المؤلفة: أَنّا بوجو

مراجعة: محمد الإدريسي(*)

الناشر: Nanterre: Société d’ethnologie 
السلسلة: Maghreb et Mashreq; 1

سنة النشر: 2014

عدد الصفحات: 280 p

ISBN: 9782365190077

 

القداسة والسلطة لدى المسيحيين في سورية

-1 –

تكشف لنا أَنّا بوجو في 280 صفحة مفصلة – أشكال الاندماج الاجتماعي والسياسي للمسيحيين في سورية – الذين لا يتجاوز عددهم 6 بالمئة من مجموع السكان – بناء على مسح ميداني دام قُرابة عقد من الزمن (من سنة 2002 إلى سنة 2010)، ومقاربة إثنوغرافية للعلاقة بين الرهبنة والسلطة والقداسة، وأنماط تعايشها داخل مجتمع غالبية سكانه من المسلمين.

-2 –

يعكس التاريخ الطويل لـ «بلاد الشام» عمق الارتباط بالديانة المسيحية، حيث يمكن اعتبار سورية موطن المسيحية القديمة ونموذجاً قومياً وعالمياً للتعايش والتسامح بين مختلف الديانات والمذاهب، لكن سرعان ما تم إجهاض هذا التعايش والحوار بين الأديان بفعل انتشار مد التطرف والإرهاب الذي عصف بإرث إنساني وكوني فريد من نوعه. وانطلاقاً من هذه الأهمية التاريخية والاجتماعية اختارت أنّا بوجو أديرة مدينة دمشق بسورية كمجال يعكس نمطاً خاصاً من التنوع الديني ويختزن في ثناياه صراعات خفية تمتد لعدة قرون، اقترنا بفترة الحكم الإسلامي.

-3 –

قسمت بوجو كتابها إلى ثلاثة أجزاء: تناول الجزء الأول التاريخ الوطني للمسيحيين السوريين في علاقتهم بالسلطة الكنسية، والثاني تركز على إثنوغرافيا الأديرة والمجتمع الديني السوري ووصف البنى الموضوعية لإنتاج وإعادة إنتاج الدير كتجلٍّ للسلطة المسيحية ورمز لتشبث المسيحيين السوريين بهويتهم، في حين ركز الجزء الثالث على علاقة الشباب بالكنيسة والسلطة الدينية في إطار ربط الصلة بين الماضي والحاضر، وجيل الأجداد وجيل الأبناء، في ظل العولمة الثقافية والاقتصادية.

-4 –

يكمن الهدف الأساس لهذا الكتاب في تقديم صورة علمية عن التشكيلات الطائفية المسيحية بالمجتمع السوري: الموارنة، السوريون الأرثوذوكس والكاثوليك، اليونانيين الكاثوليك والأرثوذوكس، والكاثوليك الروم والبروتستانت.

في مجتمع يعتنق أكثر من 80 بالمئة من سكانه الديانة الإسلامية (المذهب السني خاصة)، أظهرت المؤلفة أن الصراع التاريخي الطويل بين الإسلام والمسيحية بالشام، جعل من المسيحيين أقلية منغلقة على ذاتها باستمرار، في إطار السعي نحو الحفاظ على الهوية المسيحية وضمان الوحدة الإثنية من جهة، وتحقيق المشاركة الاجتماعية في الحياة العامة السورية من جهة أخرى. وشكلت بذلك الأديرة الملاذ الآمن الوحيد للمسيحيين من مختلف المذاهب في مواجهة الإقصاء الثقافي، وعززت تشبثهم بهويتهم السورية المسيحية على مر التاريخ.

يحظى الراهب بمكانة خاصة لدى المسيحيين السوريين (بدءاً من القس وصولاً إلى الأسقف)، لكون التاريخ يسجل الدور الكبير للأديرة في الحفاظ على انسجام ووحدة التجمعات والأقليات المسيحية السورية، والإسهام الكبير لرجال الدين في التوحيد بين مختلف الأقليات الدينية في إطار الحفاظ على الهوية المسيحية والتقاليد القديمة بالحاضر الحديث بالشكل الذي يجعل من «الزمن الديني» المسيحي بناء تراكمياً عبر العصور، في إطار ترسيخ القيم الدينية لدى الشباب والناشئة.

خَصصت أنّا بوجو الجزء الثاني من كتابها للحديث عن «مؤسسة الدير» من منظور إثنوغرافي يتجاوز الوصف البسيط والمونوغرافيا السطحية، لتكشف لنا عن بنية المجتمع الديني المسيحي السوري المعاصر (دير الروم الأرثوذوكس بسان تقلا) القائمة على الصراع بين السلطة الدنيوية والقداسة الدينية. إن السلطة الدينية الكنسية للدير ليست وليدة الفترة المعاصرة أو مرتبطة بالهيمنة المسيحية بقدر ما هي موروث ديني يميز الأقليات المسيحية السورية في سعيها للحفاظ على وجودها واستمرارها من خلال الرموز الدينية والشخصيات الكنسية.

تُبين الكاتبة أثر التبرعات والمساهمات الخيرية في إنتاج وإعادة إنتاج النسق البطريركي داخل الأديرة من جهة، والحفاظ على وجود واستمرار هذه الأديرة من جهة أخرى. إنها نوع من «التقرب الإيماني للمتدين من الله في صورة الدير». كما أن التراتبيات الهرمية داخل الكنائس تعتمد في إنتاجها على التبرعات ومختلف أنواع الدعم في إطار بناء «سلطة الكنيسة» و«سلطة الدير».

يتجلى الرهان المادي للكنيسة في السماح للأفراد من مختلف الديانات بولوج الكنيسة والتعرف إليها، ليس لأسباب أو غايات دينية وإنما لرهانات مادية تعمل للحفاظ على موقع الكنيسة بالنسبة إلى المسيحيين من جهة، وتسعى إلى تحقيق الانفتاح الضروري للاستمرارية الاجتماعية والثقافية مع باقي الديانات، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمجتمع يدين بالدين الإسلامي كدين رسمي: يمكن أن نعتبر الدير بذلك مؤسسة دينية واجتماعية من نوع خاص.

-5 –

تُنتج السلطة الدينية انطلاقاً من القيم والموروثات التقليدية المرتبطة بصورة القديس في الديانة المسيحية، لذلك تعتبر الأعياد والمناسبات الدينية فرصة لتعزيز التآزر بين الأفراد والجماعات والمذاهب المختلفة، في إطار السعي نحو تجديد أواصر التواصل بين الماضي والحاضر. تبرز لنا أَنّا بوجو أن «القداسة الدينية تلعب دوراً كبيراً في توحيد الجماعات والمجتمعات الدينية». لكن تظل هذه المناسبات والاحتفالات الدينية سيفاً ذا حدَّين: تعزز سلطة الدير على أتباعه ومريديه، وتسهم في إنتاج نوع جديد من التمرد «التديني» المرتبط بالشباب. إن الهدف الأول والأخير لأي مؤسسة دينية هو ضمان الاستمرارية عبر الأجيال، لذلك فكل علامة على التمرد أو العصيان الديني دليل على ضعف أو غياب السلطة الروحية للمؤسسة على رعاياها، ما يفرض على رجال الدين التفكير في السبل الممكنة لتعزيز القداسة الدينية لدى الأجيال المتمردة عن طريق «بناء الصورة الرمزية للقديس المنتظر».

تحفل الديانة المسيحية بمختلف أنواع الاحترام والتقدير وكذا التبجيل لرجالات الدين، لكونهم وسطاء دينيين، ومصدراً «للاعتراف» وتحقيق علاقة إيجابية بين الإنسان وخالقه. لذلك فأي قسٍّ أو أسقف يسعى، ضمن أي مجتمع مسيحي، لكي يبلغ مرتبة التبجيل التي يحظى بها القديسون: إن القداسة الكنسية مصدر للسلطة الاجتماعية.

-6 –

من أجل الكشف عن طبيعة الرهانات الدينية والسلطوية لهذه العلاقات المتشابكة والمركبة بين مختلف الفاعلين في المجال الديني المسيحي، ركزت الباحثة على فئة الشباب باعتبارهم حجر الزاوية في مسلسل الانتقال الديني والتديني للمجموعات المسيحية المعاصرة. إنهم الجيل الراغب في التخلص من سلطة الماضي والأجداد، والطامح إلى تحقيق الأساطير المؤسسة للمعتقدات الدينية. تظل الاحتفالات مناسبة لهذه الفئة من أجل إضفاء هالة جديدة على وجودهم الاجتماعي والإثني عن طريق التماهي مع القديسين والبحث عن انفلات «الموضوعية» من السلطة الكنسية لرجال الدين في آن واحد.

يُسهم المُقَدَس في تعزيز وعي الهوية المحلية والدينية، وينتج في نفس الوقت نمطاً تقليدياً في احتكار القداسة الدينية من أجل إنتاج السلطة الدنيوية، وهو ما يفسر «التمرد» الذي يشنه الشباب على رجال الدين: إن هذا الصراع ليس وليد اليوم، بل مرتبط بتاريخ الصراع بين القداسة والسلطة التيولوجية، ولا يعني بالضرورة أن جيل الشباب متمرد ضد القيم والهوية الدينية، في الواقع هو نوع من التمرد ضد احتكار المقدس من طرف رجال الدين.

-7 –

إن السياق الزمكاني لكتابة هذا المؤلف – بين سنة 2002 و2010 – لا يسعفنا بشكل كبير في فهم العلاقة المركبة بين القداسة الدينية والسلطة الدنيوية في السياق المسيحي السوري لما بعد أحداث الربيع العربي. فرغم كونه بحثاً ميدانياً إثنوغرفياً مُطَعَماً بلمسة أنثروبولوجية تحليلية، إلا أن طبيعة البنى الموضوعية المنتِجة للدير كمؤسسة دينية واجتماعية تفرض الاهتمام بالرهان السياسي للمؤسسات الدينية داخل مجتمع يعرف صراعات سياسية واجتماعية.

* * *

رغم إغراق المؤلفة في التفاصيل الإثنوغرافية على حساب التحليلات المعمقة، يظل هذا الكتاب فرصة لإعادة التفكير من جديد في طبيعة الحياة الاجتماعية للأقليات الدينية المنغلقة، وطبيعة التفاعلات المنسوجة بين المذاهب المتنوعة وبين الديانات المختلفة. إن «عَالَم التديُّن» غير مقترن بثنائية المقدس والمدنس فقط، بقدر ما هو مرتبط بقضية إثبات الوجود والحفاظ على الاستمرارية، إضافة إلى كون المعتقدات الدينية مختلفة باختلاف الشروط الاجتماعية والموضوعية للأفراد والجماعات، الأمر الذي يفرض علينا إعادة التفكير في علاقة المعتقد الديني بالبنى الذهنية الفردية والجماعية، وفي صورة المقدس لدى الفرد، وتجلي هذا المقدس في المعيش الاجتماعي والكيفية التي بموجبها ينتج اجتماعياً ومجالياً؟ رغم هذه الملاحظات الإيبيستيمولوجية والنقدية يظل المؤلَّف قيمة مضافة للبحث العلمي في مجال «اجتماعيات الأديان»، ويعطينا صورة علمية عن دور القداسة والسلطة الدينية في الحفاظ على الهوية الثقافية والاجتماعية للإثنيات والأقليات الدينية داخل الوطن العربي.