مر قرن من الزمان على أطول حرب ضد شعب أعزل، قرن أدى إلى تدمير فلسطين مكاناً ومعنى، وتشتيت شعبها، والاستيلاء على أرضها وممتلكات أهلها.
هذه الحرب، هي نتاج أكبر خيانة بريطانية وأطول عدوان صهيوني ضد البشر والحجر، وكلاهما لا يزال مستمراً إلى يومنا هذا. فقد خلق تصريح بلفور آخر مشروع استعماري استيطاني هو الوحيد في العالم اليوم. وهو الصورة القبيحة من التعهد البريطاني لإقامة حكومة ديمقراطية في فلسطين لأهلها، بموجب ما سمي «العهد المقدس للحضارة» كما جاء في ميثاق عصبة الأمم.
بموجب هذا الميثاق أعطيت بريطانيا أمانة الانتداب فئة (أ) على فلسطين والعراق، اعترافاً بحقهما في الاستقلال. استقل العراق، وسلمت بريطانيا فلسطين للمستعمرين اليهود الأوروبيين.
خيانة بلفور سبقها بعام خيانة البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو، إذ بينما كانت طائرات الحلفاء تُسقط منشورات على العرب تعدهم فيها بالاستقلال، إذا حاربوا العثمانيين، كان المذكوران يجلسان في غرفة وأمامهما خريطة المشرق العربي، ويتجادلان في طريقة تقسيمه بينهما.
تصريح بلفور أمر يمكن تجاهله كعشرات التصريحات السياسية، لولا أنه وُضع موضع التنفيذ مباشرة على أرض الواقع. اختارت بريطانيا يهودياً صهيونياً ليكون المندوب السامي لفلسطين؛ ظاهر مهمته إقامة دولة فلسطينية مستقلة وباطنها تحويل فلسطين إلى مستعمرة صهيونية.
خلال خمس سنوات من حكمه (1920 – 1925)، أسس المندوب السامي هربرت صمويل قواعد إنشاء إسرائيل؛ أولها إصدار قوانين لجعل اللغة العبرية الميتة لغة رسمية، وإنشاء مجلس نيابي لليهود، وإنشاء نواة حكومة منفصلة لليهود تشمل التعليم والبنوك والأشغال والمياه والطاقة، ولكن أخطرها إنشاء نواة جيش باسم حراس المستعمرات التي أصبحت الهاغاناه في ما بعد.
وإذا كنا اليوم نعرف ما هو الفصل العنصرى (الأبارتهايد)، فإن صمويل خلق إسرائيل الأبارتهايد في عشرينيات القرن الماضي.
وفي منتصف الثلاثينيات بلغت الهجرة اليهودية الأوروبية حداً خطيراً وصل إلى 30 بالمئة من مجموع السكان.
وهذا أدى إلى ثورة 1936 – 1939، أطول ثورة في التاريخ العربي، احتجاجاً على طوفان المستعمرين اليهود.
وبدلاً من أن تفهم بريطانيا خطورة الوضع، قمعت الثورة الفلسطينية بقوة السلاح؛ فدمرت القرى بقنابل الطائرات، وقتلت أكثر من خمسة آلاف مدني، وجرحت خمسة عشر ألفاً، وسجنت منهم العدد نفسه، وحلت الأحزاب، وسجنت أو أبعدت قادتها، وطبقت نظام العقاب الجماعي.
وبذلك دمرت المجتمع الفلسطيني الذي ما عاد قادراً على الدفاع عن نفسه.
انتهزت الصهيونية هذه الفرصة وانقضّت بعد الحرب العالمية الثانية على فلسطين، واحتلت 220 قرية أصبح أهلها لاجئين يمثلون نصف عدد اللاجئين اليوم، وذلك أثناء وجود الانتداب البريطاني. لم تتحرك بريطانيا لإنقاذ فلسطين كما يملي عليها واجبها، بل إنها لم تتدخل لإنقاذ أهلها من 15 مذبحة اقترفتها القوات الصهيونية، ومنها مذبحة دير ياسين على مرمى حجر من مكتب المندوب السامي.
أكثر من ذلك، ساهم الجيش البريطاني في تشريد فلسطينيين من طبرية بنقلهم في سيارات، وكان له دور كبير في إفراغ حيفا من أهلها العرب. وبحسب دفاتر الإشارة اللاسلكية للجيش البريطاني الموجودة لدينا، كان الجيش البريطاني يرفض مساعدة الفلسطينيين إذا هاجمهم اليهود، بل كان يسارع إلى مساعدة اليهود إذا استغاثوا به. استفادت إسرائيل كثيراً من الخبرات البريطانية من حيث التدريب والسلاح وفنون الحرب، وكذلك طورت وسائل العقاب الجماعي، وتدمير القرى، والاستيلاء على الأملاك.
وخلال سبعة عقود تلت، لم تتوقف بريطانيا عن جرائمها منذ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ومؤازرتها لإسرائيل أثناء عدوان 1967 وتصويتها في الأمم المتحدة ضد الحقوق الفلسطينية.
ولا تزال بريطانيا متمسكة بسجلها المخزي، إذ أعلنت تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، أنها ستحتفل بمئوية تصريح بلفور «بكل فخر». هذا على الرغم من أن قطاعات كبيرة من الشعب البريطاني ترفض تصريح بلفور وما نتج منه.
إن الشعب الفلسطيني يطالب بريطانيا لا بالاعتذار عن هذه الجريمة فحسب، بل يطالبه بالتعويض المادي والمعنوي عنها، بما في ذلك تغيير سياساتها لتعيد الحق إلى أهله. ويدعو، كما دعت مجموعات شعبية كثيرة، إلى مطالبة بريطانيا بالتكفير عن جرائمها.
وفي نهاية المطاف، لا بد للشعب الفلسطيني من أن يستمر في كفاحه ضد المستعمر القديم والجديد، ومعه الأمة العربية والإسلامية وشرفاء العالم.
أما الغائب الأكبر في هذا الميدان فهو الأنظمة العربية في زمن الهوان.
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 465.
(**) سلمان أبو ستَّـة: رئيس الهيئة العامة للمؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج.
البريد الإلكتروني: info@plands.org
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.