مقدمة:

تشير الباحثة كارول ميريز في معرض نقدها لنهج الحفريات الأثرية الذي هيمن على مجال علم الآثار الفلسطيني – السوري، إلى «أن جدول أعمال النصوص هو الذي حدد جدول أعمال حفرياتنا»[1]. ويمكن أن أضيف بناء على قراءاتي في ما كتبه عدد كبير من الباحثين والمنقبين في هذا المجال، أن الخيال أدى دوراً أوسع في تحديد جدول أعمال الحفريات وقراءة ما يعثر عليه المنقبون. وأضيف أيضاً مع الباحث كيث وايتلام، أن «صياغة المفاهيم وتمثيل الماضي هنا تكتنفهما الصعوبات، ليس لمجرد قلة وإبهام المعطيات، بل لأن إنشاء التاريخ، سواء كان مكتوباً أو شفهياً، وسواء كان تاريخاً للماضي أو الحاضر، هو فعل سياسي»[2].

ولكن الأكثر لفتاً للنظر أن خطاب الاستشراق الغربي الغالب في تعامله مع حاضر فلسطين والوطن العربي عموماً وماضيهما، جمع هذه السمات الثلاث على صعيد واحد. فهو باعتماده أولاً على حكايات النص التوراتي، وثانياً على خيال المهووسين بهذا النص إلى حد إصابتهم بلوثة عقلية اصطلحوا على تسميتها باسم لوثة أورشليم[3]، وثالثاً على استراتيجيات السياسات الاستعمارية، وضع جدول أعمال التنقيب والبحث والتفسير، ولم يعد قادراً على قراءة العاديات الأثرية خارج هذا الثالوث العجيب.

وقصة هذا الخطاب الذي يغذي خيال عامة الناس والباحثين والأدباء والرسامين والرحالة والمغامرين العسكريين القادمين من الغرب يمكن أن ترويها بتركيز وجلاء أكثر حكايتهم مع القدس العربية.

أولاً: أحلام بليك: بناء أورشليم في إنكلترا

لنبدأ بمخيِّلة الشاعر الإنكليزي وليم بليك، وكيف تصوَّر القدس وأسقطها على إنكلترا، ثم تمازج هذا الخيال مع نصّية مشروعات صندوق استكشاف فلسطين، وتجسد فيما بعد على الأرض في مشروع استعمار فلسطين.

بالطبع، القدس العربية في خيال بليك هي «أورشليم» التوراتية، وتحت هذا التصور نظم قصيدة له شهيرة باسم «أورشليم» أسقط صورتها في البداية على إنكلترا:

لن أتوقف عن الكفاح الفكري

لا ولن ينام سيفي في يدي

إلى أن نبني أورشليم

في أرض إنكلترا الخضراء السعيدة

بدأ بليك بنظم وطباعة نسخٍ من قصيدته هذه بطريقة الحفر في العام 1804، وعدَّت من أكثر قصائده التنبُّئية أهمية، وتخطت في النهاية عنوانها لتصبح أكثر أعماله قدرة على البقاء؛ لقد أصبحت صرحاً إنكليزياً يقدَّم كترنيمة في المناسبات الكبرى في كل صيف. وفهم الجمهور هذه القصيدة كلٌ على شاكلته؛ لدى بعضهم كانت حلماً بجنة عدن ريفية وتعهداً قوياً بإعادة بناء أورشليم السماوية على الأرض، ولدى آخرين استحضاراً لأخيولة طوباوية عن إنكلترا اشتراكية تخيلها الفنانون، بدءاً بوليم مورس وانتهاءً بموريسي الذي كان كثيراً ما يصعد إلى خشبة المسرح في جولاته الغنائية وترنيمة أورشليم تصدح في خلفية المشهد. أما بالنسبة إلى أولئك الذين كانت تثيرهم بسهولة فخامة قاعة ألبرت الملكية، فكانت القصيدة تحتشد بعظمة إنكلترا الإمبراطورية بمرارتها وحلاوتها، وتثير فيهم الأمل في أن المجد ما زال في متناولهم. ولا شك أن هذا هو السبب وراء اختيار القصيدة كنشيد رسمي لفريق كرة القدم البريطاني في مباريات أوروبا في العام 2000.

كل هذه «الأورشليمات»، العلمانية والدينية والاشتراكية والقومية، تشترك في سمة واحدة؛ إنها تبدو، برسوخها في التربة الإنكليزية، وكأنها لا تملك إلا القليل تفعله بشأن سمتها «الأصلية» حسب تخيلهم في الشرق الأوسط. ولكن حين نعود إلى رؤيا بليك ذاته وجذورها في ثقافة تسعينيات القرن الثامن عشر، كما دفع النقاد طويلاً، نكتشف أنه كان يتخيل بناء أورشليم هذه في إنكلترا الخضراء السعيدة في الوقت نفسه الذي كانت إنكلترا تتحرك وتقترب أكثر وأكثر من القدس العربية في فلسطين، أو أورشليم كما في مخيِّلة مفسّري التوراة[4].

وبالفعل، فإن الأحداث المضطربة ذاتها التي أعادت الأمل بأورشليم العدالة الاجتماعية في الأوساط الراديكالية في إنكلترا، وتحديداً الثورة الفرنسية وحروب نابليون، كانت بالقدر نفسه أداة تؤشر إلى مرحلة جديدة من الانخراط الإنكليزي في قضية الأرض المقدسة. ففي حزيران/يونيو 1799 شاركت قوات فرقاطة بحرية ملكية المدافعين العثمانيين عن عكا في دحر قوات نابليون بونابرت. وستلتفت بريطانيا، الحريصة على حماية طريقها إلى الهند، من الآن فصاعداً إلى فلسطين التفاتاً متزايداً مدفوعة بمصالح استراتيجية وسياسية واقتصادية ودينية متشابكة. ولهذا كان أمراً عادياً، على سبيل المثال، أن تشهد أعمال صندوق استكشاف فلسطين الذي تأسس في العام 1865 لمسح الأرض الفلسطينية ورسم خرائطها، رجال دين يعملون جنباً إلى جنب مع الضباط العسكريين (بل وأن يرجع العسكريون من أمثال كيتشنر وكوندور إلى الأسماء الجغرافية التي ألصقها لاهوتيون في القرن الرابع الميلادي، أمثال أوسبيوس مطران قيسارية، بالأرض الفلسطينية)، ويعلن أسقف يورك الذي افتتح أعمال صندوق الاستكشاف بعبارة واضحة الرؤية والهدف: «هذا البلد فلسطين ينتمي لكم ولي، إنه لنا من حيث الجوهر. لقد منح لأب إسرائيل بهذه الكلمات «إمشِ في الأرض طولاً وعرضاً، لأنني سأعطيك إياها»، وغايتنا أن نمشي في فلسطين طولاً وعرضاً، لأن هذه الأرض أعطيت لنا… إنها الأرض التي يمكن أن ننظر إليها بروح وطنية صادقة كما ننظر إلى هذه الإنكلترا العجوز الغالية التي نحبها حباً جماً»[5].

والواضح أن وزارة الحرب أسعدتها سعادة بالغة رعايتها لمشروعات الصندوق؛ لقد تعززت أهمية فلسطين الاستراتيجية مع افتتاح قناة السويس في العام 1869، واحتلال مصر في العام 1882. وتوّج التغلغل البريطاني التدريجي في كانون الأول/ديسمبر1917، في إثر معركة دامية في تلال فلسطين الشرقية، بأن قاد الجنرال اللنبي الجيش البريطاني المنتصر إلى القدس (متخيلاً أنها «أورشليم»). وسنجد بعد بضعة أشهر نشيد وليم بليك الذي وضع موسيقاه السير هربرت باري يقدَّم للمرة الأولى أمام حشد جماهيري واسع.

ثانياً: رمبرانت يرسم انتصار «أورشليم الأرض الواطئة»

نأتي الآن إلى مخيِّلة رسام من وزن الرسام الهولندي رمبرانت. أنتج هذا الرسام أكثر من 70 رسماً دينياً تعكس الميل الهولندي إلى تفسير قصص التوراة بتعابير سياسية ودينية معاصرة، وتنقل حدثاً توراتياً من مدينة فارسية إلى القدس، باستخدام تقانة الحفر والطباعة استجابة لسوق هولندية مزدهرة بالموضوعات الدينية. واستخدمت هذه الأعمال المنشورة كمجموعات من قبل المستهلكين كرسوم إيضاحية ترافقهم في القراءة اليومية للكتب المقدسة التي كانت من سمات القرن السابع عشر في شمال الأراضي الواطئة. وفي هولندا البروتستانتية، اهتم الناس الذين تماهوا بقوة مع العبريين القدماء، والذين رأوا في أنفسهم ورثة «ميثاق إسرائيل مع الله»، بالعهد القديم كما بالعهد الجديد، واستعاروا بحرّية بالغة قصصاً وأبطالاً من التوراة العبرية كي يمنحوا معنى لحياتهم الأرضية والروحية على حد سواء.

الأبرز بين هذه الرسوم تمثيل رمبرانت لحدث شائع من أحداث «سفر أستير» في رسم أطلق عليه اسم «انتصار مردخاي» طبع في العام 1642، يروي قصة انتصار مردخاي، عم أستير اليهودية زوجة الملك الفارسي، على مؤامرة وزيره هامان للإيقاع به، وتجلى هذا الانتصار باكتشاف الملك أن مردخاي أنقذ حياته، فأمر بتكريمه في موكب جماهيري على أن يقود حصانه الوزير المتآمر ذليلاً مهاناً.

عكست هذه القصة وتمثيلها الميل الهولندي نحو تفسير قصص العهد القديم على أرضية الاهتمامات السياسية والدينية المعاصرة، ورمز الرسم إلى المُثل الوطنية للمقاطعات المتحدة بوصفها «أورشليم» جديدة. وفسرت القصة على الأرجح، في ضوء الاهتمام الواسع الذي حظي به تمثيل رمبرانت لهذه القصة الشائعة في شمال الأراضي الواطئة، في سياق النزاع العسكري مع إسبانيا الذي لم يتوقف إلا مع توقيع معاهدة وستفاليا في العام 1648 بعد حروب الأوروبيين الدينية طوال أكثر من ثلاثين عاماً. لقد قرأ الهولنديون في هامان القصة إسبانيا الكاثوليكية (أرض عبَدة الأصنام كما تصور اللاهوتيون البروتستانت آنذاك) وفي مردخاي وأستير صورة مواطني هولندا المتسامحين العادلين الذين انتصروا على العاهل الإسباني وحفظوا المقاطعات المتحدة، أورشليم الجديدة.

على أن اللافت للنظر بعد كل هذا التماهي والتمثيل، أن رمبرانت ينقل مكان الحدث (عاصمة الملك الفارسي سوسة) إلى القدس العربية، ولا يجد ما يستوحي منه الصورة المتخيلة للمعبد التوراتي الخيالي إلا مسجد قبة الصخرة، متابعاً في ذلك تقليداً ساد منذ عصر النهضة الإيطالية في استخدام قبة الصخرة لاستحضار صورة ذلك المعبد في رسوم الحفر والطباعة.

في ضوء هذه الاستعارة، يمنح استحضار المدينة المقدسة في مشهد من مشاهد القصة «انتصار مردخاي» صلة بالعصر الراهن فعالة، ليس باستحضارها في العاصمة سوسة كما قيل في التوراة، ولكن في أمستردام القرن السابع عشر أيضاً. وهي قراءة كانت ذات معنى كبير أيضاً للهولنديين اليهود الذين فرّوا من الجزيرة الإيبيرية، ورأوا في معاناتهم، هم الذين أجبروا في إسبانيا على اعتناق الكاثوليكية، معاناة العبريين أنفسهم في زمن أستير، فتماهوا معهم، ورأوا في أمستردام «أورشليم» الجديدة ومكان لجوء وتسامح وحياة جديدة[6].

ثالثاً: بابيه: «الأرض الخالية» طريق الانبعاث القومي للحركة الصهيونية

لم يكن مهماً للاثنين، الشاعر والرسام، معرفة واقع مدينة القدس في ماضيها وحاضرها، أو لم يكن يعني لهما هذا الواقع شيئاً، ما دامت المعرفة اللاهوتية التي تقدمها التوراة كافية في نظرهما وفي نظر الجمهور الواسع من المؤمنين بأن النص اللاهوتي يعكس الجغرافية والتاريخ بأمانة.

وسيجد هذا الإيمان صداه في كل المشروعات الاستعمارية، بدءاً من مشروع كولومبوس للدوران حول الكرة الأرضية والوصول إلى القدس في القرن الخامس عشر، وصولاً إلى مشروع الحركة الصهيونية في احتلال فلسطين وإبادة سكانها في القرن التاسع عشر، أولئك الذين كانوا يسكنون أرضاً «خالية» وغير «موجودين» في الوقت نفسه في نظر القادمين بحماية حراب الإمبراطورية البريطانية. هذه الذروة الأخيرة يلخصها أوفى تلخيص المؤرخ إيلان بابيه، وهو أحد أبناء أسرة ألمانية يهودية هاجرت إلى فلسطين في ثلاثينيات القرن العشرين، وعمل محاضراً في جامعة حيفا فترة من الزمن، قبل أن يهاجر إلى بريطانيا ويعمل في جامعة إكستر منذ العام 2007، في مطلع كتابه تطهير فلسطين عرقياً؛ إنها ذروة مشروع إبادة تضمنه المشروع الصهيوني منذ انطلاقه.

ويرى بابيه أن الكثير من الصهاينة حين وصلوا إلى فلسطين في العام 1882، لم يروا فيها حتى أرضاً «محتلة»، بل كانت أرضاً «خالية»؛ أهلها الفلسطينيون الذين يعيشون فيها كانوا في نظر هؤلاء «لامرئيين»، أو إذا لم يكونوا كذلك فهم ظاهرة طبيعية مؤذية، لذا يجب التغلب عليهم وإزاحتهم عن أرضهم. ويجب أن لا يقف شيء، لا الحجر ولا الفلسطينيون، في طريق «الانبعاث» القومي للأرض التي اشتهتها الحركة الصهيونية[7].

رابعاً: كولومبوس: رحلة صليبية لاستعادة «الضريح المقدس»

بالعودة إلى كولومبوس، فمن الشائع عن رحلته البحرية أنها انطلقت غرباً بهدف استكشاف طريق إلى ثروات الهند عبر المحيط الأطلسي، ووقعت بالمصادفة على العالم الجديد، أي الأمريكتين، وهناك اكتفت إسبانيا بهذه الغنيمة، تاركة الشرق للبرتغال ومن تبعهم من غزاة هولنديين وفرنسيين وإنكليز. ولكن دراسة فريدة في نوعها للباحث عباس الحمداني في العام 1979 ألقت ضوءاً جديداً هو الأول في نوعه على هذه الرحلة وأهدافها، وهذا تلخيص موجز لهذه الدراسة[8]:

لاحظ الباحث، بعد قراءة يوميات كولومبوس والدراسات التي نشرت حولها، أنها تشير إلى مشروع كولومبوس الحقيقي الذي ولد في ظل إيمان قروسطي حافظ على حل مشكلاته بالتوسع، ولكن هذه المرة بالدوران حول الأراضي الإسلامية والوصول إلى الهند. فإذا لم «يعد ممكناً انتزاع الضريح المقدس في أورشليم من قبضة الأتراك بالوسائل العادية، فليكن مسعى أوروبا إلى وسائل جديدة في ما وراء البحار، وسيكون كولومبوس حامل رسالة المسيح الأداة المتواضعة لتجديد أوروبا» على حد تعبير صموئيل موريسون. وشدد أنطونيو باليستيروس على دوافع كولومبوس في البيئة الصليبية التي شاعت في إسبانيا القرن الخامس عشر.

وأشار الباحث الحمداني إلى أن واشنطن إيرفنغ هو أول من لفت الانتباه إلى «هدف كولومبوس الصليبي باحتلال أورشليم»، ولخص أهدافه بثلاث مراحل تتبع إحداها الأخرى: اكتشاف العالم الجديد؛ وهداية الأغيار؛ واستعادة الضريح المقدس.

إلا أن إيرفنغ، شأنه في ذلك شأن الباحثين المشار إليهما، لم يذهب عميقاً في استكشاف العلاقة بين الرحلة غرباً واستعادة الضريح المقدس. ولكن الباحث جون فيلان في السنوات الأخيرة قدم دراسة عن علاقة كولومبوس بطائفة الفرنسيسكان وتطور عقليته في ضوء هذه العلاقة. ويعتقد فيلان أن المثال الصليبي التقليدي كان دافع كولومبوس ما بين العامين 1492 و1498، إلا أنه ما بين العامين 1501 و1502 ربط الموروث الصليبي برؤيا آخروية عن نفسه كمخلص. أي أن فكرة غزوه للقدس كانت فكرة رمزية.

هنا يتقدم الباحث الحمداني، بعد تمحيص ما سبق من أفكار، برؤيته عبر قراءة اليوميات والأحداث التاريخية ويتوصل إلى أن كولومبوس لم يكن رجل خيال فقط بل كان رجل عمل أولاً. من هنا «كانت رغبته الحقيقية هي الانتزاع الفعلي لأورشليم» من أيدي المسلمين وشق طريق جديد من أجل تحقيق هذه الغاية.

يقول الباحث إن الوصول لهذا الهدف كان وفق كولومبوس يمر بثلاثة طرق:

1 – الاتصال بخان المغول الأكبر المساند للمسيحية في الشرق، ذلك الذي يفترض أنه ذاهب إليه عبر المحيط غرباً. وسيؤدي هذا الاتصال بين المسيحية الغربية والشرقية إلى توحيد الكفاح لاستعادة أورشليم من حكم المسلمين.

2 – استخدام موارد الأراضي الجديدة المكتشفة في غزو أورشليم خلال ثلاث سنوات.

3 – قوة الشخصية المسيحانية، قوة المخلِّص، التي رأى كولومبوس ذاته فيها وفق تنبؤات عدد من القديسين أشاروا إلى أن المخلِّص سيأتي من إسبانيا.

كان هذا بعداً من أبعاد مخطط كولومبوس، إضافة إلى البعد التجاري. فنظام المماليك يقع على طول امتداد طريق التجارة الدولي من الشرق إلى الغرب لأنهم يمسكون بالمناطق المحاذية للبحر الأحمر. وقد احتل السلطان المملوكي الأشرف بارسباي (1422 – 1438) قبرص في العام 1424، ووضع نهاية لمملكة صليبية قامت هناك لزمن طويل، واحتكر تجارة السكر وفرض رسوماً على التجارة الأوروبية مع الشرق ما أثار احتجاجات دول المدن البحرية الإيطالية. وتم خنق التجارة الأوروبية أيضاً حين قطع الطريق البري إلى الصين بعد العام 1368 حين غزا أباطرة أسرة منغ الصينية منغوليا وأواسط آسيا، وعززوا طريقاً تجارياً منافساً يبدأ من موانئ الصين الجنوبية عبر المحيط الهندي باتجاه الشرق الأوسط وشرق أفريقيا تحت قيادة أمير البحر الصيني المسلم تشنغ هو. وانقطع أيضاً الطريق البري جنوب بحر قزوين بعد أن تبنى إليخانات فارس الإسلام، وترسخت سلطة التيموريين في آسيا في العام 1379. ولم يعد الطريق شمال بحر قزوين موضع نقاش بعد أن بدأت غزوات العثمانيين في أواسط أوروبا منذ العام 1389.

وأعطى حدثان كبيران آنذاك حافزاً إضافياً لعملية العثور على طريق جديد نحو آسيا؛ احتلال العثمانيين للقسطنطينية في العام 1453، وأخذ غرناطة، آخر موقع إسلامي في إسبانيا على يد الإسبان في العام 1492. كان الحدث الأول هزيمة صدمت العالم المسيحي وأنعشت النشاط الصليبي، وكان الثاني نصراً شجع إسبانيا على ملاحقة العدو الإسلامي حتى عتبة بيته. وهناك في غرناطة، بعد احتلالها ببضعة أشهر، تم توقيع مشروع كولومبوس ووضع العاهلان الإسبانيان عليه ختمهما.

ويشير الكاتب الأمريكي لورنس ديفيدسن إلى الرؤى الاستعمارية التي لا ترى إلا ما ترغب في رؤيته وما يخدم مصالحها في متابعته لسياق استكشاف فلسطين المكثف على يد علماء الآثار الغربيين، وبخاصة في العقد الأول من القرن العشرين بعد الاحتلال البريطاني بوقت قصير. ويقول: «لقد كان هذا العقد عقد نشاط آثاري كبير مع تسهيل البريطانيين وتنظيمهم الوصول إلى البلد أمام علماء الآثار الغربيين.. واستجاب علماء آثار التوراة الغربيون بحماسة يشعلها «التوقع» و«الفهم المسبق»، وتحديداً «الفهم المسبق» بأن التوراة كانت صحيحة تاريخياً، «وتوقع» أن مدخل علماء الآثار الجديد إلى فلسطين سيثبت هذا.

هكذا يمكن أن يُنظر إلى ما يدعى «علم الآثار التوراتي» كأداة لعقلنة السيطرة الاستعمارية. وقد أعاد «علم الآثار التوراتي» هذا الذي اخترعه الأمريكيون تنشيط عصر افتتان قديم بالأرض المقدسة منذ أن وفد البيوريتان على أمريكا، وأقاموا صلة مفاهيمية بين «أرضهم الموعودة» وفلسطين التوراتية. وخلال القرن التاسع عشر رعت أمريكا البروتستانتية عدداً من مشاريع الإرساليات في الأرض المقدسة، ونظروا إلى إعادة الاستيلاء والسيطرة المسيحية على فلسطين كخطوة تقود إلى تحرير الأرض. وهكذا، بالنسبة إلى الأمريكيين كما الأوروبيين، كان فرض الاستعمار الغربي على فلسطين متصوراً على أنه نعمة إلهية إيجابية.. تؤكد عظمة المجتمع الغربي التي نظر إليها أيضاً على أنها من نِعم الله. وكان من السهل خلال عملية إنشاء السيطرة قبول فكرة أن العرب سكان البلد الأصليين يجب تجاهلهم أو الحط من قدرهم. وقد عقلَن الأمريكيون مثل هذه الأشياء من قبل، وسيؤدي علم الآثار دوراً في هذه العملية أيضاً»[9].

 

خامساً: فرض خريطة توراتية على الأرض الفلسطينية

استندت كل هذه المشاريع وتغذت على صورة متخيلة للقدس وفلسطين، أي على خريطة لا تمت إلى التضاريس الأرضية بصلة، على رؤيا لجوهر ثابت لا يتغير مع الزمن، لا تغيره أيُّ نظرة جديدة للتاريخ، ولا تغيره مكتشفات أثرية، ولا أي تقدم من أي نوع في مضمار أي علم من العلوم المعنية بالإنسان والمجتمع والطبيعة، وعلى غاية تسعى إلى استعادة هذا الجوهر وتحويل المكان الواقعي إلى فضاء خالٍ من سكانه ومعالمه الواقعية ليحل فيه هذا الجوهر المفترض أو يفرض عليه ويتجسد مادياً.

ويشرح الباحث نيل آشر سلبرمان هذا المنحى الخيالي – النصي بالقول: «كان جوهر الأرض المقدسة التاريخي بالنسبة إلى الكثير من الزائرين والمستكشفين أكثر جاذبية بكثير من واقعها الراهن. فبدءاً من خمسينيات القرن التاسع عشر بدأ علماء الآثار الغربيون بالحفر في الأرض للعثور على آثار ملموسة لهذا الجوهر، لا مجرد الانكباب على الخرائط… للحفر أفضلية على الدراسة الجغرافية، فما ينتج منه يمتلك أهمية عاطفية ودينية يمكن مقارنتها بآثار وأكفان وعظام لقديسي الأزمنة القديمة. فما إن يتم التعرف إلى «المدن» التوراتية حتى يمكن أن تُبعث مادياً وتتخذ مكانها كمقامات في جغرافية مقدسة جديدة. وقدَّم الحفرُ في أورشليم بخاصة رسالة جلية. فقد عنت عناوين تقارير التنقيبات وملخصات القرن التاسع عشر والعشرين التاريخية، مثل «استعادة أورشليم» (ولسون ووارين 1871) و«أورشليم تحت سطح الأرض» (وارين1871 وفنسنت 1911) و«أورشليم الباطنية» (غودريش فرير 1904) ضمنياً، بوعي أو من دون وعي، أن أورشليم المعاصرة اليوم ذات أماكن العيش والعمل والعبادة والأسواق كانت بطريقة ما وهماً، وأن أورشليم الواقعية ضاعت بطريقة ما، طمرت أو أخفيت قبل وصول علماء الآثار الغربيين.

ولم يكن تأثير مثل هذا النوع من الترميم التاريخي مجرد تأثير أكاديمي، فاستبدال جغرافية مشهد «توراتي» بمشهد قائم، كان يحدد هوية جديدة للأرض تحديداً مؤثراً. وخلقت مصادقة حكومة الانتداب على التبني الرسمي، ألسنياً وتاريخياً، لتسميات الأماكن بالأسماء التوراتية (1929)، ثم تبني لجنة الأسماء الأكاديمية الإسرائيلية للأسماء العبرية، جغرافية معاصرة مختلفة جذرياً عن تلك المعروفة لدى سكان فلسطين ومستكشفيها في القرن التاسع عشر. وبإعادة تصنيع جغرافية وتاريخ فلسطين، بما في ذلك القدس، على غرار صورتها المتخيلة في التوراة، كان مستكشفو وعلماء قوى الغرب الكبرى أدوات شرعنة أيديولوجية لتحول اقتصادي وسياسي لا يقل في مداه عن ما تحقق من نجاح تام في مدن أمريكا التي حملت أسماء كنعان الجديدة وبيت لحم والناصرة وأورشليم»[10].

الرؤيا الثابتة هي الرؤيا اللاهوتية، ولكنها مع مطلع العصور الحديثة، ومع التطلع إلى استعمار فلسطين، ستصبح هي ذاتها الرؤيا الموجهة للسياسي والعسكري والمستكشف الجغرافي وعالم الآثار وعالم اللغات والمؤرخ والفنان.

يحلل جوزيف حجار في كتابه أوروبا ومصير الشرق العربي وثائقياً السعي الأوروبي إلى اقتطاع «مناطق نفوذ» خاصة في الشرق العربي بعد عام 1840، أي بعد أن نجح أن التحالف الرباعي الشهير (إنكلترا والنمسا وبروسيا وروسيا) في تصفية القوة المصرية وفرض الوصاية على الباب العالي العثماني. وبدأت كل حكومة أوروبية بتقديم أو تأييد مشاريع تميل إلى إعطاء فلسطين بعامة والقدس بخاصة وضعاً من الاستقلال السياسي والديني تحت النفوذ والمراقبة المباشرة لأوروبا.

في هذا السياق برز مشروعان كبيران تحدثت عنهما مصادر معاصرة عديدة، ويبدو أن مؤرخي الأزمة الشرقية الكبرى في العامين 1840 و1841 تجاهلوا – أو طمسوا – هذين المشروعين المتعلقين بإسكان اليهود الأوروبيين في فلسطين وتدويل القدس وضواحيها. ويتناول حجار هذين المشروعين في إطارهما التاريخي الواقعي فيزعزع الكثير من الآراء السائدة، ويكشف بعض الجوانب المموهة بعناية تحت مظاهر النشاط الديني والكنسي.

الواقعتان اللتان مهدتا لهذين المشروعين الخطيرين تتعلقان بالقدس تحديداً، وهما شراء المبشِّر نيكولايسن قطعة أرض في جبل الزيتون لبناء هيكل عبادة، وتعيين قنصل إنكليزي في القدس في العام 1838، كقاعدتين أساسيتين للنفوذ السياسي – الديني لبريطانيا في القدس. وفي متابعة هذه المشاريع أدى اللورد آشلي، وقريبه بالمرستون، أحد رؤساء مجالس الوزراء البريطانية، دوراً فعالاً. وتكشف مذكرات آشلي عن حلمه منذ عام 1838 باستعمار اليهود لفلسطين تحت الحماية الإنكليزية. كانت الفكرة واضحة منذ البداية؛ سيكون تجميع اليهود في فلسطين وسيلة لتشكيل مستعمرة للاقتصاد البريطاني الآخذ في التوسع[11].

في سياق هذه الرؤيا الثابتة ستتوالى مشروعات مرافقة؛ فرض خريطة توراتية على الأرض الفلسطينية في العام 1838 على يد لاهوتيين من أمثال الأمريكي إدوارد روبنسون، والتخطيط لاستكشاف فلسطين من منظور الاستيلاء على الأرض كما تجلى في خطاب صندوق استكشاف فلسطين الذي أشرنا إليه، وإشاعة رؤيا عممها مبتدع مصطلح «علم الآثار التوراتي» وليم فوكسويل ألبرايت، مفادها أن الأرض التي انبسطت أمام عينيه حين دخل القدس بعد الاحتلال البريطاني مباشرة «هي ذاتها الأرض التي انبسطت أمام عيون الآباء العبريين»[12].

سادساً: انتهاك مبادئ الجغرافية

ورد ذكر أخبار خريطة اللاهوتي إدوارد روبنسون في عدة مصادر، أقدمها كتاب لعالم الآثار الإيرلندي ماك آلستر (1920)، وأحدثها ما كتبه نيل آشر سلبرمان، وآخرها ما ورد في كتاب إدوارد فوكس (2001). يأخذ آلستر على خريطة روبنسون أنها لم تكن معنية بأي معرفة قائمة على تنقيبات علم الآثار، ولا على تمكُّنٍ ألسنيٍّ من اللغة العربية ولا بأي دراسات أنثروبولوجية أو اجتماعية أو طبيعية[13]. بينما يلاحظ عليه سلبرمان أنه جاء حسب تعبيره «ليفتح لأول مرة كنوز الجغرافية التوراتية التي رقدت طوال قرون بلا اكتشاف، فتراكمت عليها قمامة وغبار قرون عديدة، بحيث نُسي حتى وجودها»[14].

ويربط إدوارد فوكس بين الدوافع البروتستانتية التي ألصقت روبنسون بحرفية التوراة وبين انتهاكه لمبدأ أولي من مبادئ الجغرافية: إن المشهد الطبيعي أكثر أهمية من الخريطة، وبدلاً من ذلك رأى الخريطة التوراتية أكثر أهمية من المشهد. ويقول فوكس إن جغرافية الأرض المقدسة، وهي مفهوم تجريدي لا علاقة له بجغرافية فلسطين الواقعية، كان ينظر إليها ملايين الأمريكيين من مختلف التوجهات بأنها متراكبة مع جغرافية شمالي أمريكا. فالمستعمرون الأوائل في القرن السابع عشر استوردوا معهم رؤيتهم لأمريكا كإسرائيل جديدة، كمجتمع يتمتع بالعناية الإلهية منفصل عن بقية البشر، مدينة «فوق تل». وظلت هذه جزءاً أساسياً من فكرة أمريكا عن نفسها. وفي استكشافه لفلسطين، كان روبنسون بمعنى من المعاني يستكشف نيو إنغلند، كان يغوص في أغوار تجربته وهويته[15].

ويتوِّج كل هذا، فرض الخريطة والرؤيا واستعمار الأرض، بإقامة متحف بلا عاديات في قلعة مملوكية، أطلق عليها المستعمرون الصهاينة اسم «قلعة داود»، يروي حكاية القدس عبر العصور، ويزج في هذه الرواية بعصور توراتية لاهوتية متخيلة، عبر الصور الهولوغرامية والتسجيلات الصوتية.

جاء في لقاء للباحثة نادية أبو الحاج مع أمينة هذا المتحف الخيالي في القدس، أن هذه الأخيرة أكدت أنه صمم لكي يكون «متحفاً بلا عاديات»، يقوم على البعد المعماري وبعد القصة. أي قصة ما تدعوها أورشليم. والمعمار المقصود هو القلعة التي بناها المماليك فوق أنقاض مبنى صليبي من القرون الوسطى بعد تحرير القدس، والتي ألصقت بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي اسم «قلعة داود»، ويشير إليها الباحثون الغربيون باسم «قلعة هيرود». وفي هذا المبنى وضعت للعرض أشباه أثرية غير أصلية تحاكي آثاراً لا وجود لها إلا في النص التوراتي.

أما الأثران «الحقيقيان» اللذان لاحظتهما الباحثة فهما من آثار المرحلة الإسلامية؛ كتابة عربية ومحراب هما جزء من معمار غرفة عرضا فيها، ولكن بلا أي إشارة إلى هوية هذين الأثرين لأنهما حسب تعبير أمينة المتحف ليسا جزءاً من المتحف. وفي جو هذه القلعة، وبين أمثال هذه البقايا الأثرية «الصامتة» تعرض أمام الزوار صور هولوغرامية متخيلة لما يسمى المعبد الأول ويعرض نموذج لما يسمى المعبد الثاني، وأفلام عن تاريخ القدس القريب منذ الاحتلال البريطاني حتى قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي. خارج هذا المتحف توجد حديقة نثرت فيها بقايا أثرية محدودة، يونانية وصليبية وعربية… إلخ، يطل عليها الزوار من بعيد فقط، في إيماءة واضحة إلى أن هذه الآثار ليست جزءاً من تاريخ القدس الذي يروى في الداخل بالصور الخيالية.

وتلاحظ الباحثة أن هذا الإنشاء جاء نتاج محاولة صياغة ماضٍ للقدس «بتحويل المكان وصناعة مشهد جديد» وتقديم تفسيرات للعاديات الأثرية في إثر احتلال القدس القديمة في العام 1967، وبداية توسيع رقعة الاستعمار الاستيطاني فوراً[16].

وهناك ظاهرة أصبحت عامة في ما يتعلق بالآثار الفلسطينية، وهي تلفيق الصهاينة التوراتيين وتزويرهم قطعاً أثرية، بل حقباً وحضارات متخيلة، وفرض تفسيرات على النصوص الأثرية، أو حتى تحريف بعضها كما كشف الباحث توماس تومسن[17]. ورافقت هذه الظاهرة مسار التنقيب في الأرض الفلسطينية منذ أواخر القرن التاسع عشر ولا تزال متواصلة حتى الآن، والهدف لا يتغير، وهو ابتداع وجود أشخاص ومراحل تاريخية وممالك وأحداث، وتوزيعها على متاحف تخشى، حتى بعد انكشاف عمليات التلفيق الإسرائيلية، الاعتراف بأن «نفائسها» مجرد نفايات ملفقة لا قيمة لها.

يقوم عمل صنّاع القطع الأثرية المزيفة على اختلاق قطع، حجرية أو طينية أو رقوق، ونقش نصوص «تؤكد» «وتبرهن» على وجود معبد سليمان في القدس، ووجود أشخاص وأحداث توراتية ذات علاقة بالأرض الفلسطينية[18].

أما تزوير وتحريف قراءة النصوص المكتشفة، فهي ظاهرة شائعة وأشد خطراً على المجال العلمي، وبخاصة حين يقف وراءها ويروِّجها «علماء» من ذوي النفوذ الأكاديمي، كما حدث مثلاً حين أساء رئيس فريق بعثة فيلادلفيا الأمريكية للتنقيب قراءة نقش مسلّة الملك المصري رمسيس الثاني المكتشفة في بيسان (1923)، فجعله يتحدث «عن استخدام «الإسرائيليين» في بناء مدينة هذا الملك، بينما كان النص الأصلي يتحدث عن قبائل العامو والشاشو التي قدمت فروض الطاعة للملك[19]. ومثال ذلك إكمال وليم ألبرايت في العام 1941 لنص على كسرة فخارية من تل الدوير بزجِّ كلمة «سقوط أورشليم» للبرهنة على تاريخية هذا الحدث وعلى الأرض الفلسطينية أيضاً[20]. الأخطر من هذا أن هذه «القراءات» الزائفة يتم تكرارها في الكتب العلمية والمدرسية حتى بعد الكشف عن ضلالها. في السنوات الأخيرة، اضطرت حتى الدوائر الصهيونية إلى الاعتراف بوجود الكثير من العاديات الملفقة في متاحفها ومتاحف العالم حسب ما أوردته صحيفة هآرتس الإسرائيلية[21].

وتناول الباحث الصهيوني يوفال جورين ظاهرة التلفيق منذ وقت قريب، وسرد قصصاً تتعلق بالتلفيق والملفقين في مقال تحت عنوان «لوثة ظاهرة أورشليم المرضية»، حلل فيه نوعاً من الأعراض المرضية أو الخبل الذي يصيب من يزور القدس أو يعيش فيها فيحوله «إلى إنسان يتصرف تصرفات شاذة وتنتابه هلوسات توراتية». وربط بين هذه اللوثة وبين ملفقي الآثار الذين يستغلونها لرفع أسعار منتجاتهم، وتساءل عمّا «إذا كان لا يزال يسيطر على علم الآثار التوراتي الهواة والدجّالون». ولكن هذا الموظف في دائرة الآثار الإسرائيلية يتجنب ربط هذه الظاهرة القديمة، قدِم وفود علماء الآثار التوراتيين على فلسطين، بالفكرة الصهيونية المخبولة القائمة على محو المكان الفلسطيني بماضيه وحاضره، بسكانه وعمائره وجغرافيته وتاريخه، وإحلال مكان وهمي مصدره الروايات اللاهوتية محله، وتوسل كل الوسائل في سبيل هذه الغاية[22].

وقد تبين من التحقيقات التي جرت في أوائل القرن الحالي أن هناك شبكة محتالين واسعة يعمل فيها ملفقو قطع أثرية ونصوص وناشرون صحافيون وخبراء لغات وعلماء تاريخ… إلخ. ولوحظ أن أسماء معينة تتردد في كل حالة ينكشف فيها تزوير أو تلفيق، مثل اسم عالم الساميات الفرنسي أندريه لومييه والناشر لمجلة بيبليكال آركيولوجي ريفيو الأمريكي هيرشل شانكس، وظيفتهم هي الترويج لهذه القطع حال ظهورها بالقول إنها «أدلة ملموسة» أو إنها «قطع لا سبيل للشك في أصالتها».. وما إلى ذلك[23].

سابعاً: تابوت العهد الإسرائيلي: هوَس مرَضي وجرائم أثرية

في هذا السياق، لا تخرج صورة القدس عن إطار هذه الرؤيا اللاهوتية، فهي ترتسم في المخيِّلة اللاهوتية أولاً؛ ثم يأتي عالم الآثار فيبدأ التنقيب مسلماً بوجود ما هو ذاهب للبحث عنه إلى درجة أن هذا التسليم يتحول إلى هوس مرضي.

وإلى هذا النوع من علماء الآثار يشير الباحث بيتر جيمس حين يقول: «اجتذب هذا الحقل سلالة من العلماء اللاهوتيين السعداء بالحفر مع معول في يد وتوراة في اليد الأخرى. فإذا كان المنقب يؤمن، بناء على النص اللاهوتي، أن مرتفعاً قديماً يجب أن يحتوي على مبنى من عصر سليمان مثلاً، فمن المؤكد تقريباً أنه سيجد مبنى أو مباني وينسبها فوراً إلى معتقده، ويمكن أن يجعل هذا الإيمان المسبق هذا النوع من «التعرف» ثابتاً رغم أي دليل معاكس. وفي هذا الجو تنشأ صناعة سياحية صغيرة تبدأ بالنمو حول هذا «الدليل»[24].

وقبل ذلك بسنوات طويلة كان عالم الآثار ماك آلستر قد ضرب مثلاً على ما يولده هذا الهوَس المرضي من آثار تؤدي إلى محو وطمس ما قد يكون قد عثر عليه المنقِّب وخالف إيمانه، أو لم يمنح إيمانه دليلاً ملموساً، بهذا الحكاية الإيرلندية: «دخل في رأس بعض الناس في إيرلندا أن تابوت العهد الإسرائيلي مدفون تحت مرتفع من مرتفعات تارا، وفي سعيهم وراء هذا الوهم حفروا ودمروا المرتفع. لم يجدوا التابوت، ولكن عرف أنهم وجدوا أشياء معينة ومباني قد تكون ذات فائدة للتاريخ المحلي ضاعت بسبب السعي وراء هدف وهمي محدد»[25].

ومنذ وقت قريب أطلق عالم الآثار الإسباني رودريغو غالان اسم «الجرائم الأثرية الفظيعة» على هذا النوع من التنقيب، وأشار، كأنه يتحدث عما يحدث في القدس والأراضي الفلسطينية، إلى أن «هذه الجريمة ما تزال تتكرر دائماً.. ذلك أن المنقب يبدأ عمله بتفكير مسبق عما يجب أن يجده… باحثاً عن أدلة ومستندات تاريخية، على فكرة يريد أن يثبتها ويبرهن عليها، وأحياناً يصل إلى ما يريد، إلا أنه سيدمر شواهد وطبقات أثرية يمكن أن تتناقض مع نظرياته… وبذلك يكون قد قام بتزييف للتاريخ، إضافة إلى حرمان علم الآثار من وثائق يتجاوزها أثناء الحفر كان يمكن أن تساعدنا على وضع علم حقيقي بتاريخ المنطقة التي يتم التنقيب فيها»[26].

ويجيء بعد ذلك دور مؤرخ من نوع عجيب، يحول الرواية الشعبية إلى وقائع تاريخية لمجرد أنها رواية «دينية» غير آخذ في اعتباره الفرق بين التاريخ بوصفه حكاية عن الماضي يحكيها كل عصر بشروطه المعرفية، والتاريخ بوصفه ما حدث في الماضي. ويعبر عن هذا الموقف أفضل تعبير اللاهوتي السكتلندي إيان بروفان في إظهار قلقه وخشيته على «تاريخية» القصص التوراتي من تأثير الأبحاث الجديدة التي انتزعت تاريخ فلسطين من قبضة اللاهوت، ويأخذ على باحثين من أمثال توماس تومسن ونيلز ليميش وآلستروم وفيليب دايفز نهجهم في إقامة البحث التاريخي على «العاديات الأثرية والمباني والنقوش المكتوبة التي خلفها أناس الأزمنة القديمة، والانتباه إلى التغيرات المناخية وتنقلات السكان… أي الفصل بين القصة والتاريخ»[27]. ولا يرى في «التاريخ» إلا قصة تروى من وجهة نظر المؤلف، أي أنه يخلط بين التاريخ بوصفه «حكاية عن الماضي» وبين التاريخ بوصفه «ماذا حدث في الماضي» كما جاء في نقد فيليب دايفز له[28].

اللافت للنظر أن ما يزعج هذا اللاهوتي ويجعله يلجأ إلى كل هذا التخليط هو الخلاصات التي يلح عليها المؤرخون الذين يشن هجومه عليهم، مثل قول آلستروم «إن علم الآثار الفلسطيني هو الذي عليه أن يصبح المصدر الرئيس لكتابة التاريخ»، وليس كتبة توراة لم يكن همهم الحقيقة التاريخية كما هو همّ أي مؤرخ معاصر. ومثل قول نيلز ليمش «لا يجب أن يعمل الباحثون المعاصرون كناطقين باسم كتاب التوراة في ما يتعلق بالكنعانيين، بل عليهم أن يشكلوا آراءهم هم غير المنحازة عن حياة وثقافة الكنعانيين»[29].

ويرافق كل هذا النشاط «الآثاري» و«التاريخي» نشاط العسكري الاستعماري الذي يحتل الأرض ورسام الخرائط الذي يمحو أسماءها، ويلصق بها الأسماء اللاهوتية المتخيلة. وقد كشف أكثر من مصدر عن التزييف الذي أدخله عسكريون وعلماء لاهوت وسياسيون صهاينة على أسماء المواقع الجغرافية والمدن والتلال الأثرية الفلسطينية، والكيفية التي تم بها إلصاق الأسماء التوراتية الغريبة بمعالم هذه الأرض الغريبة عنها.

من هذه المصادر ما لاحظه عالم الآثار الإيرلندي ماك آلستر منذ وقت مبكر كيف أن بعض معالم القدس التاريخية قد تم الاعتداء على ماضيها، فأطلق الصهاينة على قلعة هيرود اليونانية اسم «قلعة داود»، وعلى بوابة الخليل اسم «بوابة يافا» الذي أطلقه الفرنجة، وكلا الاسمين خطأ[30]. ومنذ وقت قريب زعمت أوساط صهيونية أن المسجد المرواني الملاصق للمسجد الأقصى ليس سوى ما يدعونه «اسطبلات سليمان» وبدأت وكالات الأنباء تتداول هذه التسمية[31]، متجاهلة أن هذا الاسم ذاته سبق للمنقبين التوراتيين أن أطلقوه على عمائر في تل المتسلم جنوب جبل الكرمل، ثم عادت عالمة الآثار البريطانية كاثلين كينون في آخر محاضرات لها قبل وفاتها بوقت قصير، لتؤكد أن الأخبار المتداولة حول وجود اسطبلات سليمان في ما اصطلح المنقبون التوراتيون على أنها مدينة مجدو التوراتية لا تعدو كونها أخباراً مختلقة[32].

وظلت هذه التسمية حائرة في الهواء تبحث عن مكان تحط عليه، شأنها في ذلك شأن الكثير من الأسماء اللاهوتية التي ألصقت بالماضي الفلسطيني، مدناً وعمائر وتضاريس جغرافية ونقوشاً، عنوة وبلا أي دليل ملموس سوى الهوس في نسبة هذه الأرض إلى طائفة دينية مرت في تاريخها كما مر الكثير من الطوائف، ثم تلفيق صلة نسب بين هذه الطائفة وجملة من معتنقي الدين اليهودي المعاصرين.

صحيح أن هؤلاء لا يمتلكون سوى النص اللاهوتي والخيال وسيلة لإثبات حضورهم، كما يقول عالم آثار فلسطيني للباحثة نادية أبو الحاج، وأن الإنسان لا يحتاج إلى تخيل المعمار العربي حين يتجول في عكا أو في أي مكان آخر في فلسطين، لأنه واقعة قائمة في كل قرية وفي كل منطقة؛ ولكن هذا العالم يخفق بالفعل كما تقول الباحثة، في أن يأخذ في اعتباره أحد جوانب المخيِّلة الاستعمارية المهمة «فقد لفقت هذه المخيِّلة، بحقول متراكبة من الممارسة العسكرية والقانونية والسياسية والبحثية (أثرية ومعمارية وتخطيط مدن وتصميم متاحف)، التاريخ والتأريخ على حد سواء»[33].

ولا يمكن التخفيف من آثار هذا البعد الاستعماري، أو استبعاده كأداة تفسير، لأن الكيان الاستعماري المسمى إسرائيل «يسقط على القدس فكرة لا تناقض تاريخها فقط بل وواقعها المعاش ذاته، فيحولها من مدينة متعددة الثقافات والديانات إلى مدينة يهودية منطلقاً وغاية، موحدة إلى الأبد تحت السيادة الإسرائيلية حصراً[34].

إضافة إلى هذا الإسقاط الذي شمل كل الأرض الفلسطينية، وتسلط على جغرافيتها وتاريخها حتى قبل قيام هذا الكيان في سياق تنافس القوى الأوروبية على أراضي الدولة العثمانية مع نهاية القرن الثامن عشر، اختص الاستعمار الصهيوني القدس طوال أكثر من ستين عاماً بعمل مكثف دؤوب تناول تشريد سكانها وهدم أحيائها. ولم يكن احتلال شرق القدس في العام 1967 سوى الفصل الثاني الذي كتب في مصير هذه المدينة، أما الفصل الأول فقد حدث في العام 1948 حين تم احتلال الشطر الغربي من المدينة، وشرد الصهاينة المحتلون 30 ألفاً من سكانه الفلسطينيين واحتلوا أحياءهم. هذا تاريخ خسارة لم يكتب كما يرى إدوارد سعيد، ولم يسمع أحد صوت الفلسطينيين[35].

وحسب وصف أولي لما بدأ يحدث، وتكثف بخاصة بعد اتفاقيات أوسلو، ترسم الباحثة آنيتا فيتولو صورة لخطط إسرائيل السرية منذ العام 1991 (وهي لم تعد سرية)، مثل الاستيلاء على غربي سلوان وحي الشيخ جراح، وإقامة شبكة طرق سريعة حول القدس، مثل الطرق الأخرى في فلسطين الشرقية، هدفها واضح في ربط المستعمرات الصهيونية وتطويق وإغلاق الأحياء الفلسطينية وتحويلها إلى معازل أو غيتوات حسب الاصطلاح الغربي. وتتضمن عملية الاستيلاء على البيوت والمباني شبكة معقدة من الإجراءات؛ تزوير الأختام؛ ونزع ملكية من يسمون «الغائبين» والتلاعب في مسألة المواريث العربية؛ والرشى والخدع الضريبية… واستخدام القوة المجردة[36].

والنتيجة هي إقامة مشهد طوبوغرافي مشوش وملفق يدعى «أورشليم»، يجمع بين بناء أحياء خاصة باليهود، والتنقيب واستخراج آثار معمارية قديمة أو وضع آثار ملفقة ونسبها إلى من يسمون «الإسرائيليين القدماء» اعتباطاً، وإقامة متاحف تروى بين جدرانها قصص توراتية لا علاقة لها بهذه الجدران ولا بما احتوته من عاديات أمام سياح يتعرضون للإيهام بأن ما يشهدونه هو ماضي «أورشليم» اللاهوتية، بينما الحقيقة هي أن ما يشهدونه هو ماضي القدس المغيَّب بسطوة النص والتلفيق والاحتلال، ولا شيء غير هذا.

 

قد يهمكم أيضاً  موقف الشرعية الدولية (اليونسكو والجمعية العامة) من عروبة القدس

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #القدس #فلسطين_المحتلة #المستعمرين_والقدس #المخيلة_الاستعمارية #تاريخ_القدس #أورشليم #الاحتلال_الاسرائيلي_للقدس #تدمير_الآثار #تحريف_تاريخ_القدس #دراسات