رغم أن جل الدراسات التي تناولت قضايا التحول في الخليج العربي قد عزت ذلك إلى النفط وأحياناً إلى النفط وحده[1]، إلا أن السنوات القليلة الماضية، وبفعل هذا التطور غير العادي والهائل في تكنولوجيا الاتصال، بل الاكتساح والاستخدام الواسع في السنين الأخيرة، لما سمِّي بتقنيات التواصل الاجتماعي والضغوط التي يفرضها الفضاء السيبرني على الدولة والمجتمع، قد دفع – ويدفع – نحو تغيرات هائلة وعميقة باتت تجتاح المنطقة؛ بعضها بتنا نلحظ ونتابع تحولاته، وبعضها الآخر قادم لا ريب فيه. وهي تغيرات لا يمكن التكيُّف معها من منظور الأمن الثقافي أو الأمن الاجتماعي أو حتى الأمن السياسي… وغيرها، وإنما من حيث إن هذه التحولات تمثل تحدياً ثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وهو تحدٍّ لا يمكن مواجهته إلا عن طريق الأخذ ببعض كبير من أسبابه، والذي قد تكون أولى خطواته تبني تلك الخطوات التكيفية التي تفرض علينا كذلك قدراً من التغيير المؤسساتي كما هو قدر من التغيير في الرؤى والآليات التي بها نعالج مشكلاتنا والتي بها ندير مؤسساتنا، ونتجاوز من خلالها الإخفاقات والتلكؤات.

وإذا ما اعتقد البعض أن هذه التحولات جزء من موجة جديدة، تأتي وتغادر دون رجعة، فإننا بالمقابل نعتقد أنها جزء من مرحلة عامة شاملة لم تصب المنطقة لأنها مستهدفة بذلك، وإنما لكوننا جزءاً من نظام كوني محكم حدد موقعنا فيه ظرف منتجنا الاقتصادي وحاجاتنا الأمنية. بل إننا بفعل ذلك قد أصبحنا في خضم المرحلة الجديدة من التحولات التي باتت تجتاح العالم بفعل ما أسماه البعض «الثورة» أو الموجة الرقمية الجديدة، وهي مرحلة تأتي على شكل موجات من التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، تفرضها علينا تقنيات المرحلة وآلياتها في التغيير وإعادة الإدماج. وهي مرحلة قد أحدثت دون شك تغيرات متسارعة في بنائنا الاجتماعي وفي هياكلنا الاقتصادية وبدرجة أدنى في سياقاتنا السياسية. وأصبحنا بفعل ذلك ضمن سياقات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية جديدة تُحدث فينا قدراً من التوتر، وقدراً من الرفض، وقدراً آخر من التمرد، وقدراً أدنى من القبول؛ بما نعتقد أنه متسق معنا ومع مصالحنا الاستراتيجية في البقاء. أي أن استجابتنا لمثير/مثيرات المرحلة لم يعد واحداً، كما أنه يفتقر إلى قدر من التوحد والتماسك، وتفتقر بعض ردود أفعالنا إلى قدر مهم من الرشادة، ونحن بذلك نعبر في كل استجاباتنا هذه عن عجزنا عن تحقيق قدر مهم من التكيف. وهو تكيف قد يتطلب منا القبول بإمكان إحداث تغيرات في هياكلنا، وفي آليات عملنا، وفي الرؤى التي ننسج من خلالها شبكة علاقات القوة القائمة في مجتمعاتنا. أي – بتعبير آخر – إنها مرحلة لا يمكن تجاوزها إلا بقدر من التكيُّف، ولربما القبول كذلك بتغيرات أخرى قادمة كحتمية تاريخية باتت تخضع لها كل المجتمعات البشرية. إن إحداث التغيير بتكلفة أقل يتطلب منا أولاً الاستعداد له وثانياً التكيُّف مع متطلباته، وبالتالي التقليل من بعض مصاحباته السلبية على الصعد الاجتماعية والثقافية والسياسية والأمنية[2].

وبالمقابل فإن المجتمعات الجديدة، أي مجتمعات الشبكة، هي مجتمعات ذات حيوية عالية، وتتسم بقدر كبير من الانفتاح والحساسية الشديدة لكل جديد تكنولوجي، من دون أن يمثل ذلك مصدر تهديد لتوازنها. إن واحدة من أهم خصائص هذه المجتمعات تعود إلى حقيقة تفوّق قدراتها التكيفية التغييرية على قوى الممانعة والتلكؤ. ونتيجة لذلك، فإن تطورها الاقتصادي والسياسي والثقافي والعلمي يكون أعلى درجة من المجتمعات التي لا تقع في هذه الفئة أو في هذا الصنف[3]. وتدفع هذه الخاصية، والقدرة على قبول التغيير، على أن تكون هذه المجتمعات ذات قابلية أكبر على إعادة تنظيم علاقات القوة فيها بالطريقة التي تحافظ فيها على قدر مهم من التوازن القائم بين أنساق المجتمع المختلفة. وبالتالي تفادي أي هزات قد تدخلها في حالات الفوضى الدائمة أو المؤقتة.

– 1 –

إن منطقة الخليج العربي وبفعل المرحلة التي دخلت فيها، بل بفعل الحالة التي باتت عليها من الناحية الاقتصادية والديمغرافية، وبفعل تمفصلها في النظام الاقتصادي والأمني العالمي، فقد باتت عرضة لتحولات تتشكل في عمق المجتمع وعلى أطرافه. وهي تحولات ستقود إلى تغيرات في نمط علاقاتنا الاجتماعية وسياقاتنا الثقافية وهياكلنا الحاكمة لأنماط السلوك وبناءات القوة، فضلاً عن علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين. وهي تغيرات تواجه قدراً من الممانعة القوية من قوى مؤسساتية وأخرى اجتماعية تأخذ أحياناً لبوساً دينياً وآخر إثنياً وثالثاً قبلياً، وذلك لأن هذا التغيير لا يغير حصص الجماعات القائمة من القوة فحسب، وإنما بات يهدد الأسس المؤسساتية والمعيارية التي في ضوئها تتشكل هذه الحصص. وهو صراع يخلق حالة من الفوضى في جانب مقابل آخر مستتر وقائم في المجتمع، كما يبعث في البعض رغبة عارمة في التعبير عن هوياته الصغيرة – بل تلك المتناهية في الصغر – وهي في جُلها تمثلات عن صراعاتنا المعلنة أو المستترة على القوة وحصصها في المجتمع.

وبشكل عام، عندما تكون الممانعة والرفض أقوى في علاقات القوة من الخضوع، فإن هذا يعني، خضوع علاقات القوة ذاتها لقدر من التغيير والتحول. من هنا نجد أن شروط العلاقة تتغير: يبدأ الأقوى في فقدان جزء من قوته طوعاً أو قسراً، وهذا تبعاً يقود إما إلى تغيرات بنيوية أو إلى تغيرات مؤسساتية[4]. وهي تغيرات تدخل المجتمعات المانعة لحدوثها أو المعرقلة لها لأسباب متعددة، في قدر من الفوضى المؤدية إما إلى إطاحة كل النظم والمعايير والأنساق القائمة في المجتمع، كما في الحالة الصومالية والليبية، يعجز معها المجتمع عن الاستقرار، أو أن تقود إلى تغيرات جذرية تدرجية أو سريعة. ويجب الإشارة إلى أن التغيرات في مجتمع الشبكة تتم بعيداً من علاقات الإنتاج التكنولوجية والاجتماعية. أي أنها تلك العلاقات التي تؤثر بشكل كبير في السياقات الثقافية الحاكمة للمجتمع والتي بدورها تقود إلى قدر من التغير في بناء القوة القائم فيه. إنه إذاً، تغير تفرضه طبيعة عمليات الاستهلاك والتموضع الاقتصادي والأمني العالمي.

من الناحية الأخرى، فقد اندلعت في المنطقة خلال العقود الثلاثة أو الأكثر الماضية ثلاث حروب كان لها تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ربما نكون تجاوزنا بعضها، إلا أن بعضها الآخر لم يبارحنا بعد. بل إن جزءاً من هذه المصاحبات قد أصبح متمفصلاً في سلوكنا وفي رؤانا الجديدة التي تشكلت، أو هي في طور التشكل. وإذا ما كان حجم الأثر لم يكن واسعاً فينا في الحرب العراقية – الإيرانية، إلا أن الاحتلال العراقي للكويت، ومن بعدها حرب تحرير الكويت 1991، قد دشن دخولنا الرسمي في عصر العولمة، وهي نتيجة لذلك قد حملت إلينا بعض تبعاتها الثقافية والاجتماعية. بل إن تبعاتها باتت واضحة على نمط الشخصية الكويتية وعلى هيكل النظام وعلى الصراعات التي باتت تدور في النظام وفي داخل المجتمع وفي الجنوح غير العادي نحو العنف كتعبير عن صعوبات في التكيف مع الحالة الجديدة التي بات عليها المجتمع.

ورغم مرور أكثر من عشر سنين على إسقاط نظام صدام حسين فإننا لم نزل نشعر بأثر هذا السقوط بين جنبات مجتمعاتنا. وهي حرب قد جاءت بفصيل وأسقطت آخر تشكلت الدولة العراقية الحديثة في ظل سيادته. هذا التحول أفزع البعض وأخافه من تبعاته، وقد يكون أنهض وعي البعض بحقوقه. إلا أنها حرب/حروب حملت إلينا بعضاً من إفرازات صراع القوة في العراق وأن حروبها الأهلية أحدثت استقطاباً حاداً في داخل مجتمعاتنا، زاد منه، تبنّي بعض منا، أطروحات ومقولات هي نتاج حربهم الأهلية التي أيقظت عند البعض وعي ما قبل الدولة. وقد زاد من ذلك الجموح، الحرب الأهلية السورية، وهي حرب حُملت فيها اليافطات الدينية والطائفية لتضيف ألماً على ألم ولتدفع باجتياح تلك المقولات والاستقطابات المذهبية والإثنية التي اعتقدنا يوماً أننا قد تجاوزناها… وقد أعادت هذه الحروب الأهلية إحياء مقولة الفسطاطين التي وجدت طريقها إلى مجتمعاتنا العربية التي عصفت بها موجة الثورات العربية وعرّت معها هشاشة تكوين الدولة فيها ولربما زيف الوعي في أوساط النخب السياسية والثقافية.

هذه الحالة لم تقتصر على المنطقة العربية، فقد عرفتها قبل ذلك يوغسلافيا في تسعينيات القرن الماضي قبل تقسيمها إلى جمهوريات قائمة على الدين والإثنية، وعرفتها أيضاً بعض المجتمعات الأفريقية ولربما آخرها انفصال جنوب السودان عن شماله.

ويمثل قيام دولة الخلافة في العراق والشام تهديداً مباشراً للمنظومة الخليجية بل للإقليم العربي بشكل عام وإن هوّن البعض من خطورتها. وهي دولة لم يكن لداعمي الجماعات الإسلاموية المقاتلة في العراق والشام قدرة التنبؤ بقيامها، بل في أن تكون بهذه القوة والقدرة على التوسع السريع شمالاً وجنوباً وأن تبسط سلطتها على مساحات واسعة من الأراضي السورية والعراقية. وهي في هذا لم تخفِ رغبتها في أن تمتد وتغطي عموم الجزيرة العربية. أي أننا قد بتنا ولأول مرة في تاريخ العرب المعاصر أمام حالة من كسر للحدود، ونهاية للدولة القومية غير مكتملة البناء، وعودة إلى زمن الإمبراطوريات الإسلامية الكبرى[5].

لقد استطاعت بلدان الخليج في السابق (خلال العقود الستة أو الخمسة الماضية) أن تتجاوز كل التهديدات التي حملتها لها التيارات والجماعات السياسية والفكرية العربية والإسلاموية من الخارج، إلا أن ما تمثله دولة الخلافة من تهديد نابع من حقيقة أنها الدولة القائمة على تعاليم ومعتقدات المدرسة السلفية بتنوعاتها وتشكيلاتها المختلفة. وهي مدرسة قد مكنتها عناصر القوة التي امتلكتها عبر السنين من التمدد في كل الأقطار الإسلامية، بل في أن يكون لها حضور – بفعل انتقال البشر والتكنولوجيا – في كل دول العالم. بمعنى آخر، إننا بتنا في مواجهة جماعات وتيارات لم تتشكل أفكارها ورؤاها في الدولة والمجتمع من الخارج فحسب، وإنما هي نتاج سياقات اجتماعية وسياسية ودينية تشكلت في عمق مجتمعاتنا. بل إنها في أجيالها الجديدة والشديدة التطرف نتاج ذلك الاحتضان والتشجيع غير المدروس لتيارات وجماعات باتت عواقبها كبيرة على المنطقة.

إضافة إلى ذلك، مكنت الزيادة السريعة في أسعار النفط منذ عام 2003، والتي تجاوزت فيها أسعار النفط حاجز 100 دولار بأن تدخل المنطقة في مجموعة من المشاريع الإنشائية لبناء أو لإعادة بناء البنية التحتية وأن تدخل المنطقة في أنماط جديدة من الاستثمار العقاري والمتجه في جله نحو الخارج. وهو استثمار فرض على الداخلين فيه من الدول قدراً من التنازل أو التخلي عن قوانينها وأنظمتها الخاصة بالإقامة والتملك وفي انتقال رؤوس الأموال والاستثمار. أكثر من ذلك، فإن دخول معظم دول المنطقة في اتفاقيات التجارة الحرة قد دفع نحو مزيد من رفع الحواجز الجمركية والاجتماعية والثقافية وأحدث قدراً أكبر من الانكشاف السياسي. وهي اتفاقيات تفرض ترتيبات متعلقة بحقوق العمال المهاجرين قد يكون من بينها حقوق نقابية تفتقرها جل دول المنطقة، كما تعطي هذه العمالة بعضاً من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية ربما يكون على رأسها تلك الدعوات الداعية لإلغاء نظام الكفالة، وهو النظام الذي أتاح ارتباط جل عمالة الرتب الدنيا من العمالة المهاجرة بأرباب العمل. بمعنى آخر، فإن الانتقال الكبير للعمالة الأجنبية وتوظيفها في مشاريع البنى الأساسية والاستثمار العقاري والخدمات الشخصية، والشكوى الدائمة من سوء المعاملة، جعل المنطقة في حالة دائمة من الاصطدام مع المقولات والاتفاقيات والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وحقوق العمالة المهاجرة. وهي اتفاقيات وعهود أصبح موقعنا فيها يفرض علينا قدراً أكبر من التكيف مع متطلباتها في ممارساتنا اليومية وفي تشريعاتنا القائمة.

وأخيراً، فقد جاءت هبَّة الاحتجاجات – أو الثورات – في البلاد العربية لتضيف قدراً آخر من اللاتوازن، ولن أقول الفوضى. وهي حالة هزت في بعضها من تماسك التابوهات السياسية والاجتماعية المحافظة على الوضع القائم، لتدفع نحو تغييرات وأنماط من السلوك والممارسة بدت عند البعض نافية للمنظومة الأخلاقية التي قامت عليها هذه المجتمعات. واعتقد أن ما يحدث هنا هو جزء من سلسلة تغيرات اجتماعية وثقافية وسياسية طاولت الكثير من بلدان العالم الثالث في البلدان الآسيوية الشرقية (كوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا والفيليبين)، مروراً بتحولات أمريكا اللاتينية (البرازيل وشيلي والأرجنتين وفنزويلا)، وفي جنوب أفريقيا، وفي أوروبا الشرقية… وغيرها. وهي تغيرات يتطلب انتظامها شرط التكيف مع تلك الشروط الاقتصادية والسياسية والثقافية التي يفرضها النظام الاقتصادي العالمي. فالدخول في هذا النظام والتمتع بمنتجاته التكنولوجية والثقافية والمعرفية يتطلب قدراً من التغيير تنهي به تفردها وخصوصيتها. وهي خصوصية بات الواقع القائم لا يعكسها كثيراً رغم حديثنا عنها.

– 2 –

سأبدأ بالأسرة، فهي، أي الأسرة، من ضرورات الحياة الاجتماعية، وهي نظام يشبع حاجات مختلفة لأفراده بعضها اجتماعي والآخر نفسي واقتصادي. إنه نظام خضع – كما الأنظمة الأخرى – لمجموعة من التغيرات في أطرها الخارجية وفي وظائفها وطبيعة أدوارها. لقد انتفى شكل الأسرة التقليدية في وظائفها الاقتصادية والاجتماعية، وإن حافظ البعض منها على أدواره السياسية وثرواته الاقتصادية ضمن أطر مؤسساتية جديدة ذات ارتباط بتحالفات جديدة لا تخرج عن مكون القوة القائم. أي أن سلطة الأسرة – وإن ضعفت – ما زالت تمارس نفوذها على أفرادها، وتحديداً في أوساط الأسر الكبيرة ذات الجاه والنفوذ والثروة[6].

ومن أهم التغيرات الأخرى التي حصلت في الأسرة خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية هو تقلص حجمها؛ إذ بات متوسط عدد أفرادها ما بين 4 – 6 أفراد. كما أنها جنحت نحو قدر أكبر من الاستقلال الاقتصادي والسكني، وإن دفع الارتفاع الفلكي في أسعار العقار والسكن خلال العقد المنصرم إلى عودة ظاهرة سكن أسَر الأبناء في منازل آبائهم؛ وهي ظاهرة باتت تجتاح الأفراد في الطبقات الوسطى والدنيا من المجتمع الخليجي.

من ناحية أخرى، فإن متطلبات التعليم والعمل قد رفعت من سن الزواج ليصيب الفئات من 20 – 24 سنة. حيث مثلت هذه الفئة ما نسبته 38،6 بالمئة من إجمالي عقود الزواج في عام 2012، بل إن 55،2 بالمئة من عقود الزواج هي للفئة العمرية 22 – 29 في البحرين. وفي قطر فإن نسبة الفئة الأولى (20 – 24) تنخفض بعض الشيء لتمثل ما نسبته 34،6 بالمئة، إلا أنها ترتفع في الفئة العشرينية عن مثيلتها في البحرين لتصل إلى 66،9 بالمئة. (انظر الجدول الرقم (1)).

الجدول الرقم (1)

الزواج والطلاق في أوساط المواطنين في الخليج

السنوات

البحرينقطرالكويت(*)الإمارات العربية المتحدةسلطنة عُمان

زواج

طلاقزواجطلاقزواجطلاقزواجطلاقزواج

طلاق

2003

9317156017735819355304174002191

20121195628141898754117354535(**)7141235129351

3419

 

(*) أرقام الكويت لعام 2011,

(**) أرقام الإمارات العربية المتحدة لعام 2005.

المصدر: مجلس التعاون لدول الخليج العربية،             <http://www.gcc-sg.org/>.

وعلى النقيض من الزواج تبرز مشكلة الطلاق وهي تعبير عن فشل الداخلين الجدد في الحياة الأسرية بالتكيف مع متطلباتها الاجتماعية والاقتصادية. إذ ترتفع في عموم المنطقة معدلات الطلاق لتصل إلى ما نسبته 40 بالمئة عام 2012 بعد أن كانت 32 بالمئة عام 2003. وترتفع معدلات الطلاق الأعلى في حالتي قطر والكويت بنسب تصل إلى 39،7 بالمئة و38.6 على التوالي. تليهما كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين بنسب تقدر بنحو 23،5 بالمئة و25 بالمئة على التوالي. في مقابل ذلك نجد أن التقارير الصحفية تتحدث عن ارتفاع معدلات الطلاق في السعودية من 27 ألف حالة عام 2010 إلى 30 ألف حالة عام 2012. وهي زيادة فرضتها تعقيدات الحياة الجديدة، وفشل الداخلين الجدد من الأفراد في التأقلم معها وفي فهم متطلباتها الاجتماعية والمؤسساتية.

وارتبط بتأخر سن الزواج بروز ظاهرة أخرى في المنطقة هي اختيارية «التعزُب» في أوساط الإناث كما الذكور. وهي ظاهرة قد لا تعبر في بعض مجتمعات المنطقة عن عدم القدرة على الحصول على الشريك المناسب، بل إنها تعكس في بعض حالاتها بعداً من القيم الجديدة المتبناة من قبل قطاع متزايد من الشباب. كما إنها ربما تعبر عن حقيقة أن البعض بات بإمكانه إشباع جزء من حاجاته الاجتماعية والنفسية والجنسية خارج أطار مؤسسة الأسرة، في أشكال من العلاقات الجديدة التي باتت تتشكل في عدد من مجتمعاتنا.

ويمكن التكهن هنا أن زيادة استخدام وسائط الاتصال الجديدة، فضلاً عن الانتشار الكبير للمجمعات التجارية التي لا يمكن فيها فصل النساء عن الرجال قد أسقط الكثير من الموانع الاجتماعية المفروضة على علاقة الإناث بالذكور في مجتمعات المنطقة. فلم تعد العلاقة بين الجنسين تتم في الخفاء، أو أن تقوم على الخوف و«التواري»، بل أصبحت، بفعل التغيرات التي جاءت على المنطقة وضرورات التعليم والعمل والسفر وشيوع وسائط الاتصال المتنوعة، علاقة علنية.

– 3 –

لم يكن العنف سمة من السمات الشائعة عن مجتمعات الخليج العربي. وهي سمة لا يمكن نسبها أو حصر أسبابها في العمالة الأجنبية الغريبة ذات الرتب الوظيفية والاجتماعية المتدنية. لقد أصبحت ظاهرة عامة، لا يمكن قصرها على النزاعات الشخصية المؤدية إلى الموت، وبدت في بعض جوانبها عامة تكسو أنماط حياتنا الجديدة. فحوادث المرور المميتة، نتيجة للسياقة المتهورة، هي شكل من أشكال العنف، كما أن لغة التخاطب اليومية التي نسمعها بين الأفراد هي الأخرى تأخذ شكلاً من أشكال العنف في مفرداتها المنطوقة والمكتوبة، وكذلك انتشار ظاهرة التنمر والمشاغبة في المدارس والشوارع والحدائق والمجمعات التجارية هي الأخرى شكل من أشكال النزوع نحو العنف.

وتشير إحدى الدراسات الحديثة في الكويت، إلى أن هناك حالة من حالات الخلل الاجتماعي قد أصابت المجتمع الكويتي، وخصوصاً في السنوات التي أعقبت التحرير، دفعت نحو زيادة معدلات جرائم القتل وهتك العرض والاعتداء على الشرف ولا سيَّما بين الشباب، إذ يقدر أن معدل الجريمة ارتفع عن معدلاتها قبل الغزو بنحو 5.5 بالمئة، كما ارتفعت ظاهرة السرقة بنحو 9.3 بالمئة، ولا سيَّما سرقة المنازل والسيارات، وتزايدت معدلات الاحتيالات المالية وتزوير العقود والصكوك… وغيرها[7].

ورغم أن الإحصاءات الرسمية تشير إلى تراجع حجم الجريمة في المجتمع الكويتي في السنوات الخمس الأخيرة، إلى 012 من 14303 عام 2008 إلى 12196 عام 2012. إلا أن الجدول الرقم (2) يشير إلى أن هذا الانخفاض لم يمنع ارتفاعها في مجال تعاطي المخدرات والاتجار به وفي الجنايات العامة.

الجدول الرقم (2)

القضايا الواردة إلى النيابة العامة الكويتية

السنة

المخدراتالجناياتجنح تجارةجنح الأحداثجنح صحافةجنح شيكات

المجموع

2000

2657438323814095991354

14303

2012

471803312729303551135

12196

 

المصدر: الكتاب الإحصائي السنوي 2012 (الكويت: وزارة العدل، 2013).

وهي كلها جرائم قد لا تعبر فقط عن نزعة متزايدة عند البعض إلى الخروج عن الضوابط التقليدية والمحدثة الضابطة للسلوك، وإنما لحقيقة أن عمليات التحول قد أحدثت ضعفاً في المؤسسات التقليدية الضابطة لسلوك الأفراد، ونزوعاً عند البعض إلى الخروج عن الضوابط الأخرى الحديثة الحاكمة للسلوك. ومن الناحية الأخرى فإن فضاءاتنا الاجتماعية والثقافية المفتوحة قد أصبحت مجالاً خصباً لترويج العنف أو الدعوة إليه. فبعض هذا العنف بدا مقبولاً ومبرَّراً عند البعض نتيجة ارتباطه بالنزاعات الأهلية الدائرة في دول الجوار: في العراق وسورية. فانتشار صور قطع الرؤوس والجَلد، من قبل أفراد في «الإمارات الإسلامية» التي باتت منتشرة في العراق وسورية، على اليوتيوب قد جعل من القتل والعنف مبرراً دينياً ومقبولاً اجتماعياً. إن الخطورة التي لم نعِ بعد حجم خطورتها، بفعل عملية الاستقطاب المذهبي التي تعم مجتمعاتنا، تأتي من التبرير الشعبي للكثير من الأعمال الإرهابية كالعمليات الانتحارية وقطع الرؤوس التي تقوم بها بعض الجماعات السلفية الجهادية في الكثير من البلاد العربية.

– 4 –

أصبح الفضاء السيبرني الافتراضي المتفلت لدى فئة الشباب، والفئات العمرية الأخرى، مدخلاً للتعبير عن الذات والمطالب. وبات هذا الفضاء بفعل طبيعته الخاصة الخارجة عن الضبط، رغم ترسانة بعض الدول القانونية، أحد أهم مجالات التعبير وأحد مداخل الضغط، بل أنه قد أصبح مجالاً لإحداث التغيير في السياق الاجتماعي والسياسي القائم. وتعتبر منطقة الخليج أحد أكثر الأقاليم العربية استخداماً للإنترنت. وتشير بعض الدراسات إلى إلى أن 71 بالمئة من سكان المنطقة ممن هم في سن 15 سنة فما فوق أكثر استخداماً للإنترنت. وهذه النسبة ترتفع في قطر لتصل إلى 86.2 بالمئة وفي البحرين 77 بالمئة وفي دولة الكويت74 بالمئة وفي دولة الإمارات العربية المتحدة تصل إلى نحو 72 بالمئة، تليها سلطنة عمان بنسبة 69 بالمئة، والسعودية بنسبة 49 بالمئة[8].

ويعَد السوق السعودي من أكثر الأسواق العالمية التي تشهد صعوداً غير عادي في استخدام «التويتر»، إذ تشير إحدى الدراسات إلى أن الرياض وحدها تعتبر عاشر دولة في العالم من حيث دخولها النشط في استخدام «التويتر» حتى شهر تموز/يوليو من عام 2012، وأن البحرين كانت الأنشط قبل ذلك (في شهري شباط/فبراير وآذار/مارس من العام نفسه)، وأن 13 بالمئة من سكان الكويت لديهم حساب على خدمة «التويتر» مقابل 6 بالمئة في الحالة البحرينية حتى شباط/فبراير من عام 2012.

ويلاحظ أن حسابات التويتر باتت توظَّف لأغراض اجتماعية كما هي لأغراض سياسية ودينية. فمثلاً يقدر عدد المتابعين لحساب رجل الدين السعودي المثير للجدل محمد العريفي حتى نهاية عام 2012 بنحو 3.2 مليون في حين يقدر عدد متابعي الشيخ سلمان العودة بنحو 1.2 مليون[9].

الكثير من الدراسات أيضاً تشير إلى الانتشار الواسع في الاستخدام المتعدد للهواتف المتحركة. إذ تقدر الدراسات إلى أن هناك أكثر من 1.6 تلفون لكل فرد في منطقة الخليج حتى آب/أغسطس من عام 2012‏[10]. بل أصبحت الأجيال الجديدة من الهواتف الذكية وسيلة مهمة لإنجاز الكثير من المعاملات الشخصية والمؤسساتية، كما أصبحت وسيلة لخلق صداقات جديدة والتخطيط لأنشطة اجتماعية واقتصادية ووسيلة لبث الأخبار وشرائط الفيديو (اليوتيوب) أو تداولها، بل أصبحت وسيلة لتداول المحظور من الصور والأخبار والفيديوهات التي لا يمكن مشاهدتها من خلال الإعلام الرسمي.

وهي آلية باتت تخترق الفرد من الداخل ولا يمكن ضبطها أو السيطرة على ما يرد إليها بآليات الدولة التقليدية القائمة على المنع أو الحجب، بل لم يعد الآباء قادرين على ضبط أو معرفة ما يشاهده الأبناء وما يتداولونه، وهي أداة باتت تمتلك للأفراد لا العكس، أحد أهم مصادر التشكيل الجديد للأفراد في المنطقة. وهي بفعل سهولة اقتنائها واستخدامها ورخص أثمانها، فإنها تمثل الأداة الأكثر استخداماً بين الأفراد بعيداً من انتماءاتهم الطبقية والإثنية، ففعلها وتأثيرها لا يختلف من فرد لأخر أو من جماعة لأخرى. وباتت في الفترة الأخيرة تمثل إحدى الأدوات المهمة التي من خلالها يتم تجنيد الشباب في أوساط الحركات الجهادية المقاتلة في العراق وسورية. ويمكن القول إن الكثير من الشباب الذين تم تجنيدهم لما يسمى «الجهاد» في بلاد الشام والعراق من منطقة الخليج العربي كما هي بعض البلدان الأوروبية قد تمت من خلال الأجيال الجديدة من الهواتف الذكية ذات الاستخدامات الاجتماعية والتواصلية المختلفة.

خلاصة القول هنا هي أنه إذا ما استطاع النفط أن يحدث تغيرات مهمة في المنطقة على مدار العقود الستة التي تلت اكتشافه، فإن أدوات الاتصال الاجتماعي باتت قادرة على اختراق الأفراد من الداخل. فهي في ذلك تحدث تغيرات في الفرد على طريق إحداث تغيرات أكبر وأشمل في المجتمع. لقد أصبحت تقنيات الاتصال الجديدة قادرة على إحداث خلخلة في الأنساق القيمية والثقافية الحاكمة للسلوك بعيداً من أساسات المجتمع المادية، وهي بذلك قادرة على التأثير في اتجاهات الأفراد ورؤاهم الاجتماعية والسياسية. وهي باتت أداة مهمة في نشر الأخبار والمعلومات والإشاعة والتحريض ولربما التحريض المضاد. بمعنى آخر، إن طبيعة التغيرات التي تحدث والتي يمكن أن تحدث في المرحلة المعلوماتية تؤكد حقيقة أن التحولات الثقافية باتت تحدث بعيداً من أساسات الوجود المادي[11]. أي أن الوعي الاجتماعي لم يعد انعكاساً لما يسمى بالوجود الاجتماعي. فالاستخدام الجديد للهواتف المتنقلة في مجال التويتر والفيس بوك والواتس آب، قد أصبح في الخليج كما هي في الكثير من المجتمعات العربية مدخلاً مهماً للمعلومات غير الرسمية بعيداً من قدرة الدولة على ضبطها أو منعها. وهي أداة وإن لم توظف سياسياً فإن تأثيراتها باتت كبيرة على علاقة الدولة بالمجتمع. إلا أن ما يجب الإشارة إليه أن هذه الأداة هي متاحة أيضاً للحكومات ومؤسساتها المختلفة وإن جاء توظيفها متأخراً عن المجتمع. وهي توظفها بالصورة التي تعزز استمرارية تأثيرها في الرأي العام. وهي هنا قد توظف مواقع وحسابات معلنة ومعروفة كما هي قد توظف حسابات عبر أشخاص وهيئات غير معروفة أو معلنة. ونتيجة للتأثير الذي باتت تحدثه هذه الأداة فإن الكثير من الدول باتت تمنع أو تحجب بعض هذه الاستخدامات أو تضيق على استخدامها للحد من قدرة الأفراد والجماعات على التواصل فيما بينهم كما حدث في إيران وتركيا ومصر… وغيرها. أي أن هيمنتها على المجال العام يعطيها القدرة على المنع، أو التضييق على بعض الاستخدامات، من دون أن يتيح لها ضبط المتداول من صور وأخبار ومعلومات.

وبفعل الانتشار الواسع لتقنيات التواصل الاجتماعي فإن البلدان العربية لم تعد قادرة على «احتكار الحقيقة». لقد بات هذا المجال فضاء للصراع بين ما يسمى بالفاعلين في إطار الدولة والفاعلين من خارجها (Non-state Actors) للسيطرة على الفضاء العام، من خلال أولاً السيطرة على كم ونوع المعلومات المتدفقة للمجتمع من خلال هذه الوسائط، وثانياً من خلال الحضور الكثيف في هذه الوسائط. إن أحد أهم الأسباب التي تعطي الفاعلين من خارج الدولة القوة والتأثير في المجال العام هو تآكل هياكل الدولة وفشلها في تحقيق أي تحديث ذي جدوى، وفي الإدماج السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ونزوعها نحو الاستئثار بالقوة ومصادرها في المجتمع.

بشكل عام، إن وعينا الثقافي بات مشكلاً من قبل شبكة من العلاقات والتقنيات التي باتت مخترقة لكل الجماعات والطبقات بعيداً من أصولها الإثنية أو مواقعها الطبقية أو أصولها القبلية. وهي في هذا تحدث الأثر أو نقيضه، سواء أكان ذلك على مستوى الفرد أم الجماعة أم المجتمع. بتعبير آخر، إن وعينا الاجتماعي بات يتشكل بعيداً من وجودنا الاجتماعي، كما باتت سياقاتنا الثقافية تتشكل بفعل متغيرات وظروف زمانية مستقلة عن ظرفها المكاني.

لقد ساهمت الوفرة الاقتصادية والطبيعة الاستهلاكية لمجتمعات المنطقة، إضافة إلى ارتفاع معدلات الدخل وسهولة اقتناء وسائط الاتصال المختلفة، في أن تكون منطقة الخليج العربي الأعلى من حيث معدلات استخدامات الفرد لوسائط الاتصال الحديثة في المنطقة العربية.

لقد مثل الوسيط السيبرني أداة مهمة، ربما ليس في سقوط التابوهات العربية الثلاثة، لكنها ساهمت في إحداث خلخلة مهمة فيها. لقد أتاح هذا الوسيط الجديد للأفراد التعبير عن مواقفهم وهمومهم السياسية، وهي حالة لم يكن متاحاً التعبير عنها في الوسائط الإعلامية التقليدية كالصحافة والإذاعة والتلفزيون. بل إنه بات فضاء يُسمعك أحياناً نقداً لاذعاً لم تعتدْ سماعه لأشخاص أو ممارسات في الدولة والمجتمع أو فضح بعض ممارسات الأشخاص من ذوي النفوذ في داخل الدولة والمجتمع. لقد أصبح هذا الفضاء أداة ضغط مهمة على الفاعلين السياسيين التقليديين، واستطاع أن يكسر حاجز المنع في علاقة الذكور بالإناث في بعض مجتمعات المنطقة. وأصبحت المجمعات التجارية الكبيرة (المول) أمكنة للتعارف والالتقاء. كما أن ما كان ممنوعاً قوله أو البوح به كمواقف واتجاهات أو خواطر في السياسة والدين في العلن قد أصبح ممكنا في الفضاء السيبرني الجديد. واتسعت ظاهرة إدانة أشخاص في قضايا المس بالذات الإلهية أو المس بالشخصيات الدينية والإسلامية – التاريخية وبقيادات سياسية أو دينية كثيرة في المنطقة وتحديداً بين فئة الشباب.

إن الفضاء السيبرني الرسمي، وتحديداً في ما يتعلق بالمحطات التلفزيونية الفضائية، بالإضافة إلى وسائط التواصل الاجتماعي كالواتس آب والتويتر، قد وُظف في عمليات الشحن الديني والطائفي والشحن المضاد، وهو شحن كان من نتيجته هذا الانخراط الكبير للشباب الخليجي في الصراعات الأهلية الدائرة في العراق وسورية. ورغم أنه لا توجد إحصاءات رسمية عن حجم انخراط شباب الخليج في تلك الصراعات، إلا أن التقديرات تشير إلى أن الانخراط بات بالمئات، وربما يكون تخطى حاجز الألف، وأن حجم الضحايا في أوساطه بات مقلقاً، ما دفع السعودية والبحرين، لأن تجرِّما هذا الانخراط وتعاقبا عليه. وهذا الانخراط ساهمت فيه دعوات من مؤسسات دينية ذات صبغة رسمية ومن دعاة في فضائيات ومؤسسات تعمل من داخل مجتمعاتنا، بالتغاضي أحياناً وربما بمباركة رسمية، لم تدرك حجم تداعياته على نسيجنا الاجتماعي الذي أصبح مُستقطباً ومتأثراً بشكل خطير بالصراعات الأهلية ذات البعد الطائفي في العراق وسورية. كما أن هذا الانخراط جاءت تداعياته الاجتماعية متمثلة بحالة الاستقطاب المذهبي القائم في المنطقة كما يحمل في طياته تبعات سياسية واجتماعية غير منظورة على صعيدي الدولة المجتمع. وهي تبعات سبق أن حصدتها بعض بلداننا في مرحلة سابقة وفي صراعات أخذت هذا البعد «الجهادي» فيها. فعودة ما سمي حينها «الأفغان العرب» أصابت مصر والمغرب والجزائر واليمن والسعودية. وكانت وطأتها شديدة على المجتمع الجزائري الذي عانى كثيراً الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي أصابته بحالة الانقسام الداخلي والوهن المؤسساتي والضعف الاقتصادي. إنها صراعات سياسية، وإن وُسمت بأبعاد دينية أو مذهبية. وهي حروب تأتي مصاحباتها على الدول المنخرطة في شكل: أولاً، تنامي التيارات الدينية المتشددة والدافعة نحو مزيد من التضييق في الحياة العامة وفي المعاملات اليومية. وثانياً، إحداث استقطابات تأخذ بعداً طائفياً حاداً في المجتمع مصحوباً بعنف مميت كما في الحالات العراقية والسورية والباكستانية. وثالثاً، عنف منظم ينال من قوة الدولة ويُعسكرها كما في حالتي باكستان والجزائر. ويضعف من حيادية الدولة ويجعلها طرفاً في الصراعات الطائفية والاثنية في المجتمع كما ويُضعف من قدرتها على أداء أدوارها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحتى أداورها ووظيفتها الأمنية، وقد تصبح نتيجة لذلك منفلته من ضوابطها القانونية والأخلاقية.

إن التوظيف غير الرشيد للدين ليس من قبل الجماعات الإسلاموية فحسب، وإنما قد يأتي ذلك أحياناً من أشخاص من داخل السياق الرسمي، يؤثر في هيكل الدولة وقدرتها على إدارة المجتمع، كما أنه قد يحدث خللاً في علاقة الدولة بالمجتمع أو في علاقة المجتمع بالمجتمع.

ومرة أخرى، فإن الشبكات الاجتماعية الجديدة باتت وفق تفسير كاستلز تمثل المورفولوجيا الاجتماعية الجديدة في المجتمعات الجديدة. فرغم استمرار الأشكال القديمة من التنظيمات والشبكات الاجتماعية ومقاومة بعضها لقوى التغيير، إلا أن الجديد هو أن التكنولوجيا المعلوماتية الجديدة، بل الأجيال الجديدة منها باتت توفر قاعدة مادية كبيرة مؤثرة وكاسحة لأبنيتنا الاجتماعية. فقوة تدفق المعلومات – بل العجز في كبح جماح تدفقها وانتشارها – قد أصبح سابقاً – كما يقول كاستلز – على تدفق القوة. والمرحلة التي بتنا فيها، أو ما يسمى بالعصر السيبرني، قد أحدثت تحولات مهمة في علاقات النوع الاجتماعي، كما ساهمت في تأسيس جديد للهوية وفق أسس ومكونات جديدة. وأفرزت حركات من التمرد الاجتماعي تأخذ أحياناً أشكالاً وأنماطاً من السلوك صارخة وأحياناً مستفزة لمنظومة المجتمع الأخلاقية التقليدية. فنزوع البعض مثلاً نحو التعري في الأماكن العامة في بعض المجتمعات الغربية أو عبر اليوتيوب لم يعد شكلاً من أشكال التمرد والاعتراض، بل إنه غدا يمثل بالنسبة للبعض طريقة صارخة لإعلان الانقلاب على ما هو سائد من منظومات قيمية وأخلاقية كانت تمثل عند البعض منظومات متعارضة بل نافية للعصر المعلوماتي[12].

هذه الحالة أدخلت بعض مجتمعاتنا في حالة من التحولات السياسية المربكة، أو أنها أدخلت الدولة في قدر من الأزمة في علاقتها بمجتمعها كما هو في قدرة هياكلها التقليدية القائمة على التكيف مع العصر المعلوماتي وتحولاته، أو في قدرتها على ابتداع الحلول لأزماتها الداخلية وفي علاقاتها الخارجية متجاوزة في ذلك لأشكال سياساتها التقليدية السابقة.

– 5 –

لقد أحدثت السنوات العشرون، أو الخمسة والعشرون، الفائتة تحولات قيمية مهمة على صعيد مجتمعات المنطقة ولا سيَّما على صعيد الجيل الجديد من حيث تطلعاته وفي علاقته بنفسه والآخرين. وهي تحولات لم تصب مواطني هذه الدول فحسب، وإنما أصابت كذلك الجيل الثاني من العمالة المهاجرة: العربية منها والأجنبية. وأصابت مركب الهوية الذي باتت تشكله متغيرات جديدة مشتركة بين الأجيال الجديدة من ساكني هذه المجتمعات. أي أن السياقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية الجديدة في دول الاستقبال صارت تشكل عناصر هوياتية مشتركة في أوساط الأجيال الجديدة من مواطني هذه الدول كما هو الجيل الثاني – ولربما الثالث – من المهاجرين العرب والأجانب؛ لا بل إن الأجيال الجديدة من المهاجرين العرب والأجانب باتوا أكثر التصاقاً بمجتمعات الاستقبال منها بمجتمعات المنشأ. أي أن السياقات الجديدة الاقتصادية والتقنية الجديدة مثلت عناصر مهمة في التشكيل الهوياتي للأفراد في المنطقة[13].

ورغم أن بعض هذه الفئات يعيش قدراً من العزلة الاجتماعية من حيث مناطق سكناهم، إلا أن أبناء الطبقات الوسطى والعليا منهم أضحى يذهب للمدارس ذاتها ويشترك في الأنشطة الاجتماعية والترفيهية عينها، ويتداول من خلال وسائط الاتصال الاجتماعي الجديدة ثقافة معلوماتية جديدة تبدو متطابقة.

– 6 –

في الختام، إن المنطقة خاضعة لتحولات اجتماعية وأخرى ثقافية كبيرة. ستختفي منها أنماط من السلوك والمشكلات وتبرز أخرى. كما أن جماعاته المؤثرة هي بدورها مهيأة للضعف والخروج من دائرة التأثير لمصلحة أخرى. إن التحدي الذي يفرضه علينا هذا التحول يتطلب أن نخطو خطوات مهمة لدخول مجتمعاتنا العصر الجديد، ليس من حيث اتساع التمتع باستهلاك منتجاته، وإنما من حيث الأخذ بمعاييره وأنماط مؤسساته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

إن هذه التحديات لا يمكن حلها بالذهاب نحو أشكال من الصراعات التي تأخذ بعداً إثنياً أو دينياً أو قبلياً؛ كما لا يمكن حلها بافتعال الصراع مع الخارج أو لومه لبعض إخفاقات الداخل. إن حل معضلاتنا لا يكون إلا من خلال الأخذ بأسباب العصر في الـبناء المؤسسي لتحقيق أسباب النهوض الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وهو نهوض لا يمكن تحقيقه بمسك جانب منه دون الآخر، لأن عمليات التحول، هي في حقيقتها، ستصيب المجتمع بكل قطاعاته ومؤسساته وجماعاته.