تشهد منطقة الشرق الأوسط منذ اندلاع انتفاضات «الربيع العربي» اضطرابات وحالات تعثر في عمليات الانتقال الديمقراطي وحروب أصابت عدداً من البلدان العربية وساهمت من تفكك الدولة الوطنية فيها، إضافة إلى سباق محموم على النفوذ والموارد تقوده القوى الدولية والإقليمية تحت شعار محاربة الإرهاب. من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يركز على عودة روسيا إلى المنطقة، والبحث في دوافعها وأهدافها الاستراتيجية، بعد غياب نفوذها لأكثر من ربع قرن عقب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في بداية تسعينيات القرن الماضي، وإعلان انتهاء الحرب الباردة من جانب الولايات المتحدة، التي تفردت بإدارة الشؤون الدولية منذ ذاك الوقت، في محاولة لتعزيز قيادتها لنظام دولي «أحادي القطب».

يرى المؤلف، وهو محلل بارز في الشؤون الروسية، أن روسيا ترتبط بعلاقات تاريخية طويلة مع المنطقة، سهلت عودتها إليها، وهي في وضع مناسب للمناورة ؛ غير ملتزمة بصداقة دائمة أو عداوة دائمة. وهي لأسباب داخلية – منها تأمين الاستقرار السياسي في البلاد وتعزيز الوضع الاقتصادي – سعت إلى استعادة هيبتها على الساحة الدولية، وبخاصة بعدما شعرت بخطورة توسع حلف الناتو في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ونشر الدرع الصاروخية الأمريكية في شرق أوروبا. وكانت محطة روسيا الأولى للتحرك في جورجيا عام 2008، حيث تدخلت عسكرياً وحالت دون انضمام جورجيا إلى حلف الناتو. ثم كان تدخلها العسكري الثاني في شرق أوكرانيا الذي توجته بضم جزيرة القرم في آذار/مارس 2014 رغم التنديد الغربي بالخطوة الروسية والعقوبات الاقتصادية الأمريكية التي فرضت على الكرملين.

وفي حين كانت الولايات المتحدة تواصل قيادتها لتحالف عربي – دولي من أكثر من 80 دولة لدعم «فصائل المعارضة السورية» ودفع الرئيس السوري بشار الأسد إلى التنحي عن السلطة، بدأت روسيا بطلب من الرئيس السوري، بتوجيه ضربات جوية في الأراضي السورية في أيلول/سبتمبر 2015، معلنة تدخلها العسكري المباشر في سورية وفي قلب الشرق الأوسط، متخطية – في تدخلها الثالث هذا – حدود الاتحاد السوفياتي السابق، وذلك كقوة دولية لها القدرة على رسم الخطوط الحمر في سورية، وكسر المحظورات غير المعلنة بعد الحرب الباردة على العمليات العسكرية من دون موافقة الولايات المتحدة، ناهيك بتذكير عدد من القادة العرب بالهيبة الروسية، وإعادة النظر بجدول أعمالهم. وتفاوض روسيا حالياً – التي عززت من وجودها العسكري على الساحل السوري على نحوٍ لم يسبق له مثيل – وسط مجموعة من التناقضات بين فصائل المعارضة والنظام، وبين السعودية وإيران، وبين إسرائيل وإيران، وبين تركيا والكرد.

مع ذلك يرى المؤلف أن الولايات المتحدة كانت الشريك الأول لروسيا في كسر داعش في أجزاء من شمال سورية ووسطتها، وأن موسكو كانت تسعى إلى تحقيق شكل من أشكال الشراكة مع الولايات المتحدة بشروط مقبولة لها، وهذا ما كان ولا يزال هدفها الرئيسي لتدخلها في سورية. وهو يرى أن الدور الروسي الراهن في المنطقة له تداعياته الإقليمية والعالمية، لكن، لا يمكن لروسيا أن تحل محل الولايات المتحدة كقوة خارجية «رائدة» في المنطقة، بل يمكن لتصرفاتها أن تسرِّع من التغييرات التي ستعيد تشكيل النظام الدولي في العقدين المقبلين. ويتحدث المؤلف عن حاجة القادة الروس إلى التوصل إلى نموذج فعال للتنمية الاقتصادية، وإحياء

إمكانيات البلد التكنولوجية والعلمية؛ والعمل على معالجة المشاكل الديمغرافية التي تلوح في الأفق؛ وبطبيعة الحال الحفاظ على الاستقرار السياسي في البلاد، والتعامل مع احتمال انتقال السلطة، الأمر الذي يحتاج إلى رؤية مستقبلية وأهداف واضحة، وليس فقط إلى الفخر والاعتزاز بالأمجاد.