المؤلف: كلاوس شواب وتييري مالوري

مراجعة: عثمان عثمانية[1] 

الناشر: المنتدى الاقتصادي العالمي، سويسرا

سنة النشر: 2020

عدد الصفحات: 280

 

مقدمة:

الإنسانية تواجه أسوأ كوابيسها! هي اليوم ليست حربًا، وليست أزمة اقتصادية، ولا كارثة طبيعية، إنما فيروس خفيّ دقيق الحجم، سرعان ما تحول إلى جائحة عالمية. وسرعان ما دُقت أجراس الهلع والخوف، معلنة نهاية الكثير من الأيديولوجيات والكثير من المسلّمات.

العالم الذي تجاوز مكامن قصوره، اتضح أنّه محض خيال مفكرين وسياسيين كانت أقصى هواجسهم انهيار قيمة الأسهم في البورصات، ولم يحضروا أنفسهم ولا مجتمعاتهم لوضع يكون فيه الإنسان الحلقة الأضعف. فالاقتصاد، والصحة، والتعليم، والتكنولوجيا؛ كلها وجدت نفسها عارية أمام جائحة كوفيد-19. وما تطلّب من الدول والحكومات عقودًا لبنائه، ضاع في بضعة أشهر. لم يكن هناك أحد يتوقع ما حدث، ولا أحد يمكنه فعل ذلك مستقبلًا على ما يبدو. لذلك، أليس من الطبيعي أن نتجه إلى “إعادة ضبط شامل؟”.

يبدو أن ذلك ما يطرحه رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب برفقة نائب مدير البارومتر الشهري الذي يصدر عن المنتدى، الفرنسي تييري مالوري، في كتابهما الحديث كوفيد-19: إعادة الضبط الشامل[2]، الذي يقدمان فيه نظرة استباقية لما ستؤول إليه الأوضاع على مستويات ثلاثة: كلية، وجزئية، وعلى مستوى الفرد.

الهدف الرئيسي للكتاب كما يذكر مؤلفاه هو المساعدة على فهم ما سيأتي في عدة مجالات وسط الأزمة، في حين أن موجات أخرى من الإصابة قد تحدث، إذ هو مزيج بين دراسة حالية وصورة أكاديمية للحظة حاسمة في التاريخ.

 

أولًا: الوضع الطبيعي الجديد

لقد أحدثت الجائحة تغييرات، وستكون هناك تغييرات جذرية قادمة، إلى درجة أن بعض النقاد أشاروا إلى ذلك قبل فيروس كورونا BC وبعد فيروس كورونا AC. ويعتقد الكاتبان أن التغييرات التي ستحدث ستواصل مفاجأتنا بطبيعتها السريعة وغير المتوقعة، اللتين عند تعارضهما بعضهما مع بعض يثيران عواقب ثانية، وثالثة، ورابعة وأكثر، وآثارًا متتالية ونتائج غير متوقعة. وفي فعلها لذلك تشكل وضعًا “عاديًا جديدًا” مختلفًا جذريًا عن الذي ستتركه وراءنا تدريجيًا، عدة معتقدات وافتراضات حول ما سيبدو عليه أو يمكن أن يبدو عليه العالم يتحلل في هذه العملية.

وفي استعراض لمجموع التغيرات التي أحدثتها الأوبئة في التاريخ، تساءل الكاتبان عن ما إن كانت جائحة كوفيد-19 أيضا ستشكل بداية نقطة تحول ذات عواقب طويلة الأمد ودرامية على عالمنا اليوم مثلما فعل الموت الأسود (الطاعون) في أوروبا، الذي قد يكون البداية غير المعترف بها للإنسان الحديث.

وبهدف الإحاطة بكل ما للجائحة من آثار على العالم، قسّم شواب ومالوري الكتاب إلى ثلاثة أقسام كبرى: إعادة الضبط الكلي، إعادة الضبط الجزئي، وإعادة الضبط الفردي.

 

ثانياً: إعادة الضبط الكلي

إعادة الضبط الكلي (Macro-Reset) ستحدث في سياق القوى الثلاثة التي تشكل عالمنا اليوم: الاعتماد المتبادل، والسرعة والتعقيد، التي أصبحت واقعًا بفعل العولمة والتكنولوجيا. ولو نشير إلى ذلك بعامل واحد، سيكون من دون شك الإنترنت، فأكثر من 52 بالمئة من سكان العالم اليوم هم على الخط، مقارنة بأقل من 8 بالمئة قبل 20 سنة مضت. في سنة 2019 أكثر من 1.5 مليار هاتف ذكي تم بيعها عبر العالم، إنترنت الأشياء تربط الآن 22 مليار جهاز في الوقت الحقيقي، تتراوح بين سيارات إلى أسرة المستشفيات.

ثم التعقيد الذي يضع قيودًا على معرفتنا وفهمنا للأشياء، وهذا ما يعيق السياسيين وصناع القرار بصورة عامة على اتخاذ قرارات مبنية على المعرفة. وقد يكون تعبير الفيزيائي الذي أصبح رئيس دولة أرمينيا: أرمن سركيسيان Armen Sarkissian الذي أطلق تعبير “السياسة الكوانتية” للإشارة إلى كيف أن العالم الكلاسيكي الخطي، والذي يمكن التنبؤ به، تحول إلى العالم الكمّي، المترابط للغاية والذي يتميز باللايَقين، شديد التعقيد، ويتغير هو الآخر بناء على موقف المراقب (هذا ما يحدث في فيزياء الكمّ). لقد كشفت جائحة كوفيد-19 عن هذا العالم الكمّي.

وتتم إعادة الضبط الكلي عبر إعادة الضبط الاقتصادي، والمجتمعي، والجيوسياسي، والبيئي والتكنولوجي.

بالنسبة إلى إعادة الضبط الاقتصادي، يبين لنا التاريخ كيف يقع الصدام بين المصالح الصحية والاقتصادية للناس… فالأوبئة كانت أكبر إعادة ضابط لاقتصادات الدول ونسيجها الاجتماعي. وقد بينت ورقة بحثية حول النتائج الاقتصادية طويلة المدى لأغلب الأوبئة عبر التاريخ أنّ الآثار الاقتصادية الكلية للأوبئة الكبرى يمكن أن تستمر إلى نحو 40 سنة، ما يؤدي إلى انخفاض كبير في معدلات العائد الحقيقي. ويجادل الكاتبان بأنّه لا يمكن أن يحدث انتعاش اقتصادي كامل حتى تتم هزيمة الفيروس أو يصبح وراءنا. ويعتبران أن الحديث عن المفاضلة بين إنقاذ الأرواح أو النمو الاقتصادي هي خرافة، وتمثل اقتراحًا داروينيًا اجتماعيا، فقرار عدم الحفاظ على الأرواح لن يحسّن من الرفاه الاقتصادي لسببين:

  • في جانب العرض، إذا تعرض العمال للإصابات فستتوقف المؤسسات عن العمل، كما أنّ العمال في الكثير من المناطق يرفضون العودة للعمل خوفًا من الإصابة؛
  • في جانب الطلب، لا بد أن تعود ثقة المستهلكين التي تحدد سلوكهم وقراراتهم، وهذا لن يتحقق حسب الكاتبين إلّا بعد هزيمة الفيروس عالميًا.

لذلك، النتيجة المنطقية حسبهما هي أنّ على الحكومة أن تفعل أي شيء يتطلبه الأمر، وأن تنفق ما يمكن أن يكلفه الأمر لصالح صحتنا وثروتنا الجماعية حتى يتعافى الاقتصاد بشكل مستديم. ويعتقدان أنّه على القادة السياسيين أن يراجعوا 3 عناصر تشكل لوحة تحكم محسنة للتقدم:

  • أنّ GDP تجب مراجعته وتحيينه ليعكس القيمة التي تخلق في الاقتصاد الرقمي، القيمة التي تخلق عبر العمل غير المأجور؛
  • ليس حجم الاقتصاد هو ما يهم فقط لكن أيضًا توزيع المكاسب وتطور الوصول إلى الفرصة؛
  • الصمود بحاجة لأن يقاس ويراقب لقياس الصحة الحقيقية للاقتصاد. بما في ذلك محددات الإنتاجية، مثل المؤسسات، البنية التحتية، رأس المال البشري وأنظمة الابتكار، والتي تعتبر بالغة الأهمية للقوة الكلية للنظام.

أما إعادة الضبط المجتمعي فينطلق من كون أول الآثار المجتمعية تتمثل بغضب الناس وموقفهم من مؤسسات الدولة التي فشلت، أو لم تتعامل جيدًا، في مواجهة الجائحة. ويعتقد الكاتبان أن الدول التي تعاملت بشكل جيد مع الجائحة كانت لها الخصائص المشتركة الآتية:

  • كانت مستعدة لما سيأتي لوجيستيًا وتنظيميًا؛
  • قامت باتخاذ قرارات سريعة وحاسمة؛
  • لها نظم صحية شاملة وفعّالة من حيث التكلفة؛
  • مجتمعات ذات ثقة عالية، حيث يثق المواطنون في القيادة والمعلومات التي يقدمونها؛
  • تحت الضغط، يظهرون شعورًا حقيقيًا بالتضامن لصالح المصلحة العامة على الطموحات والاحتياجات الفردية.

يَعتبر الكاتبان أنّ أحد الأخطار العميقة التي تواجه عصر ما بعد الجائحة هي الاضطرابات الاجتماعية، وفي بعض الحالات المتطرفة، يمكن أن تقود إلى تفكك اجتماعي وانهيار سياسي. ويعترف الكاتبان أن ذلك تزايد عالميًا قبل الجائحة، لكنّ هذه الأخيرة سرّعته وجعلته أقوى.

في هذا الجانب يقدم الكاتبان نظرة سوداوية لعالم ما بعد الجائحة، فستتراكم المآسي الشخصية وتثير الغضب والاستياء والسخط في مختلف الفئات الاجتماعية، بما في ذلك العاطلين من العمل والفقراء والمهاجرين والسجناء والمشردين وجميع الذين جرى التخلي عنهم. وكيف لا يمكن أن ينتهي كل هذا الضغط بانفجار… لذلك على الحكومات استخدام الأدوات التي تمتلكها لمكافحة التفاوت.

وبالنسبة إلى إعادة الضبط الجيوسياسي، يعتبر الكاتبان أن الترابط بين الجيوسياسة والجوائح يتدفق في الاتجاهين. فمن جهة، النهاية الفوضوية لتعددية الأطراف وفراغ الحوكمة العالمية وصعود أشكال مختلفة من القومية يجعل من الصعب التعامل مع تفشي المرض… ويريان أن العنصر المحدد للاستقرار الجيوسياسي هو إعادة التوازن التدريجي من الغرب إلى الشرق- مرحلة انتقالية تخلق ضغوطًا. وتولّد أيضًا، في هذه العملية، اضطرابًا عالميًا… والمواجهة بين الصين والولايات المتحدة ستولد اضطرابًا هيكليًا لا مفر منه، لذلك فهما يعتقدان أن انسحاب الولايات المتحدة من الساحة الدولية سيزيد من التقلبات الدولية.

في هذه الفوضى يتحدد عالم جديد بالتحول نحو التعددية القطبية والمنافسة الشديدة للتأثير، والنزاعات لن تقودها الأيديولوجيا (باستثناء الإسلام الراديكالي) لكن القومية والمنافسة من أجل الموارد. وإذا لم تستطع أي قوة فرض النظام، فسوف يعاني عالمنا من “عجز النظام العالمي” ما لم تنجح الدول الفردية والمنظمات الدولية في إيجاد حلول للتعاون بشكل أفضل. وهناك أربع مسائل تخص الجيوسياسة في عصر ما بعد الجائحة، هي: تآكل العولمة؛ غياب حوكمة عالمية؛ التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين؛ ومصير الدول الهشة والفاشلة.

وفي ما يتعلق بإعادة الضبط البيئي، فإلى غاية الآن هناك العديد من العلماء بينوا أن تدمير التنوع البيولوجي الذي سببه الإنسان هو مصدر الفيروسات الجديدة مثل كوفيد-19. كما نعلم الآن أن الهواء الملوث يفاقم أثر أي شكل من فيروس كورونا (ليس فقط كوفيد-19) على صحتنا، وهذا قد يفسر لماذا الناس في لمبارديا (Lombardy) إحدى أكبر المناطق تلوثًا في أوروبا، التي كانت فيها نسبة احتمال الوفاة من كوفيد-19 الضعف مقارنة بأناس آخرين من مناطق أخرى بإيطاليا.

ومن جانب آخر تقدر وكالة الطاقة الدولية IEA أن انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون ستنخفض في 2020 بنحو 8 بالمئة. لكن الكاتبين يعتقدان أن هذه النسبة مخيبة للآمال، مع الإغلاق غير المسبوق. وهذا يشير إلى أن كبار الملوثين استمروا في العمل (توليد الكهرباء، الفلاحة، الصناعة).

كما أن الجائحة جعلت من قادة العالم يؤجلون اجتماعات والمفاوضات المرتبطة بالمناخ، التي سينسونها لفترة. وهناك سردية موازية يشاركها الكثير، أنه لا يجب أن تضيع فرصة الجائحة من أجل وضع سياسات بيئية مستديمة.

وبالنسبة إلى إعادة الضبط التكنولوجي، يجادل الكاتبان في هذا الخصوص بأن الجائحة ستسرع من الابتكار أكثر، ستحفز التغيرات التكنولوجية الجارية بالفعل، وتشحن بقوة كل عمل رقمي أو كل بُعد رقمي لأي شركة. كما ستبرز أحد أكبر التحديات المجتمعية والفردية التي تطرحها التكنولوجيا: الخصوصية.

ستسرع الجائحة التحول التكنولوجي، والبعض يتوقع أن يكون أثرها دائمًا في قطاعات مختلفة مثل العمل على الخط، التعليم، التسوق، والترفيه عبر الإنترنت. وعلى مستوى الشركات ستؤدي الجائحة إلى زيادة عملية أتمتة العمل، فالشركات ستبحث عن تنظيم مكان العمل بالشكل الذي يقلص من التواصل الإنساني (التباعد بين العمال). وستعجل كذلك في توظيف الروبوتات بدل الناس، وهذه العملية كانت موجودة حتى قبل الجائحة. ففي دراسة قام بها أكاديميان من أكسفورد سنة 2016 توصلت إلى أن 86 بالمئة من الوظائف في المطاعم، 75 بالمئة من الوظائف في التجزئة، و59 بالمئة من الوظائف في الترفيه ستؤتمَت في 2035.

ولا يتعلق الأمر بالروبوتات الصناعية فقط، بل حتى ما يتعلق بأتمتة مكان العمل عبر البرمجيات والتعلم الآلي، التي تحل محل تصرفات العاملين البشر.

 

ثالثًا: إعادة الضبط الجزئي (الصناعة والشركة)

يعتقد الكاتبان أن الأعمال كما كانت ماتت بسبب كوفيد-19… في عصر ما بعد كوفيد-19 وبصرف النظر عن تلك القطاعات القليلة التي ستستفيد فيها الشركات في المتوسط من الجائحة (أبرزها التكنولوجيا والصحة)، بالنسبة إلى البعض الآخر مثل الترفيه، السفر أو الضيافة فإن العودة إلى بيئة ما قبل الجائحة لا يمكن تصوره في المستقبل المنظور (وربما لن يحدث في بعض الحالات). أما القطاعات الأخرى، مثل التصنيع والغذاء، فالأمر يتعلق أكثر بإيجاد طرق للتكيف مع الصدمة والاستفادة من بعض الاتجاهات الجديدة (مثل الرقمنة) لتزدهر في فترة ما بعد الجائحة.

خلال الحجر اعتمدنا كلية على الإنترنت لإنجاز أغلب الأشياء. من العمل إلى التعليم والعلاقات الاجتماعية. فالخدمات على الإنترنت هي التي سمحت لنا بالحفاظ على ما يشبه الحياة الطبيعية، ومن الطبيعي أن يكون “الإنترنت” المستفيد الأكبر من الجائحة، مقدمًا دفعة هائلة للتقنيات والعمليات التي تمكننا من القيام بالأشياء عن بعد. وليس وليد الصدفة أن شركات مثل علي بابا، أمازون، نتفليكس أو زووم برزت كفائزة من الحجر.

ويعتقد الكاتبان أنه أثناء الجائحة، ظهرت الظاهرة المتمثلة بعدم وضوح التمييز بين “على الإنترنت Online” و”عدم الإتصال بالإنترنت Offline”، على النحو الذي حدّده كاتب الخيال العلمي الشهير ويليام جيبسون الذي ذكر أنّ “عالمنا يتحول” مع انفتاح الفضاء الإلكتروني بسرعة كواحد من أقوى الاتجاهات لما بعد عصر كوفيد-19.

ويعتقد الكاتبان أنّ في عصر ما بعد كوفيد-19 ستكون الشركات محل تدخل حكومي أكبر من ذي قبل. فحزم الإنقاذ ستسمح للمقرضين بالتدخل في إدارة الشركات، وستكون هناك مقاربة أكبر بين السياسة العمومية وتخطيط الشركات، كما أنّ عبر العالم ستكون هناك ضغوط على الشركات من أجل تحسين الحماية الاجتماعية ومستويات الدخل للأقل دخلًا، ومسائل أخرى مثل التأمين الاجتماعي والتغطية الصحية.

كما يجادلان بأنّ التغييرات التي طالت النقاط الخمس التي تحدثا عنها في القسم الأول من الكتاب، أدّت إلى ظهور رأسمالية أصحاب المصلحة، التي لا تهتم بالربح فقط، بل بخدمة جميع أصحاب المصلحة. كما أنّ استراتيجيات الحوكمة الاجتماعية والبيئية ستستفيد من الجائحة، وهناك عدة أدلة على أن قطاع الاستدامة تلقى أموالًا أكبر من المعتاد في الفصل الأول من 2020. لذلك فأجندة رأسمالية أصحاب المصلحة ستكسب أهمية وقوة.

في الصناعات التي يتعامل فيها المستهلكون اجتماعيًا وشخصيًا، ستكون الأشهر الأولى وربما سنوات ما بعد الجائحة أكثر صعوبة من تلك التي يمكن أن تكون فيها المعاملة على مسافة مادية أكبر أو حتى افتراضية.

ستغير الجائحة من سلوكنا أيضًا، مثلًا سيزيد تركيزنا على النظافة، وسيصبح هناك هوس بها، وقد يؤدي ذلك إلى أشكال جديدة من التغليف. ويعتبر قضاء وقت أكثر في البيت أحد التغيرات الهامة، التي لها عدة آثار على قطاعات وأعمال أخرى.

وقد كانت تويتر أحد أول الشركات التي سمحت لموظفيها بالعمل من البيت، حتى بعد كوفيد-19 أي بشكل دائم، كما أنّ شركات أخرى مثل غوغل وفايسبوك التزمت هي الأخرى بالسماح لطواقمها بالعمل عن بعد إلى غاية نهاية 2020 على الأقل.

ونفس الأمر ينطبق على التعليم العالي، حيث أجبر الطلبة على التعلم عن بعد، ولا أحد يعرف إن كانوا سيعودون إلى الصفوف في أيلول/سبتمبر. ويعتقد الكاتبان في هذا السياق أن أغلب الجامعات، خاصة الأغلى تكلفة في العالم الأنغلوسكسوني، ستغير نموذج عملها أو ستفلس بسبب كوفيد-19.

ويتوقع الكاتبان أنّ هناك 3 صناعات ستزدهر بعد الجائحة وهي: التكنولوجيا العالية، الصحة والعيش الصحي. أما الصناعات التي يجب أن تتبنى أنظمة للصمود، فنجد: الصيرفة، التأمين، وصناعة السيارات حتى تتمكن من مواجهة الركود العميق والطويل الذي تسبه الأزمة الصحية.

إعادة الضبط الجزئي سيفرض على كل شركة في كل صناعة اختبار طرق جديدة لأداء الأعمال، والعمل والتشغيل. وأولئك الذين يحاولون العودة إلى الطريقة القديمة سيفشلون.

 

رابعًا: إعادة الضبط الفردي

أشار علماء النفس إلى أنّ الجائحة مثل كل الأحداث المحولة، لها القدرة على إظهار أفضل أو أسوأ ما فينا. وللوهلة الأولى يبدو أن الجائحة أظهرت تعاطف الناس وتضامنهم، كما بدا عليه الأمر جليًا في إيطاليا، ثم انتقل إلى باقي دول العالم.

وبالعكس فإنّه تم التخلي عن مظاهر القوة الفردية والشعبية، وحتى جاذبية “الغني والشهير” تلاشت مع تطور الوباء. لاحظ أحد المعلقين أن فيروس كورونا كان له أثر تفكيك “ثقافة المشاهير” وهي سمة رئيسية من سمات حداثتنا. ويتساءل الكاتبان في بداية هذا الجزء ما إن كانت الجائحة ستعطي ميلادًا لذوات أفضل وعالم أفضل؟ هل سيتبعها تحوُّل في القيم؟

ويروي أورهان باموك (الكاتب التركي الحائز نوبل للآداب 2006) كيف استجاب الناس دومًا للأوبئة من خلال نشر الإشاعات والمعلومات الكاذبة وتصوير المرض على أنّه غريب وتم جلبه بِنِية خبيثة. ويضيف أورهان أنّ تاريخ وأدب الأوبئة يبين لنا أنّ شدة المعاناة والخوف من الموت والخوف من الميتافيزيقا، والشعور بالغموض الذي يعانيه الناس المنكوبون سيحدد أيضًا عمق غضبهم واستيائهم السياسي.

ويشير الكاتبان بناء على حديثهما مع الكثير من الأطباء النفسانيين أن للجائحة أثرًا مدمرًا على الصحة العقلية. ففي السنوات الماضية شهد العالم انفجارًا في حالات الاكتئاب والانتحار والذهان واضطرابات الإدمان، إذ قُدر في سنة 2017 أن نحو 350 مليون شخص عبر العالم كانوا يعانون الاكتئاب. وقد ضاعفت الجائحة الأمر وعقدته! فبالنسبة إلى الكثير من الناس، تجاوُز الجائحة يعني صدمة شخصية.

 

مناقشة

يبدو من العرض السابق لأحد أهم الكتب في سنة 2020، أنّ المؤلفين حاولا الإحاطة بمختلف جوانب الجائحة وتأثيراتها، إنْ على المستوى الكلي، أو الجزئي أو حتى الفردي. بل مما يثير الإعجاب أن المؤلفين تجاوزا اختصاصاتهما الأساسية ليقدما لنا عملًا يهدم الجدران بين مختلف فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية. ولعل ذلك ليس غريبًا بالنسبة إلى شواب الذي يترأس منذ فترة المنتدى الاقتصادي العالمي، وغالبًا ما ينغمس في مناقشة القضايا التي تهم الإنسانية في حينها، لذلك فقد خصص اجتماع 2021 لفكرة إعادة الضبط الشامل.

ما يمكن ملاحظته بداية هو أن الكتاب جاء مرتكزًا على الولايات المتحدة، ولم يتمكن المؤلفان من الخروج من ذلك حتى في تأثيرات الجائحة على المستوى الفردي، على الرغم من الطابع العالمي والشامل للجائحة، وهذا يجعل من الابتعاد عن المركزية الأوروبية والأمريكية أمرًا سهلًا.

كما أن المؤلفين قد أسهبا في العودة إلى التاريخ لفهم مآلات الجائحة الحالية، لكني أعتقد أن ذلك – وفي هذا الكتاب تحديدًا – غير نافع لعدة أسباب، من بينها أنّ العالم الذي يعيش حاليًا جائحة كوفيد-19 مختلف كلية عن العالم الذي شهد أقرب جائحة من حيث الانتشار، الأنفلونزا الإسبانية 1918-1920، فضلًا عن الطاعون في أوروبا القرن الرابع عشر. مثلًا، لما يتحدث المؤلفان عن مكاسب الأجور بعد الجوائح انطلاقًا مما حدث في أوروبا أثناء الطاعون في القرن الرابع عشر، يغفلان عن أن هذه المرة مختلفة تمامًا، إذ إن العمالة آنذاك انخفضت بسبب موت الناس ومرض الكثيرين منهم، وهو ما رفع أجورهم في تلك الفترة، بعكس ما يحدث أثناء جائحة كوفيد-19، فقد شهدنا رتفاع معدلات البطالة وانخفاض ساعات العمل ومنه أجور العمال لا العكس.

وقد نأى المؤلفان بنفسيهما عن الخوض في الأيديولوجيا، إن من حيث الأسباب أو المآلات، فحتى الإشارة إلى النيوليبرالية جاءت مقتضبة، على الرغم من أكل الأدلة تشير إلى أن أسباب الجائحة ومآلاتها إنما ترتبط بالنيوليبرالية مثل ارتباطها بفيروس كورونا الذي سببها، وحتى المفاضلة بين الأرواح والاقتصاد التي ذكراها، إنما ترتبط بشكل واضح بالنيوليبرالية.

وفي الأخير، أعتقد أن أي دراسة لآثار الجائحة يجب أن تنطلق من أن العالم أصلًا كان يحتضر قبلها، وما فعلته هو أنّها جعلت ذلك أكثر وضوحًا، وسرّعت من سيرورات التغيير جميعها.