أولاً: إطار مفاهيمي

1 – في مفهوم المجتمع المدني

المجتمع المدني مفهوم غربي النشأة، أسهمت في صياغته مدارس فكرية وأيديولوجية متعددة، في إطار الحضارة الغربية، وذلك عبر عدة مراحل تاريخية بدءاً بأرسطو طاليس الذي استخدمه كمرادف للدولة وحتى انطونيو غرامشي الذي طوّر هذا المفهوم باعتباره بناء فوقياً يؤدي دوراً توجيهياً للسلطة[1]، ويعكس المجتمع المدني في معناه الواسع فضاء للحرية يلتقي فيه الناس بإراداتهم الحرة ويأخذون المبادرات من أجل أهداف أو مصالح أو تعبيراً عن مشاعر مشتركة، وهو ما يجعله غنياً في تداعياته بالنسبة إلى عمليتي الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وللمجتمع المدني أربعة أركان تعبِّر عن وجوده وتشكله:

أ – الركن التنظيمي: يضم المجتمع المدني مجموعة من التنظيمات التي يشكلها الأفراد وفقاً لنظام معيَّن يتم الاتفاق حوله، كالجمعيات والنقابات والمنتديات الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية.

ب – الطوعية: أي المشاركة الإرادية؛ وهو ما يميز المجتمع المدني عن باقي التكوينات الاجتماعية التقليدية.

ج – الاستقلالية: استقلالية عن سلطة الدولة وهيمنتها (استقلالية مالية، تنظيمية، إدارية).

د – الركن القيمي: حيث تلتزم تنظيمات المجتمع المدني بمجموعة من القيم والمعايير في إدارة العلاقات فيما بينها وفيما بينها وبين الدولة، كقيم التسامح، التعاون، اختلاف الرأي[2].

2 – التحول الديمقراطي: ضبط المفهوم

تناول العديد من الباحثين مفهوم التحول الديمقراطي من منظورات متعددة، فنجد مثلاً الباحث دوبري يركز على بيئة التحول الديمقراطي، معتبراً أن هذا الأخير يولد في خضم تغير الأنظمة على إثر الأزمات السياسية التي تتوقف على العلاقة بين مختلف القطاعات[3]. أما صموئيل هنتنغتون فيرى أن التحول هو اختزال الممر بين مرحلتين: مرحلة الاستبداد ومرحلة تأسيس السلطة الديمقراطية وترسيخها، بينما يذهب الباحث غاي هرمت (Guy Hremet) إلى الحديث عن التحول الديمقراطي من الناحية المنهجية الصرفة فهو حديث عن شيء لا وجود له من جهة، وموجود ويحدث في أكثر من مكان من جهة أخرى؛ ولذلك فالتحول الديمقراطي يعد شيئاً بسيطاً ومعقداً في الوقت نفسه، إذ تم في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين دون وعي به كما حدث في المجتمعات الغربية، وأما اليوم فيتم بوعي تام وبإرادة مقصودة[4]، وبناء على ما سبق يتضح أن التحول الديمقراطي هو:

أ – عملية انتقال من وضع استبدادي إلى وضع ديمقراطي.

ب – عملية تدريجية ومرحلية وليست طفرة فجائية.

ج – ليس هو الديمقراطية، وإنما هو شرط للوصول إليها وقد أخذ بعض ملامحها كالتعددية الحزبية، حرية الصحافة وحقوق الإنسان.

3 – أسباب تزايد الاهتمام العربي بالمجتمع المدني

شهدت تسعينيات القرن الماضي تصاعداً ملحوظاً في الاهتمام العربي بموضوع المجتمع المدني، وقد أسهمت عدة متغيرات في تزايد هذا الاهتمام، فمن ناحية ومع انهيار الشيوعية، زحفت موجات الديمقراطية والمطالبة بمشاركة المواطن على دول شرق أوروبا والدول النامية، وكانت تقوية المجتمع المدني أحد معالم التحول الديمقراطي، ومن ناحية أخرى فإن التحول الاقتصادي نحو نظام السوق والأخذ بسياسات إعادة الهيكلة الاقتصادية أدى كذلك إلى تصعيد أدوار المجتمع المدني في عدة دول.

كما طرح الخطاب السياسي العالمي – ممثلاً في وثائق الأمم المتحدة ومؤتمراتها المتتالية – لقيمة المجتمع المدني وشراكته في تحقيق غايات التنمية البشرية، خطاباً سياسياً عربياً يستخدم لأول مرة مفهوم المجتمع المدني والتوقعات من مشاركاته وشراكته، وصاحَبَت هذا الخطاب تعديلات تشريعية وقوانين جديدة تنظم المجتمع المدني في العديد من البلدان العربية[5].

عموماً يمكن أن نعيد أسباب تزايد الاهتمام بالمجتمع المدني في البلدان العربية إلى ما يلي:

– محاولة تقليد الغرب ومسايرته: بعد أن أدى المجتمع المدني دوراً فعالاً في تطوير المجتمعات الغربية وفي عملية التحول الديمقراطي، أصبح ينظر إليه على أنه الحل الأمثل لمشاكل الواقع العربي ومعضلاته[6].

– تغير دور الدولة الحديث: شهد دور الدولة في القرن الحادي والعشرين تقلصاً في بعض الوظائف وتعمقاً في الوظائف التقليدية كالأمن والقضاء، وهذا ما أدى إلى تنامي الدعوة لتطوير وتقوية منظمات المجتمع المدني كشريك ثالث إلى جانب القطاع الخاص لمشاركة الدولة في مهمتها[7].

ثانياً: واقع المجتمع المدني في ظل التحول الديمقراطي في الجزائر

1 – طبيعة البناء المؤسسي للسلطة السياسية وتأثيره في المجتمع المدني

بعد الاستقلال اتسمت المؤسسات السياسية في الجزائر بضعف شديد وعدم الفاعلية، بسبب عدم الاستقرار المؤسسي، إلى جانب وجود حالة من الاختلال بين مؤسسات المدخلات ومؤسسات المخرجات، أو مؤسسات المشاركة ومؤسسات التنفيذ، بالإضافة إلى الاختلال بين المؤسسات السياسية في الريف والحضر. كما اتسمت المؤسسات بعدم الاستقلالية؛ إذ هي امتداد للسلطة التنفيذية التي يأتي على رأسها رئيس الدولة الذي حوَّل الحزب الواحد إلى أداة من أجل تعبئة الجماهير. فالجزائر استقلت وهي تكاد تخلو من المؤسسات، وقد عمل الرئيس بن بلة على تركيز جميع السلطات وفي عهد بومدين ازدادت حدة الأزمة المؤسسية حتى استحكمت فعجزت عن استيعاب القوى الموجودة في المجتمع الجزائري، لأن البيئة السياسية اتسمت بسيطرة المؤسسة العسكرية على مقدّرات الحياة السياسية[8].

وفي النصف الثاني من الثمانينيات عاشت الجزائر حالة من الغليان السياسي حيث دخل النظام منعطفاً خطيراً، على وقع عديد من التطورات المحورية التي أدّت دوراً هاماً في تشكيل أطر النظام السياسي وآلياته، تمثل أهمها في إقرار التعددية، التي أفرزت فيضاً من المواجهات والصدمات التي عجز النظام عن استيعابها، وقد أسهم افتقار الفاعلين إلى خلفية مشتركة للعبة السياسية إلى تفجير إشكاليات عديدة مسّت هيكل النظام.

وإذا أتينا إلى مرحلة التعددية فإن محاولة توصيف التحول الديمقراطي فيها يتطلب إلماماً كاملاً بالأبعاد والمتغيرات المتعددة، وبالآليات التي تساهم في تدعيم الممارسة الديمقراطية وترسيخها وانتشارها بين مختلف الفئات الاجتماعية، والقوى السياسية على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية والإقناعية، وتقبلها كممارسة واقعية واعتبارها مكوناً رئيسياً لثقافة سياسية.

من خلال قراءة سريعة لتاريخ الجزائر الحديث تبدو أمامنا تلك التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية العميقة. فعلى المستوى الاقتصادي كان التحول جذرياً. إذ إنه بعد ترك النظام الليبرالي الموروث عن الاستعمار وحقن النظام الاشتراكي، قبِل العودة من جديد إلى النظام الليبرالي المبني على اقتصاد السوق، وبالطبع كان النظام السياسي متناغماً مع هذه التحولات إن لم يكن هو محركها الأول، وكل هذه التحولات وما ترتب عنها من تغيرات انعكست على رغبات أفراد المجتمع وتطلعاتهم ما أدى إلى إنتاج أنماط ثقافية حضارية جديدة ومتجددة.

وما يمكن استخلاصه حول وضعية المجتمع المدني الجزائري هو أنه يعاني:

أ – أزمة الهوية

ترجع جذور أزمة الهوية في الجزائر إلى مرحلة الاحتلال الفرنسي، الذي ساهم في سحق بعض جذور الهوية وأهمها الدين واللغة، إذ إن الاحتلال اللغوي وسيادة الثقافة الفرنسية في التعاملات اليومية لعقود عديدة أديا إلى تفجر إشكالية الهوية الوطنية الجزائرية، وجاءت سنوات الاستقلال لتكرس الأزمة[9].

ب – أزمة المشاركة السياسية

تمثلت أزمة المشاركة في عجز المؤسسات السياسية عن استيعاب كل القوى الموجودة في المجتمع، وفي رغبة النخبة الحاكمة في عدم إشراك هذه القوى في الحياة السياسية المحتكرة من طرف المؤسسة العسكرية عليها، وكان التصور السائد للمشاركة في هذا الإطار أقرب إلى مفهوم التعبئة (Mobilisatio) منه إلى المشاركة، لذلك جاءت أحداث تشرين الأول/أكتوبر 1988 تعبيراً عن أزمة مشاركة عميقة.

ج – أزمة التكامل

تشير أغلب الدراسات الخاصة بالمجتمع والدولة في الجزائر إلى أهمية الطابع الانقسامي للمجتمع، المتميز بسيطرة بنى تقليدية تعتمد على علاقات القرابة والجهوية، وانقسامات طبقية خاصة بعناصر التكوين الاجتماعي، وانقسامات جغرافية خاصة بالمتباينات الجيلية والعمرية، ولقد جسدت أزمة التكامل وتعدد الولاءات تهديداً للكيان الاجتماعي والسياسي ذاته[10].

2 – مكوّنات المجتمع المدني في الجزائر

شهدت الجزائر منذ التسعينيات ميلاد عدد كبير من جمعيات المجتمع المدني التي توجهت مجالات تدخلها واهتمامها نحو قطاعات جديدة مثل حقوق الإنسان، حقوق المرأة، الدفاع عن المحيط والبيئة، اللغة الأمازيغية، جمعيات مهنية؛ إلا أننا لا نلمس الوجود الفعلي لهذه الجمعيات التي صارت غالبيتها لا تحسن إلا استنزاف أموال الدولة حيث إن بعضها لا يزال يتخبط في العديد من المشاكل وينتظر الحل منذ سنوات، وأحصت وزارة الداخلية والجماعات المحلية 93654 جمعية معتمدة من طرف الدولة ناشطة على المستويين الوطني والمحلي، حسب عملية جرد أعلنت نتائجها في 12 كانون الثاني/يناير 2012، من بينها 92627 جمعية محلية و1027 جمعية وطنية، نصف هذه الجمعيات أوقفت نشاطها أو لا تملك القدرة على النشاط.

وصنفت وزارة الداخلية الجزائرية الجمعيات الوطنية إلى 32 جمعية وطنية لقدماء التلاميذ والطلبة، و7 منظمات حقوقية، على رأسها اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان، الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، والرابطة الوطنية لحقوق الإنسان، والمنظمة الوطنية لضحايا الإرهاب.

في حين أحصت وزارة الداخلية 20 جمعية أجنبية ووطنية معتمدة تنشط في الجزائر، من بينها جمعية نوادي الليونز العالمية وجمعية نوادي الروتاري العالمية المعتمدة، إضافة إلى9 منظمات ثورية، من منظمات المجاهدين وأبناء الشهداء وقدماء محاربي الشرق الأوسط والمحكوم عليهم بالإعدام ومشعل الشهيد وجمعية ضحايا 8 أيار/مايو 1945، وجمعية ضحايا التجارب النووية وغيرها، و23 جمعية وطنية نسوية، منها الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات، والنساء الحرفيات، وجمعية النساء المعنَّفات والاتحاد الوطني للنساء العاملات والاتحاد الوطني لرئيسات المؤسسات، وجمعية راشدة، و10 جمعيات دينية منها جمعية العلماء المسلمين وجمعية الإرشاد والإصلاح، وجمعية الزوايا، و28 جمعية في مجال التضامن والتطوع والجمعيات الخيرية وعلى رأسها الهلال الأحمر الجزائري وجمعيات كافل اليتيم، بالإضافة إلى النقابات والاتحادات العمالية والمهنية المستقلة منها والمنضوية تحت لواء الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وكذا جمعيات الأمراض المزمنة، كمرضى السكري والضغط والسرطان والكلى، وفقدان المناعة… وغيرهم، إضافة إلى الاتحادات والجمعيات المهنية كالخبّازين والناقلين وسيارات الأجرة، والمقاولين وأرباب المؤسسات، والمستوردين، والتجار والحرفيين، ومنتجي الحليب، والفلاحين، والموالين ومنتجي التمور، وغيرها من الجمعيات المهنية.

أما الجمعيات المحلية المقدر عددها بـ 92627 جمعية محلية، فقد أحصتها وزارة الداخلية بناء على توزعها حسب القطاعات، مسجلة 20137 جمعية أحياء، وهي الجمعيات التي تمثل النسبة الغالبة في ميدان الحركات الجمعوية، حيث إنها تمثل 21,74 بالمئة، تليها الجمعيات الدينية بـ 15304 جمعيات دينية، وجمعيات الرياضة والتربية والشباب بـ 15019، إضافة إلى 14891 جمعية لأولياء التلاميذ، والباقي كلها جمعيات مهنية، وجمعيات الفن والثقافة والعلوم والتكنولوجيا والبيئة وجمعيات المعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة، وجمعيات المستهلكين، والشباب والأطفال، وقدماء التلاميذ والطلبة إضافة إلى جمعيات الصحة والطب والتضامن والجمعيات الخيرية، والنسوية والمتقاعدين والعجزة، وجمعيات السياحة والترفيه، وتتمركز الأغلبية الساحقة من الجمعيات بالجزائر العاصمة بـ 7199، ثم بجاية بـ 5109، ثم تيزي وزو 4809‏[11].

3 – دور منظمات المجتمع المدني في تعزيز المشاركة السياسية

يعد شيوع الثقافة المدنية خطوة هامة على طريق التحول الديمقراطي، ومن غير الممكن بناء مؤسسات المجتمع المدني دون الاعتراف بالحقوق الأساسية للإنسان، خاصة حرية الاعتقاد، والرأي، والتعبير، والتجمع…، ويتأكد دور مؤسسات المجتمع المدني في نشر هذه الثقافة من خلال الحياة الداخلية لمؤسساته، وتعزيز المساءلة والشفافية والمحاسبة خارجياً، وهذا من خلال الآليات التالية نذكر[12]:

أ – المشاركة بالاقتراع المباشر في الانتخابات

وينظر إلى هذه الآلية كواحدة من أهم سبل المشاركة السياسية في الجزائر، وترتبط هذه العملية مباشرة بالديمقراطية التمثيلية، ويبقى نجاحها الحقيقي خاضعاً لعوامل كثيرة، أهمها قدرة المجتمع على متابعة ومحاسبة هؤلاء الممثلين وعدم تحول الممثل إلى كيان منفصل عن المجتمع المحلي الذي انتخبه، وهذا هو واقع العملية في الجزائر.

ب – المشاركة عبر الاستفتاء الشعبي

حيث يلجأ النظام الحاكم أحياناً إلى الحصول على تأييد شعبي لقانون أو إجراء قبل تطبيقه، لكن الملاحظ أن النظام السياسي الجزائري يلجأ إلى مثل هذا النوع من أجل تحقيق أهداف معينة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية مرتبطة بمسألة شرعية النظام.

ج – المشاركة بالاعتراض الشعبي

حيث يمنح المواطنون حق الاعتراض على قانون صادر عن البرلمان وخلال فترة محددة، لكن هذا الشكل لا يزال بعيد التحقق في مجتمعنا الجزائري نتيجة عوامل كثيرة مثل ضعف الوعي السياسي وغياب التأطير الحقيقي للجماهير بشكل فعّال ومنظم[13].

د – اللجوء إلى وسائل الضغط

من هذه الوسائل ممارسة حق الإضراب أو التظاهر، أو العصيان المدني، وحتى اللجوء أحياناً إلى العنف ضد مؤسسات الدولة أو رموزها. والعشرية السوداء التي مرت بها الجزائر وقبلها أحداث تشرين الأول/أكتوبر 1988 وآخرها أحداث 2011 والاحتجاجات الرافضة للعهدة الرابعة خير دليل على ذلك. وهذا النوع الأخير يُلجأ إليه في حال إغلاق جميع قنوات المشاركة الشرعية الأخرى، ويعتبر هذا الشكل من أشد أشكال المشاركة خطورة، حيث إنه قد يمثل في حالات معينة رفضاً شعبياً كاملاً لوجود نظام سياسي معين أو سعياً لتغيير هذا النظام برمَّته عبر حركة شعبية واسعة ذات أشكال نضالية مختلفة ومتدرجة في تصاعدها[14].

هـ – المشاركة عن طريق الأحزاب

تعتبر هذه المشاركة من ركائز الأنظمة الديمقراطية ومن أهم المؤسسات السياسية التي تمنح النظام السياسي صبغته الديمقراطية، وحجر الزاوية في تأطير وتفعيل المشاركة الشعبية السياسية.

ثالثاً: محدّدات نجاح منظمات المجتمع المدني في التأثير

1 – معوّقات الأداء الفعال للمجتمع المدني في الجزائر

يمكن تقسيم هذه المعوقات إلى معوقات البيئة الخارجية ومعوقات البيئة الداخلية:

أ – معوّقات البيئة الخارجية

   (1) الأزمة الأمنية الخانقة: وهي ذات أبعاد متعددة أدت بالبلاد إلى حالة عدم الاستقرار، بدءاً بأحداث 5 تشرين الأول/أكتوبر 1988 وتبني الجزائر التعددية السياسية وفق مجريات عملية التحول الديمقراطي، ما اضطر البلاد إلى القيام بعدة إصلاحات كان لها انعكاسات سلبية على المجتمع الجزائري لأنها أدت إلى[15]:

– إنهاء العمل بالقوانين التي كانت تضمن الوظيفة ومنصب الشغل الدائم للجزائريين.

– تسريح العمال؛ وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة بشكل كبير.

(2) الاستقلالية الجمعوية: رغم ما تقدمه الدولة من مساعدات لتدعيم مؤسسات «المجتمع المدني» من دعم مادي متمثل بالإعانات المالية ومنح المقار التي تتكفل بها القطاعات الوزارية حسب الاختصاص، إضافة إلى تنظيم دورات إعلامية وتدريبية لإطارات الجمعيات، إلا أن هذه المساعدات ما هي إلا طريقة للسيطرة والاحتواء، وذلك من خلال الدعم المالي التفضيلي وفق معادلة الاقتراب والابتعاد من السلطة، ما يبقي الجمعيات في حالة تبعية دائمة للدولة، وينتج من ذلك ظاهرة تسييس معظم مؤسسات المجتمع المدني، وتحولها إلى قنوات لتحقيق المشاريع الحزبية. وهنا نلاحظ أن الجمعيات تخلط بين مفهوم العمل الحزبي ومفهوم العمل الجمعوي، ربما بسبب حداثة التجربة وعدم نضجها.

(3) تهميش المجتمع المدني[16]: رغم ما نراه من تشجيع وبشدة في الخطابات الرسمية لمؤسسات المجتمع المدني بكونه ضابطاً اجتماعياً مهماً وقاعدة تحتية ضرورية للبناء الديمقراطي، إلا أن الواقع يثبت عكس ذلك لكون المؤسسات الحكومية تتعمد استبعاد مؤسسات «المجتمع المدني» في العديد من مناقشاتها وقراراتها الهامة المرتبطة بصنع السياسات العامة.

(4) ظاهرة اللامبالاة[17]: بحيث أصبح الفرد الجزائري غير مكترث بالقضايا السياسية ولا حتى بالمشاركة فيها، وهذا بسبب:

– عدم القدرة على تجنيد العنصر المتطوع والذي يعتبر من عناصر الأساسية للعمل الجمعوي.

– عدم الثقة في كل ما يرمز إلى الدولة، وبالأخص الجمعيات والأحزاب السياسية التي لا تظهر إلا في المناسبات، ما خلق هوة كبيرة بين المجتمع ومؤسسات الدولة.

– غياب دور الإعلام الذي من شأنه إبراز دور وعمل هذه الجمعيات وتقريبها من المواطن.

– تبني جُل الجمعيات أفكاراً وقضايا غريبة على المجتمع الجزائري، بدلاً من العمل على إحياء العادات والتقاليد والقيم الجزائرية الإسلامية وفق ما يخدم المصلحة العامة.

ب – معوّقات البيئة الداخلية

وبقصد بها العراقيل الكابحة للفعالية الوظيفية للجمعيات بمختلف أنواعها والنابعة من الجمعيات في حد ذاتها وتتمثل بالآتي:

– غياب مصادر التمويل الذاتي: مصادر التمويل الذاتي للجمعيات الجزائرية ضعيف جداً، ما يحد من قدرتها على أداء أدوارها الفعالة والإيجابية اللازمة، ويدفعها إلى الاعتماد الكلي على دعم الدولة وهذا ما يجعلها خاضعة لها عوض التأثير فيها.

– غياب الشفافية والديمقراطية في التسيير: حيث تعاني أغلب مؤسسات المجتمع المدني مشاكل تسييرية أدت في الكثير من الأحيان إلى انشقاقات انتهت إما إلى زوالها أو تجميد عملها.

– عدم وضوح برامج وأهداف جمعيات المجتمع المدني في الجزائر بسبب النشأة غير السوية.

– الانفرادية في اتخاذ القرار نتيجة سيطرة الزعامات القيادية وعدم فتح المجال للمشاركة وهي صفة جل مؤسسات المجتمع المدني الجزائري.

يمكن أن نلاحظ تراجع العوامل السابقة الذكر وانحسارها خاصة مع ما تشهده الجزائر من محاولات تكريس للديمقراطية عبر التحفيز على المشاركة والمساءلة والتأسيس للحكم الراشد.

2 – نحو استراتيجية وطنية لتعزيز المساءلة والشفافية والمشاركة

يجب التشديد على ضرورة توفير الإرادة السياسية لبناء نظام مؤسسي يشمل تطبيق خطة استراتيجية بإجراءات واضحة وفعالة لتعزيز المساءلة والشفافية وتفعيل المشاركة، وذلك من خلال مبادئ النزاهة والشفافية والمحاسبة في المؤسسات العامة والمجتمع ككل، وتفعيل تبادل الخبرات وزيادة التدريب للعاملين في آليات الشفافية والمساءلة، ودعم دور التعليم والإعلام في نشر الوعي من أجل تعزيز تدابير منع الفساد.

وفي هذا السياق، يمكن طرح العناصر التالية من أجل بناء استراتيجية وطنية لتعزيز المساءلة والشفافية:

– تمكين المجتمع المدني من مكافحة الفساد ركن أصيل للديمقراطية، إذ يتعدى دور المجتمع المدني نشر القيم الأخلاقية ليصبح وسيلة لحماية الأخلاق العامة ومقدرات المجتمع، الاقتصادية والسياسية والحضارية من مخاطر الفساد.

– ترتكز نظرية الديمقراطية على منظومة من القيم السياسية مثل الطابع النيابي في بناء السلطة والتوازن في الرقابة بين المؤسسات المدنية الرسمية وغير الرسمية الحاضنة لهذه القيم: مثل البرلمان، ومؤسسات المجتمع المدني وآليات التعبير عن الرأي العام، ما يحقق عوائد هامة أبرزها سلامة البناء السياسي وأجهزة الحكم، وإلا كان تطبيق الديمقراطية تكلفة بلا عائد.

ويتم ذلك من خلال ما يلي:

– وضع آليات لتعزيز المساءلة والشفافية.

– مراعاة الشفافية في إعداد التشريعات الضامنة والضابطة لعمل مؤسسات المجتمع المدني.

– العمل على أن تكون الصياغة الفنية للقوانين واضحة ومحكمة.

– كما يجب أن تكون الصياغات التشريعية ذاتها مستندة إلى معايير الشفافية.

– من خلال تفعيل الدور الرقابي لمؤسسات المجتمع المدني.

– من خلال التواصل مع الرأي العام والمجتمع المدني عن طريق:

  • فتح حوارات مع المواطنين، وإيجاد قنوات اتصال مع الرأي العام.
  • تحويل القضايا السياسية إلى قضايا رأي عام وتشجيع الجمهور على المشاركة فيها وإثرائها.

خاتمة

إن دراسة واقع المجتمع المدني وأوليات مؤسساته، وتحليل الإطار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يحكم عمل هذه المؤسسات، ورصد علاقتها بالنظام السياسي، كل ذلك لا بد من أن يساهم في تحديد مقومات انطلاق العمل المدني في الجزائر ومنها: العمل على ترسيخ وتطوير ثقافة الديمقراطية، وتنمية الحوار والتعاون في المجتمع المدني، فضلاً عن البحث عن أنشطة وفعاليات جديدة تستطيع مؤسسات المجتمع المدني من خلالها أن يتسع نفوذها وتكون مؤثرة سياسياً. وفي ضوء ذلك فإن المطلوب من مؤسسات المجتمع المدني العمل على تطوير آليات الحركة والاتجاه نحو تخليق صيغة جديدة توفر المشاركة في صنع السياسات العامة وتستند إلى خدمة المجتمع من خلال خدمة مصالحها، فضلاً عن القدرة على النقد الذاتي لتجاوز تلك المعوقات التي تحد من انطلاق المجتمع المدني، وهناك حاجة لتفعيل الوسائل الإعلامية والقضائية وإقامة علاقة دائمة مع الأجهزة الحكومية؛ ليس فقط في القضايا الفئوية أو القضايا المصيرية التي تعنى بهموم فئة معينة وإنما أيضاً في المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بالمجتمع، إذ من الملاحظ أن دور المجتمع المدني يواجه تحدياً كبيراً، وخصوصاً أن الإطار الاقتصادي والاجتماعي الذي نشأت في ظله مؤسساته في الوقت السابق يختلف عن الواقع الراهن، وأنه إذا كانت هناك مئات المطالب المتعلقة بالإصلاح فإن الإصلاح لن يحدث وحده دون أن يكون للمجتمع المدني دور في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية وبخاصة في ظل المشاكل السياسية الاقتصادية والاجتماعية المستفحلة.