فى إطار فعاليات معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته ٥٣ فاز مركز دراسات الوحدة العربية بجائزة أفضل ناشر عربي، وهي جائزة استُحدثت مؤخراً ضمن الجوائز التى يمنحها المعرض بالتعاون بين اتحاد الناشرين العرب والهيئة المصرية العامة للكتاب، وتسلمت الأستاذة لونا أبو سويرح المديرة العامة للمركز الجائزة ظهر الخميس 3 فبراير بحضور وزيرة الثقافة المصرية الدكتورة إيناس عبدالدايم والأستاذ محمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين العرب والأستاذ هيثم الحاج على رئيس الهيئة، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يفوز فيها المركز بجائزة عربية رفيعة، فقد سبق له نيل جائزة أفضل دار نشر من الشارقة لعام ٢٠١٣ لكن جائزة معرض القاهرة تكتسب قيمة خاصة انطلاقاً من اعتبارات المكان والزمان، فأما المكان فهو مصر التى وصفتها مديرة المركز فى كلمتها بالحفل بأنها حاضنة الأمة العربية ومركز ثقلها، والقاهرة التى وصفتها بأنها مدينة الفن والأدب والثقافة والتاريخ، وأما الزمان فإن التكريم يأتي فى زمن بالغ التعقيد، فعلى الصعيد العربي لا شك فى تدهور الأوضاع العربية نظراً للتطورات المأساوية التي حلّت بالوطن العربي منذ أوائل القرن سواء بسبب الغزو الأمريكى للعراق، أو الانتفاضات الشعبية العربية منذ عقده الثاني وما آلت اليه، وحصيلة ذلك كله فيما نراه الآن من تحديات للرابطة العربية وتراجع للتضامن العربى وفقدان للثقة من البعض في جدوى العروبة أصلاً وتداعيات ذلك كله على كل صور العمل العربي بما فيها الأنشطة البحثية التى زادت صعوباتها على نحو لافت لتراجع مصادر تمويلها، ثم حلّت بنا جائحة كورونا وأحدثت ما أحدثته من نتائج كارثية فى كل المجالات، وأخيراً كان تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية فى لبنان هو ثالثة الأثافي التى أكملت الحلقة المفرغة الخبيثة المحيطة بنشاط المركز، وتكفي الإشارة إلى أن أرصدته فى البنوك اللبنانية التى تكفي لتأمين استمرار نشاطه بوتيرة جيدة قد أصبحت كغيرها من أرصدة اللبنانيين فى حكم العدم وأن النزر اليسير الذي يُصرف منها تُفرض عليه عمولات خيالية مما جعل استمرار نشاط المركز يعتمد على عائد أنشطته الجارية كمن يكسب قوته يوماً بيوم.

فى هذه الظروف البالغة الصعوبة واصل المركز رسالته التى بدأت منذ قرابة نصف القرن بمبادرة نفر من خيرة أبناء الأمة العربية الذين آمنوا بأن الوحدة العربية تمثل المستقبل الآمن للشعوب العربية وأسسوا منظومة بحثية رفيعة تناولت بالبحث العلمي كل القضايا العربية من الاستقلال والتحرر الوطني إلى الوحدة والتنمية والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري، وتنوعت الآليات التى لجأ إليها المركز من مشروعات رائدة إلى عقد الندوات والحلقات النقاشية فى القضايا السابقة كافة إلى نشر الكتب الرصينة التى تتناول القضايا العربية وكذلك الدراسات من خلال مجلة المركز ذات السمعة الرفيعة (المستقبل العربي) التى لم تتوقف مرة عن الصدور، وقد لا يعلم الكثيرون أن المركز يُصدِر فصلية رفيعة المستوى باللغة الإنجليزية يرأس تحريرها الدكتور على الدين هلال وتنشرها جامعة كاليفورنيا، وفي كل هذه الأنشطة اقتدى المركز بنهج المفكر العروبي الكبير ساطع الحصري الذى رفع من البداية شعار «العروبة والعلم» بمعنى أن الإيمان بالعروبة يجب أن يُبنى على أساس علمي، ورغم أن الصعوبات قد واجهت المركز على الدوام فإن صعوبات العقدين الأخيرين بل والسنتين الأخريين فاقت كل احتمال، ومع ذلك واصل المركز نشاطه بوتيرة عادية بل وأحدث اختراقات فى هذا النشاط، ولأستشهد فى هذا الصدد بشهادة لجنة التحكيم الرفيعة المستوى التى منحته الجائزة والتى تكونت برئاسة الدكتور شريف شاهين وعضوية كلٍ من الدكتور جورج نوبار والكاتبة زينب عفيفي والكاتب عزت القمحاوي، وقد أجمعت اللجنة على تميز المركز بإصداراته السياسية والثقافية الضرورية لمستقبل الأمة العربية، وحيته على إصراره وتمسكه بخياراته فى المحتوى وعلى الهوية البصرية المميزة والتطور الملحوظ فى تصميم الأغلفة.

وبالتأكيد فإن هذا النجاح يعود إلى البنية المؤسسية للمركز التي يأتي على رأسها مجلس للأمناء ولجنة تنفيذية تضم مجموعة من خيرة المثقفين العرب المؤمنين بالفكرة العربية، غير أن الفضل المباشر يجب أن يُنسب لأهله وهم جهاز المركز الذي ترأسه المديرة القديرة لونا أبو سويرح ويضم مجموعة من الباحثين والكوادر الإدارية التى تتميز بالإخلاص الشديد لرسالة المركز والكفاءة الفائقة معاً، ويكفي لتقدير إخلاص هذه المجموعة أن القيمة الحقيقية لرواتبهم قد تراجعت بسبب التدهور الحاد فى قيمة الليرة اللبنانية تراجعاً مخيفاً، وعلى سبيل المثال فإن من كان يتقاضى بالليرة اللبنانية ما قيمته ٣٠٠ دولار أصبحت قيمة راتبه الآن أقل من ٣٠ دولارا. أما مديرة المركز فما يميزها أساساً أنها صاحبة رسالة كما أنها تتمتع بقدرات مكّنتها من مواكبة عصر الطفرة التكنولوجية الذى نعيشه فضلاً عن قدراتها الإدارية المتميزة، وهو ما لعب دوراً حيوياً فى الحفاظ على مسيرة المركز فى الظروف الراهنة بل وتدعيمها، وأذكر عندما رشحها المرحوم الدكتور خير الدين حسيب الذى قاد مسيرة المركز باقتدار فى مرحلتي النشأة والنضج أنه طلب من الدكتور علي الدين هلال ومني أن نقابلها لإسداء المشورة له، وبعد أن تبينت لنا كفاءتها الفائقة وجدت من واجبي أن أُنبهها – وهى التى تعمل بالأمم المتحدة – إلى أن الأوضاع الراهنة قد لا تضمن انتظام راتبها فجاءت إجابتها الفورية والحاسمة أنها لم تعد تجد نفسها فى الأمم المتحدة وأنها تريد أن تكمل مسيرتها بالمساهمة في هذا العمل العروبي الرفيع، ولم يكن هذا بمستغرب من ابنة المناضل الفلسطيني البارز ذي السمعة الرفيعة مفلح أبو سويرح، وها هي قد وعدت فأوفت.

 

بقلم الدكتور أحمد يوسف أحمد