حين نتكلم على الإمبريالية فنحن نتكلم على علاقة اجتماعية، وبالتالي هي عملية تاريخية سياسية، كما هي علاقة قوى (Power Relations) في آن معاً. والإمبريالية هي تكثيف لرأس المال في وجهه الوحشي؛ إنها أبشع أنواع رأس المال الذي يتسم بالقباحة أساساً.

الإمبريالية ليست ظاهرة حديثة، إذ دائماً ما وُجِدت عبر الزمن؛ فكل الإمبراطوريات عبر التاريخ مارست الإمبريالية. لكن علم الاجتماع هو علم تاريخي، فيأخذ في تاريخية الظاهرة ويبحث في دلالاتها ومحدداتها وفق المرحلة التاريخية التي تمر بها. والتمرحل التاريخي يحدِّد ويجدد الفئة النظرية التي يُميز غرض البحث، وهو ضرورة للدراسة التاريخية، التي تعني أن هناك بعض المكونات والأسباب التي تجعل مرحلة تاريخية معيّنة تُستساغ كأنها حالة مميزة عما مضى. مثـلاً، تعدّ مرحلة القرن العشرين مرحلة فاصلة؛ فالإمبراطوريات ما قبل رأسمالية، حيث كانت التقنية ثابتة المردود، دائماً ما كانت تسعى لأن تبقي على حياة الإنسان والبيئة وأن تستثمر في الزراعة والري من أجل زيادة المردود، هذا يعني أن المردود كان بطبيعة الحال ثابتاً أو قليـلاً، فكانت الأزمات أزمات نقص في الاستهلاك والإنتاج، لأن التقانة آنذاك كانت محدودة، لذا كانوا بحاجة إلى الحفاظ على حياة الإنسان والبيئة، من أجل الخراج، إلا في الحالات التي كانت البداوة فيها تسيطر على بعض المدن وتدمرها كلياً، ولكنها في ما بعد كانت تعيد إنتاج ما دمرته وتعيد إنتاج الإنسان، لأن الريع الإمبريالي في تلك المراحل كان منوطاً بمردود الزراعة ولم يكن التنقيد أو المال هو الذي يعطي قيمة المردود، فكان المردود عينياً. وعندما دخلنا في المرحلة الرأسمالية، بدأت مرحلة نهب كبير وكانت زيادة الإنتاج في أسواق صغيرة تسيطر عليها قوة عسكرية وسياسية وسلطة قوية، فأصبحت تلك القوى الإمبريالية تهدم وتهدر من أجل الإهدار. أي أن عملية الإهدار والهدم والإفراغ السكاني هي جزء من عملية تكوين رأس المال، كمَّاً أو كعلاقة اجتماعية، أي أننا لسنا بحاجة إلى كل هذا الكم من الموارد البشرية والبيئية، وبالتالي نهدم أو نستثني كل ما لسنا بحاجة إليه، والهنود الحمر، أو الأمريكيون الأصليون على الأصح، مثلٌ فاقع على ذلك.

ثم دخلنا القرن العشرين الذي يتميز بتقنياته العالية التي زادت من مردودية الإنتاج. وكلما كانت مردودية الإنتاج تزيد كانت تتفاقم أكثر الأزمة الرئيسية للمنظومة الرأسمالية، ألا وهي فائض الإنتاج كحالة اجتماعية أو كفائض في جغرافيا معينة له مسوغات تعيد إنتاج الوعي الكفيل باستمرار الحالة اللامتوازنة اجتماعياً، أي أننا نخلق حالة من الوعي تبرر الربحية في حيِّز ضيِّق من السوق على حساب تغييب المجتمع أو ما هو اجتماعي. هذا يعني أننا ننتج كثيراً ويجب تحييد غيرنا ومنعه من القيام بالإنتاج أو النمو خشية منافستنا في ما ننتجه، فكان تدمير البنية الصناعية للصين والهند (صناعة القطن في الهند ونقلها إلى بريطانيا في ما قبل)، واستمر هذا الأمر إلى القرن العشرين، حيث تكثّف الاحتكار والتنقيد (Financialization) ، وأصبح الريع أكثر سيولة من خلال النقد الذي عبّر عن القيمة، حيث كان شكـلاً من أشكالها، وأصبحت الريوع تسرّب إلى المركز من خلال القيمة النقدية أو الشكل النقدي للقيمة. هذا الوجه الرأسمالي للإمبريالية تجلّى في القرن العشرين. وفي مواجهة ذلك طرح سؤال ما العمل؟ أي كيف لنا أن نكوِّن البديل الاجتماعي لما هو مُحفّز بالربحية الفردية؟ طبعاً كانت هناك آراء وأفكار متفاوتة لـدى فلاديمير لينين وروزا لوكسمبورغ ونيكولاي بوخارين ورودلف هيلفردنغ وجون آتكينسون هوبسون، الذين هم أول من تكلموا على نشأة هذه الإمبريالية الجديدة المحددة تاريخياً بهذه الفترة، وكان لينين قد وضع لها خمسة مدلولات، منها تكثيف رأس المال، وتركيزه، وإلى ما هنالك…، ولكنه ربط كل شيء بما أورده في النقطة الخامسة عن عملية التناقض ما بين علاقات الإنتاج ووسائل الإنتاج في ظل هذه المرحلة الجديدة للرأسمالية التي نسميها الإمبريالية، وهي عملية لا تُحل إلا بواسطة الحرب، وهكذا غدت الحرب أداة لحل الأزمة وغاية في ذاتها لأول مرة.

ولقد وُجِّهَ النقد إلى لينين لغياب القراءة الجدلية لديه حيال هذه المسألة وتحديده الإمبريالية ببنود خمسة تحليلية، ولكنه طبعاً هو من كتب هوامش علم المنطق لـهيغل، الذي إذا ما اطلعنا عليه وحاولنا دراسته وجدنا أن عمل هيغل هذا لا يمكن دراسته إلا من خلال الهوامش التي وضعها لينين لتفسيره. كان لينين جدلياً بقدر ما كان عملياً وعسكرياً وثورياً، لذلك ربط كل شيء بهذه الدينامية الجدلية، أي التناقض السابق الذكر، وأن كل هذه البنود الخمسة السابقة تلخَّص ببند واحد، ألا وهو الحرب كغاية وكحل في ظل هذه المرحلة التاريخية. من هذا المنطلق، أصبحت الحرب المقياس الجدلي وأكثر مردودات الإمبريالية. من هنا انطلقتُ في دراستي الأخيرة عن الإمبريالية ودورها التدميري في الوطن العربي، ولاحظت أننا فعـلاً وصلنا إلى مرحلة تاريخية كان لينين قد رأى أنها الإمبريالية بوصفها آخر مراحل الرأسمالية. لكنه أخطأ في توحيد الأسباب، لأن الثورات في الوعي التي توقعها أن تحل المشاكل المتأتية عن رأس المال، لم تأتِ بالنتائج المرجوّة منها. لكنه كان على صواب إلى حد ما، بحيث إن الهدر والدمار الإمبريالي ودمار البيئة التي أصبحت اليوم في وضع يرثى له أصبحت تمثل جميعها أزمة وجودية. وبالتالي كانت مقولته إلى حد ما صائبة ولو لأسباب مغايرة، ألا وهي أننا في مرحلة تدمير الذات كعملية إنتاجية، وهي عملية يصعب تفسيرها وكيفية تفسير أن الدمار والهدر يكوِّنان للقيمة ويتكونان بمنظومة أسعار وأرباح. عادة ما أعطي مثـلاً بسيطاً: الفنجان ثمنه دولار واحد، ولكن عملية تكوينه تتضمن عدة سموم في البيئة وغيرها من المخرجات والنفايات التي ندفع ضريبتها عبر الإضرار بحياة الإنسان وتقصير عمره (أي القيمة المجردة أو مخزون القيمة)، فإذا ما حسبنا السعر الحقيقي للفنجان وجدنا أن تكاليف الإنتاجية والبيئة تتعدى سعره، فالعمل الإنساني والخزان الديمغرافي هما مخزون القيمة الموجود لدى الإنسانية. وهناك نوع من الإفراغ السكاني الدائم نتيجة لهذه السموم التي تقصر حياة الإنسان عما يمكن أن تمتد له هذه الحياة إذا ما وُفِّرت لها ظروف بيئية وطبيعية سليمة (أي بدلاً من أن يعيش الإنسان 90 سنة يعيش 40 سنة). الإفراغ السكاني كان دائماً موازياً لتطور الرأسمالية، لأنها كانت دائماً ما تفرض فائض الإنتاج، وفائض الإنتاج بدوره يفرض علينا تحييد موارد، فمثـلاً، إذا كان يوجد اليوم 100 مليون مصنع في العالم، فإن ما يعمل منها هو 60 أو 70 مليون مصنع فقط، ويتم تحييد باقي رأس المال الإنساني والفيزيائي، من أجل ربط عملية الإنتاج بعملية الأرباح التي تُكوَّن من خلال سيرورة العمل (Labour Process) التي لا يقوم العامل الأول فيها على ضبط العمال وترتيبهم وتسييرهم وتهذيبهم وإنما على ضبط عملية إنتاج العامل نفسه، أي العملية الديمغرافية والتوسع السكاني بما في ذلك الإفراغ السكاني، التي تمثل العوامل التي يركز رأس المال عليها كعملية تاريخية. ورأس المال الذي نتحدث عنه هو العلاقة التي تقمصت التاريخ، أصبحت بذلك موضوعية وغير مشخصة. أنا لا أتكلم على رأس المال كرأسمالي أو كسلعة أو كماكينة، بل أتكلم عليه كعلاقة اجتماعية، أي كعلاقة الطالب بالمعلم، وبما أننا نتكلم على العلاقات الاجتماعية فهذا يعني أنه رأس مال هش وخيالي إذا ما قورن بسيرورة العمل، بمعنى أنه مركب أيديولوجي ووجهه الحقيقي هو التقسيم والإهدار والإفراغ السكاني من أجل ضبط سيرورة العمل. فإذا أردنا أن نحدد قوة رأس المال أو ضعفه يجب أن ننظر إلى انقسام الجماهير على أسس هوياتية بصورة أو بأخرى. مثـلاً، هنا في لبنان، كلما كانت الطائفية أعمق كان رأس المال أقوى؛ وبطبيعة الحال كلّما تجانست الجماهير وأصبحت أكثر وحدة ضَعُف رأس المال. طبعاً، تاريخياً كل المجتمعات الطبقية فيها ثري وفيها فقير، والمجتمعات الإقطاعية شهدت ثراءً وفقراً أكثر من اليوم، فهذه ظاهرة لرأس المال وليست جوهرة الوجه الاجتماعي الذي يرتكز على قدرته الأيديولوجية في تفتيت صفوف الطبقة العالمة. من هنا كذلك تبُرهن مناعة رأس المال أي بتركيزه على الأولية السياسية.

يقوم رأس المال إذن على علاقة اجتماعية، ويجب النظر إلى العلاقات الاجتماعية في صلب سيرورة العمل لتشخيص قوة رأس المال. طبعاً بدأ موضوع تدمير البيئة يصبح اليوم الموضوع الأكثر خطورة، حيث يقال إن حرارة الأرض سترتفع في المستقبل، لكن كل هذه الأبحاث ممولة من رأس المال نفسه، أي أننا نعرف «من الجَمَل أُذُنه» لأن البديهية السوسيولوجية في المعرفة تقول إن العلم والمعلمين يتبعون ويخضعون للسلطة. ففي القرن السابع عشر تقريباً، الجميع كان مدركاً لظاهرة سقوط النيازك على الأرض (فالفلاحون يرونها من حقولهم…)، لكن فقط حين وثَّق المجتمع الملكي الإنكليزي هذه الظاهرة تم الاعتراف بها علمياً. أي أن السلطة الحاكمة لها علاقة اجتماعية مهيمنة فكرياً، وهي التي تحدد العلاقة العلمية. ما أود قوله هنا أن الأزمة كارثية أكثر مما نتصور أو أكثر مما يقال لنا. واليوم نحن ما زلنا في هذا المضمار، حيث إن الباحث العلمي والبيئي… إلخ، يعمل في أطر ومراكز تموَّل من قبل رأس المال الذي يفضِّل إخفاء دمار البيئة ودور السلطة في تقييم الفنجان أو السلعة (الفنجان). فاليوم نحن ندفع دولاراً ثمن الفنجان وندفع دولاراً آخر كضريبة بيئية عليه (شكل نقدي للقيمة التي ندفعها من مدخولنا، وفي الوقت نفسه كلما تدنى الدخل تدنى المتوخى في الحياة وتدنت نوعية الحياة)، وندفع بالسموم القيمة الحقيقية الفعلية التي تخفض القيمة الضرورية (التي عندما نتحدث عنها فنحن نقصد القيمة كما هي في الاقتصاد السياسي وليس كقيمة أخلاقية)، أي كل ما هو يوفِّر للإنسان ليعيد إنتاج أو عدم إنتاج نفسه، أي أن إعادة انتاج الإنسان الذي يتقبل استهلاك السموم هي كذلك علاقة قيمة. الإنسان المبخّس، والبيئة التي تعيد تبخيس الإنسان، كلاهما من طبيعة اجتماعية واحدة وهي مداخيل إنتاج. بمعنى أنه إذا بقينا في مجتمع لمدة أسبوعين أو ثلاثة غير عاملين فنحن نضمحل، فالقيمة التي كان يمكن أن ينتجها العمل كي نعيد إنتاج أنفسنا هي القيمة الحقيقية التي نرمِّزها في سعر من خلال التنقيد. وحين نرمِّز الشيء في سعر ما نعطيه القدرة على الفاعلية التاريخية من خلال التصنيم (بينما في الحقيقة الإنسان هو الفاعل التاريخي وليس الشيء).

من هنا يرمز السعر كشكل للقيمة إلى العلاقة الاجتماعية التي هي علاقة تناقضية بين التحصيل الخاص وما هو منتج اجتماعياً، وبالتالي فهو نتاج للصراع الطبقي، وحين نقول طبقة فهي علاقة اجتماعية ذات أسس مادية وليست مساحة أو رسماً هندسياً كما يخيَّل للإنسان. وحين نقول إنه يُنتقص من أعمارنا بسبب الهدر البيئي المخفي عنا، أي بمعنى أننا لا نعرف كم الهدر البيئي إنما نعرف ما تقوله الغارديان إن 80 في المئة من الثدييات انقرضت وإننا في أعلى درجات الحرارة في عصر الهولوسين الذي يمتد منذ 14000 سنة، بل وقد تخطيناه، فقد بتنا الآن في مرحلة خطر وجودي. لا نريد الاستشراف والقول إن الوضع المستقبلي سيكون أسوأ، لأن الوضع كما هو الآن هو في غاية الخطورة، أي أخطر مما نعرفه، وما هو مخبأ أكثر كثيراً مما هو ظاهر. بهذا نكون قد نفذنا أوامر التاريخ الذي يجسد رأس المال والذي يتبنّى الإفراغ السكاني كضبط لسيرورة العمل نتاجاً لأزمة فائض الإنتاج. واليوم ندفع ثمن أكثر للفنجان، ففي تكوينه كان هناك استعباد للطبيعة الاجتماعية، أي الوحدة بين الإنسان والطبيعة التي تعيد إنتاج الإنسان، وأكثر أنواع الاستغلال هو الاستعباد، أي نأخذ من الشيء من دون أن نوفيه حقه، فاستعباد الإنسان والبيئة هما المكونان الأكثر تفعيـلاً لعملية إنتاج فائض القيمة التي تُسعَّر بسعر ما، ولكن هذا التسعير وُضع عمداً كي لا تُنصف البيئة ولا الإنسان.

تمثل الأزمة البيئية الوجودية المدخل الذي استَخدِمه لإدخال الإنسان في عملية التكوين التاريخي للقيمة. الأورومركزية تستثني الإنسان من البيئة، لأن الإنسان بدوره أيضاً بيئة مستعبدة. الآن نصل إلى سؤال كيف دخلت العبودية في الاقتصاد السياسي؟ معنى العبودية في الاقتصاد السياسي يختلف وفق المرحلة التاريخية، فكما هي الإمبريالية محددة تاريخياً، والعلم مولج دراسة التغيير بدرجات وليس بالمطلق، فطبعاً نحن نعرف أن الإمبريالية، كما رأس المال، سيئة أخلاقياً وأن الفساد جزء عضوي من تكوينها، هذا أمر بديهي وطبيعي لكن العبودية مكوِّن رئيسي لفائض القيمة. لا يمكن للمجتمع الطبقي إلّا أن يكون فاسداً. نحن نعرف أن الاستعباد في السياق الرأسمالي يختلف في شكله ومضمونه عما كان عليه في المرحلة قبل الرأسمالية. الأفارقة سُرقوا من بلادهم عنفاً ودُمِّرت المئات من مدنهم لاستغلال هذا الإنسان، كذلك أمريكا اللاتينية، حيث كان الإنسان يعمل من دون أجر من أجل ردف عملية الإنتاج الصناعي في الغرب. سُميت هذه العلاقة أولاً عملية التراكم البدائي للرأسمالية، أي هكذا بدأت الرأسمالية من خلال العبودية؛ ونحن نعرف الاستغلال الصناعي حيث يتم تسخير المرء في البلدان الفقيرة، سواء في بنغلادش أو في غيرها من البلدان، لساعات طويلة من العمل تفوق الـ 12 ساعة يومياً، وعلى مدى و7 أيام في الأسبوع، من دون تنقيد يُذكر، وهذا ما يُسمى الاستغلال المفرط (Super Exploitation)؛ أما العبودية فسميت الاستغلال التجاري (Commercial Exploitation) نظراً إلى الطبقة التي ظهرت في بريطانيا بعد تهاوي الملَكية وثورة 1642 – 1648، ألا وهي الطبقة التجارية التي شجعت العبودية وانتشارها واستعباد العالم، وهي كانت من أكثر العمليات المنتجة لفائض القيمة من حيث التبديد في البيئة وفي الإنسان لتكوين قيمة السلعة، أي أننا لم نعط الإنسان ما يكفيه من قيمة من حيث الأجر والطعام من أجل إعادة إنتاج ذاته، وبالتالي فإن الاستغلال التجاري أكثر جدوى من حيث إنتاج القيمة من الاستغلال المفرط؛ ولهذا الاستغلال أشكال جديدة تتمثل بحروب تدمير المجتمعات، أي بما أن القيمة هي العمل الضروري، فإذاً إهدار العمل غير الضروري، هو كذلك مكوِّن منطقي وتاريخي للقيمة، نظراً إلى طبيعة الإنتاج العضوية والاجتماعية في آن لذا نجد أنفسنا. واليوم في هذه الأزمة الوجودية. منذ العصور الأولى للرأسمالية كانت أزمة فائض الإنتاج موجودة، ففائض الإنتاج لا يمكن اختصاره بما نراه اليوم من توافر عدة سلع رخيصة، بل هو أشبه (على سبيل المثال) بسوق من مليون أو مليار نسمة ذات قوة شرائية، ونحن ننتج فقط لهذه السوق ونستعمل كل ما تبقَّى (ندمره ونهجره ونفني أسسه) من أجل هذه السوق، أي أن فائض الإنتاج هو عملية هدر مرتبطة بهذه السوق.

واليوم لا تزال الأمور على هذه الحال؛ فالتكوين والتراكم البدائي للرأسمالية، أي العنف الذي اقترن بعملية استعباد البشر، ما زال سائداً بصورة أو بأخرى، لأنه لا يزال يمثّل السلّم الرئيسي لعملية الإنتاج، كل ما هنالك أن العبودية تغيرت أشكالها، فالدولة القومية ظاهرة جديدة عمرها مئة أو مئتا سنة، ولما أصبحت الدولة هي الممثل للعلاقات الاجتماعية في رقعة جغرافية ما، بات في إمكاننا، عوضاً من أن نستعبد شخصاً أو شخصين من منطقة ما، استعباد المنطقة بأكملها والبلد بأكمله، من خلال استلاب سلطة الدولة عبر تدمير هذا البلد وإفراغه من السكان وتهجير سكانه وتدمير بنيته الإنتاجية وجعله عاجزاً عن إعادة إنتاج سكانه.

هذه هي الفكرة الرئيسية، وأنا استعملت فكرة دمار البيئة كمدخل لإشراك الإنسان في عملية تكوين القيمة من خلال هدره، لأنه أساس البيئة والبيئة أساس له؛ أي، كما ذكرت سابقاً، نحن نتكلم على طبيعة اجتماعية، وتدميره وهدره هو مكون لهذا، فعملية الاستغلال التجاري هي السمة الرئيسية للتراكم البدائي، وهما تجليات لقانون القيمة المكثف إمبريالياً. قانون القيمة هو الناتج بعد تداول السلع في السوق، بحيث تقوم السوق بالتأشير على ما يجب فعله من أجل إعادة إنتاج المجتمع، وتوزيع الموارد بما فيها العمل ونتاج العمل أو إعادة تحضير الحالة الاجتماعية في عملية الإنتاج. إننا هنا أمام حالة كلاسيكية: أي أن السلع المصنّمة التي تكتسب قوة شبه إلهية تتحكم في حياة البشر.

دائماً ما يتشكل قانون القيمة حول ما يتم القيام به لتحضير المجتمع للإنتاج بأرخص الأثمان، عبر العبودية واستعباد الطبيعة والإنسان اللذين لا يُنصَفان. ما يتم الآن في المنطقة عندنا هو عملية استعباد على نطاق واسع، فعندما تدمر الدولة فأنت تهمشها وتضعف قدرتها على المفاوضات في سلّم تقسيم العمل الدولي بهدف كسب كم أكثر من الموارد من أجل إعادة إنتاج الذات. من هنا تدخل عملية التنمية، بما هي إعادة توريد أو توزيع للموارد الوطنية، بعملية إنتاجية وطنية صحيحة تعيد إنتاج الإنسان على وجه أصح أو أمثل، وهي عملية اجتماعية هي نتاج تناقض في العلاقات الاجتماعية الرئيسية في المجتمع أي العلاقات الطبقية. أي أن التنمية هي نتاج للصراع الطبقي. وللتنويه، الاستعباد هو كذلك التشييئ أو سلب الذات من علاقة القيمة. فالقيمة ليست العرض الفيزيائي فقط إنما هي علاقة الذات بالعرض.

من هنا نرى أن الأورومركزيين يحاولون دائماً تهميش دول العالم الثالث عموماً، وبخاصةٍ الدول العربية والأفريقية، في سلم إنتاج القيمة، وهم لا يرون أن لنا أي قيمة فنحن لا ندخل إلا قلة في عملية إعادة إنتاج القيمة في العملية الرأسمالية. هنا هم يتكلمون على موقفهم على نحو تحليلي وشكلي رسمي أي وفق منهج تفكير ميتافيزيقي إلى حد كبير. مثـلاً، فلنقل إن هناك معمـلاً في أوروبا لديه ماكينة جيدة، وهي تنتج سلعاً بكميات كبيرة، والسعر هو ترميز لقوة السلطة الأوروبية الإمبريالية لكن المصنع الحقيقي هو سلسلة الإنتاج الدولية، والدورة الاقتصادية لا تحدث في الزمن الكرونولوجي، ولكن في الزمن الاجتماعي أو التجريدي، لأنه لا وجود للقيمة إلا من خلال العملية الاجتماعية. هذه العملية التي نُدخل إليها الزمن والزمن التجريدي يصبح فهمها صعباً، ولكن ما هو الزمن الحقيقي الذي يختزل الإنسان به المساحات بالزمن من أجل تكثيف الإنتاج؟ الزمن الحقيقي هو عمل قانون القيمة المكثف، أي القوة السياسية التي تنتج الأرضية الاجتماعية للإنتاج. والإمبريالية بالذات هي الوجه الأبشع لرأس المال، وهي تحاول أن تقضي على كل ما هو متوافر لدى الإنسان من أجل استعباده في أقل زمن كرونولوجي. طبعاً قانون القيمة يعمل في أوروبا وأمريكا التي لديها كم هائل من الريع الإمبريالي التاريخي – وهنا أنوِّه بـأنور عبد الملك لاكتشافه وتوضيحه فكرة فائض القيمة التاريخي، بوصفه عملية أو علاقة تاريخية اجتماعية وليس شيئاً كميّاً فقط، لأن لكل شيء جوهر، وجوهر الشيء ليس مادته فقط (مثـلاً جوهر الفنجان ليس البورسلين فقط إنما العلاقة الاجتماعية التي صنعت هذا الفنجان، فتشييؤه كمادة جامدة فقط خارج الزمان والمكان عملية تبسيطية تختزل الواقع الاجتماعي)، فكل إنتاج هو بالحصيلة النهائية إنتاج اجتماعي ونتاج علاقات اجتماعية.

من هنا، الأورومركزية ضارة جداً لعملية التحول الثوري، لأن الأورومركزيين طبعاً مستفيدون من نمط الحياة هذا ومن الريع الإمبريالي الذي هو فائض القيمة التاريخي. وإذا ما تكلمنا على فائض القيمة التاريخي كقيمة اجتماعية فهو كل الموروث الثقافي المعسّل والمزيّن بالإنسانية وغيرها، كاستعمال حقوق الإنسان لخدمة الحرب، فهو تلك الثقافة التي تعيد إنتاج كل ما هو موجود ولكن بلغة مزيّفة تتغنى بالإنسانية ولكنها تفتقر إليها، وقد سماها أنور عبد الملك الاستشراق، وهو كان سباقاً على كل من تكلم على هذه النقطة وكان أكثر موضوعية من غيره لأنه أعطاها مضموناً مادياً لا مجرد مضمون سردي ووصفي وأدبي.

سبق أن أشرت إلى عملية تصنيع الفنجان مثـلاً، الذي نظن أنفسنا أننا ندفع ثمنه دولاراً واحداً، ولكننا في الواقع ندفع أكثر كثيراً من ذلك، إذ ندفع ثمن التلوث من جيبنا ومن صحتنا وحياتنا. وهذا يأخذنا إلى نقطة أخرى مرادفة، وهي أن مقدار الهدر (الإنساني والبيئي) لم يعد ممكناً تنقيده وتسعيره اليوم، أي أصبح كمه هائـلاً، وبالتالي الأزمة باتت وجودية، وبتنا في الهاوية فعـلاً لا على شفيرها، حتى إن بعض الاستشرافات تقول إن البشرية ستزول في المستقبل القريب أي في غضون 30 أو 40 سنة، لكن نحن الآن لسنا كما كنا عليه، في ظل هذه العلاقة الاجتماعية التي تعيد إنتاج الإنسان اليوم كما في السابق. فضـلاً عن هذا الكمّ من الثراء، أي السلع المتراكمة، الذي لا يوازي كمّ الضرر. وفي نظرة إلى الخلف، نرى أن المرحلة الرأسمالية كانت بمجملها بربرية، أي أنها غير تقدمية قياساً على ما سبقها.

نصل هنا إلى سؤال ما العمل، وما البديل؟ طرح لينين هذه الفكرة من أجل تصويب الثورات العفوية بالعمل التنظيمي والأيديولوجيا البديلة؛ أي أنه من دون أي عمل تنظيمي وأيديولوجيا بديلة يصعب التوصل إلى حلول وبدائل، ففائض القيمة التاريخي هو كذلك الموروث الثقافي الذي يجذِّر مؤسسات رأس المال وينتج القيمة السلبية أو السُّم، وينتج الإنسان الذي يستهلك هذه السلبية أي يستهلك ذاته. بالنسبة إلى فائض القيمة التاريخي لا بد من التنويه أن القيمة المتراكمة هي تجسيد للثراء في مخزون السلع والمخزون الثقافي. وانتقاص الذات العالمثالثية، أي استلابها أو استعبادها، من علاقة الذات بالموضوع في القيمة، ومن الإنتاج، ضرورة منطقية وتاريخية معاً للإنتاجية الدولية ولدورة رأس المال.

إذا ما أردنا معالجة أي أزمة اقتصادية أو اجتماعية نردّها إلى السياسيين القليلي التفكير في معظم الأوقات، ونجد أنهم غير قادرين على استعمال مفاهيم بديلة لتلك الموجودة أو المعطاة إلينا عبر عملية إعادة إنتاج الثقافة الإمبريالية، أي الأيديولوجيا المهيمنة، وهذا ما هو مخيف فعـلاً في هذا الوضع (التجويف المفاهيمي)، مع العلم أنه ليس هو بالأمر الجديد، فحرب المفاهيم موجودة منذ أفلاطون وأرسطو – أي مفهوم الحقيقة في رمزية الكهف، فعندما قال أفلاطون إن ما نراه من ظلال في الكهف ليست إلا تصويرات غير حقيقية، وإنما الحقيقة هي المثال الذي يمر خارج الكهف وهو ما لا نراه وليس موجوداً بالأساس. ولكن عندما تطرّق أرسطو إلى الفكرة قال إننا حين نعالج حالة ما نتعلم منها ونبني فئات جديدة هي ليست بالمثالية ولكنها تجريبية استقيناها من الواقع واستعملناها لتحسين الأمور، فليس هناك ما هو خيالي إنما الفئات والحقيقة موجودة في التجربة والتماس الواقع. وما زلنا حتى الآن في هذا الوضع، فالتبسيط الذي يستعمله اليمين مثـلاً. هو أننا لم ننجح في عملية التنمية، لأننا لسنا تلاميذ ناجحين لاقتصاد السوق، وهذا أمر خيالي، فاقتصاد السوق بالمطلق غير موجود في أي مكان؛ فلا المضاربة التامة موجودة، ولا الندرة ولا الأسعار المثالية التي تحقق أحسن وضعية اجتماعية موجودة أيضاً. حتى أمريكا فيها كل مزايا الاشتراكية بما فيها ضمان الشيخوخة والصحة وغيرها، وكل هذا منافٍ للمطلق الناتج من المنطق الصوري، وهذا هو الشيء الوحيد، أي المجتزأ من العملية الاشتراكية، الذي يرعى التنمية؛ فالحدِّيَّات والأقصويَّات هي ميتافيزيقا غير موجودة، وهنا يجب أن نحاكي ذكاء الإنسان وألا نبسط الأمور لكي نكسب انتخابات أو غيرها من المكاسب، لأن الأزمة باتت وجودية، فعلينا أن نحاكي ذكاء الطبقة العاملة ونخاطبها بلغة لا تقوم على تبسيط الأمور بل نقرأ الأمور بشكلها ومضمونها وصيرورتها التاريخية، وأن نحاول أن نفرز من خلال هذه العملية تصوراً جديداً للواقع وأن نقلب المفاهيم من خلال التجربة وذاكرة الشعوب الحية. نحن جرّبنا نمط التفكير التبسيطي المقيت الذي يجتزئ الحقيقة ويعطينا نصف الحقيقة، ونصف الحقيقة كذب. الأمور صعبة ولكن التاريخ هو تجسيد لفكرة رأس المال، ورأس المال هو التاريخ، أي القوة أو السلطة، لمدى ضعف الشعوب في تقرير مصيرها ومدى قدرتها على اكتساب حقها من مواردها، أي اقتطاف قيمة أكبر من المنتوج الذي يراعي الدورة الأيضية للوجود البشري.

وكما قلت، أنا أرى التاريخ كعملية عقلانية وغير مشخصنة، فلا يمكن رد الأمور إلى هذا الشخص أو ذاك، فهذا ليس بالتحليل الاجتماعي إنما هو تحليل سيكولوجي فردي. لا يمكن رد الأزمة التي نعيشها اليوم لشخص عبد الناصر مثـلاً. فعبد الناصر لم يكن يمثّل شخص عبد الناصر فقط بل كان يمثل حالة اجتماعية ووعي الشعوب في حقبة ما بعد الاستعمار لضرورة محاربة الإمبريالية في كل السبل؛ هو كان تجسيداً لهذه الفكرة، بينما العلاقة الاجتماعية أو الفكر السائد أو الضرورة التاريخية كانت ممثلة بوعي الشعوب أننا كصانعين للقيمة نحتاج إلى أكثر مما نُمنح من الفائض الاجتماعي في عملية إنتاج اجتماعية كنا في صلبها تاريخياً. وهنا يتوجب التنبيه أن علاقات الإنتاج كونية مترابطة أو متصلة حسب الضرورات التاريخية التي تمليها أزمة فائض الإنتاج. وبعد اضمحلال الاتحاد السوفياتي الذي كان يعتبر تتويجاً للفلسفة الإنسانية التي بدأت في القرن السادس عشر مع غاليليو وفولتير والتنويريين، ذلك الفكر الذي كان يضع الإنسان في صلب العلاقات الفلسفية، على أساس أن الإنسان هو الغاية والسبيل والهدف، تعمقّت أزمة الفلسفة الإنسانية وأزمة التنظير والمفاهيم التي نعيشها، وهي في آنٍ واحد أزمة أيديولوجية حيث لا يمكن فصل الإنتاج النظري عن الإنتاج الأيديولوجي. فالأيديولوجيا دائماً موجودة والنظرية هي برهة في عملية تصادم مع العلاقة الرأسمالية، وهي الحقيقة الآنية أو الظرفية في هذه الحالة (قد يكون الأمر أقرب إلى التكوين الفلسفي).

منذ عام 1990 إلى الآن نحن نشهد كتلة نار تتضخم وتجرف كل ما أمامها، والمخاطر باتت أكثر من ذي قبل. لكن لدينا في المقابل ظاهرة جديدة تصعد، ألا وهي الصين؛ فالصين هي الصاعد الأكبر، فهي تمتد وتمتلك الرقعة الاستعمالية في القيمة، أي أنها مصنع العالم، أي هي التي يقتات ويعتاش منها الإنسان على حساب عمالها وبيئتها، ورويداً رويداً نلاحظ في المقابل تآكل الدولرة؛ فالتحكُّم في القيمة الاستعمالية أو امتلاكها يُفضي استطراداً إلى التحكم في القيمة التبادلية. أي أننا في طور اضمحلال الدولرة على الصعيد الكوني؛ فصعود الصين شكّل نوعاً من الضد لكتلة النار هذه، وبالذات الكتلة الثقافية والموروث الثقافي الأوروبي الذي يتظاهر بالإنسانية، لذا النضال الأيديولوجي، الذي طالما كان الحلقة الأولى في الصراع، أو الإنتاج الفكري، يجب أن يكون دائماً منتجاً لمفاهيم بديلة، والفرصة أتيحت لنا الآن، كمهمشين في العالم الثالث، مع صعود الصين لأول مرة. هنا أود أن نرجع قليـلاً إلى الخلف وأن نتأمل في الحالة الصينية التي كانت في حالة تواصل منذ مفهوم حرب الشعب لدى لين بياو ومقولته الشهيرة «وعي الجماهير أكثر قوة من القنبلة الذرية»؛ المقولة التي استمالت الثوريين في العالم وما زالت. لكن حرب الشعب هذه تكون أقوى إذا ما فوتت الصين على أمريكا قدرة الأخيرة التدميرية من خلال ردم الهوة التكنولوجية. نعم لحرب الشعب، لكنها مع ذلك يجب أن تدرس على أسس علمية تفوت على العدو فرصة استهلاك الجزء الأكبر من السكان الأصليين في المعركة، لأن عملية الإفراغ السكاني هذه هي غاية رأس المال المقتضى للتاريخ. وفي السياق نفسه لا يمكن الحكم على الصين بأنها اشتراكية أو رأسمالية من خلال وجود بعض العلاقات الرأسمالية فيها. فتلك الأخيرة لا مفك منها في أي مرحلة انتقالية. ما لا شك فيه أن انتصار نهج دينغ شياو بينغ وقدرة الصين على توطين المعرفة وعلى أن تكون سباقة على أمريكا، وخصوصاً في مجالات استراتيجية وعسكرية، يهذب بعض الشيء الوحشية الأمريكية. تلك الوحشية التي لا تتجسد لأمر أزلي في النفوس، إنما كعملية اقتصادية أساسها اضطهادي لتكوين الأرضية لتوسيع السلعة كقيمة. فلا تكفي قدرات رأس المال الصيني، الذي هو ملك للدولة وليس للأفراد، بنسبة 80 في المئة منه، وهذه الاستثمارات الصينية في الخارج هي استملاك في أراضٍ إمبريالية، فحين يشتري معمل صيني مركزاً آخر في دولة أفريقية فهو يستملك فعـلاً في ما تملكه أمريكا، ولأول مرة في التاريخ يكون بمقدور دولة من العالم الثالث الاستملاك في أصول هي أساساً مدولرة (أي أن أصولها وما فيها ملك للإمبريالية)، أي في دول لا تمتلك السيادة على النقد، وبالتالي لا تمتلكه على القيمة، وبالتالي لا تقدر أن تعيد إنتاج ذاتها على نحو أفضل، أي أن الناتج مسُتلب إمبريالياً. وبالتالي بات في الإمكان وضع حد لهذه الحلقة المفرغة ومحاربة المفاهيم المركبة مثل الليبرالية والنيوليبرالية وغيرها، مثل مصطلح ومفهوم «الشركات المسؤولة بيئياً»، الأمر الذي يبدو مستحيـلاً بدوره، فعملية الإنتاج عملية أيضية استهلاكية، وهي أصـلاً عملية هدرية منذ وجد الإنسان على الأرض.

علاقة الذات (الإنسان) بالموضوع (الأرض) هي التناقض الرئيسي، وهي كذلك علاقة أيضية، أي أن الإنسان يعيد إنتاج ذاته من خلال علاقته الاستهلاكية بالأرض وإعادة بعض الطاقة المستغلة من الأرض إلى الأرض، أي بمعنى أننا نقطع شجرة ونزرع مقابلها شجرة. لكن ما حدث هو أنه بهذه الأزمة الوجودية، أثبت رأس المال نهمه بالتركيز على معدل الأرباح التي تنظم الحياة الاجتماعية والعلاقات الأخرى، إذ تم هضم أكثر مما يجب هضمه من البيئة وبات الإنسان يستهلك على نحو همجي. واستهلاك الإنسان هو الهدف الرئيسي لاستهلاك البيئة. فالبيئة لا تتفاعل ولا تعي الرموز كما يعيها الإنسان. الإنسان هو البداية والنهاية في الإنتاجية، أما العلاقة الأيضية والطاقة التي يستعاد فيها نشاط الحياة البيئية، بما فيها الإنسان، فقد حللت ودمرت ذاتياً بكثافة، فالمتحلل الذاتي المدمّر بات أكثر من المتحلل الذاتي الذي يمكن أن يعيد إنتاج الإنسان. وبالتالي هناك أزمة كبيرة لا يمكن أن تجسّر، من دون إعادة برمجة وصوغ المفاهيم بما فيها تحديد جوهر الشيء، أي علاقاته الاجتماعية والتاريخية المحددة أساساً بوجودنا الفيزيائي واحترام ذكاء الإنسان وقدرته على استيعاب الأمور بهذه الطريقة وعدم تبسيطها للجوهر بل فهمه كمفهوم جدلي اجتماعي لا الجوهر المادي فقط، فهذا يعود لعلماء الفيزياء لا لعلم الاجتماع، فنحن لسنا علماء طبيعة، فلعلم الاجتماع جوهره أو غرضه في البحث، والجوهر هذا هو العلاقة الاجتماعية.

 

قد يهمكم أيضاً  السوسيولوجيا الكونية: نحو اتجاهات جديدة

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الإمبريالية #رأس_المال #الإنسان_والبيئة #الفقر #العبودية #تدمير_الإنسان #تدمير_المجتمعات #الإمبريالية_الثقافية #الأزمة_الوجودية