تمهيد:

قد تكون قصة دون كيشوت[1] مضحكة وربما تهكّمية، لكنّها بالتأكيد تنمّ عن رؤية بعيدة. ومن الصعب تقييم النيات الفعلية لمؤلف القصة؛ فقد وُلِد قبل نحو عشر سنوات من وفاة شارل الخامس[2]، ملك إسبانيا ورأس إمبراطورية الرومية الجرمانية المقدسة (كما كانت تُسَمّى آنذاك). كانت إمبراطوريته تشمل مما تشمل أمريكا اللاتينية (الجنوبية والوسطى) كلها وجزءاً كبيراً من غرب الولايات المتحدة وكلاً من المكسيك وألمانيا والنمسا وإيطاليا، ومن دون أن ننسى ممتلكاته في آسيا وأفريقيا. وكانت كميات الذهب المُستخرجة من إمبراطوريته مذهلة. إلّا أنّ وزاراته اضطرّت إلى إعلان إفلاسها عدة مرّات. لم يسجّل التاريخ أحداً تمكّن من حكم مملكة أكبر من ممتلكاته. حتى الإمبراطورية البريطانية لم تتمكّن من مجارات سابقتها الإسبانية. إلّا أنّ خيبة أمل هذا الرجل القوي جعلته يفضّل الوحدة والزهد وأن يمضي باقي حياته في دير من أديرة الجبل المعزولة في إسبانيا.

كان سرفانتس، مؤلف كتاب دون كيشوت، يعرف تاريخ بلده وإمبراطوره. وكان بلا شك واعياً لرياح التغيير وأن وهج الإمبراطورية قد بدأ بالخفوت. لم يكن دون كيشوت أوّل كتبه، لكنّه كان أول نجاحاته، إلى الدرجة التي أصبح يُقال فيها عن اللغة الإسبانية أنّها «لغة سرفانتس»، وتُعتبر قصة دون كيشوت أولى القصص الحديثة. وقد تمت ترجمتها إلى أكثر من 140 لغة. فهل كانت القصةُ رسالةً للإمبراطورية وآل الهابسبورغ؟ هل يذكّرنا بمحاولات رجال الأعمال والسياسيين البريطانيين الذين حاولوا إطالة عمر الإمبراطورية البريطانية قُبَيل الحرب العالمية الأولى[3]؟ وهل من الصعب أن نستنتج أنّ سرفانتس عاش في عالم كان يتحوّل ببطء من العصور الوسطى إلى عصر النهضة؟ إنّ إحدى أوضح مظاهر هذا الانتقال هو أفول بيت آل الهابسبورغ البطيء. وقد ملك آخرهم على عرش الإمبراطورية الهنغارية النمساوية وتمت إقالته مع حلول الحرب العالمية الأولى، لكن مؤشرات الإنحدار كانت قد  بدأت قبل خمسة قرون.

إنّ من أعلن عن دخول عصر النهضة عقول لامعة مثل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الذي كان أصغر من سرفانتس بنحو خمسين سنة. وقد قرأ دون كيشوت وتأثّر بالكتاب. فقد نُشر قبل ظهور رائعة ديكارت تأملات في الفلسفة الأولى (1641)  بسنتين. وعبارته الشهيرة «أفكر إذاً أنا موجود»، وهي من مؤشّرات «العقلانية» (أو «الكرتيزية» كما يسميها الفرنسيون) وقد ذُكِرت في قصة دون كيشوت. إنّ سرفانتس قد يكون قد أثّر أولاً في ديكارت، لكنّه بالتأكيد كان يرمز إلى التحوّل، إلى الانتقال الأساسي مبتعداً عن القرون الوسطى[4].

قد يصنَّف الكثيرون من الناقدين الفلسطينيين بأنهم دونكيشوتيو هذا العصر، لكنّ جهودهم تنصهر في تيّار عالمي واسع يشير إلى عصرٍ جديد. إنّ قياسات نضالهم عملاقة. فالذين خلقوا إسرائيل هم حُكّام الإمبراطورية الحالية. وبالتالي، فإنّ حرب الفلسطينيين على غريمهم سوف تقودهم إلى مواجهات بقياسات دولية. وسوف تُظهر هذه الدراسة أنّ هناك إمكاناً جدّياً لاستمرارية مجهودهم، في مسارهم نحو هدفهم. ونجاحهم، حتى لو كان جزئيّاً، سوف يهزّ الإمبراطورية. ولن يكون الفلسطينيون وحدهم مسرورين بهذه النتيجة؛ فالذين سيترحّمون على إمبراطورية ما بعد الحداثة لن يتعدّوا حلقة موظّفيها المُختارين. وحتى إذا خسروا، فإنّهم يكونون قد شاركوا على الأقل في إعلان رياح التغيير. وسوف يُشارك الكثيرون في أمل الفلسطينيين بأن تقوم مجموعة دونكيشوتية بإعلان عصر نهضة ما بعد الحداثة، الجديد.

أولاً: الأساسيات

هل يمكن الفلسطينيين أن يؤثّروا في أيّ شيء على الساحة الدولية؟ وهل هناك حرب باردة ثانية؟ فقط الجواب الإيجابي عن كلا السؤالين يبرّر هذا البحث.

تُظهر النظرة السريعة الأولى أن القضية الفلسطينية تتجه إلى نوع من أنواع التصفية. والشرق الأوسط بمجموعه يتجّه نحو خسارة أهميته. فالمنطقة تمثّل أقلّ من 5 بالمئة من سكان الأرض وأقل من النسبة نفسها من الدخل العالمي، وهو ما يرشّح الصين والدول الآسيوية الأخرى لموقع الأولوية. أمّا إسرائيل، فإنّها في أوج نجاحاتها، ومؤشّراتها الاقتصادية والسياسية إيجابية. في المقابل، فإنّ الدول العربية قد صرفت جهدها الرئيسي خلال السنوات السبع الأخيرة على الصراعات الداخلية والحروب الأهلية. وهي لم تعد تشكل أيّ خطر. أمّا تركيا وإيران، فأصبحتا قوتين إقليميتين لهما تأثيرهما المحلّي، بينما يتلاقى العملاقان العالميّان «لتوجيه وتسيير» ما يسمّيانه بسخرية محسوبة «إحلال السلام».

إلّا أنّ المفاجآت حدثت من قبل. فقد قام بعض الفلسطينيين منذ نحو خمسة وخمسين عاماً بإعلان الثورة الفلسطينية[5]. ولم يهتمّ في البداية أحد، وأقلّهم إسرائيل ومصر. لكنهم بعد هزيمة عبد الناصر، وحين بدأوا بالقصف عبر الحدود بمدفعية أكبر وذخيرة أشدّ فتكاً، قررت إسرائيل إنشاء لجنة لدراسة الموضوع. لم تكن آيباك موجودة آنذاك، ولا كانت أكثر الجمعيات التي تروّج للصهيونية موجودة. وحين تمكّن الفلسطينيون من استصدار قرار من السوق الأوروبية المشتركة (كما كانت تُسمّى آنذاك) عام 1968، بدأ الصهاينة بتطوير برامج معاكسة لمواجهة الوضع الجديد. وحين فتحت منظمة التحرير الفلسطينية أول مكتب لها في باريس، انتقل العالم الصهيوني إلى حالة الطوارئ. وحين نجح الفلسطينيون في اختطاف عدد من الطائرات إلى الصحراء الأردنية ودمّروها من دون أية ضحايا بشرية وفي عملية إعلامية لا مثيل لها[6]، فرضوا أنفسهم على الساحة السياسية الدولية. وكان مفعول ذلك على الحركة الصهيونية مدمّراً. فقد تمكّن الفلسطينيون من احتلال وسط المسرح السياسي العالمي مع انتكاسة لا مثيل لها للصهيونية.

هل هناك مؤشّرات تدلّ على أن مثل هذه الظاهرة سوف تتردّد من جديد؟ من المرجح أنه لا يمكن استبعاد هذا الاحتمال.

*

أمّا الحرب الباردة، فهناك خبراء كُثُر يؤكدون أنها تحطّ رحالها. ومن أهدافنا هنا تحليل فكرة الحرب الباردة الجديدة وعلاقتها بالفلسطينيين. ونظراً إلى قوة وصواب قضيتهم وضعف طبقتهم السياسية والفائدة المشكوك فيها التي يمكن أن تقدمها الأنظمة العربية في هذا الصراع، ونظراً إلى اضطرارهم للملاحة السياسية في خضمّ كل هذه الإمكانات، فإنّ على الفلسطينيين أن يحسبوا بدقة. وعليهم إضافةً إلى ذلك، أن يطوّروا فهماً يمكن الاعتماد عليه، ومعرفة متكاملة لتركيبة اللعبة السياسية بين القطبين العملاقين.

لا تدّعي هذه الدراسة أنّها محايدة. فهي متعاطفة مع القضية الفلسطينية. ومحرّك هذا البحث ومبرّره الرئيسي هو القناعة بأنَّ في الساحة أحداث بمنتهى الجدية هي قيد الإعداد وتستوجب تقييماً عميقاً.

ثم إنّ نشر هذه الدراسة كان بدوره موضع جدل. هل من المسموح نشر مثل هذه الدراسة؟ وقد تمّت مراجعة آراء قيادات دولٍ شاركت في الحروب التاريخية الكبرى، وظهر بنتيجتها أنّ هناك مبرّرات شجعت تلك الدول وأظهرت فائدةً من نشر خططها. وأحد هذه الحالات المشهورة هي خطّة شليفن[7] (خطة ألمانيا لاحتلال فرنسا). فقد نُشرت قبل الحرب العالمية الأولى بوقت طويل. وقد نجحت ميدانياً في بداياتها بسبب غباء قيادات الغريم، ثم فشلت لاحقاً بسبب النواقص في القيادات الألمانية. ففي الحالة المُثلى، على الخطة أن تكون محصّنة حتى لا يتمكّن الغريم من تطوير خطة مضادّة فعّالة. إلّا أنّ المثاليات ليست من هذا العالم. فالقادة والجنود والفنّيون ومشاركون آخرون كُثُرٌ يساهمون في فشلها أو نجاحها. إن المبدأ المشترك الوحيد عند الجميع، الصديق والعدو على حدٍّ سواء، هو أنّ «المعرفة هي القوة». وكما قال عالم الرياضيات المشهور دايفيد هيلبرت: «علينا أن نعرف، وسوف نعرف بالتأكيد»[8].

ثانياً: عودة الحرب الباردة

هل الحرب الباردة الثانية حقيقية أم وهمية؟ كان الناطق المتفوّه باسم الحرب الباردة الأولى هو ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني. وقد مثّل خطابه الشهير عن «الستار الحديدي» إعلاناً رسمياً لها. وفي حقيقة الأمر، فإنّها بدأت في يالطا، المدينة الصغيرة على شاطئ بحر شبه جزيرة القرم الحالية. وقد تبنّت واشنطن اليوم الموقف الذي يقول إنّ شبه الجزيرة ملك أوكرانيا التي انفصلت حديثاً عن الاتحاد السوفياتي. وتزعم روسيا أنّ الاتحاد السوفياتي حوّل السلطة على القرم إلى أوكرانيا (عام 1954)؛ وتؤكد أنّ الأعمال العدائية للحكومة «الفاشية» التي يدعمها حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا قد غيّرت المعادلة. فالقرم قطعة رئيسية في المنظومة الاستراتيجية الروسية، وقد طالبت بها، وها هي تضمّها قسراً. يالطا هي إذاً المكان التاريخي لاجتماعات قيادات التحالف الذي كان يحارب النازيين[9]. وكانت الأجندة هي تخطيط مصير أوروبا والعالم، بعد أن أخذت القوات الألمانية تخسر الحرب. وقد توصّل الأطراف إلى تفاهم في ما بينهم يعترفون فيه بالوضع القائم في الميدان. فمنطقة نفوذ كلٍّ من الطرفين هي المناطق التي قام باحتلالها. والطريقة الأخرى لتركيب الجملة ذاتها، «المناطق التي حرّروها».

بدأ الشعور بالجليد السياسي للحرب الباردة حين كانت الحرب العالمية الثانية تقترب من نهايتها ومع انعقاد  مؤتمر يالطا. وأصبحت الحرب الباردة رسمية حين أعلن عنها الرئيس هاري ترومان في خطاب السياسة الخارجية أمام الكونغرس في الثاني من آذار/مارس 1947 (عقيدة ترومان). واستمرّت حتى سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية عام 1989، وأصبحت بحكم المنتهية مع انهيار الاتحاد السوفياتي[10] عام 1991.

وقد وصفت بأنّها حربٌ باردة لأنّ كلا الطرفين المتخاصمين اقتنع بعدم قدرته على خوض حربٍ ساخنة. فظهور السلاح النووي غيّر المشهد السياسي العالمي. ففي 6 تموز/ يوليو 1945، قامت الولايات المتحدة بتفجير أوّل تجربة نووية، ثم قامت في 6 و9 آب/ أغسطس 1945 بتفجيرها في هيروشيما وناكازاكي. وبعد ذلك بنحو سنة، في 25 تشرين الأول/أكتوبر 1946، قام الاتحاد السوفياتي بتفجير أوّل تجربة نووية ناجحة. إنَّ مفعول هذه القنابل كما ظهر من المشهد المخيف للمدينتين الضحيتين كان صادماً. فقد أجبر قيادات الأركان في المعسكرين على التفكير باستراتيجيات جديدة. كان على السياسيين أن يجدوا حلولاً للتخاصم بلا مواجهة مباشرة بين الطرفين اللذين يملكان الذخيرة النووية. وهكذا ظهرت السياسات التي اصطُلِح على تسميتها الحرب الباردة.

وحين بدأ انحدار الاتحاد السوفياتي نحو الفوضى في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، أصبح على العالم أن يعتاد الحقيقة الجديدة. فالولايات المتحدة أصبحت الدولة الكبرى الوحيدة، واقفة كالمارد فوق العالم بمزيج من النظرات الخيّرة والشراهة المتوحشة. وسرعان ما ألغت اتفاقياتها مع الاتحاد السوفياتي الذي ورثته روسيا الاتحادية، وقدّمت حدود حلف شمال الأطلسي شرقاً. ثم وقّعت اتفاقيات مع الدول الإسلامية الواقعة غرب روسيا وحوّلتها إلى دول تابعة لها. أما دول البلقان، فتمّ تفتيتها. ثم أطلقت الإمبراطورية حربها ضد الإرهاب، بما في ذلك حربها «التي يمكن فهمها» ضد أفغانستان، ثم احتلالها غير المشروع  للعراق ثم إطلاقها الثورات المُلوّنة[11]. وظهر أن تعطّش الولايات المتحدة للمزيد من السلطة لا يرتوي. وهكذا شعرت روسيّا أنّها محاصرة.

في هذه المرحلة، دخلت كلّ من روسيا والصين في دورة تحوّلات جذرية. ومع مؤشّرات أسعار النفط المتوجّهة نحو الارتفاع، أعطت روسيا الأفضلية لصناعتها الحربية. أمّا الصين، فدخلت في عملية تحوّل اقتصادية هائلة. وقد تمكّنت روسيا بسرعة من استعادة مصداقيتها كمنافس مهمّ في صناعة السلاح، بينما برهنت الصين على قدرتها على التفوّق الاقتصادي على الولايات المتحدة. وخلال أقل من عقدين، قام العملاقان الآسيويّان بإعادة العمل بتحالفهما، ملتزمين بالإملاءات الإجبارية للجغرافيا. وبينما كانت الولايات المتحدة تهدر آلاف مليارات الدولارات على الحروب، كان العملاق الآسيوي ذي الرأسين ينتصب كمنافس لكلٍّ من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.

كل هذا لم يكن كافياً لإعلان الحرب الباردة الثانية. كان على العالم أن يشهد التفكيك العبثي للدولة الليبية، ثم التوترات الأوكرانية التي حرّض عليها ووجّهها حلف شمال الأطلسي[12]، ثم التمزيق الوحشي للنسيج الاجتماعي السوري، ثم غيرها من الأحداث، حتى تشعر روسيا بحرارة الوضع. بالفعل، فإن تقييم روسيا أصبح نهائياً، وهو أنّ الناتو يريد تفكيك روسيا الاتحادية باستعماله الإسلاميين المتطرفين، وتحويلها إلى دويلات طائفية أو إثنية. كذلك الصين لم تكن تشعر بالأمان في ضوء الخطر الداهم على جارها وشريكها الروسي. والذين استمرّوا بالتشكيك في هذا الخطر في الصين سرعان ما استيقظوا[13]. فقد بدأ التمرّد في ولاياتها الغربية الحدودية. صحيح أنّ تصفية التمرّد كانت سريعة، إلّا أنّ الدرس كان واضحاً، فالصين مُدرَجةٌ على تلك اللائحة الجهنمية الغربية. وسرعان ما استرجعوا ذاكرتهم عن تجّار الحشيش الأوروبيين والجنود الذين عاثوا فساداً في الإمبراطورية الصينية المنحلّة منذ قرن ونصف القرن. بالفعل، فإنّ التاريخ خير معلّم. إن النموذج الإمبراطوري الغربي الذي بدأ تطبيقه في الشرق الأوسط العربي صارخٌ بوضوحه.

كان على كلا الطرفين، الصين وروسيا، أن تردّا على التحدّي؛ فبدأت الصين ببناء القواعد البحرية على الجزر الصغيرة التي طالما تلذّذت الأساطيل الأمريكية باستفزاز الصين من على شواطئها. وقامت أيضاً بتمديد مسافة سلطتها البحرية. وقامت روسيا باستعادة ملكية جزيرة القرم، ثم نزلت في سورية حيث أنشأت قواعد بحرية لها على الشاطئ الشرقي للمتوسط، ودمّرت بعض مواقع داعش الإرهابية، وأعادت للدولة السورية سلطتها على الجزء الرئيسي من ترابها الوطني.

وبدأ «التفاوض» على الحدود. ففي اللقاءات الدبلوماسية والحروب بالواسطة، صارت الحدود تتحرك على نغم الانتصارات والهزائم، تارة شرقاً وأخرى غرباً من وسط نهر الفرات، وشمالاً وجنوباً على جبهة الجولان[14]. وحميت أيضاً جبهة الدونباس. فقد رسمت حدودها النيران التي تبادلها الطرفان. إن حدود الحرب الباردة التي تقسم مناطق نفوذ الطرفين، لم تستقرّ بعد على موقع نهائي ولم تستكمل تخطيطها بعد، إلّا أنّ اسم «الحرب الباردة» لم يعد بعيداً من مسمع أحد. فقد غمر جليدُها جميعَ الأطراف وأشعرهم بشدة وطأتها.

إنّ تركيبة المحور الغربي لم تتغيّر. فهو مؤلّف من دول حلف شمال الأطلسي، القدماء منهم والجدد. أمّا تركيبة المحور الشرقي فهي أقلّ وضوحاً. فأركانها هم روسيا الاتحادية والصين. لكنّ مؤيّديها وحلفاءها يتزايدون. وقد جمعاهم في حلقتين سياسيتين عسكريتين هما البريكس[15] ومجموعة شانغهاي[16].

وبخلاف الوضع السابق أيام الحرب الباردة الأولى، فإنّ الكتلة الشرقية لم تعد «الغريم الشيوعي الفقير وغير الفعّال». فللصين اقتصاد يناهض رديفها، أي الولايات المتحدة. ولديها فوائض مالية في مقابل الديون الأمريكية المتراكمة. وتستعمل ثراءها المالي لتكتسب المزيد من الأصدقاء الذين يحتاجون إلى رؤوس الأموال والتكنولوجيا، ويقعون جغرافياً على طريق الحرير الذي تبنّته وأصبح ركن سياستها الخارجية.

وعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة تملك أكبر قوة عسكرية في العالم، إلّا أنها لم تعد تحكم العالم وتحدد سياسته. فمنذ عام 2017، تغيّر العالم من جديد منذ ترسيم حدود النفوذ الجديدة على حدود الدونباس الأوكرانية، وعلى نهر الفرات السوري. وبالرغم من أنّ الحدود لا تزال مرشّحةً للتحرّك، إلّا أن الحرب الباردة أصبحت ثابتة. لقد توقف العالم عن الانحناء لحكم العملاق الواحد وأصبح على رأسه قطبان.

إنّ في إمكان أوروبا لاحقاً أن تستحدث قطباً ثالثاً. وربّما كُنّا على الطريق نحو عالم متعدد الأقطاب. هذه مسائل مستقبليةٌ للبحث. إنّ لكرتنا الأرضية، اليوم على الأقل، رأسان، والحرب الباردة بينهما قائمة. ويمكن تسميتها بكل بساطة الحرب الباردة الثانية.

ثالثاً: الفلسطينيون

إنّ عدد الفلسطينيين اليوم اثنا عشر مليوناً[17]، نصفهم تحت حكم كولونيالي استيطاني والنصف الآخر في المنفى. وعند تأسيس دويلة إسرائيل عام 1948 على الجزء الأكبر من أرض فلسطين، تم طردهم من بلادهم بالقوة. وأصبح أكثرهم لاجئين. نحو خُمس الفلسطينيين مسيحيون والباقي مسلمون سُنّة. وقامت القوات الإسرائيلية باحتلال المناطق المخصّصة لهم بينما وضعت الأردن يدها على الضفة الغربية ووضعت مصر يدها على غزّة.

إنّ إهمال حقوق الفلسطينيين أجبرهم على التمرّد؛ ففي عام 1965، بدأوا بتنفيذ عمليات عسكرية عبر الحدود ضد المُحتَلّ بقيادة حركة فتح. وأدّت هذه العمليات إلى إعادة اهتمام العالم بقضيتهم. واستمرّ تمرّدهم حتى عام 1982 حين هزمتهم إسرائيل وطردت قواتهم من لبنان. وتم «توزيعهم»، أي «نفيُهم» مرّة أخرى إلى عدد من الدول العــربية. وسُمح لقيادتهم أن تلجأ إلى تونس.

إنّ إسرائيل اليوم في قمة قوّتها، وتتمتّع بتأييد أكثر الدول الصناعية. أما الفلسطينيون، فإنّهم لم يرَوْا حتى اليوم ما هو أسوأ من وضعهم الحالي. وقد حاولت قيادتهم أن تدخل في اتفاقات سلمية مع المحتلّ الإسرائيلي ووقّعت اتفاقية أوسلو. لكنها فوجئت، بل صُعقت، حين اكتشفت أنّ مبادرتها لا تأتي بأية نتيجة. فقد أصبحت غزّة معسكر اعتقال واسعاً لمليوني فلسطيني في أربعين كيلومتراً مربّعاً[18]، أي الموقع الأكثر كثافةً سكانية في العالم. أمّا في باقي الأماكن، فإنّ الفلسطينيين محصورون في مخيّمات أو خِرَبٍ أو غيتوهات، هي عيبٌ على اليهود الذين تحفل ذاكرتهم بالكلمات التي لا تُنسى مثل داخاو وأوشويتز.  في إسرائيل قانون لليهود، وآخر للآخرين، الأغيار، الغوييم، غير اليهود[19]. وقد أصدرت قراراً يمنعهم من العودة إلى فلسطين منذ عام 1948، وما زال هذا القانون نافذاً. وليس مسموحاً لهم زيارة أملاكهم أو لمّ شمل عائلاتهم مع مَن بقي منهم في الداخل. أمّا الذين بقوا في أراضيهم، فإنّهم يُسيئون معاملتهم. حتى الأطفال، وابتداءً من سن الإثني عشرة، يتمّ معاملتهم كأنّهم بالغين، وتصدر في حقهم أحكام تعسّفية ويُسجنون مع باقي السجناء[20]. أما الأطفال اليهود، فتحكمهم مجموعة أخرى من القوانين.

إنّ كبار سياسيي إسرائيل يعلنون رسمياً أنّهم يريدون بلداً تم «تطهيره من الفلسطينيين». ويستعملون وسائل الضغط البوليسية والقانونية والاقتصادية لتهجيرهم على نحوٍ تدريجي. هذه أمور قلّما تنقلها وسائل الإعلام الغربية. فبخلاف النظام النازي الذي أنشأ صناعات إجرامية هدفها قتل «غير المرغوب فيهم» من الناس بمن في ذلك اليهود، فإنّ النظام الصهيوني اعتمد طريقة مختلفة، و«أسلوباً ناعماً». فسياسة إسرائيل تستفيد من أنظمة الحكم الدكتاتورية العربية لتوطين الفلسطينيين خارج حدودها. وهي تسهّل أيضاً سفر الفلسطينيين المقيمين في الداخل والراغبين في الهجرة إلى أماكن أخرى مثل أوروبا أو الأمريكيتين. إنّ إسرائيل تريد أن تكون «مُطَهَّرَة من الفسطينيين» مثلما كان هتلر يريد ألمانيا «مُطَهَّرَة من اليهود». ومشكلة سياستهم أنّ الفلسطينيين غير مطيعين ولم يقبلوا الهزيمة. وهم ما زالوا يناضلون لاستعادة حقوقهم. وهم يعتمدون على القانون الدولي الذي يعطيهم الحق بالمطالبة واستعادة أملاكهم. وهم يشيرون إلى حالة اليهود الذين عادوا إلى ألمانيا بعد طردهم ومصادرة أملاكهم. فالقانون الألماني سمح لهم باستعادة حقوقهم كافة[21]. هذا هو الكابوس الإسرائيلي؛ فإسرائيل، حسب القانون الدولي، دولة صغيرة جغرافياً. وقد استُحدِثت بقرار من الأمم المتحدة واستُحدِثَت دولةٌ فلسطينية إلى جانبها. إلّا أنّ مطالب إسرائيل مبنية على معتقدات توراتية لا أساس لها في القانون الدولي. فلو تم تطبيق الأسس السياسية لمطالب إسرائيل لأصبح القانون الدولي مهزلة. كانت ستعود نيويورك لسكان أمريكا الأصليين (الهنود الحمر) ويحتل السكان الأصليون عاصمة أستراليا وتعود غرناطة للعرب. مثل هذه المطالب لا تؤدّي إلّا إلى الفوضى في القانون الدولي.

وبغضّ النظر عن مشاعرنا وإذا كُنّا نحبّهم أم لا، فإنّ الفلسطينيين لا يُلامون إذا ناضلوا من أجل حقوقهم. وبالتأكيد، فإنهم لن يفاجئوا أحداً إذا فعلوا. وهم يطالبون بحق العودة إلى وطنهم. ويطالبون بالعيش في دولة يحكمها قانون واحد ينطبق على الجميع، بغضّ النظر عن الدين والعرق. ومَطالبُهم مُحِقّة. فهم عائدون إلى ديارهم بعد طردهم منها. أمّا اليهود الذين اعتنقوا الصهيونية، فإنّهم يزعمون أنّهم يعودون بعد ألفي سنة من النفي[22]. وبينما يستطيع الفلسطينيون أن يبرهنوا أنهم منفيّون، فإن اليهود الصهاينة لا يستطيعون ذلك. فَمِن الواضح أنّ للفلسطينيين حقوقٌ مفهومة.

تحصر هذه الدراسة اهتمامها بتقييم الصراع من الناحية الاستراتيجية. هل في إمكان الفلسطينيين أن يناضلوا، وهل يمكنهم أن ينتصروا؟ إنّ لإسرائيل، بقوتها الضاربة النووية وسلاحها المتطوّر وقاعدتها الصناعية، استراتيجية معروفة. وفي المقابل، فإنّ قدراتها تنتصب شاهقةً أمام غريمها الفلسطيني، الذي أصبح يكتفي بسلاح السكاكين والحجارة. لكن ما هي الإمكانيات المتاحة للفلسطينيين حتى يناضلوا بنجاح؟ هل لديهم أمل؟ أم هم حالة خاسرة؟

1 – الحقائق والأوهام

في جنوب فلسطين قرب بئر السبع، عاصمة النقب (على مسافة بضعة كيلومترات من المفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونا) قريةٌ عربية صغيرة اسمها العراقيب، قام الجيش الإسرائيلي بهدمها. ورفض سكانها الفلسطينيون العُروض لإعادة إسكانهم في مكان آخر في إسرائيل. على العكس، فإنّهم أعادوا بناءها. فعاد الجيش الإسرائيلي من جديد حاملاً قراراً قضائياً جديداً وأعاد تهديمها. لكن الفلسطينيين أعادوا بناءها فأعاد الجيش الإسرائيلي هدمها. وتكررت العملية 121 مرّة. وما زال نضالُهم مستمراً[23]. ويشير هذا إلى مستوى تشبّث الفلسطينيين الذين أُذِلّوا بحقوقهم الإفرادية والجماعية.

إنّ هذا يشير إلى أنّ تجاهل الواقع قد يكلّف إسرائيل مفاجآت مستقبلية يستعصى حسابها. فالاستنتاج واضح، وعلى إسرائيل أن تستيقظ وأن تواجه الحقيقة. إن الأمل بيومٍ تشرق فيه الشمس في المستقبل، ولا فلسطينيين فيه في البلد، هو حلم غير واقعي. إنّ الحقيقة هي أنّ هناك أثني عشر مليون فلسطيني هم متعطّشون للحرية. وخُطط إسرائيل لحلّ نهائي على طريقة الحل النهائي المُشين ليهود الحرب العالمية الثانية هو وهم، بل إنه أيضاً انحطاط أخلاقي. والذي جرّبها من قبل فشل فشلاً مخزياً.

إنّ قادة دول حلف شمال الأطلسي يظنّون بدورهم أنّ فلسطين قضية خاسرة. ونتيجة هذه القناعة هي مجموعة من التصرّفات المستغربة. ففي أحد الاتفاقات الحديثة بين أوروبا وإسرائيل اتفق الجانبان على «استثناء موضوع المستوطنات من الأجندة»، والاستمرار بمتابعة الأعمال في باقي الموضوعات، كالعادة[24]. أي، بكلمة أخرى، نستثني التنكيل والهدم ومصادرة الأملاك الفلسطينية من الأجندة، أي، نتكلّم بالمصالح المشتركة، ونتغاضى عن جرائم «الشريك». هذه أيضاً مواقف خطيرة غير مسؤولة.

أمّا القيادة الرسمية الفلسطينية، وهي قطيعٌ مُستَهجَنٌ من الديناصورات التي ترعى في مراتع الاستجداء، غير واعية لما يحصل حولها في العالم. وهي مؤلفة من بقايا حركات ثورية سابقة. وبسبب عدم اندماجها في الواقع الجيوسياسي، فهي تستمرّ في اجترار كلامها السابق. وفي غياب الدعم الشعبي، فإنّ نفوذها لا يكاد يشمل إلّا بعض الأفراد، يمالقون النظام بسبب شبّاك الرواتب والمنافع. وليس لتمويلها الخارجي مُبّرِّرٌ إلّا خدمة مصالح المانحين. وهل هناك أوهام أكبر من التفكير بغير ذلك؟ وكانت قنبلة الرئيس الأمريكي دونالد طرمب التي تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل صدمة للجميع. وكانت ردود الفعل مشوّشة. فقد كانت مواقف سلطة رام الله متحدّية، إلّا أنّها لم تتمكن من فعل شيء. أمّا حركات «المقاومة»، فلم تجد ما تقوله غير أن تدعو إلى انتفاضةٍ ثالثة.

إنّ الساحة السياسية الحالية تشبه ما كانت عليه عام 1950. فالعرب في حالة تذرّي وتشتت. كانت إسرائيل تحلّق بنجاحاتها العسكرية بعد أن كانت قد احتلّت المناطق المخصصة لها والأراضي المخصصة للفلسطينيين. وكانت الولايات المتحدة تناور لمدّ سيطرتها على العالم. وكانت القضية الفلسطينية بحكم غير الموجودة.

إنّ الخصوصية المستجدّة في المشهد السياسي القائم هو الحالة الانتقالية في العالم نحو حرب باردة ثانية. وللصراع الدولي بين القُطبين مواصفات جديدة. واللعبة السياسية الدولية سائلة متغيّرة ونشطة، والفلسطينيون ما زالوا أحياء وما زالوا يناضلون. واللعبة الدولية الجديدة تعطيهم فرصاً بقياسات استراتيجية دولية.

2 – الفلسطينيون وعدوّهم الاستراتيجي

إنّ الذي ألحق الضرر بالفلسطينيين هم اليهود الذين اعتنقوا الفلسفة السياسية الصهيونية. ويمكن وصف الصهيونية بمسار سياسي هدفه تحويل فلسطين إلى دولة يهودية مُخصّصة لكل يهود العالم. يختلف الصهاينة حول طريقة تعاملهم مع السكان المحلّيين، أي الفلسطينيين. فبعضُهم يؤمن أنّ حقوق الإنسان تنطبق عليهم، ويقبل بعضهم حتى بمبدأ حقوقهم الوطنية. لكنّ الجوّ الاجتماعي العام هذه الأيام (2018) بأغلبيته الساحقة معادٍ لهم مع ميولٍ واضحة للعرقية والتفرقة العنصرية[25].

فعدو الفلسطينيين هو بوضوح الصهيونية مثلما كان عدوّ الحلفاء في الحرب العالمية الثانية هو النازية، وليس سكان ألمانيا. فطبيعة التحرير في الفكر الفلسطيني هي قانونية. والأهداف الرسمية المعلنة هي حقهم في العودة لوطنهم، إلى دولة بقانون واحد ينطبق على الجميع، ديمقراطية متعدّدة الثقافات والإثنيات. وعند تقييم قوّة عدوّهم، فإنّ الفلسطينيين لا يغيب عنهم أن إسرائيل تتصرّف، اليوم في بدايات القرن الحادي والعشرين، على أنّها دولة كبرى. وحين يزور رئيس وزرائها العاصمة الأمريكية، فإنه يخطب على منصّة الكونغرس ويصفّق له النواب أكثر مما يصفّقون لرئيسهم. ولديه سلطة مخاطبة الكونغرس حتى بلا إذن الرئيس الأمريكي[26]. وعلى الرغم من كل القرارات لمنع انتشار الأسلحة النووية، فإنّ أعضاء حلف شمال الأطلسي ساهموا مباشرة في إنجاح الصناعة النووية الإسرائيلية التي سمحت بإنتاج عدد غير معروف من القنابل بقيــاســات مُختَــلِــفة غيــر معــلنة. وبمئة قنبلة على أقل تــعديل، فإنّ إســرائيل قد تم قبــولهــا فــي النــادي النــووي المخــصــص للكــبار[27].

إنّ رغبات إسرائيل في الولايات المتحدة تنتظر الإعلان حتى تصبح سياسةً وطنية، فالبلد يتعامل مع مطالبها كأنه واجب وطني. وتندر الحالات التي يعترض فيها الحلفاء الأوروبيون على هذه السياسات، إن لم يؤيّدوها في الحال؛ فقد قدّمت ألمانيا إلى إسرائيل أسطولاً من الغوّاصات النووية. ويصعب تصوّر مفهوم الدفاع الألماني لاستعمال هذا الأسطول ضد عدوّ إسرائيل الأساسي، أي الفلسطينيين. أمّا الولايات المتحدة، فلا تزال تقدّم «المساعدات» إلى إسرائيل أكثر مما تقدّمه إلى أيّة مجموعة من الدول في العالم. ولم تتأخر أية دولة في حلف شمال الأطلسي تقريباً عن تقديم المساعدات إلى هذه الدولة، بشكل أو بآخر، اقتصادي كان أو عسكري. وهناك اتفــاقــات مــع كل الدول الرئيسية في الحلف تلتزم فيها هذه الدول حماية إسرائيل ضد أي اعتداء.

والاستنتاج الممكن من هذا السرد هو أنّ أيّ عمل عُنفي ضد إسرائيل سوف يولّد ردود فعل من أعضاء حلف شمال الأطلسي، أكان فردياً أو جماعياً. وعلى الفلسطينيين أن يخطّطوا على أساس هذه الحقائق؛ وهو ما يستوجب أن يتعرّفوا وأن يفهموا تركيبة الإمبراطورية، وأن يطوِّروا استراتيجية لها أهداف واضحة، متوسطة وبعيدة المدى.

رابعاً: الإمبراطورية ومُرَكّبُها السياسي

ماذا يحصل لو هاجمت إيران أو مصر أو السعودية إسرائيل، وكيف ستتصرّف الولايات المتحدة؟ وماذا يمكن أن تكون مواقف بريطانيا وفرنسا. حتى المراقب السياسي المبتدئ سيؤكّد أن إسرائيل ستتلقى الدعم العسكري غير المشروط؛ فالتدخل سيكون مباشراً وسريعاً إذا اقتضى الأمر. وكيف ستتصرف هذه الدول لو تعرّضت أوكرانيا لهجوم؟ المحللون السياسيون سيتردّدون قبل الإجابة؛ فإسرائيل متشابكة مع الدول الأعضاء في حلف الأطلسي بصفتها الإفرادية والجماعية، ويمكن الظنّ أنّها جزء من الحلف.

إنّ الإمبراطورية نوعٌ من كونفدرالية المصالح بين الدول الأعضاء فيها. وهي مؤلّفة من دول حلف شمال الأطلسي، بعد إضافة عدد من الدول الأخرى الناطقة باللغة الإنكليزية، مثل أستراليا ونيوزيلندا وغيرهما. وهي كسرب الطيور، تتصرّف كجسمٍ مُركّب فيه سيولةٌ وفي الوقت نفسه فيه وحدته. وبينما يتضح أنّ إسرائيل تحتمي بالسرب، إلّا أنّ كل المؤشِّرات تدلّ أنّها ليست جزءاً منه. فهي تطير وحدها فرداً مستقلّاً، بإرادة مستقلّة وأهدافٍ خاصّة بها. وأهدافُها البعيدة في المشرق تختلف عن آراء الإمبراطورية، رافضةً في الكثير من الأحوال الحلول العقلانية التي تُعرض عليها[28]، حتى إنّها تتّجه نحو المواجهة في بعض الأحوال السياسية الخاصة.

عَوْدٌ للإمبراطورية. فهي تجمُّعٌ لمصالح دولها، كلّ واحدة منها على حدة. وهي تعمِّم المنافع عن طريق الخدمات المُشتَركة.

ويأتي على رأس لائحة الخدمات في الحلف مسألةُ أمن أعضائها. ويتم تأمينها عن طريق حضورها العسكري الدائم في قواعد حول العالم. وفي المجموع، فإن للإمبراطورية أكثر من ألف قاعدة، يؤمّنُ خدمةَ أكثرِها جنودٌ أمريكيون، بينما يخدم بريطانيون وفرنسيون وجنود من جنسيات أخرى في بعضها الآخر. وقد تمّ دمج إمبراطوريات القرون الثلاثة السابقة، السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر في هذا النادي المشترك. ويعطي هذا الدمجُ أعضاءها شعوراً عاماً بالأمن الجماعي. إضافةً إلى ذلك، فإنّ بعضَ الدول الأعضاء قد طوّر قوّات خاصّة للتدخل السريع. وهي مؤلّفةٌ عادةً من جنود محترفين، يمكن إرسالهم إلى مناطق التدخّل عند الحاجة. على هذا النحو تتحوّل الشبكة العسكرية الثابتة بقواعدها وجنودها إلى قدرة تَدخّلٍ نَشطةٍ وسريعة فاعِلَة على مدار الكرة الأرضية. ولا داعي إلى البحث في ميزانيات التسليح. فالبند العسكري في الموازنة الذي يتخطّى 800 مليار دولار، يفوق كثيراً كل الموازنات العسكرية الأخرى[29]. وإذا أضفنا إليها موازنات بقية الدول الأعضاء، تتخطّى هذه الأرقام حينئذ مبلغ التريليون الهائل.

إنَّ قدرة الدفاع المذهلة هذه في حلف شمال الأطلسي تنصت وتستجيب للتعليمات الواردة من واشنطن. وهي قوّةٌ مُرشّحة لأن تبقى هناك لمدة طويلة في المستقبل. فالإمبراطورية ليست مقتصرة على شبكة القواعد، إنّما لها شبكة دعم إضافية لتأمين الذخيرة، تحملها أنظمة نقل وصواريخ عابرة للقارات.

إن الإمبراطورية، هذا التجمع للمصالح، هذا السرب من الدول، موجودة في كل مكان؛ فهي تتصرّف كالأخطبوط، أصابعُها تحيط بالكرة الأرضية بأكملها.

أمّا نظام أعصابها، فهو الأشد وضوحاً والأكثر ظهوراً في حضورها الكوني؛ فهو مؤلّف من شبكة من الألياف البصرية والكوابل النحاسية يزيد طولها على بضعة ملايين من الكيلومترات. وهي مترابطة بشبكة أقمار صناعية وصحون التقاط أو إرسال أرضية، كلها متناسقة متشابكة موَحّدة. تُستعمل هذه الشبكة لإرسال المعلومات، حال حصولها، بين مراكز النشاط، أكانت عسكرية أو مدنية.

أمّا الشرايين، فهي مؤلّفة من أنابيب وسفن بحرية صغيرة ومتوسطة وكبيرة، تنقل النفط والغاز بين الموانئ حول العالم. وهناك شبكة مؤلفة من أكثر من مليون سفينة بحرية. وهي تمثّل مجموعةً أخرى من أصابع هذا الأخطبوط الهائل. تنقل هذه الشبكة التموينَ والغذاء والمواد الأولية والمواد المشغولة أو المصنّعة من مصادرها إلى أسواقها وأماكن استهلاكها.

تتوِّج كلَّ هذه الشبكات مجموعةُ المصارف والمؤسسات المالية. ويتحرك الدم في شرايين الأخطبوط على شكل معلومات عن الأموال، أكانت ارتبطت أم أُرسلت أم استُلمت. إنّ النظام المصرفي يشبه دم الحياة لكلٍ من المُنتِج والمُستهلِك. والإمبراطورية شديدة الحرص على عِمْلتِها ونظامِها المصرفي؛ فهي تستعمله لتسهيل العمليات الاقتصادية ولتأخير أو تعطيل اقتصادات الغريم.

إن كونفدرالية الشبكات هذه، الممسكة بالعالم كأنّها أخطبوط هائل، التي تتصرّف مثل الأسراب الطائرة، والتي تُكافئُ أو تُعاقب الأشخاص والمؤسسات حسب قرار دماغها المركزي، لها رأس مركزي واحدٌ يُديرها، وهو واشنطن.

وليس في العالم طَرَفٌ لا تصيبه تصرّفات الإمبراطورية وقراراتها. وفي الحرب الباردة الجديدة، تستعمل الإمبراطورية هذا النظام لِمُعاقبة دولِ الكتلة الشرقية وبعض الدول التي تتبنّى سياساتٍ غير مرغوب فيها. وقد تم استعمالها لمعاقبة إيران وكوريا الشمالية. حتى روسيا تمّت معاقبتها بسبب أوكرانيا عن طريق منع بعض الخدمات المتوافرة على بعض شبكات الأخطبوط. ولم تستطع الصين أن تتلافى تأثير الإمبراطورية ولا أن تتجاهل تحرّكاتها القادرة على المعاقبة.

خامساً: صراعات الجيل الرابع والجيل الخامس

خلال الحقبة الواقعة بين 1980 و2017، طوّرت الإمبراطورية، التي كانت لا تزال الدولة الكبرى الوحيدة، عدداً من النظريّات السياسية والعسكرية العالمية. والقسم الذي يهمّنا منها هو ذلك المتعلق بمحاربة الإرهاب.

بادرت إسرائيل إلى تزعّم الحرب على الإرهاب. وجمعت في السلّة نفسها كُلّاً من الإرهابيين وإيران والمتطرّفين الإسلاميين والفلسطينيين. تَنسجِم هذه مع سياسة الإمبراطورية في الحرب ضد الإرهاب العالمي وتُحَدّدُ إلى حدٍّ بعيد توجّهاتها. وبِتبَنّيها هذه السياسة، تَتمكّن إسرائيل من دفع الولايات المتحدة إلى المزيد من الصراعات، وإلى المَزيد من التفاهم والتعاون الثنائي. وتَجُرّ هذه السياسة دول الحلف الأطلسي إلى بيت الطاعة الإمبراطوري. وتضعُ في الوقت نفسه الفلسطينيين في حالة الدفاع عن النفس، أكان ذلك على المنصة الأخلاقية أو على منبر الحقوق القانونية.

إنّ استراتيجية الإمبراطورية هذه تحمل اسم حروب الجيل الرابع[30]. بعد فشل حلف شمال الأطلسي في فيتنام وأفغانستان، تبَنّى استراتيجية تتمثّل بصراعات مركّبة، لكنّها تتمحور حول نظامَيْ الثورات الملوّنة والحروب الأهلية المدسوسة. تفترض مثل هذه الاستراتيجية أنّ يكون البلدُ المستهدفُ مُهَيّأً لمثل هذه التدخُّلات. فداعش وأخواتها غير ممكنة في البلدان الصناعية. إنّ نظريّة حروب الجيل الرابع قد تمّ تطويرها بناء على فرضية أنّ الإمبراطورية تستعمل فرقها المستورة، وتأخذ المبادرة، وتؤمّن الخطط واللوجستية. ولا يستطيع البلد المستهدف إلّا أن يقوم بردّ فعله وأن يكون في حالة الدفاع عن النفس. هذا الذي حصل في الحروب الأهلية العربية وفي الصومال.

إن هذه الطريقة غير مجدية إذا واجه الأخطبوط حالةً معكوسة. فإذا قام أحدهم بتنظيم قدرة تدخّلٍ مستورة، أي غير معروفة للإمبراطورية، وإذا أخذ المبادرة، وقام بتعطيل أحد الأملاك التي يحميها الأخطبوط، فكيف تتصرّف الإمبراطورية؟ إنّ النظام الفكري لحروب الجيل الرابع مبنيٌّ على أن حلف شمال الأطلسي هو الذي يأخذ المبادرة، وهو الذي يحتسب ويستشرف ردّ فعل المُستَهدَف وقيادته. على سبيل المثال، فقد افترض أن بن علي في تونس والأسد في سورية سوف يهربان من بلديهما إذا استمرّ التمرّد وطالت مدّة التظاهرات. وقد نجح التقدير في تونس بينما فشل في دمشق. إلا أنَّ التحرك الشعبي قد نجح في كِلا البلدين.

إنّ حروب الجيل الرابع لا تَلحظُ حالةَ الدفاع (عند الإمبراطورية). إنّها مَبنيةٌ على المُبادرة الهجومية للحلف وعلى حساب استشراف ردّ فعل الغريم. ولا يحصل تدخّل عسكري إلّا بعد أن يكون الحدث المُفتَعَل قد نجح. لهذا السبب، قامت الولايات المتحدة بإنشاء قيادة خاصّة (القيادة الموحّدة للعمليات الخاصة). وقد بدأت عملياتها في الصومال وأتقنتها، ثم شاركت في توجيه أكثر حروب الجيل الرابع.

إن الفلسطينيين يواجهون تحدٍّياً أساسياً. فهم مضطرّون إلى تطوير استراتيجية ذات مفعول متشابه، وبلا موارد تقريباً. وإذا حلّلوا تركيبة إسرائيل وحلفائها الثابتين، فهم سيصلون بسرعة إلى القناعة بِأنَ غريمَهم هو الأخطبوط نفسه. وهذا مخلوق يتضايق ويتوجّع من ِوخز الإبَر. ويتوقّف قياس الإبرة على ردّ فِعل الأخطبوط ومدى انزعاجه. ويكبر قياسها عندما يخفّ ردّ فِعله. أمّا قياس الجرح وعمقه المُستهدف فيتوقّف على صلابة الغريم وعناده.

إنّ الإمبراطورية لا تستطيع تحديد مكان الوخزة المقبلة. فشبكاته الاقتصادية غير مُهَيّأة للدفاع، بملايين كيلومترات الكوابل ونقاط التواصل الإلكتروني والأنابيب، من دون ذكر ملايين السفن، وشبكات المواصلات اللاسلكية والهوائيات. ومع أكثر من ألف قاعدة عسكرية، فإنّ أطراف الأخطبوط تصل العالم كلّه. وكلّما طالت أصابع الوحش، وكلمّا امتدّت لتحيط بالعالم، كلّما أصبحت أكثر تعرّضاً. أمّا إسرائيل، وهي الهدف الرئيسي، فإنّها الحلقة الأضعف في هذه الشبكة. فمسافات مواصلاتها وتموينها ومقاسات البلد ذاته تُحوِّلُ الدفاعَ إلى تمرين في فَنِّ البهلوانيات.

ما لا شكّ فيه أنّ على وخز الإبر أن يتناسق مع الأهداف السياسية؛ فعندما تُطلَقُ مبادرة، وتكون أهدافُها ضمن قدرات الإمبراطورية ولا تستدعي منه مجهوداً يُذكر، فهي ستدفع الثمن وسوف تصبح الصفقة معها ممكنة.

لقد بادر حلف شمال الأطلسي إلى حروب الجيل الرابع التي ابتكرها وليس لدى أحد خطةٌ يُمكن أن تفشلها. وسوف يفشل الفلسطينيون إذا حاولوا مواجهتها. إلّا أنّ هذا ليس دورُهم، ولا هو هدفُهم. واستراتيجية الفلسطينيين الجديدة، كما ظهر أعلاه، تحدد للجريمة ثمناً، وتُجبِر إسرائيلَ وحلفاءها على دفعه. وفي بعض الأوقات، على الإمبراطورية نفسها أن تدفع الثمن وحدها. وحين يُصاب الأخطبوط في إصبعه، فإنه سيسحبه. وباعتمادهم هذا التفكير الجديد، ينتقل الفلسطينيون إلى طبقة أعلى باستراتيجية جديدة، اسمها صراعات الجيل الخامس.

سادساً: الفلسطينيون وصراعات الجيل الخامس

في القرن الحادي والعشرين، أصبحت كل الأمور أكثر تعقيداً. فالثورات على طريقة فيتنام والجزائر لم تعد قابلة للتطبيق وربّما لم تعد مُمكنة. ومثل لصوص السيارات الذين كانوا يكتفون بمفك البراغي، فإنّ التمرّد على الإمبراطورية قد أصبح أشد صعوبة، وبالنسبة نفسها. إن المسارات الفكرية وبيئة المرشّحين للتمرّد في العالم أصبحت بحاجة إلى إعادة ترميم؛ وعلى قدراتهم الفنية أن تترقّى لتلائم مستلزمات الجيل الجديد. إلّا أنّ تمرّدهم لن ينجح ما لم يتسلّموا دورهم الجديد ويتحوّلوا للمشاركة في مجهود القيادة؛ فعليهم أن يبشّروا بالتقدّم العلمي. فقط المُعاملون القادرون المُهَيّؤون المُدّرّبون مرشّحون للقيادة في صراعات الجيل الخامس. صحيح أنّ الكثيرين قد حصّلوا مستوىً لائقاً من التعليم، إلّا أنّ التخلّف ما زال يسود دول الأرض. وفي إمكان الفلسطينيين الاعتماد على مساهمة ومشاركة الكثيرين من ذوي النيات الحسنة في العالم، حتى داخل الإمبراطورية، وبخاصة بين اليهود. فهناك الكثيرون في أوروبا والأمريكيتين وأفريقيا والدول اللاتينية، من الذين ساعدوا الفلسطينيين وقضيتهم في الساعات الحالكة. هؤلاء، سوف تُلهِمُهم مبادرات المشاريع التعاونية، وسوف تَنفح روحاً جديدة في مجهوداتهم الحالية.

إنّ صراعات الجيل الخامس جذّابة لأنّها مبنية على مبادئ لا تستوجب الضحايا البشرية. وهذه ميزة مستحبّة في أية استراتيجية. فإنّ قتل الناس في المعارك لم يحلّ في التاريخ أيةً مشكلة سياسية. لم يتمكّن في السابق قائد عسكري أن يقتل من أعدائه أكثر مما فعل هنيبعل في معركة كان[31]. ولم يسبق في التاريخ أن قَتلت جُيوشُ دولٍ متحَضِّرةٍ مثلما فعلت في الحربين العالميتين. ومع المسافة التي يُتيحُها ابتعادُنا في التاريخ من أحداث تلك الحقبة، فإنّ أكثر المؤرّخين يتوافقون على أنّ غرورَ القادة العسكريين وعجزَهم قد استهلك أرواحاً بشريةً أكثرَ من المعارك العسكرية الإجبارية. ويؤمن الفلسطينيون أنّه بمقدورهم أن يحقِّقوا أهدافهم بتكلفة بشرية قليلة وبلا تكلفة.

على القيمة المضافة للفلسطينيين على الساحة الدولية أن تتعدّى تجنيد المتمرّدين والتنسيق معهم؛ وعليها، إضافةً إلى ذلك، أن تشمل قدرة المشاركة في القيادة على المستوى المحلّي بقصد تحسين حظوظ نجاح برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إذ في الوقت الذي يضطر القادة المحلّيون إلى الاكتفاء بالتعامل مع المسائل المحلّية، تقع على عاتق الفلسطينيين وحدهم أن يشاركوا في التمرّد بمقاييسِ الساحةِ الدولية. فغريمُهم، إسرائيل، موجود في كل مكان، ممتطياً الأخطبوط وطائراً في الأسراب الإمبريالية. ويحتاج أصدقاء الفلسطينيين ومساندوهم إلى مساعدتهم. لذلك، عليهم أن يُطوِّروا هذه القدرات بينما هم يستفيدون، على نحوٍ متزامن، من مساعدة أصدقائهم ومساهمتهم.

هناك مبدأ أساسيٌ آخر، يتعلّق باقتناعهم أنّ الدول التي تُساند إسرائيل بلا شروط قد خلقت للفلسطينيين مشكلاتٍ مكلِفةً ومؤلمةً إنسانياً. تشمل هذه الأعمال مواقفَ غريبة، مثل وعد بلفور وتسليم ألمانيا لإسرائيل أسطولاً من الغوّاصات النووية، من دون أن ننوّه بالمساعدات الفنية والتكنولوجية النووية والمواد الأوّلية المُشعّة التي قدّمتها الولايات المتحدة وفرنسا. وأقلّ ما يمكن انتظاره من هذه الدول هو تغييرٌ في سياستها. وبالتأكيد، فإنّ مثل هذه التحوّلات لن تأتي كهديّة مجانية ولا تتغيّر السياسات بالتمنّي. فالإمبراطورية، مع ملايين كيلومترات الأنابيب المخصصة للنفط والغاز والماء، التي تزنّر بطولها الكرة الأرضية عدة مرات، وكوابل الألياف البصرية وملايين الشاحنات والناقلات البحرية، وموجوداتها الموزّعة خارج كل الحدود، تمثّل أهدافاً غير قابلة للدفاع. ليس هناك إرهابٌ أو تنكيلٌ يمكنه أن يحمي هذه الممتلكات والشبكات.

إنّ صراعات الجيل الخامس ستشمل بالتأكيد عمليّات داخل إسرائيل في الأراضي المحتلّة. وهدفها هو زعزعة ثقة قادة الفكر الصهاينة بسياسة البلد واستراتيجيته. وواقع الأمر أنّ سياسة الدفاع الإسرائيلية مبنيّة على وهم تفوّقهم وعصمة فكرهم. واحتقارهم لقدرات الفلسطينيين يُفاجئ ويستثير، وبخاصةٍ على خلفية تجربتهم مع النازية، وسوف يكون لهذا الاحتقار بالترجيح مفعولاً متقارباً في مع ما حدث في ذلك الزمان؛ فقدرات إسرائيل العسكرية فعّالةٌ عند استعمالها ضدّ الدكتاتوريّات العربية المحلية. ويساعدهم سلاحهم النووي على ابتزاز جيرانهم. إلّا أنّ هذه الأسلحة بلا مفعول مع استراتيجية الجيل الخامس الفلسطينية. حتى المدافع المتخلّفة التي كان يستعملها مُعامِلوا منظمة التحرير لم تعد موجودة. فتكنولوجياتهم الجديدة ستعطّل خطوط الإمداد واللوجستية الاقتصادية. وستنقصهم الكهرباء، وأمن إسرائيل اليوم سيصبح مهدّداً. أمّا خليط المستفيدين والحالمين الذين تبنّوا اليهودية السياسية المحمومة لاستعمار فلسطين، فإنّهم سيقعون فريسة إغراء فكرة العودة إلى وطنهم الأصلي الأكثر أمناً. بالفعل، ليس لدى إسرائيل ما يمكّنها من الدفاع عن المنظومة المتمادية لتموينها ولاقتصادها بقياساته التجارية.

إنّ أخطر ما في هذا الصراع هو تجمُّعُ المتطرّفين اليهود، فهناك مرضى النفس الداعشيون اليهود الذين يؤمنون بأنّهم ينفّذون أوامر الله. وهم بالتأكيد باقون حتى النهاية. فقد تعلّموا التطرّف ودرسوا توراتهم وتلمودهم بطريقة مشوّهة على طريقة التشويه في إسلام داعش. هؤلاء قد خطّطوا فقهيّاً للانتحار الجماعي الذي أمر به الله، أي الانتحار الجماعي في مسعدة الأشمونية[32]. هؤلاء المتطرّفون هم أخطر اليهود. فأسطولهم النووي قادر على حمل الصواريخ في شعاعٍ مداه 3500 كيلومتر[33]. وهكذا يصبح السلاح النووي القاتل الذي أهدته أوروبا والولايات المتحدة لإسرائيل أداتهم الفتّاكة التي وعدهم بها يهوة. وأوّل ما سيفعلونه هو محاولة ابتزاز المُحسنين إليهم من الأوروبيين. فتهديدهم النووي سيفاجئ الجميع في برلين ولندن وباريس. فالذي فعلوه بالفلسطينيين لن يتردّدوا بفعله أينما كان، مع غيرهم، بعد شيء من التعديل وأقلمة الخطة. وفي إمكان أسطولهم السفر إلى شمال المتوسط وأن يهدّد أكثر العواصم الأوروبية بما في ذلك موسكو. وفي إمكانه التسلل إلى البحر الأسود والاقتراب من روسيا بنسبة أكبر. وبمقدور الغواصات الألمانية الصنع أن تتّجه إلى المحيط الهادئ وأن تهدد الهند. أما الولايات المتحدة البعيدة على نحو غير مُستحب، فيمكن ابتزازُها بِطرائق أُخرى. واليهود فيها عرضة للضغط الصهيوني. فقد كسب الكثير منهم سابقاً من مؤسسات الصهيونية.

وحين تفشل كل المحاولات، سيلجأ هؤلاء المتطرّفون اليهود إلى ممارسة «مسعدة النووية»، أي الانتحار الجماعي. وستقتلهم المجزرة جميعاً، إلّا أنّها ستقتل أعداءهم الفلسطينيين أيضاً. وفي منظارهم، هذه هي أوامر الله.

إنَّ حِلف شمال الأطلسي قد خلق وحشاً. وهناك حاجة ومسؤولية لقلع أنيابه ومخالبه قبل أن يفتك بمحيطه وجيرته. وعاجلاً أم آجلاً، على حلف شمال الأطلسي أن يتعاون. فَهُمْ سُرعان ما سَيَعُون أنّهم الأوّلون على لائحة ضحايا الوحش، حتى قبل أن يأتيَ دورُ الفلسطينيين.

الحلفاء المحتملون

بالتأكيد، يمكن الفلسطينيين وشركاءهم في دول العالم الكثيرة أن يعتنقوا استراتيجية «صراعات الجيل الخامس». فسوف تسمح لهم هذه العقيدة بالتالي بخدمة القضايا العادلة في العالم. وسوف يتمكّنون من لفت نظر الكثير من الدول التي تتوق للحرية والاستقلال. فعند أوّل إشارة، تقوم الإمبراطورية بمقاطعتهم ومحاصرتهم وابتزازهم. والفلسطينيون هم حلفاؤهم الطبيعيون. وربّما قرروا أن يتبادلوا معهم بعض الخدمات.

إنّ الإمبراطورية تواجه غُرَماء كُثُراً، وبخاصةٍ في الكتلة الشرقية. وترسانة أدواتها كثيرة ومتعددة الأوجه. وفي البداية، لن يكون الصراع متساوياً؛ فأدوات العملاق الآسيوي غير كافية لاحتواء ابتزاز الإمبراطورية. وقد يجد أن صراعات الجيل الخامس مُناسِبة وأنّ في الساحة حليفٌ مُمكن. وقد يكون من المناسب لهم توفير المزيد من الأدوات التكنولوجية للتحالف الفلسطيني. فكلّما ازدادت نجاحات التحالف الفلسطيني، وكلما ازدادت مُنجزات الإِبَر الواخِزَة، تحسّنت ظروف الكتلة الشرقية.

النتيجة

مَن يَهُمّه أمر الفلسطينيين؟ ولماذا أصبحت الكوفية الفلسطينية رمزاً للتمرّد في العالم؟ إنّ في الاستراتيجية مفاهيم نوعية لا يمكن قياسها؛ فالجنرالات أصحاب النجوم الخمس لا يجدون في وخز الإبرة تحدّيات ومفاخر بقياسات قاماتهم. إلّا أنّه في أودية العالم أعداد هائلة من الناس يؤمنون بمبادئ وقِيَمٍ لا تُدافع عنها الدبابات. والكوفيةُ الفلسطينية هي التي ترمز، بالذات، لهذه المبادئ. وقد ظهر في هذه المقالة أنّ الفلسطينيين قادرون على تخطّي دورهم كَرَمزٍ للتمرّد، وعلى أن يُجَسِّدوا بـ«صراعات الجيل الخامس» قدراتٍ ميدانيةٍ مستديمةٍ لها مصداقيَّتُها وفاعليَّتُها.

 

قد يهمكم أيضاً  الشباب الفلسطيني كفاعل ثوري: قراءة في التحول من الالتزام الجماعي إلى الالتزام الفردي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الصراع_العربي_الاسرائيلي #المقاومة_الفلسطينية #الصراع_الفلسطيني_الصهيوني #الفلسطينيون #فلسطين_المحتلة #دراسات