– 1 –
ستُصبح لحظةُ جائحة كورونا علامةً من العلامات المفْصليّة التي تدخُل في جملةِ وسائل تحقيب التّاريخ. سيكون عالمُ ما بعد كورونا غيرَ ما كانَهُ عالمُ ما قبلَها أو، قل، سيختلف عنه بمقدارٍ كبير؛ في البنية والتّوازنات والملامح. لحظةُ كورونا، بهذا المعنى، تُشبه – أو هي تقارِبُ أن تشبه – لحْظات أخرى كبرى في التّاريخ باتت مرجعيّةً في وعينَا التّأريخَ وقياسِ منعطفاته. هي في هذا كأحداثٍ أخرى سبقت مثل: انهيار الإمبراطوريّة الرّومانيّة؛ ومثل انطلاق حركة الإصلاح الدينيّ وما تولّد منها من حروبٍ دينيّة؛ ومثل قيام النّظام الرّأسماليّ وزحفه على العالم؛ ومثل الثّورة الفرنسيّة والثّورة البلشفيّة الرّوسيّة، والحربين العالميّتين الأولى والثّانيّة، وانهيار الاتّحاد السّوفياتيّ والمعسكر «الاشتراكيّ»، ثم ميلاد العولمة… إلخ. هي، إذًا، من أمّهات حوادث التّاريخ وظاهراتها التي يتغيّر بها وجْهُ العالم. بل لعلّها تكون أشدّ تأثيرًا من غيرها من الحوادث الكبرى المفصليّة التي شهدت عليها البشريّة في العصر الحديث.
على نحو ما قادتِ الحوادثُ الكبرى، المشارُ إليها آنفًا، إلى إحداثِ تحوُّلات هائلةً في مجرى التّأريخ وتوازنات اللاعبين الكبار فيه من دولٍ وجماعاتٍ قوميّة، وفتحت آفاقًا جديدةً للتّطوّر وللعلاقات الإنسانيّة والدّوليّة، وغيّرت نُظُمًا سياسيّةً واجتماعيّةً وخرائط جيو – سياسيّة، وأرست قواعدَ ومؤسّسات لإرادة الشؤون الدّوليّة…، كذلك ستفضي جائحة كورونا، بعد انحسارها وزوالها، إلى إطلاق مسلسلٍ من التحّولات الهائلة في الميادين والعلاقات كافّة: في النّظام الاقتصاديّ السّائد في العالم وتوازنات أقطابه الكبار وقواهُ القوميّة والقارّيّة؛ في العلاقات الدّوليّة وسياسات الدّول الخارجيّة وتحالفاتها ومعسكراتها؛ في المؤسّسات الدّوليّة وقواعد عملها القائمة؛ في التّوازنات العسكريّة وفي الرّؤية إلى الأمن القوميّ والدّوليّ ومصادر تهديده؛ في السّياسات الدّاخليّة للدُّول وأولويّاتها الاستراتيجيّة في ميادين التّنميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمن والدّفاع، وفي النّظرة إلى استراتيجيّات التّعاوُن والاعتماد المتبادَل في علاقتها – في الوقت عينِه – باستراتيجيّة المنافسة؛ في برامج البحث العلميّ وموقعِيّتِها من السياسات العليا للدّول … وفي ميادين أُخَر لا تُحصى.
وإذا كانتِ التّحوُّلات التي تولّدت من الحوادث التّاريخيّة الكبرى المذكورة مسَّت بالتّغيير ما قبْلَها القريب، فبدَت وكأنّها تُصحِّح مسارًا سابقًا وقَعَتْ وقائعُه في نطاقاتٍ ضيّقة: قوميّة (الثّورة الفرنسيّة، الرّوسيّة، انهيار الاتحاد السّوفياتيّ…)، أو قاريّة (الإصلاح الدينيّ، ميلاد الرأسماليّة، الحربان الأولى والثّانيّة…)؛ وإذا كان ما أحدثتْه وقائعُها من تَغْيير طال حقبة زمنيّة محدودة تمتدّ لعقود أو لقرنٍ أو قرنين، فإنّ ممّا قد يتولّد من لحظة كورونا قد يكون أشملَ وأبعدَ مدًى في المكان والزّمان؛ ذلك أنّ مساحته الكون كلّه لا أبعاضه، ناهيك بأنّ تغييراتها ستطال أنظمةً حياتيّةً، برمّتها، عمّرت لمئات السّنين؛ ربّما منذ فجر العصر الحديث. وبالمعنى هذا، ستكون لحظةُ كورونا منعطفًا في تاريخ الحوادث الكبرى، بما ستُطلقه من نتائج على صعيد العالم كلِّه سيَنْعَادُ بها النّظر في يقينيّات ومبادئ وقواعدَ ومؤسّسات وعلاقات عدّة سادت عصرَ الإنسان الحديث.
وما من شكٍّ لدينا في أنّ سؤال الصّحّة العامّة، وما يقترن به من أسئلةٍ تتعلّق بالبيئة وبالبحث العلميّ في موضوع الأوبئة، سيكون في صدْر قائمة الأسئلة التي سَيَتَهَجَّس بها العالم بعد جائحة كورونا. لقد ثبت من تجربة الوباء ونتائجه المنهمرة من غيرِ انقطاعٍ، أنّ آثار الأوبئة قد تكون أبعد من آثار الحروب العالميّة نفسِها في الاقتصاد والسّياسة والحياة، وأنّ مواجهتها والتّحسُّب لها وبناء سياسات فعّالة لدفْعها ستكون بمثل مواجهة احتمالات الحروب والتّحسّب لها وكفِّ أخطارها ، إن لم تكن أعلى من هذه بكثير. وقد لا يُسْتَبْعَد أن يُصبح الأمن الصحيّ في المجتمعات والدّول أدْعى إلى العناية به من أيّ أمنٍ آخر؛ ذلك أنّه من دون حيازةِ أمنٍ صحيّ – من أخطار الأوبئة – لا مكان للأمن الغِذائيّ والاقتصاديّ والدّفاعيّ وسواها من أنواع الأمن التي اعْتِيدَ على إيلائها الأولويّة الاستراتيجيّة في سياسات الدّول في مضى.
سيكون عسيرًا على المرء، اليوم، أن يرسُم لوحةً من التوقّعات أو من السّيناريوهات لِمَا سَيَكُونُه العالمُ غذًا، بعد انجلاء جائحة كورونا. لكنّ الذي لا مِرْيَةَ فيه أنّ صورتَه، في المستقبل القريب، لن تُشبه صورتَه التي ألِفْنَاها لردْحٍ من الزّمن طويل. كلّ ما يمكننا أن نبني عليه فرضيّة التّغيير القادم في صورة العالم: في بنياته وعلاقاته وتوازنات قواه وسياساته…، هو ما بِتْنا نَلْحَظُهُ من علائمَ التّحوّل وأمَارَاته في الكثير من وقائعه وظواهره.
– 2 –
يقع في جملة أهمّ الأسباب التي مكّنت جائحة كورونا من تخليف تلك الأعداد الـمَهُولة من ملايين المصابين بالڤيروس ومن مئات آلاف المتوفّين به، في العالم، ناهيك بما ألحقت بالاقتصادات الكونيّة وأرزاق مئات الملايين من البشر من خراب، أنّ السّياسات التي انتُهِجتْ في مواجهتها – من جانب دول العالم قاطبة – كانت خاطئةً في المنطلقات والقواعد كما في التطبيق، وتبدّتْ غير متناسبة مع حجم الأعباء التي ألقاها الوباء على الجميع. لا يتعلّق الأمر في هذا بملاحظة ما كان من استهتارِ كثيرٍ من حكومات العالم بمخاطر الڤيروس، وسوءِ تقديرٍ لما يحمله في ركابه من احتمالات كارثيّة على الحياة الإنسانيّة والاقتصاد والمقدّرات، فقط، بل يتعلّق بنوع الخيارات التي رسَتْ عليها سياساتُ الدّول تلك في محاربة تفشّي الڤيروس، وتعبئة الموارد في المعركة من أجل السّيطرة عليه، أو الحدّ من سوء آثاره.
كان الجامع بين سياسات الدّول كافّة هو اللّجوء إلى مقاربةٍ وطنيّة محلّيّة للمواجهة. هكذا كرّت سبحة وقائع هذه المقاربة على المنوال عينه؛ إقفال الحدود القوميّة أو الوطنيّة لكلّ دولة (برًّا ومياهًا وجوًّا)؛ إعلان الأحكام الخاصّة بالطّوارئ الصّحيّة؛ تعبئة موارد الدّولة الاقتصاديّة والصّحيّة والأمنيّة وتسخيرها لمواجهة الوباء؛ اعتماد بروتوكولات علاج خاصّة للمصابين بالوباء وتعميمها على مراكزها الاستشفائيّة، الإكباب على الأبحاث والتّجارب السّريريّة للعلاجات في نطاق وطنيّ خاصّ وصرف؛ اتّخاذ قرارات تمديد الطوارئ لفترات معلومة، أو التّخفيف من الحَجْر الصّحيّ والرّفع التّدريجيّ للإغلاق في نطاقٍ سياديّ… إلخ. تصرّفت كلّ دولة بما يقضي به مبدأ السّيادة الوطنيّة ولم ترْهن قرارها، في أيّ شأنٍ يتعلّق بالوباء، بقرار غيرها. ومع أنّ الانتباه إلى السّيادة والقرار الوطنيّ المستقلّ أمرٌ محمودٌ ومرغوب، إلاّ أنّ إنْفَاذَ سياسة مستقلّة في خَطْب جَلَل من نوع جائحة كورونا لم يكن مسْلكًا صحيحًا، ولا كان يُنَاسِب خطورة الوباء وأبعادَه. وهذا ما يفسّر لماذا كانت حصيلة تلك السّياسات الوطنيّة الانكفائيّة، في مواجهة الوباء، متواضعةً حتّى لا نقول باهتة.
المنطق الذي قاربت به الدّول «نازلةً» كوڤيد 19 يوحي وكأنّ الڤيروس مشكلة وطنيّة داخل حدودها، يمكنها – بالتّالي – السّيطرة عليها داخل الحدود تلك وبالإمكانيّات والموارد الوطنيّة المتاحة؛ وأنّه متى حمَت حدودها من الخارج أمَّنَت نفسَها ومواطنيها. ومشكلة هذا المنطق أنّه لا يلحَظ حقيقةَ الحقائق، وهي أنّ الڤيروس حالة عالميّة ومتعولمة؛ عابرة للحدود والسّيادات، وتوزِّع تهديدَها على العالم أجمع. لم يكن ممكنًا، إذًا، مواجهةُ مشكلةٍ عالميّة عابرة للقوميّات والأوطان بسياسات قوميّة خاصّة. وكان تحدّي الوباء العالميّ يقتضي، حكمًا، نهج سبيلٍ أخرى هي التّضامن الدّوليّ في مواجهته، بالمعنى الكامل للتّضامن بما يفترضه من وجوب التّوافق على برنامجٍ مشترك، على الصّعيد الدوليّ، في مجال الأبحاث العلميّة لتوفير العلاجات واللّقاحات المناسبة؛ وفي مجال تبادُل الخِبرات الصّحيّة وتقديم المساعدات للبلدان المحتاجة؛ كما في مجال سياسات مواجهة الآثار الاجتماعيّة الفادحة لعمليّة الإغلاق التي أصابت البلدان كافّة.
ولقد كان يُفْتَرض أن يقع تفعيل المؤسّسات الدّوليّة أكثر قصد مواجهة الوباء؛ الأمم المتّحدة ومؤسّساتها ذات الصّلة بتحدّيات الوباء، مثل «منظّمة الصحة العالميّة» و«الفاو» و«صندوق النقد الدّوليّ» وسواها، وأن تُبحث برامجُ العمل الجماعيّ لمواجهته في نطاق أطرها، حتّى يكون ثمّة فعْلٌ تضامنيّ دوليّ ماديّ حقيقيّ. ولكنّ ذلك، من أسفٍ شديد، ممّا لم يؤخذ به أمام تضخُّم النَّزْعات الذّاتيّة الانغلاقيّة لدول العالم، وأمام مسعى القوى الكبرى منها إلى التّسابق نحو الفوز بالسّبق في اكتشاف العلاج والذّهاب، بالتّالي، إلى احتكار إنتاجه وتسويقه كسلعة مربحة! وحتّى حينما كانت تُطلَق مبادرات رمزيّة لعملٍ دوليّ تضامنيّ، كالتي أُعْلِنت في مطلع 2020 لتأمين موارد ماليّة لبحثٍ علميّ مشترك يفضي إلى لَقَاحٍ للڤيروس، كانت دولةٌ كبرى، مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، تعلن عن رفضها الانضمام إلى المبادرة، والانصراف إلى العمل منفردة!
بمقدار ما تُطلِعنا جائحةُ كورونا على حقيقة أنّ التّحدّي الأضخم الذي بات يتهدّد الحياة على ظهر الكوكب – بعد التّحدّي النّوويّ – هو تحدّي الأوبئة؛ وبقدر ما تُطلِعنا تجربةُ الإخفاقِ الذّريع في جبْه وباء كورونا بسياساتٍ قوميّة مُقْفَلَة على حدودها، يتعاظم الوعيُ بالحاجة الماسّة والحيويّة إلى عقيدةٍ سياسيّةٍ جديدة مبناها على فكرة التّضامن الدّوليّ الجماعيّ لمواجهة خطر جوائح الأمراض والأوبئة، بما هي جوائح عالميّة عابرة للدّول والأوطان والقوميّات، والحاجة إلى إنتاج الأطر المؤسّسيّة الدّوليّة الخاصّة بها، التي تٌبْنى في نطاقها سياسات موحَّدة مُتَوَافَق عليها ومَحْو آثارها. هذه وحدها الفرصة الممكنة لحماية حقّ البشريّة في حياةٍ ما عاد يمكن تأمينُها بإقفال كلّ مجتمعٍ على نفسه. هذه وحدها العولمةُ النّاجعة.
– 3 –
لو تمتّع النّظام الصّحيّ في العالم بالتّأهيل الماديّ والتقنيّ والبشريّ واللّوجستيّ الكامل، لَمَا أمكن لجائحة كورونا أن تأتيَ على البشريّة بوخيم العَقَابيل. نعم، كان يمكن لضرباتها أن تكون موجعة، وأن تُخلّف من الخسائر ما خلَّفَتْه جوائح أخرى سابقة، مثل أنفلوانزا الخنازير أو إيبولا أو حتّى الإيدز، ولكن كان يسع مثل ذلك النّظام الصحّيّ المؤهَّل أن يستوعب ضربَتَها، بسرعة، وأن يُحْرِز نجاحات في السّيطرة عليها إنْ لم يَقْوَ على علاجها الفوريّ. لكنّ النّظام ذاك بَدَا، من أسفٍ شديد، متهالكًا بحيث عجز عن استيعاب الضّغط الكثيف على مراكزه الاستشفائيّة، إلى الدّرجة التي أُجبِر فيها – أمام ارتفاع أعداد المصابين – على أن يسلك خيار الأولويّات والانتقاء من بينهم بما يتناسب وإمكانيّاته المحدودة!
وغنيّ عن البيان أنّه دفع في ذلك ثمن سياسات رسميّة أهملتْه وانصرفت إلى غيره من ميادين ذاتِ ربحيّة وجزيلة العوائد: بالمعنى الماديّ – غير الإنسانيّ – الصّرف. ولقد يقال، هنا، إنّ الثّمن هذا موضوعيّ إن فكّرنا فيه في نطاق النّظام المجتمعيّ: الاقتصاديّ والإنتاجيّ الذي أنتجه التّطوّر وقادت إليه الرّأسماليّة. ولقد يقال، استطرادًا، إنّ المبدأ الحاكم لذلك النّظام هو المصلحة التي لا تُسْتَأتى إلّا من طريق حريّة التملّك والمبادرة، ومن طريق المنافسة الحُرّة. والقولُ صحيحٌ، من غير مِرَاء، وينطوي على اعترافٍ بأنّ مقدّمات النّظام المجتمعيّ هذا هي التي تأخذه إلى مثل تلك النتائج المأسويّة التي منها إخفاق النّظُم الصحّيّة القائمة في كفّ أذى أوبئة فتّاكة من قبيل وباء كورونا؛ لا يتوقّف أذاها عند حدود الأبدان المفتوك بها، بل يتعدّى ذلك إلى الفتك بالاقتصاد والإنتاج والمبادلات…
ما ليس صحيحًا هو أن يُرى إلى آليات النّظام تلك وكأنّها عمياء، وإلى مفاعليه وكأنّها حتميّة لا مهْرب منها ولا مندوحة عن تلقّيها في صُورها المأسويّة. آيُ ذلك أنّ النّظام هذا أصاب نجاحًا، في مراحل من تاريخه، في أن يصحّح فيه ما كان يعتَوِرُهُ من خلَلٍ وسوءِ مسار. ومن ذلك، مثلًا، ما أجراهُ من تقويم لأدائه في لحظته الكينزيّة التي أثمرت نموذج دولة الرّعاية الاجتماعيّة في الغرب الرّأسماليّ؛ الدّولة التي استدخلت في جملة سياساتها برنامج الإنفاق على القطاعات الاجتماعيّة الحيويّة؛ مثل الصّحّة والتّعليم والسّكن والتّأمين الاجتماعيّ، قبل أن تتراجع عنها وتنتكس، فتتركها مرعًى ومرتعًا للتّنافس بين ذوي المصالح الخاصّة ممّن يبحثون عن منافذ الرّبح وفرصه، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقوق الاجتماعيّة للنّاس، وعلى حساب مبدإ المصلحة العامّة؛ المبدأ الذي عليه كان مبْنى شرعيّة الدّولة الوطنيّة الحديثة.
لا يفوتُنا، طبعًا، إدراكُ أنّ مبدأ المنافسة هو، على الحقيقة، المبدأ الذي لا يمكن النّظامَ المجتمعيَّ الحديث أن يَزْوَرَّ عنه ازورارًا أو يَحيد من دون أن يتداعى صَرْحُه؛ وأنّه المبدأ الذي عليه مبْنى العلاقات بين الدُّول، في عالم اليوم، المتدافعةِ بالمناكب لتحصيل المصالح وجَلْب المنافع. ولكن، أليس للتّنافُس سوى وجه واحد لا غير؛ أليس له من الميادين والمجالات والفرص إلاّ ما تتردّدُ صورُهُ أمام عيوننا، وأخبارُهُ على مسامعنا اليوم؟ أليس يجوز التّنافُس إلاّ في ميادين الرّبح السّريع؛ في اقتصاد الحرب، واقتصاد الاستهلاك، واقتصاد الدّعة والرّضا، وإغراق الأسواق بما يفيض عن حاجة الطّلب على الجنون والغرائز والمَلَذّات؟ أليس الاستثمار في الصّحّة، مثلًا، استثمارًا في الحياة عظيمَ الفوائد على البشريّة جمعاء؟ ومَجْلَبَةً للسّلامة والاستقرار ومَزيد إنتاج؟
بعد هذه الجائحة؛ بعد الاتِّعاظ بدروسها الكثيرة، سيكون على البشريّة أن تفتح ورشةً جديدةً للتّفكير وللعمل؛ للتّفكير في النّموذج التّنمويّ السّائد الذي أشبع حاجات، وتَنَكّب عن إجابة غيرها، والتّفكير في موَاطن العَطب فيه وما عساها تكون البدائل الناجعةُ عنه؛ وللعمل من أجل إرساء عقيدةٍ إنتاجيّةٍ جديدةٍ تنصرف إلى بناء نموذج للتّنميّة الاجتماعيّة (لا الاقتصاديّة فحسب) بَديلٍ ونافع تدور أولويّاته على أقدس حقوق الإنسان جميعًا: الحقّ في الحياة. لن يكون كبش الفداء، في هذه الورشة من البحث عن النّموذج التنمويّ البديل، هو مبدأ التّنافس. سيظلّ التنافس قائمًا ومستمرًّا مثلما كان – داخل المجتمع الواحد وبين الأمم والدّول – ولكن سيكون عليه أن يصبح شريفًا ونظيفًا أكثر، وأن يتحلّى بمضمونٍ إنسانيّ. أَخْلَقةُ التّنافس وحدها، غدًا، مفتاح إعادة البناء بعد كلّ هذا الخراب العظيم الذي قادنا إليه منوالٌ داروينيّ ومتوحّش من «التّنميّة» و«التّقدّم».
– 4 –
من المرجّح أن تشهد النّزعة الانكفائيّة الأمريكيّة مداها، ومَنْحاها التّصاعديّ، بعد العاصفة الهوجاء لجائحة كورونا؛ على ما تشي بذلك السّياسات الرّسميّة الأمريكيّة، أثناء أزمة كورونا، الجانحة نحو تبديل الأولويّات، تبديلًا ملحوظًا، من طريق التّشديد على المصالح القوميّة في الدّاخل الأمريكيّ بما هو بؤرتُها الأساس، وذلك بعد ردْحٍ من الزّمن طويل وضعتْ فيه السّياسات الأمريكيّة العالم كافّة مسرحًا لها وميدانًا حيويًّا لمصالحها، وانساقت وراء فكرة التّدخُّل المباشر فيه – بل في تفاصيل شؤونه – سبيلًا إلى حماية مصالحها وتعظيمها. ويبدو أنّ لسعة كورونا ردعت هذا المنحنى الإمبراطوريّ في السّياسة الأمريكيّة، ودفعت الإدارة الحاكمة إلى نهجٍ تدريجيّ لسياسة الانكفاء على الذّات.
ليست النّزعة الانكفائيّةُ هذه جديدةً في سياسات الولايات المتحدة الأمريكيّة، ولا هي تربط – حصرًا – بإدارة دونالد ترامپ، وإنّما ابتدأ التّعبيرُ عنها – أوّل ما ابتدأ – في عهد باراك أوباما. لقد كان ذلك بمناسبة سحب القوّات الأمريكيّة من ساحات الحروب في العالم: العراق أوّلًا، ثمّ فتح التّفاوض للانسحاب من أفغانستان، والتّأكيد – في غير مناسبة – أنّ أمريكا لن تخوض حروبًا خارج حدودها. ولم يكن ذلك الانكفاء عن الحروب في الخارج عاديًّا، بل آذَنَ بتحوُّلٍ كبير في الاستراتيجيّات الدّوليّة للولايات المتّحدة، وأتى يمثّل نقضًا للسّياسات المغامِرة التي نهجها تيّار المحافظين الجدد ونخبته الحاكمة في عهد جورج بوش الابن، وحكمًا بإدانتها في ما جرّتْه على أمريكا من باهظ الأثمان: في أرواح الآلاف من جنودها، وسلامة أبدان عشرات الألوف من الجنود المعطوبين، وفي اقتصادها الذي انْشَرخ بنيانُه في الأزمة الماليّة لعام 2008، كما في هيبة أمريكا في العالم؛ التي تلوّثت بالحروب وجرائم انتهاك حقوق الإنسان في معتقل «أبو غريب» (في العراق) وفي معسكر غوانتانامو … إلخ، الأمر الذي طعن في صدقيّتها كدولةٍ عظمى.
على أنّ ما بدأهُ أوباما جزئيًّا سيستأنفه ترامب على نطاقاتٍ أوسع في عهده هذا. وإذا كانت إدارة أوباما تغيّت من الانسحاب من الحروب تصحيحًا لمسارٍ سياسيّ انتحاريّ، وترميمًا لشروخٍ في صورة أمريكا على الصّعيد الكونيّ، من أجل الاستمرار في حماية مصالحها في العالم بعد أن تهدَّدت بالأذى من سياسة الحروب، فإنّ انسحابيّة ترامب بدت شاملةً ومتتاليّة الحلقات: من الاتّفاقيّات العسكريّة الدّوليّة (النّوويّة والصّاروخيّة) مع روسيا؛ ومن الاتّفاقات التّجاريّة الدّوليّة (مع الصّين خاصّةً)؛ ثمّ من المنظّمات الدّوليّة التّابعة للأمم المتّحدة («اليونسكو»، «منظّمة الصحة العالميّة»)، ناهيك بإقفال حدود أمريكا مع المكسيك، وتغيير اتفاقيّة «النّافتا» لدول شمال أمريكا باتّفاقيّة تجارة جديدة (USMCA)… إلخ.
أما الوجه الآخر للانكفائيّة الأمريكيّة، في عهد ترامب، فهو إساءته العلاقة بحلفائه في «الاتحاد الأوروبيّ» وتكثيفه الضّغط على الاتّحاد ذاك؛ سواء بتشجيعه بريطانيا على الانسحاب منه؛ أو بضغطه على الأوروبّيين لمنعهم من تصحيح العلاقات الأوروبيّة – الروسيّة أو من مراجعة سياسة العقوبات ضدّ روسيا، التي ألحقت أضرارًا بمصالحهم؛ أو بالضغط على فكرة الأمن الأوروبيّ المستقلّ وحمْل دول أوروبا على التزام إطار الحلف الأطلسيّ وزيادة مساهمتها الماليّة في ميزانيّته، ناهيك بتوتيره المستمرّ للعلاقات مع أكبر دولتيْن في الاتّحاد (ألمانيا وفرنسا)… إلخ. هكذا لم تعُدِ الولايات المتّحدة تلْحظ في سياساتها ما كانت تسمّيه، في ما مضى، مصالح الغرب جملةً، بل انتهت إلى الدّفاع الحصريّ عن المصالح القوميّة الأمريكيّة حتى وإنْ اصطدمت بمصالح الغرب!
وما من شكّ في أنّ أزمة الوباء الجارية لن تُخرِج السّياسة الأمريكيّة من انكفائيّتها، التي أوغلتْ فيها، بقدر ما ستسرّع من وتائرها وتغذّي منزِعها أكثر. وهذا الاحتمال لا يُرَجِّحه أداؤها تجاه الوباء، فحسب، وهو أداءٌ منغلقٌ على النّفس ولم يتوسّل أيًّا من الأطر والأدوات الدّوليّة حتّى اللّحظة، وإنّما يرجّحه أنّ الولايات المتّحدة ستعيش، لفترةٍ قادمة، أسيرة مشكلتيّن داخليّتيِن لن تتركا للبيت الأبيض كبيرَ مجالٍ أمام سياسةٍ دوليّة فاعلةٍ ونشطة؛ أولاهما الأزمة الاقتصاديّة النّاجمة من الإغلاق الذي فرضتْه جائحة الوباء، والتي ستأخذُ إدارتُها جَهْدًا كبيرًا ومعالجتُها وقتًا طويلًا منها. وثانيتُهما ما بدأ يدبّ من خلافات حول السّلطات الدّستوريّة لكلٍّ من الرّئيس وحكّام الولايات، بمناسبة إدارة الطّرفين لأزمة الوباء؛ وهو خلاف لن يتوقّف عند حدود التّنازع على الصّلاحيّات في إدارة الشّأن الصحيّ، لأنّ من ذيوله النّزاع على السّلطة بين المركز الفدراليّ وولايات لها الوضع الاعتباريّ للدّول.
– 5 –
لن تمنع الانكفائيّة الأمريكيّة، المرتقب تَعاظمُها بعد جائحة كورونا، من أن تستمرّ الإدارةُ الأمريكيّة في الدّفاع عن مصالحها في العالم التي تتهدّدُها المنافسَةُ من القوى الكبرى الصّاعدة. ستفعل ذلك لا بدافع المشاركة في شؤون النّظام الدّوليّ وإدارة مشكلاته وأزْماته من خلال المؤسّسات الدّوليّة، وإنّما بدافع الدّفاع عن المصالح القوميّة، في المقام الأوّل، والحدّ من مخاطر إلحاق الأذى بها من القوى المنافسة، بل حتّى محاولة منع القوى المنافسة من حيازة أسباب النّفوذ في العالم، وخاصّةً في المناطق المحسوبة مناطق نفوذٍ حصريّ للولايات المتّحدة الأمريكيّة. ومن نافلة القول أنّ الانكفائيّة لا تعني الجنوح للسّلام والهدنة مع مَن هُم خارج الحدود القوميّة؛ إذ في الانكفائيّة قدْرٌ من الذّعر، والمذعورُ – بطبيعته – لا يطمئنّ على نفسه، كما لا يمنح غيره الشّعورَ بالطّمأنينة والسّلام.
وليس من شكٍّ في أنّ الاستقطاب الدّوليّ، الذي تولّد من حقبة ما بعد الحرب العالميّة الثّانيّة، انتهى في صورةٍ تاريخيّة منه – هي الاستقطاب الأيديولوجيّ والعسكريّ بين العظمييْن – منذ انتهت الحرب الباردة عقب انهيار الاتّحاد السّوفياتيّ، غير أنّه سرعان ما تَجَدَّد، اليوم، في صورة استقطاب اقتصاديّ وتجاريّ وعلميّ وتكنولوجيّ بين القوّتيْن الرئيستيْن فيه: الولايات المتّحدة الأمريكيّة والصّين الشّعبيّة. ولقد بدأت وقائعُ ذلك تُفصح عن نفسها منذ مطلع العقد الحالي، غير أنّه ظلّ إفصاحًا غيرَ ذيِ تبعاتٍ صِداميّة في ظلّ الإدارة الدّيمقراطيّة السّابقة في واشنطن. لكنّ وصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة غيّر من درجة حرارة ذلك الاستقطاب وخَلَعَ عليه قدْرًا من الحَماوة السّياسيّة المصحوبة بالتّهويل الإعلاميّ من «الخطر الصّينيّ» عبر «دبلوماسيّة التّويتر». ولم تكن عاصفة كورونا الهوجاء قد هبّت، حتّى كان مسرح المنافسة قد أُعِدّ لاستقبال مشهدِ صراعٍ لا يُعْلَم إلى أيّ مدًى قد يصل.
لم تَخْسَر الصّين وحدها في الحرب التّجاريّة، منذ دشّنها قرار ترامب – في عام 2008 – بفرض رسوم جمركيّة على سِلع صِينيّة، تبلغ قيمتها خمسين مليار دولار، بل خسرت فيها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، أيضًا، حين ردّت الصّين على القرار، بقوّة، ففرضت رسومًا جمركيّة على ما يزيد على مئة وعشرين منتوجًا أمريكيًّا. هكذا دخلتِ الدّولتان الكبيرتان طورًا من الصّراع الحادّ، خاصّةً بعد أن أَتْبَعَت إدارة ترامپ قرارها الأوّل برفع التعرفة الجمركيّة على سِلع صينيّة تبلغ قيمتُها المائتيّ مليار دولار بما يتجاوز ضعف نسبة التّعرفة. أمّا الدّافع إلى الصّراع هذا فاعتقادُ ترامپ وإدارته بأنّ الصّين مسؤولة عن العجز التّجاريّ الذي يعانيه الاقتصاد الأمريكيّ حيال الصّين. أمّا الصّين، من جهتها، فتفهم العجز ذاك بما هو تعبير عن تحوّلٍ عميق في بنية الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي تحوّلت، منذ مطلع القرن الحالي، من دولة منتجة إلى دولة مستهلكة للمنتوجات الأجنبيّة، خاصّةً الصّينيّة.
ولكنّ الحرب الاقتصاديّة هذه لم تنحصر في التّجارة، بل تعدّتها إلى التّكنولوجيا والإنتاج التّكنولوجيّ. وكما كانت الحرب التّجاريّة الأمريكيّة على الصّين ضاربةً منتهِكة لمبدإ التّجارة الحرّة، كذلك تمثّل الحرب التّكنولوجيّة محاولة لنسف مبدإ المنافسة العلميّة والتّقانيّة. ومع أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة تكاد تحتكر صناعة تكنولوجيا المعلومات في العالم، من خلال شركاتها الكبرى العاملة في هذا المجال (آبل، غوغل، أمازون، فيسبوك)، إلاّ أنّها أبدت ضِيقًا شديدًا من التقدّم التّكنولوجيّ الصّينيّ الهائل، وكان ذلك في أساس إقدام إدارة ترامب على قرار حظر منتجات شركة هواوي الصّينيّة في الولايات المتّحدة (في أيار/مايو 2019). وما من شكّ في أنّ الصّين لن تبقى مكتوفة اليدين أمام خطورةٍ من هذا النّوع تُلحِق أبلغ الضّرر بصناعتها التكنولوجيّة: الصّناعة التي يبدو أنّها باتت معقِد رهان الصّين في صعودها الاقتصاديّ الكبير لاحتلال المركز الأوّل في العالم.
سينقشع غبار كورونا على مشهدٍ صراعيّ بين الدّولتين أشدِّ حدّةً ممّا كانهُ صراعهُما قبِلًا. يعزّز ذلك ما توحي به حملات ترامپ والبيت الأبيض على الصّين و«مسؤوليّتها» في «إخفاء المعلومات» عن الفيروس (الشيء الذي تنفيه «منظّمة الصحة العالميّة» واستحقّت عليه العقاب الأمريكيّ!)؛ كما يُوحي به تعاظُم الاحترام للصّين في العالم وعلوُ منزلة نظامها الصحّيّ والتّكنولوجيّ ونجاحه في مواجهة امتحان كورونا. وإذا أضفنا إلى ذلك المشكلات الكبيرة التي دخل فيها الاقتصاد الأمريكيّ، بعد تجربة الوباء، وحالة الكساد والوهن التي ستترتّب عنها، اجتمعت الأسباب الحاملة على الاعتقاد بأنّ الاستقطاب الأمريكيّ – الصّينيّ سيلج طورًا من الاحتداد غير مسبوق.
– 6 –
لم يسبق أن تعرّض «الاتّحاد الأوروبيّ» لامتحانٍ وجوديّ كالذي تَعَرّض له، وما يزال، في سياق جائحة كورونا التي ضربـتِ العالمَ كلَّه وكان لأوروبا منها الحصّةُ الأضخم في الخسائر. والحقّ أنّ امتحان وباء كورونا لم يكن سببًا رئيسًا في توليد مشكلة انقطاع الأواصر الأوروبيّة – الأوروبيّة بين دول الاتّحاد (ولو أنّ الانقطاع ذاك حصل في سياق انتشار الوباء)، وإنّما هو أتى يميط اللّثام عن جملةٍ من المشكلات العميقة المعتمِلة في الدّاخل الأوروبيّ، التي جعلت من الاتّحاد مشروعًا غيرَ قابلٍ للاستمرار أو، على الأقلّ، مشروعًا هشًّا مفتوحًا على احتمالات الانتكاس وربّما الزّوال. لم تكن ما فعلتْه جائحة كورونا بـ «الاتّحاد الأوروبيّ» أكثر من تفجير قسمٍ من تناقضاتٍ صامتة انطوى عليها منذ قيامه، وتظهيرِ فِعْل الآليات الذّاتيّة الكابحة له ولصيرورته كيانًا إقليميًّا قويًّا قادرًا على المنافسة النِّديّة للقوى العظمى في عالم اليوم. وعليه، ليست مشكلته – ولن تكون – مع الأثر السّلبيّ لكورونا في وحدة كيانه، وإنّما مشكلتُه مع نفسه؛ مع مشروعه والقواعد والأساسات التي قام عليها لحظة النّشأة.
أراد «الاتّحاد الأوروبيّ» نفسَه، منذ البداية، إطارًا إقليميًّا وقاريًّا للوحدة الاقتصاديّة والماليّة والنّقديّة قصد تأهيل دوله لخوض المنافسة العالميّة في طورٍ منها جديدٍ فرضتْه حقبةُ العولمة. ساعدتْه في النّجاح، ابتداءً، مواريثُ التّاريخ المعاصر ومكتسبات تجربة التّعاون الإقليميّ في إطار «السّوق الأوروبيّة المشتركة» و«الجماعة الأوروبيّة»؛ مثلما ساعدتْهُ عواملُ أوروبيّة مستجدّة من قبيل: إعادة توحيد شطريْ ألمانيا، وانضمام معظم دول شرق أوروبا – «الاشتراكيّة» سابقًا – إلى المنظومة الأوروبيّة بعد انتهاء الحرب الباردة. غير أنّ تجربة الاندماج الاقتصاديّ والمالي والوحدة النّقديّة جوبهت، منذ البدايات، بعقدة الامتناع البريطاني عن الانضمام إلى منطقة اليورو، وإصرار المملكة المتّحدة على الاحتفاظ بعملتها الوطنيّة واستقلاليّة نظامها الماليّ، الأمر الذي حدّ من طموحاته في أن يكون إطارًا جامعًا للاندماج الاقتصاديّ الأوروبيّ.
وإذا كانت بريطانيا قد حسمت علاقاتها الهشّة بتجربة «الاتّحاد الأوروبيّ»، فصوّت أغلب شعبها للانسحاب منه، وباشرت حكومتُها عمليّة الانسحاب بعد التّصديق البرلماني على برنامجه، فإنّ العقدةَ البريطانيّة لم تكن العنوانَ الوحيد لأزمة الاندماج الاقتصاديّ الأوروبيّ، وإنّما كان لهذه الأخيرة عنوانٌ ثانٍ أشدُّ أثرًا فيها من الأوّل؛ هو العلاقة غير المتكافئة داخل الشّراكة الأوروبيّة، والنّتائج المترتّبة، بالتّالي، عنها على صعيد مصالح الشركاء المتفاوتة أنصبتُهم من عوائد الشّراكة. لقد كان مبْنَى «الاتّحاد الأوروبيّ» على نظامٍ مُختَلّ بين مركزٍ فيه (ألمانيّ – فرنسيّ) وأطرافٍ أخرى هي باقي دول الاتّحاد. وإذا كان الخللُ هذا من مواريث تاريخ من التّفاوُت في التطوُّر، فإنّ تجربة «الاتّحاد» والاندماج الاقتصاديّ لم تُصب كبيرَ نجاحٍ في تعديل أحكام تلك المواريث، وإعادة تأهيل «التّخوم» و«الأطراف» كي تستفيد من ديناميّة التّطوّر التي أطلقتها تجربةُ الاندماج.
ولكنّ مشكلة المشكلات في «الاتّحاد الأوروبيّ» عجزهُ عن تحقيق وحدةٍ سياسيّة يَقْوى بها ظهرُه وتتعَزّز بها وحدتُه الاقتصاديّة؛ وأوّلُها عجزُه عن إقرار دستور أوروبيّ سبق الاتّفاق عليه في بروكسيل (18 حزيران/يونيو 2004)، ووقَع تعديلُ مسوّدته الأولى وتوقيعه (29 تشرين الأول/أكتوبر 2004)، في أفق أن يدخل حيّز التّنفيذ في العام 2006. الأوروبيّون أنفسُهم هُم من أسقطوا مشروع الدّستور ومعه الوحدة السّياسيّة الأوروبيّة؛ بالتّصويت الشعبيّ الفرنسيّ ضدّه (في نهاية أيار/مايو 2005) والتّصويت الهولنديّ ضدّه (في الأوّل من حزيران/يونيو 2005). هكذا أتت المشاعر القوميّة الاستقلاليّة في بلدان أوروبا تضع حجرًا أساسًا لاِمتناع صيرورة الاتّحاد إلى إطارٍ أوسع من الاتّحاد الاقتصاديّ، بل إنّ الاتّحاد هذا نفسَه بات مشروعًا مهدّدًا بانتصاب حواجز محليّة كابحة لرسوخه.
وغنيٌّ عن البيان أنّ هشاشة البناء الاتّحاديّ الأوروبي تولّدت من مفعول حقيقة عميقة لم تكنِ العولمة لتَمْحُوَها أو لتُغيّر منها الكثير؛ هي حقيقة رسوخ الدّولة القوميّة ومعها الشّعور القوميّ في بلدان أوروبا. وهو عينُه الشّعور الذي قاد بريطانيا إلى انشقاقها عن المجال الأوروبيّ. ومع ذلك، لم تفهم نُخبُها الحاكمة الدّرس جيّدًا، فاكتفت بأن ردّتِ الإخفاق الاتّحادي إلى صعود اليمين المتطرّف وفشوِّ أفكاره الوطنيّة الانغلاقيّة في الرّأي. وهذا إذا كان صحيحًا، فينبغي البحث، إذًا، في تلك القابليّة الشعبيّة لاستقبال خطابه الانغلاقيّ وموالاته.
مع جائحة كورونا تبلغ هشاشةُ الاتّحاد ذروة التّعبير عن نفسها. ليس قليلًا أن تُتْرَك دولٌ منه أمام مصيرها – مثل إيطاليا وإسبانيا -؛ وأن تُقْفَل الحدود بين دوله وكأنّها لم تكن مفتوحة (= منطقة واحدة مفتوحة)؛ وأن تغيب سياسة أوروبيّة واحدة في مواجهة الوباء؛ وأن تنكفئ كلّ دولة إلى داخلها القوميّ غيرَ معْنيّةٍ إلاّ بنفسها… إلخ. لقد تمزّقتِ الأواصر والرّوابط بين «الشّركاء»، وقد يكون عسيرًا – وربّما مستحيلًا – إعادةُ بعث الحياة في «الاتّحاد الأوروبيّ» بعد امتحان كورونا.
– 7 –
لستُ أوافق رأيَ من يذهبون إلى الاعتقاد بأنّ العولمة ستكون في جملة الظواهر التي ستقضي من جرّاء عاصفة كورونا الهوجاء، وأنّ هذه ستكنسها موضوعيًّا أمام صيرورة الانكفاء القوميّ مسْـلكًا رئيسًا وعامًّا للدّول. ربّما أميل إلى الظنّ أنّ الاعتقاد هذا قد يكون أقرب إلى الينبغيّات منه إلى التوقُّعات المبنيّة على مؤشّرات. إنّه أمَلٌ يخامر كثيرًا من الذين وقفوا من العولمة موقفًا نقديًّا، ورأوا فيها الظّاهرة المسؤولة عن العديد من الآفات الاقتصاديّة والاجتماعيّة – حتّى العسكريّة – التي حلّت بالعالم، وخاصّةً بمجتمعات الجنوب ودوله، في الأعوام الثّلاثين الماضيّة.
ومع أنّ نزيهًا لا يملك أن يجادل في صواب مثل هذا النّقد وموضوعيّته للعولمة، إلّا أنّ الفارق وسيعٌ بين نقد العولمة وبين الرغبة في تشييعها. وإلى ذلك، فإنّ العولمة لم تتولّد – كظاهرةٍ تاريخيّة – من مؤامرة، كما يُظَنّ، بل نشأت من آليات تطوّر في التاريخ المعاصر. ومشكلتُها ليست فيها، كعولمة، كآلية نزّاعة إلى توحيد العالم، وإنّما مشكلتها في نوع السياسات التي توسَّلتْها واستخدمتْها، وأَكْسَبَتْها مضمونًا غيرَ إنسانيّ وغيرَ عادل فقادت، بالتّالي، إلى إلحاق الأضرار بمصالح قسمٍ كبيرٍ من شعوب العالم وأمم ودوله، وصوَّرتِ العولمة – لا السّياسات والقوى المهيمنة التي سخّرتْها – بما هي المسؤولة عمّا لحِقها من جسيم الأضرار.
لكي أكون دقيقًا، في ردّي على الفرضيّة الآنفة الذّكر، أقول: نعم، قد ينصرم شكلٌ من العولمة، شهدنا عليه طويلًا، ولكنّ العولمة في حدّ ذاتها – بما هي نظامٌ من الآليات الدّافعة ومن التفاعلات بين الدّول ثم بين الأمم كما بين التّكتّلات الدّوليّة – سيستمر على نحوٍ مّا من الأنحاء. سيكون عسيرًا أن نتخيّل كيف يمكن أن تتبخّر، فجأةً، مؤسّسات اقتصاديّة وإنتاجيّة وتجاريّة وبنوك عالميّة وكأنّها لم تكن؛ أو تتوقّف حركة تدفّق الأموال والرّساميل والمعلومات الخارقةُ للحواجز، كي تعود هذه إلى حيّزاتها القوميّة؛ أو أن تنهار – فجأة – الشّركات العولميّة الكبرى فتتقاسم مكوّناتُها الوطنيّة حصصَها من ميراث الانفراط. بالقدر عينِه، سيكون عسيرًا أن نتخيّل عالمًا خاليًا من خِدمَات شبكة الإنترنت والهواتف المحمولة والأقمار الصّناعيّة والقنوات الفضائيّة وسواها. هذه جميعُها من عُدّة اشتغال العولمة ومن ثمراتها، وكلّ افتراضٍ بأنّ العولمة سائرة إلى الزّوال يستجرّ، حُكْمَا، الافتراض بأنّ كلّ هذه العُدّة سيصير، غدًا، في حكم الخردة التي يمكن الاستغناء عنها.
قلتُ إنّ طبعةً من العولمة قد تتقادم وتمَّحي – بل لا بدّ لها من أن تمَّحي – لأنّ المشكلة فيها لا في العولمة. أمّا النّوع هذا الذي قد ينصرم من العولمة فليس شيئًا آخر غيرَ ذاك الذي شهدنا عليه في العقود الثلاثة الأخيرة. أعني تلك العولمة التي مبْناها على السّيطرة والهيمنة، والإخضاع القسْري: إخضاع القويّ للضّعيف والبطش به، والسّطو على حقوقه، وتجاهُل مصالحه. انتهى ذلك الطَّور من العولمة – أو هو على الوشك من الانتهاء – منذ أفضت بنا عقيدةُ القوّة والغطرسة والهيمنة إلى الطّريق المسدود، فأطلقت – في مواجهتها – ألوانًا من الاحتجاج والرّفض تُؤْذِن بتحويل الكون كلّه إلى مسرح من صراعاتٍ غيرِ قابلةٍ للضّبط والاحتواء. وانتهى منذ تحوّلت بلدانٌ من تخوم العولمة وهوامشها إلى مراكزَ جديدةٍ لها، وصارت مراكزُها القديمة هوامشَ أو في حُكْمِ المَسِير إلى الهوامش. وانتهَى منذ ضُرِب احتكار الثّروة والسّلطة، في العالم، في مَقْتَل وباتت فُرص غُنْم مكتسبات العولمة في حُكم المتاح للبشريّة جمعاء. ثمّ ها هو ينتهي مع الصّعود الحثيث لخطاب إنسانويّ جديد في أوساط قوًى دوليّة جديدة ليست ملوَّثة بماضٍ استعماريّ أو عنصريّ (لأنّها جنوبيّة)، بل كانت ضحيّةً له في أزمنة استضعافها.
هذه الطّبعة الكالحة من العولمة آيِلةٌ، حكمًا، إلى الزّوال؛ وهي التي شربت كأسها كلّها بمناسبة جائحة وباء كورونا. أمّا الموعد القادم للبشريّة فسيكون مع عولمةٍ تختارها، هي، بإرادةٍ حرّة وتكون موضِعَ مُوَاضَعة وتوافق بين شعوبها ودُوَلها؛ عولمة إنسانيّة ومن أجل لإنسان وكرامة الإنسان؛ وعولمة عادلة مبناها على النَّصَفَة في الحقوق، لا على الهيمنة والاستغلال والتّحيُّف. قد يقال إنّ هذه طوبى جديدة لم يَثبُت على إمكانها التّاريخيّ دليل. ونقول: قد تكون طوبى في القريب المنظور، لكنّ القرائنَ على إمكانها في المدى المتوسّط – بعد سنواتٍ عشر مثلًا – كثيرةٌ وقويّة. وهل هناك ما هو أقوى من الشّعور المتزايد في العالم بوجوب أَنْسَنَة العولمة وأَخْلَقَتِها؟
– 8 –
لن تكون جائحة كورونا قد مرّت، وطواها النّسيان، حتّى ستكون تجربتُها المريرة قد وضعت، مجدّدًا، الأساسات والمداميكَ لقيامةٍ جديدة للدّولة من تحت الأنقاض. لنتذكّرْ أنّ عاصفة الوباء الهوجاء هبّت في الوقت عينِه الذي كان فيه خطابُ «النّهايات» قد قطع شوطًا طويلًا في «التّبشير» بنهاياته: نهاية الدّولة، نهاية المجتمع، نهاية السّيادة، نهاية الأيديولوجيا… إلخ. كلُّ شيءٍ في ذلك الخطاب كان برسم التّشييع إلى دار البقاء، ولكن من غير أن يُفصح الخطاب ذاك – ولو مرّة – عمّا سيكونُه العالم بعد زوال ما «بشّر» هو بزواله. وما إن داهمتْ كورونا العالم، حتّى بدا وكأنّ الإنسانيّة جمعاء تَلُوذ بما وقع «التّبشير» بنهايته: تعتصم بحبل المجتمع والجماعة، تلوذ بالدّولة، تتمسّك بالسّيادة، تنكفئ إلى هويّاتها القوميّة. هكذا تتبخّر – بالموازاة – عشرات الدّعوات إلى توديع يَقينيّاتنا ومألوفاتنا من الأفكار والمؤسّسات والكيانات.
والحقّ أنّ كيان الدّولة كان قد بدأ يضمحلّ، قبل هبوب عاصفة الوباء، ويدبّ إليه الكثير من الوَهْن بعد تجربةٍ مريرة من الانكفاء، مرّت بها الدّولة، فرضَها فشوُّ أحكامِ العولمة التي زحفَت، وقلّصت من مفعوليّة أحكام الدّول الوطنيّة ومنظوماتها القانونيّة والتّشريعيّة. بات على الدّولة، مع الزّمن وسريان مفعول عولمة الهيمنة، أن تُخضِع نفسها لأحكامها وأن تَحُدَّ، بالتّالي، من ممارسة وَلايتها الحصْريّة ضمن نطاق حدودها الجغرافيّة السّياسيّة. ولم يَكُنِ المسلك هذا اختيارًا منها، بل أتى اضطراريًّا وفي سياق مَرْغَمَةٍ حُمِلَت عليها منذ ابتداء استباحةِ سيادتها، في وجوهها كافّة: السّياسيّة – القانونيّة، والاقتصاديّة، والتّجاريّة، والماليّة، ثمّ الإعلاميّة والمعلوماتيّة. وقد أوحت هذه الأوضاع، إلى مَن يبغون للدّولة الوطنيّة انحسارًا (من النّاطقين بلسان العولمة ومن نشطاء «المجتمع المدنيّ»)، بأنّ هذه الدّولة آيلةٌ، فعلًا، إلى زوال وأنّها تقطع الشّوط الأخير من مسار كينونتها.
ما إن بدأ الوباءُ يفشو ويحصُد ضحاياه، حتى شرعتِ الدّولةُ الوطنيّة في استعادة عافيتها، تدريجًا، والانتهاض من رقْدتها المديدة لِتُباشِر مسؤوليّتها في حماية المجتمع من غائلة الخطر الذي يفتك به. وفي كلّ يوميّات جائحة كورونا ووقائعها المأساويّة، لم يكن على مسرح الأحداث من بطلٍ سوى الدّولة؛ فهي التي هندسَتْ برنامج المكافحة الطبيّة والاجتماعيّة للوباء؛ بتسخيرها مراكزها الاستشفائيّة ومختبراتها العلميّة للفحوص والعلاج؛ وتعبئتها مواردها الماليّة والاقتصاديّة لدعم الفئات الفقيرة في مواجهة آثاره الاجتماعيّة؛ وتجنيد مؤسّساتها الإداريّة والأمنيّة لإدارة عمليّة الحجْر والطّوارئ الصحيّة ومراقبة الالتزام العموميّ بأحكامها. ولولا قيام الدّولة بما قامت به، لكانت الجائحة أخذت من ضحاياها ما لا يمكن عدُّه وحصْرُه. والحقّ أنّ ما صرفتْه الدّولة من جَهْد، وما أدَّتْهُ من وظائف وأَتَتْهُ من إنجاز في شهور الجائحة يعادل، في القيمة كما في الكثافة، ما صرفَتْه وأدّتْهُ وأنْجَزتْه في سنواتٍ بكاملها.
وما من شكٍّ يخامرنا في أنّ هذه الانتعاشة، التي شهدت عليها الدّولة، ليست عارضةً وموقوتة أو ممّا يمكن أن يخْبُوَ وتنطفئَ جذوتُه ما إن ترتفع أسبابُه؛ ذلك أنّ التّمرين المديد الذي خضعَتْ له قوى الدّولة وأجهزتُها، في اختبار جائحة الوباء، سيعود عليها بأجزل العوائد والمنافع؛ سيقوّيّ كيانَها ويبعث فيه الحيويّة والفاعليّة؛ وسيرفع من معدّل رصيدها المعنويّ – والماديّ – لدى الشّعب و، بالتّالي، مشروعيّتها وشرعيّتها ومن الشّعور الجمْعيّ بالحاجة الحيويّة إليها. وإلى ذلك، سيحسّن من أدائها في مواجهة النّوائب والأزْمات بالبناء على خبرة مواجهتها للوباء. والحقُّ أنّ الدّول في التّاريخ لا تُبْنَى إلاّ في المحن والابتلاءات التّاريخيّة؛ من جنس الحروب والكوارث والأوبئة التي من نوع وباء كورونا اللعين، وعليه، سنكون قد خرجنا من تجربة الجائحة بمَغْنَم كبير: الدّولة المقتدرة القويّة.
ترى كيف كان سيكون مصيرنا – مصير شعوب الأرض كافّة – في هذه الجائحة الوابِقة لولا الدّولة؟ يصعُب على المرء أن يتخيّل ما الذي كان سيحصل من دونها؛ من غير أن تَحْمِل عن المجتمع الضغوط الهائلة التي ألقاها الوباء على الصحّة والحياة والمعيشِ اليوميّ والأمن، والتي لا قِبَل لأيّ مجتمعٍ من مجتمعات الأرض بأن يحملها من غير إسنادٍ من الدّولة. ما كنتُ متزيِّدًا، إذًا، حين كتبْتُ منذ زمن ما لا أزال شديدَ الاقتناع به: أنّ الدّولة هي أعظم اختراعٍ إنسانيّ في التّاريخ؛ وبه دشّنتِ الإنسانيّة مسيرة البناء والتّقدّم.
– 9 –
ما الدّرس الذي يمكن مجتمعاتنا ودولَنا العربيّة أن تستفيده من التّجربة المريرة لجائحة وباء كورونا؟ وما الذي ينبغي لها أن تقرأهُ، قراءةً صحيحة، من الطّريقة التي قاربَت بها دُولُ العالم تلك الجائحة، ومن مشهد العلاقة التي وجدت تلك الدّول نفسَها تُقيمها بين بعضها البعض أثناء ضغط الوباء عليها؟ وهل لها أن تعثُر في تلك الطّريقة الفاشلة على مؤشّر دالّ على وجوب الانصراف إلى خيارات في البناء والعمل غير تلك التي درجَتْ عليها، في ما مضى، وهي مشدودة إلى «شَراكاتها» الدّوليّة؟
نسارع إلى الجواب بالقول إنّ الدّرسَ الأغنى، الذي يمكنها استفادتُه من تلك التّجربة المريرة، ومن سياسات الدّول حيالها وحيال بعضها، هو الاعتماد على الذّات بما هو الخيار الوحيد والاستراتيجيّة الأنجع للبناء ولجَبْه التّحديّات. والحاملُ على هذا الاعتقاد أكثر من سبب.
أول الأسباب تجربةُ الوباء وسلوكُ دُول العالم تجاهه وتجاه بعضها، وما عاناهُ مبدأ التّضامن والتّعاوُن في سياق ذلك السُّلوك الفاشل، ولكن الدّال – في الوقت عينِه – على نوع ثقافة التّعاون والاعتماد المتبادَل المسيطرة في وعي النّخب الحاكمة في العالم، وفي بلدان الغرب خاصّة! على الذين تَعَوّدوا التّعويل في برامج التّنمية والبناء على «صداقاتهم» وعلاقاتهم بالولايات المتّحدة الأمريكيّة ودول «الاتّحاد الأوروبيّ» أن لا ينسوا أنّ تلك القوى أقفلت حدودها أمام بعضها. الولايات المتّحدة الأمريكيّة أوّل من سارع إلى إقفال حدوده على أوروبا، بل على كندا والمكسيك» الشّريكيْن معها في نظامٍ إقليميّ للتّبادل الحرّ. وحذت دول «الاتّحاد الأوروبيّ» حذوها فأقفلت حدودها على بعضها ضاربةً بالشّراكة الإقليميّة عرض الحائط؟ وهكذا تُرِكت دولُها الصّغرى (إسبانيا، إيطاليا، بلجيكا، هولندا…) عُرضةً للوباء ينهش في أبدان مواطنيها ومقدّراتها الاقتصاديّة. كيف، إذًا، لمن ضحّى بحلفائه وشركائه في الغرب أن يلتفت إلى «أصدقائه» في الجنوب؟ وكيف للأخيرين أن يستمرّوا في سياسة التّعويل عليه وعلى إسناده لهم ومساعدته إيّاهم؟
وثاني الأسباب أنّ خيار الاعتماد على الذّات مسْلَكٌ سياسيّ طبيعيّ إبّان الأزمات الكبرى. كم من دولةٍ لجأت إليه لأنّها تُرِكت وحدها لقدرها وانشغل عنها غيرُها بأزماتهم. وكم من دولةٍ فرضهُ عليها ما تعرّضت له من حصارٍ مديد، من القوى الكبرى، لأسباب سياسيّة. وليس ما نعيشه، اليوم، غيرَ حالةٍ من حالات تلك الأزمات الخانقة التي لا ينفع، في مواجهة ضوائقها، سوى الاعتماد على الذّات. بماذا قاومت إيطاليا وفرنسا، جائحة الوباء الأخيرة؛ هل بأموال و«مساعدات» «الاتّحاد الأوروبيّ» والولايات الأمريكيّة المتّحدة أم بإمكانيّاتها الذّاتيّة ومواردها الوطنيّة؟
وثالث الأسباب أنّ دولةً لم تَبْنِ تنميّتها، على الحقيقة، إلّا من طريق استراتيجيّة الاعتماد على الذّات، بما يعنيه ذلك من تعبئة مواردها الوطنيّة كافة: الطّبيعيّة والاقتصاديّة والماليّة والبشريّة، والاستثمار الرّشيد فيها قصد تعظيمها، وتغذِّيه عمليّة التّنميّة والبناء بالبحث العلميّ، والإنفاق الوطنيّ عليه. والمثال الأكبر لهذه الاستراتيجيّة، في الأعوام الأربعين الأخيرة، هو الصّين الشّعبيّة؛ البلد الذي فرض عليه الحصارُ الغربيّ الطّويل والقاسي أن يعتمد على نفسه وموارده. وقد لا تَقْوى كلُّ دولةٍ في العالم على أن تحصُد من خيار الاعتماد على الذّات اقتصادًا كبيرًا وقويًّا، واستقلالًا اقتصاديًّا وعلميًّا وتِقانيًّا، مثلما أمكن ذلك للصّين، ولكنّ سيرها فيه – بقدمٍ ثابتة – سيُسفِر، لا محالة، عن نهضةٍ في قطاعات بعينها يقع تركيزُ البحث العلميّ والتّنميّة عليها؛ وتلك، مثلًا، حال كوبا التي نجحت، في تجربة حصارها المديد وسياسات الاعتماد على الذّات، في أن تُنجب أفضل نظامٍ صحيّ في العالم يغطّي الحاجات الوطنيّة، ويتكرّس لتقديم الخدمة، في الوقتِ عينِه، إلى البلدان التي تحتاج إليها.
ليس الاعتماد على الذّات، في عمليّة البناء التّنمويّ، بديلًا من استراتيجيّة التّعاون والاعتماد المتبادَل، بل هو شرط لاستقامتها فعلًا. لا اعتماد متبادلًا، على الحقيقة، من غير تحرُّرٍ من ربقة التبعيّة. الاعتماد «المتبادل» بين متبوعٍ وتابع أزعومةٌ فاضحة؛ إذْ ما الذي يملك التّابع أن يقدّمه إلى مَن يفرض عليه التّبعيّة ويتحكّم بمصيره. الاعتماد المتبادَل لا يكون إلاّ بين أنداد متناظرين في القوّة، وفي غياب هؤلاء، هو اسمٌ مستعار لعلاقةٍ هي علاقة: سيطرة – تبعيّة. لذلك لا مناص من تحقيق استقلاليّةٍ – نسبيّة – من طريق الاعتماد على الذّات – يسوغ بها خيارُ الاعتماد المتبادل ويستقيم معناه المطابِق.
قد يهمكم أيضاً كورونا بين محاولات العلاج ومحاولات التعليل
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #جائحة_كورونا #كورونا #عالم_ما_بعد_كورونا
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 501 في تشرين الثاني/نوفمبر 2020.
(**) عبد الإله بلقزيز: أستاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثاني – المغرب.
البريد الإلكتروني: abbelkeziz@menara.ma
عبد الإله بلقزيز
أستاذ الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الثاني - الدار البيضاء. له الكثير من المؤلفات الفكرية والفلسفية، منها: ما قبل الاستشراق: الإسلام في الفكر الديني المسيحي (ط 2) (2023)؛ مسالك التقدم: مداخل في الأسس والسياسات (2022)؛ نقد التراث (ط 3) (2020)، من النهضة إلى الحداثة (ط 3) (2020)؛ الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي (2015)؛ النبوة والسياسة (ط 3) (2014)؛ من الإصلاح إلى النهضة (ط 2، مزيدة) (2014)؛ الدولة والسلطة والشرعية (2013)؛ الفتنة والانقسام (ط 2) (2012)؛ الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر (ط 3) (2011)؛ نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين (ط 2، مزيدة 2010)؛ ؛ نقد الخطاب القومي (2010).
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.