وجود هذا النظام، بغضّ النظر عن طابعه السلطوي، ضمانتها الوحيدة لإثبات نفسها في مجتمع ذكوري متديّن بطريقة تجعل أحكام الشريعة الإسلامية مختزلةً في جسد المرأة ولباسها وطول شعرها، وكذا في الطريقة التيّ يجب أن تتحدث بها مع الرجال.

تَنطلق هذه الدراسة من الاستشكال حول قضية الانخراطات السياسية للحركة النسوية الجزائرية المُعاصرة؛ والبحث في أسئلة مثل: لماذا تدعم الحركة النسوية الجزائرية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة؟ لماذا ترى أن السلطوية هي طريقهن الوحيد في التحرر؟ ما هي المنبهات التاريخية التي دفعت بهذا الشكل من العقد الاجتماعي بين النسوية والسلطة الحاكمة؟ ولماذا تخاف السيدات من المجتمع والإسلاميين أكثر ممّا تخاف من أجهزة الدولة الأمنية وبيروقراطيتها؟

هذا الكمّ الهائل من الأسئلة يدفعنا نحو بناء افتراضات عديدة؛ أهمها العلاقة بين العشرية السوداء وتبلور موقف المرأة من النظام السيّاسي الحاكم باعتباره أرحم من الإسلاميين من جهة، وباقي شرائح المجتمع من جهة أخرى. أصبحت الحركات النسوية مقتنعة بأنّ السلطة هي الوحيدة القادرة على حماية المرأة من رجل مزواج يلقي بها إلى الشارع بمجرّد كبرها في السن. وكذا من إسلاميّ يفرض عليها ارتداء النقاب، ومن متحرش يرى في العاملات والطالبات وكذا «المتبرجات» كائنات مستباحة يسمح لهُ تفوقهُ الإيماني والذكوري بأن يضيِّق عليهن بدعوى عدم التزامهنّ بالضوابط الإسلامية أو بسبب عملهن على إثارة غرائزه فيجعل أفعالهُ مبررة وجائرة.

لا تقدّم هذه الدراسة أرضية تبريرية للسلطوية، ولا لتعاقد النسوية معها، بل تسعى إلى تفكيك ظاهرة اجتماعية وسياسيَة آخذة في التطور في المجتمع الجزائري، إلى درجة أصبح من الغريب رؤية نسويَة مُعارضة، إذْ أضحت النسوية الجزائرية شريكاً في السلطويَة بدافع خوفهنّ من الآخر الذكر. وحتّى من تحاول معارضة النظام بطريقة أو بأخرى فإنّه لا سبيل لذلك دون مغازلة الرجال وتذكيرهنّ بحقهن في تعداد الزوجات، وتذكير مثيلاتهن بضرورة طاعة الزوج، واللباس المحتشم احتراماً لغرائز الرجل. وكذا استحضار نصوص دينية وسرديات تاريخية تضع المرأة الجزائرية في مرتبة ثانية بعد الرجل. لقد رسمت الحالة الجزائرية أمام النساء طريقين ثالثهما ترك الجزائر والسفر إلى أوروبا؛ الأوّل مساندة النظام ودعمه خوفاً من المجتمع والإسلاميين، والثاني مُعارضة النظام والاستسلام للنظرة الجندرية السائدة التي تعتبر المرأة إنساناً من الدرجة الثانيَة.

تُحاول هذه الدراسة مناقشة مسألة التحرر بالسلطوية عبر استخدام التاريخ؛ بدءاً من الفترة الاستعمارية وصولاً إلى المرحلة الراهنَة. كما ستنزع إلى تفكيك الرؤية الجندرية التي يرى المُجتمع عبرها المرأة والدور الذي يسمح الرجّل به لها؛ عبر أربعة محاور رئيسية هي: أولاً، من التحرر من الاستعمار إلى التحرر من الأحادية الحزبية. ثانياً، «الاستعمار الجديد» منعطف الإسلاميين. ثالثاً صعود النظام الصديق للنساء وتنامي الذكورية كبديل للتطرّف. وأخيراً، النساء المسكوت عنهنّ: ضحايا بيروقراطية الدولة.

أولاً: من التحرر من الاستعمار إلى التحرر من الأحادية الحزبيَة

لا يُمكن الحديث عن استقلال الجزائر من دون الحديث عن المرأة الجزائرية‏[1]، التي وقفت حسب السردية التأسيسية جنباً إلى جنب مع الرجل في معركة الخلاص من المحتل الغريب. كعادة المجتمعات عموماً والعربية على وجه الخصوص، لا يتم تصوير العدوّ باعتباره مغتصباً للأرض فقط، وإنما للنساء كذلك‏[2]. لذا يذهب الرجال إلى المعارك لهدفين رئيسين: الأوّل، استعادة الأرض؛ والثاني، حفظ العرض ممثـلاً بالمرأة. من هنا، تبدو المرأة وكأنّها تُحاول أن تتحرر من نظرة الرجل باعتبارها منبعاً للفضيحة إذا ما تم اغتصابها، وهذا يدفعها إلى حمل السلاح وإثبات أنّها قادرة على حماية نفسها وشرف عائلتها.

وكعادة المجتمعات الشرقية، يعرّف المجتمع الجزائري شرف الرجل بأحادية؛ فإذا ارتكب الرجل خطيئة يُلام هُو، وحتّى وإن تم سحب اللوم على عائلته فإنّ الأمر لن يكون بحديّة. في الوقت الذي يعرَّف شرف المرأة بصفة تعددية، فشرف المرأة من هذا المنظور هو شرف والدها، وأخوتها، وأعمامها، وأخوالها، وأجدادها، وقبيلتها وعشيرتها وربّما كلّ المنطقة. لذا تبدو المرأة أكثر حرصاً على نفسها من حرص الرجل على نفسه، فهو لن يخسر الكثير إذا تمرّد في الوقت الذي تخسر هي كلّ شيء حتّى ولو كانت ضحية. لا يَخرجُ تفسير مساهمة المرأة في تحرير الجزائر عن هذا المنطق، إذْ إنّها بتحرير نفسها وحملها للسلاح فهي تُبعد شبح تلويث الشرف عن عائلتها، حتّى ولو كانت ضحية رغبة حيوانية لجندي فرنسي أتى للبحث عن أخيها أو والدها.

كحالة كلّ الحروب، تعيش النساء هاجس الاغتصاب، وتلطيخ سمعة العائلة، لذا فإنّها تسعى جاهدة للحؤول دون ذلك، بدرجات هستيرية في كثير من الحالات. يجعلها هذا الهاجس تتوقف عن عيش أنوثتها، أو حتّى التعبير عنها سواء عبر جمالها أو حتّى طريقتها في المشي؛ إذْ تنزع إلى الحديث بخشونة، وتحمل السلاح، وتتحدى قسوة الطبيعة في سبيل إيصال الغذاء والسلاح واللباس لزوجها أو أخيها المُرابط في الجبل. وفي كثير من الأحيان تفعل هذا سيّدات في مقتبل العُمر لتوصل رسالة مفادها أنّها لم تُغتصب وليس هُناك أثر للحمل على بطنها. الواقع أنّ المرأة الجزائرية في الحرب التحريرية هدفت إلى التحرر من استعمار أجنبي في إطار صلبٍ من الأبوية والذكورية المحليّة؛ أي التحرر من الرجل الأبيض المستعمِر ضمن قواعد يرسمها الرجل الجزائري المستعمَر؛ إذاً، لم ترسم المرأة الجزائرية قاعدة حريّتها بنفسها كما لم ترسم حدودها ولا أفقها، إذْ بقيت تُراوح بين سخطها على الفرنسي وخضوعها لمنطق الجزائري.

ترسم السردية التاريخية الجزائرية الرسمية صورة بُطولية مُنصفة إلى حدّ بعيد في حق السيّدات الجزائريات اللائي شاركن في تحرير الجزائر من الاستعمار. وقد تمّ تخليد ذكراهنّ تماماً كما تخليد ذكرى المجاهدين والشهداء من الجنس الآخر؛ إذْ اُطلقت تسميات شوارع ومدارس باسم شهيدات، وكثيراً ما يتم الاحتفاء بالأحياء من المجاهدات وتكريمهنّ. لكنّ المشكلة الرئيسية في الروايَة الرسمية عن المرأة إبّان الاستعمار ومسارات التحرّر منه تفترض ضمنياً بطريقة أو بأخرى خروج المرأة من الفضاء العام تاركةً المجال للرجال الذين انفردوا بالحكم بعد ذلك. وقد تمّ تطوير شعارات ما بعد استعمارية ذات نزعة إقصائية في حقّ السيدات؛ كتلك التسمية الفخرية التي تُطلق على الجزائر باعتبارها بلد المليون ونصف المليون شهيد. هذا النوع من الشعارات الذي يبني عند تكريره وترسيخه تاريخياً صورة اجتماعية تحيّد المرأة من الروايات البطولية المُؤسسّة للجمهورية الجزائرية المُعاصرَة.

بعد استقلال الجزائر في أوائل ستينيات القرن الماضي؛ رسم التاريخ سياقات جديدة وجدت فيها المرأة الجزائرية نفسها. سُلطوية أبوية لا تعترف بالتعددية، لا تختلف كثيراً عن السياق السابق إلا بتراجع الخوف الهستيري من اغتصاب جندي فرنسي من شأنه تلطيخ شرف عائلي يُعيد إنتاج نفسه في الذاكرة الجماعية لأهل الضحية. لقد كان المشهد العام لوضع الجزائر المستقلّة هو سُلطة تُشبه بنية السلطة الاستعمارية من حيث الشكل، وفي بعض الأحيان الممارسة الإقصائية، لكنّها تختلف في السرديات والشعارات المستعملة المستقاة من السياق التاريخي العروبي والاشتراكي السائد آنذاك. كانت الجزائر المُستقلّة ثورية في كلّ شيء إلا في رؤيتها الجندرية للمرأة‏[3] باعتبارها وسيلة تحرر دون أن يكون هذا الهدف جزءاً أصيـلاً منها. فرمز الحريّة في الجزائر هو رجل موجود في الجبال. ولكنّ وسائلها عديدة من ضمنها سيّدة تستغلّ جمالها بهدف عبور حاجز؛ أو تُخاطر بحياتها من أجل إعالة المُرابطين في الميدان وتقدم أعمالاً طبيّة لهم‏[4].

تفطّنت النساء الجزائريات، تماماً كما فعل الرجال، إلى أنّهن لم يتحررن من استعمار للسقوط في نسخة معدّلة عنه لكنّها تتطابق معه؛ وقد عملن في إطار المسموح لهنّ للدفع بتعددية سياسية من شأنها المساهمة في تعميق الحريات الشخصية والسيّاسية في الجزائر المستقلّة، إذْ إنّه وبعد أكثر من ربع قرن من استقلال الجزائر خرجت النساء إلى جانب الرجال، في صورة تمّ معها إعادة إنتاج اللحظة التاريخية الاستعمارية، غير أنّ الخصم هذه المرّة ليس غريباً مغتصباً، وإنّما هو محليّ استفرد بالسلطة وضخّم من محاكاته للإدارة الاستعمارية السابقة‏[5]. لقد خرج الجزائريون رجالاً ونساءً في ما يُعرف تاريخياً بأحداث أكتوبر 1988 رافعين شعاراً مفاده النظام القاتل، وقد جوبهت هذه الانتفاضة الجريئة والسبّاقة في تاريخ المنطقة برصاص حيّ تم تبريره بأن المؤسسة الأمنية لم تكن تملك طلقات مطاطيّة، وبرواية رسمية مفادها أنّ الأمر مجرّد «صراخ أطفال»‏[6].

دفعت هذه الهبّة التحررية الجديدة المؤسسة السياسية في الجزائر المستقلّة إلى صياغة أول دستور تعددي في تاريخ الجزائر المستقلّة، يتيح مجالاً لإقامة أحزاب سياسية، ويرسم هامشاً أوسع لمنظمّات المجتمع المدني، والحركة الجمعوية وغيرها. لقد شكلّت هذه الحركية الاجتماعية ثورة على فلسفة الدولّة الأبوية وكذا على بيروقراطيتها التي تُعيد إنتاج المُستعمر في ثوب استقلالي. والملاحظ أنّ سيدات عدّة برزن في هذا الحراك دعمن الرئيس الحالي وأصبح بعضهن وزيرات في حكوماته، كالأمينة العامّة لحزب العمال لويزة حنون التي دعمت عبد العزيز بوتفليقة والناشطة خليدة تومي التي شغلت منصب وزيرة الثقافة.

يقول عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو إنّه لا نجاح لثورة ما لم تعرف طبيعة الدولَة جيّداً. هذا ما حدث فعـلاً، فالحراك الاحتجاجي الذي طبع الثمانينيات لم يكن يُتقن مهارة قراءة المجتمع والسلطة جيّداً، وفهم ما ستفرزه هذه الحركيَة المجتمعية، التي أنتجت وصول الإسلاميين إلى الحُكم، وانقلاب العسكر عليهم. هذه الظروف تشكّل عامـلاً حاسماً في توجهّات الحركة النسويَة الجزائرية في تسعينيات القرن العشرين. هذا ما سيتّم تحليله في المبحث الثاني.

ثانياً: «الاستعمار الجديد» منعطف الإسلاميين

تُسمّي الباحثة مغنيَة الأزرق مرحلة الإسلاميين بالاستعمار الجديد‏[7]، كونهم قاموا باحتلال الفضاء العام، وكذا مُحاولتهم إعادة تشكيل التديُّن الشعبي في الجزائر. قد أختلف مع الأزرق في جعلها الإسلاميين المنتخبين ديمقراطياً كمستعمر جديدٍ، لكننّي في نفس الوقت أتفق مع ادعائها أنّ الإسلاميين عملوا على إحداث قطيعة مع التديُّن الجزائري القديم، والدفع بمشروع شمولي يبدو وكأنّه يُعيد فتح الجزائر و«تعميد» الجزائريين من جديد، ليس من مُنطلقٍ ديني بقدر ما يبدو المنطلق سياسياً.

في الجزائر، كان الخطاب الإسلامي وممارسة الإسلاميين السياسية تظهر جليّاً في الموقف من النظام الحاكم، وكذا الموقف من المرأة، وبخاصّة في ما يتعلّق بحضورها في الفضاء العام، ومسألة الحجاب واللباس الإسلامي وغيرها. وقد فهمت السيّدات العلمانيات اللاتي شاركن في حراك تشرين الأول/أكتوبر 1988 أنهنّ سيقصون من جزائر الجبهة الإسلامية، وأنّ آلة الديمقراطية التي أرادوها ستُحطم بمجرّد أنّ تُوصل الإسلاميين إلى الحُكم. كانت هذه الريبة مشتركةً بين كثير من الأطراف السياسية في الجزائر بمن فيهم الإسلاميون الآخرون.

من البديهي التساؤل ما إن كان العداء للإسلاميين مبنياً على دلائل وقرائن واقعية أم هو مجرّد تنافس سياسي كونهم سيطروا على المجالس البلدية (المحلية) والولائية (المحافظات) في مطلع التسعينيات. وكانوا على بعد خطوات من السيطرة على البرلمان الجزائري. كجواب عن هذا السؤال يُمكن القول إنّ مشكلة الإسلاميين كانت خطابهم. هذا الأخير الذي بُني على اعتبار أنفسهم بديـلاً مقدّساً من الآخرين، مدفوعين بحماسة كونهم متدّينين وأنّ المجتمع كان يدعمهم بدليل أنّه صوّت لهم. في ما يخصّ الدعامة الأولى لخطابهم السياسي، رأى الإسلاميون في أنفسهم مصلحين دينيين، جاءوا ليطبقوا شرع الله، وتدمير ما يُمكن أن يسمّى شذوذاً عن الدين الإسلامي من فنّ ودور سينما وحانات وغيرها، علماً أنّ العاصمة الجزائر كانت تقترب في شكلها من العواصم السياحية في أوروبا، بالرغم من كون الجزائريين متديّنين ومحافظين على طابعهم المُحافظ.

أمّا الدعامة الثانية المتعلّقة بالدعم المجتمعي للجبهة الإسلامية للإنقاذ، فقد حصل كونهم جاءوا من خلفيات شعبية من جهة، وأنّهم صادروا سُخط الجزائريين على النظام القديم، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ احتجاجات 1988 كانت نتيجة لانهيار أسعار البترول والأزمة الاقتصادية الخانقة التي عرفتها الجزائر أواسط الثمانينيات؛ هذا ما دفع الإسلاميين إلى التركيز على العمل الخيري كجزء من استراتيجية سياسية متكاملة. لكن، هل انتخب الجزائريون الإسلاميين لأنهم بديلٌ ناجع للنظام القديم أم لكونهم متديّنين، وأنّ الشخص المتديّن قادر على ردع غرائزه، الأمر الذي يجعله غير ظالم للآخرين. شخصياً، أميل إلى مقاربة ثالثة تتعلق بكون الانتخابات التي تلي أيّ حراك مجتمعي ضخم عادة ما تكون انتقاماً من النظام القديم، أكثر من كونها خياراً عقلانياً مؤسساً على قراءة متأنية للبرنامج السياسي والرؤية السياسية للمتنافسين. لقد انتقم المجتمع السياسي عبر تصويته للجبهة الإسلامية من نظام الحزب الواحد المتمثل بابتلاع جبهة التحرير الوطني ومعها النخبة العسكرية لمؤسسات الدولة واحتكارهم تعريف السيادة، وتوزيع الثروة وغير ذلك.

بعد أول انتخابات تشريعية في الجزائر التعددية، التي تفوقت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ على منافسيها، أوقفت المؤسسة العسكرية في مطلع سنة 1992 المسار الانتخابي وألغت نتائج الانتخابات، لتتلو ذلك أحداث على شاكلة تعيين رئيس للبلاد، وإعلان حالة الطوارئ؛ الوضع الذي جعل الإسلاميين الذين وصلوا بطريقة ديمقراطية يجدون أنفسهم أمام انقلاب استُغلت فيه بيروقراطية الدولة لاجتثاثهم في إطار سلوك بلغ حدّ التنكيل بهم، وكأنّ الدولة العميقة انتقمت لنفسها من منافس كان على وشك الإمساك بزمام السلطة من جديد، من منطلق أنّ عصب العملية الديمقراطية هو البرلمان، الذي يشرّع قوانين البلاد، ويرسم توجهات الدولة داخلياً وخارجياً.

دخلت الجمهورية الجزائرية نفقاً مُظلماً من الصراع السياسي، طرفاه الواضحان بيروقراطية الدولة المسلّحة متمثلة بالجيش والشرطة والاستخبارات من جهة، وجماعات إسلامية مسلّحة أهمها الجماعة الإسلامية المسلحة والجيش الإسلامي للإنقاذ، من جهة أخرى. تأسست الأولى في 1992، بينما تأسس الثاني في 1993 والذي عبّر عن كونه امتداداً عسكرياً للجبهة مهمتّه استعادة حقّها المسلوب بعد أن انتخبت ديمقراطياً.

بغضّ النظر عن هوية الفاعل (الجماعة الإسلامية المسلحة، أو الجيش الإسلامي للإنقاذ)، يتذكّر الجزائريون والجزائريات العنف الذي أنتجته هذه الحرب المحفوظة في الذاكرة الوطنية تحت اسم العشرية السوداء، فقد كانت عمليات القتل تتّم في كثير من الأحيان عبر ذبح الضحية دون تمييز لصالح النساء والأطفال. وقد دفعت وحشية آلة القتل الكثير للتشكيك في كون هذه الجماعات اختُرقت من طرف الاستخبارات الجزائرية‏[8] بهدف تشوية صورة الإسلاميين داخلياً وخارجياً ودفعهم لعدم التفكير مجددّاً في تحدّي الدولة الجزائرية ممثلّة آنذاك بقيادات الجيش النافذة. في جوّ مرعبٍ كهذا تشكّل الوعي النسوي الجزائري الذي بنى هويتّه بموقف سلبي من الإسلاميين الذي اتهموا بخطف الفتيات من المدارس والجامعات، وبجرائم الاغتصاب‏[9]، وبإرغام السيدات على الصعود للجبل بهدف خدمة «المجاهدين» جنسياً بالرغم من كونهنّ متزوّجات وأمهّات لأطفال.

لقد تكوّن وعي نسوي جزائري مفاده أنّ دعم النظام القديم أهون من دعم الإسلاميين المسلحين. فالطرف الأوّل قد يُصادر خيار الشعوب، بينما يُصادر الثاني روحها. للإشارة فإن المجتمع الجزائري لم يكن يستعمل كلمة «القتل» بقدر ما كان يستعمل كلمة «الذبح»، فيقال مثلاً فلان «ذبحوه الإرهاب» كتعبير عن استعمال آلة حادة في القتل قد تكون سيفاً أو خنجراً أو غير ذلك. والتفسير الموضوعي لهذا قد يكون عدم قدرة الإسلاميين المسلحين على الحصول على أسلحة بسبب سطوة الجيش وسيطرته على الحدود فيمتنع تسليحهم من الخارج، وهذا ما يجعل مصدر حصولهم على أسلحة نارية هو قتل أفراد الأمن والجيش ومن ثمّ مصادرة أسلحتهم.

لقد لبست الجزائر ثوب حرب طاحنة خسر فيها الجميع، وبخاصّة النساء، الذين فقدوا عائلاتهم، وأهينوا في شرفهم من الناحيتين؛ الدولة والمسلحين. لكنهنّ اخترن الدولة في مقابل معارضيها، خوفاً من تحوّل الجزائر إلى دولة إسلامية من جهة، وخوفاً على حياتهنّ من جهة أخرى، ولعلّ العامل الثاني أكثر إلحاحاً من الأوّل.

ثالثاً: صعود النظام الصديق للنساء وتنامي الذكورية كبديل للتطرّف

طوت الجزائر حرباً دامت ما يقارب العشرية، وسنّت اللازم من القوانين لتشريع النسيان كقانون الوئام المدني والمصالحة الوطنية. ومن ضمن الرمزيات التي بناها النظام لنفسه هو اعتبار نفسه كصديقٍ للنساء ومحاولته الدائمة لإثبات موقفه الإيجابي منهنّ. وقد كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لا يفوّت حضور مناسبة عيد المرأة، وحتى بعد مرضه يُداوم على مُخاطبتهنّ عبر رسائل مكتوبة.

نجح النظام الجديد في كسب الحركة النسويَة لأسباب عديدة؛ كونه بديـلاً من الإسلاميين المتطرفين، وقادراً على بت قضايا على شاكلة ضحايا الإرهاب، وأهم من ذلك قضية المفقودين التي قلّما يتم تناولها، والمتعلقة باختفاء جزائريين وجزائريات خلال العشرية السوداء دون علم أهاليهم إذا أحياءً أم أمواتاً. كثير منهّن معلّمات وطالبات جامعيات وموّظفات، أو حتّى نساء عاديات. وعلى الرغم من عدم قدرة النظام على حلّ مسألة المفقودين، إلّا أنّه ما زال شريك النساء ومدعوماً من الحركة النسوية في جزائر ما بعد المأساة الوطنية.

يتصفّ النظام الجزائري الحالي بطبيعته الكوربوراتية، أي بيده التي تمتد إلى مناحي الحياة الاجتماعية كافة. فهو الذي يُعطي الاعتماد للجمعيات النسويَة، وهو الذي يدعمها، والعكس صحيح. وهذا يجعل ولاء هذه التشكيلات المدنيَة لرئيس الجمهورية، ويضمن استمرار دعم الحراك النسوي لبرنامجه وبقائه في الحُكم. والمقابل هنا هو دعم نشاطهنّ من جهة، وكذا تقويتهنّ في مقابل مجتمع ذكوري يرى علاقة الرجال بالنساء علاقة صفرية، أي أنّ نجاح أحدهما يعني إلغاء الآخر.

لقد مثّلت الطبيعة الذكورية للمجتمع الجزائري بعد المأساة، نفس الدور الذي أداه الإسلاميون خلالها، إذ يظهر عداء مجتمعي تجاه النساء الجزائريات اللائي يدخلن الفضاء العام، ويظهرن في وسائل الإعلام وكذا وسائل التواصل الاجتماعي، وفي كثير من الأحيان يتّم وصفهن بالعاهرات عبر استرجاع السرديات الدينية المتعلقّة بشكلهن، وكذا أطروحاتهم الرافضة لتعدد الزوجات ومساواة المرأة بالرجل وغير ذلك من القضايا الحقوقية التي تطرحها النساء الجزائريات. والواضح أنّ النساء الداعمات للرئيس يأخذن نصيباً أكبر من الشتم والتشكيك في شرفهن ودينهن.

وقد كان للإعلام الخاص في الجزائر دور سلبي في التسويق للمرأة الجزائرية، والمثير للاهتمام هو أنّ القنوات الخاصّة المعروفة بخطّها التحريري الموالي للنظام تبدو أكثر قسوة على النساء. على سبيل المثال تناولت قناة النهار قضية البنات اللائي يسكنّ الإقامات الجامعية قادمات من مناطق خارج الجامعة، ليستغلّن غياب رقابة الأهل في الخروج ليـلاً للسهر والشرب وغير ذلك. استجابت ذكورية المجتمع الجزائري بوصف الطالبات بالعاهرات، وبأنهنّ يفقدن عذريتهنّ بمجرّد انتقالهنّ للعيش والدراسة في العاصمة.

وعند كلّ منبه مجتمعي تصرّ الحركة النسوية الجزائرية أكثر على دعم النظام الحاكم الموصوف سلطوياً لتظهر بعدها إحدى الناشطات التي تُنادي بوضع تمثال لرئيس البلاد عبد العزيز بوتفليقة وقائد الجيش القايد صالح. قد يبدو الأمر مجرّد تملقٍ سياسيّ وإثبات ولاء للنظام الحاكم، لكن يُمكن القول إنّ هذا الطلب يَختصر رؤية الحركة للنظام الحاكم. فالجيش حمى النساء وما زال يحميهنّ من التطرّف الإسلامي بينما يحميهنّ الرئيس من ذكورية مجتمعية قاسية ترى المرأة كنسخة عن الطالبات الجامعيات كما صورتهّن قناة النهار.

يستفيد النظام الحاكم من صراع النسوية مع المجتمع الجزائري، بل ويستثمر فيه، وذلك لاستمرار دعم الحركة النسوية له، وبخاصّة أنّ أعضاء هذه الجمعيات يسوقن في الخارج لجدّية النظام الحالي في تمكين المرأة وإعطائها حقوقها كاملةً ولا سيَّما في ما يخصّ حقها في تقلّد المناصب، وتجنيس أولادها، وكذا الحقّ في خلع زوجها، والاستفادة من مساعدات الدولة في حالة طلاقها عبر صندوق المطلّقات. يُضاف إلى ذلك حمايتها من التحرّش عبر قانون يجرّم هذا الفعل ويعاقب عليه. من هذا المنطلق لا تعدّ الحركة النسوية إلّا زبوناً عند النظام وخادماً له‏[10]، في مقابل حماية متخيّلة من مجتمعٍ تتزايد فيه مشاعر الذكوريَة والعداء للنساء.

من البديهي أن النقد حول تنامي المشاعر الذكورية في المجتمع الجزائري قد يتعلق بالأسئلة التالية: هل أصبح الشعب الجزائري ذكورياً أبوياً فجأةً؟ ألم يكن ذكورياً من قبل؟ ولماذا التركيز على هذه اللحظة التاريخية بالضبط لوصفه كذلك؟

كردّ على هذا النقد لا بدّ من الانتباه إلى خطاب النظام القائم تجاه النساء. فبتصويره لنفسه كصديق مُدافع عن حقوق المرأة، والتركيز على ذلك في كلّ مناسبة، حتّى بأساليب تحمل معها إهانة خطابيَة للرجال، تكوّن تفسير شعبي للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، ولا سيَّما البطالة، بحظوة النساء لدى النظام القائم. وكونهنّ الوحيدات القادرات على إيجاد وظائف بينما يفشل الرجال في ذلك. إنّ الممارسة الخطابية الرسمية المتميّزة بالشعبوية غير البريئة لصالح النساء أنتجت في حصيلتها توتراً دائماً يجعل علاقة المرأة بالرجّل في المجتمع صفرية، بحيث إذا ما نجح أحد فشل الآخر.

رابعاً: النساء المسكوت عنهنّ: ضحايا بيروقراطية الدولة

ذكرت أعلاه سببين دفعاً بالحركة النسوية الجزائرية للتعاقد مع النظام الحاكم ودعم استمرار طبيعته السلطوية، هما الماضي المتمثّل بالعشرية السوداء والحاضر المتمثّل بتزايد المشاعر الذكورية تجاه المرأة. وإلى جانب كون النسوية تُنتقد في كونها نسوية مُحافظة تدعم النظام الحاكم علناً، فهي تُنتقد كذلك في كونها انتقائية وإقصائية في تعريفها للمرأة، وتحوّلها إلى نادٍ مُغلق يسوّق لنمط معيّن من السيّدات.

لقد نشأت الحركة النسوية الجزائرية في المدن الجزائرية الكبرى‏[11] (خصوصاً الجزائر ووهران)، وبقيت حبيسة المدينة، لتحصر نفسها في إطار مغلق يجعل من السيدة الجزائرية تلك المتعلّمة التي تسكن حيّاً راقياً وتتحدث الفرنسية على اللهجة الباريسية. وتُبدي تحفظّات عن نفوذ الدّين في السياسة، بعبارة أخرى السيّدات العلمانيات‏[12] من ساكنات المدينة. وقد كان هذا على حساب ساكنات الريف من جهة، وعلى حساب النساء اللائي تعرضن لعنف بيروقراطية الدولة أثناء المأساة الوطنية، أي أنّ تعريف الضحية وحيّز المظلومية تمّ تضييقه بطريقة يتم معها إقصاء أرامل وبنات الإسلاميين المتورطين في أعمال ضدّ الدولة. هذه الفئة تعدّ من الفئات المسكوت عنها من النساء، حيث إنّ الدفاع عن حقوق النساء يتخّذ منحى يقصيهن ويجعلهن في نفس مستوى أزواجهن وأبنائهن الإسلاميين الذين حملوا السلاح، لتكون النسوية الجزائرية بذلك أنانية في دعمها للسلطوية وأنانية كذلك في انتقاء نوع معيّن من النساء ليتّم الدفاع عنه.

حاولت الباحثة شريفة بواتة في دراسة قصيرة لها استحضار النسوية الإسلامية في الحالة الجزائرية، التي بدأت في النشاط عقب إجازة التعددية أواخر الثمانينيات‏[13] كمقابل للنسوية العلمانية التقليدية. لكنّها لم تتطرق إلى فئة النساء اللائي كنّ ضحايا لبيروقراطية الدولة الأمنية، وعانين تماماً كما عانى الإسلاميون من الرجال في المعتقلات والتعذيب وغير ذلك من ممارسات العنف. يكشف لنا هذا الإقصاء في حقّ ضحايا الدولة فرضيةً ونمطاً تفسيرياً مفاده أنّ الإسلاميين هم دائماً مصدر العنف وأنّ الجزائر كانت مقسّمة بين قوة خير متمثلة بالدولة وقوّة ظلام متمثلة بالمتطرفين الحاملين للسلاح. وحتّى مغنية الأزرق تحدّثت في دراستها المذكورة سابقاً‏[14] عن السيّدات اللائي كنّ يُختطفن من طرف الإسلاميين بهدف زواج المتعة حسب تعبيرها، ولم تتعرض لأولئك اللواتي كنّ ضحايا الأجهزة الأمنية، سواء كوسيلة ضغط على أقاربهن من الإسلاميين، أو تحت ذريعة إيواء الجماعات الإرهابية.

خاتمة

بينت من خلال هذه الدراسة أنّ الحركة النسوية الجزائرية المُعاصرة هي نسوية داعمة للسلطوية، وتدخل في علاقة تعاقدية مع النظام الحاكم يسندها وتسنده. وقد قمت باستعمال التاريخ لتبيان تشكلّ وعي هذه الحركة لذاتها وكذا المخاطر التي تحيط بها.

إنّ هوية الحركة النسوية الجزائرية بُنيت على هاجس الخوف من الإسلاميين، من منطلق أنّ التيار العلماني كان مسيطراً عليها، مع وجود نموذج نادرٍ للنسوية الإسلامية. فقد تخوّفت من تحوّل الجزائر إلى إيران ثانيَة، كما تخوفت من الجرائم الدموية التي كانت تُنسب إلى الإسلاميين على الرغم من وجود بعض الروايات التيّ تشكك في أنّهم من فعلوا ذلك، وتُدافع عن فكرة أنّهم اختُرقوا من طرف مؤسسات الدولة الأمنية. وبعد مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عقب المأساة الوطنيَة، وقفت الحركة النسوية إلى جانب النظام الجديد ودعمته من منطلق أنّه القادر على معالجة قضايا الحرب الأهلية المتمثلة أساساً بضحايا الإرهاب، وكذا ملف المفقودين الذي يعدّ من أكثر الملفات حرجاً وتعتيماً في الجزائر المُعاصرة.

إضافة إلى ما سبق، لقد بيّنّا أن السلطوية في الجزائر تستغلّ الحركة النسوية سياسياً، وتستثمر في صراعها الدائم مع الذكورية والأبوية التي يتميّز بها المجتمع الجزائري. كما سلطت الضوء على فكرة أنّ الخطاب السياسي الشعبوي المعبّر عن صداقة النظام الحاكم للنساء، والذي يتجاوز أحياناً في حقّ الرجل، أنتج نقيضه حين امتزج مع واقع اقتصادي صعب، ما جعل العقل الذكوري يفسّر قضايا كالبطالة مثلاً بحظوة النساء لدى النظام، وهو ما يجعل النساء حسبه أكثر حظّاً في الحصول على العمل.

كما حاولت نقد التوجه النسوي الذي يُنمّط شكل المرأة الجزائرية، ويرسم صورة غير بريئة عن هويّة الضحية باعتبارها تلك التي تعرضّت للعنف الصادر عن الإسلاميين المتطرفين، وهذا يجعل الدولة خارج دائرة المساءلة والنقد.

 

قد يهمكم أيضاً  التعددية الحزبية في الجزائر: المسار والمخرجات

اقرؤوا أيضاً ترقية التمثيل السياسي للمرأة في الدول المغاربية: دراسة مقارنة بين الجزائر وتونس والمغرب

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #النسوية #الحركة_النسوية_الجزائرية #الجندر #الجزائر #السلطوية #التحرر #التحرر_بالسلطوية #المرأة #حقوق #حقوق_المرأة #المجتمع_الجزائري