تركت ثورة تموز/يوليو 1952 بصمة تاريخية لا تُمحى، لا على أرض مصر فحسب، وإنما على امتداد الوطن العربي؛ بل وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية أيضاً. ولم يكن هذا راجعاً إلا لكون تلك الثورة قد جسدت آمال شعب مصر العربي وطموحاته إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي الآمال والطموحات نفسها التي كشف عنها النضال الوطني لكل شعب عربي ولكل الشعوب التي خضعت للهيمنة الاستعمارية وظلم النظم التابعة لقوى الاستعمار أو على الأقل العاجزة عن مواجهتها، فضـلاً عن أن الله سبحانه وتعالى قد حبا الثورة بقيادة كاريزمية واعية وصلبة ذات نزعة استقلالية صارمة وتوجه عروبي أصيل على النحو الذي أحاط تلك القيادة بحب الجماهير ودعمها وجعلها سلاحاً حقيقياً بيدها في كثير من المعارك التي خاضتها ناهيك بنزاهتها المطلقة على النحو الذي جعل أعتى خصوم جمال عبد الناصر يقولون إنه كان نظيفاً إلى حد اللعنة.
أمضت الثورة سنواتها الأولى (1952 – 1954) في ترتيب البيت المصري من الداخل بالقضاء على الإقطاع ونفوذه السياسي وإلغاء الأحزاب السياسية المتهرئة والنظام الملكي الفاسد، ومواجهة القوى التي حاولت الاستيلاء على الثورة كالإخوان المسلمين، وحل الخلافات داخل مجلس قيادة الثورة وتحقيق الجلاء التام للقوات البريطانية عن مصر. وبمجرد الانتهاء من المهمات الداخلية الضرورية كشفت الثورة عن وجهها الاستقلالي العروبي فدعمت حركات التحرر العربي في كل مكان. وبرزت معركة تحرير الجزائر (1954 – 1962) وجنوب اليمن (1963 – 1967) كأبرز معركتين تاريخيتين في هذا الصدد بنجاحهما في تحرير كلٍ من الجزائر وجنوب اليمن في سنوات قليلة من استعمار دام نحو قرن وثلث القرن. وتبدو أصالة الثورة من عدم توقفها عند تحقيق الاستقلال السياسي، وإنما أصرت على أن يكون استقلالاً حقيقياً بمواجهتها أساليب الاستعمار الجديد كافة، فتنبهت لمحاولات قوى الهيمنة الغربية استتباع الوطن العربي بإلحاقه بمنظومة الأحلاف الغربية التي بُنيت لتلبية هواجس هذه القوى من انتشار الشيوعية عقب بروز الاتحاد السوڤياتي كقوة عظمى بعد انتصاره الكاسح في الحرب وما ترتب على ذلك من إقامة نظم موالية له في شرق أوروبا. وهكذا خاضت الثورة بمساندة فاعلة من الجماهير العربية معركة «حلف بغداد» في منتصف خمسينيات القرن الماضي وانتصرت فيها، ثم واجهت ومعها الأمة العربية جمعاء العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي على مصر وهزمته بعد أن تصورت قوى الهيمنة الاستعمارية أن هذا العدوان سوف يضع نهاية قاطعة ومُذِلة للسياسة الاستقلالية الصارمة للثورة، التي بلغت أوجها بكسر احتكار الغرب توريد السلاح إلى المنطقة عام 1955 وتأميم شركة قناة السويس عام 1956. ولقي مشروع الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور لملء «فراغ» الشرق الأوسط المصير نفسه الذي لقيه «حلف بغداد».
ولأن قائد الثورة كان يمتلك رؤية عربية واضحة جعلته ينحاز إلى أهداف الأمة العربية، ولأنه كان رجل أفعال لا أقوال، ولأن أعماله أكسبته ثقة الجماهير العربية ونخبها السياسية وحبها، فقد كان منطقياً وطبيعياً أن يتجاوز الدور العربي للثورة مهمة التحرر الوطني والقومي إلى الوحدة العربية التي بدأت خطواتها بالتلاحم النضالي بين الشعبين المصري والسوري عبر معارك العدوان الثلاثي والدعم العسكري المصري لسورية في مواجهة تهديدات تركيا الأطلسية وتحرشاتها (1957)، وصولاً إلى إعلان الوحدة بين مصر وسورية في شباط/فبراير 1958، وهي الوحدة التي تكالب عليها خصومها الخارجيون من العرب والقوى الإقليمية والعالمية التي تضررت مصالحها من الوحدة، إضافة إلى بعض أخطاء داخلية في التطبيق فضـلاً، عن عدم ملاءمة صيغة الوحدة الاندماجية لحقيقة التنوع بين الأقطار. وهكذا لم تُكمل التجربة الوحدوية بين مصر وسورية السنوات الأربع عمراً، وإن كانت قد زودت النضال الوحدوي العربي بدروس غالية على رأسها أن الوحدة ممكنة، وأن الصيغة الفدرالية أنسب لها من الصيغة الاندماجية، وأن الأمن القومي العربي أحوج ما يكون إليها، كما أظهرت معركة التوافيق الشهيرة مع دولة الكيان الصهيوني عام 1960، وأن حماية الوحدة وإن تطلبت بالضرورة سلامة بنيتها الداخلية لا يمكن أن تكتمل إلا بالتحسب لمواجهة خصومها الخارجيين من النظم العربية والقوى الإقليمية والعالمية المعادية.
امتد نضال ثورة تموز/يوليو إلى القارة الأفريقية؛ وكان جمال عبد الناصر في فلسفة الثورة قد شدّد أصـلاً على أن مصر لا يمكن أن تعزل نفسها عن المعركة ضد الاستعمار في القارة، وكما دعم معارك التحرر العربية بلا قيد أو شرط فعل الأمر نفسه مع حركات التحرر الأفريقية التي احتضنتها مصر واستضافت قياداتها المطاردة من الاستعمار وقدمت إليها أوجه الدعم الممكنة كافة، الأمر الذي وضع مصر على رأس حركة التحرر الأفريقية وأكسبها مكانة راسخة في القارة ما زالت تحصد عوائدها حتى اليوم، وأسس لرابطة راسخة بين النضالين العربي والأفريقي. وقد مثل هذا كله إلهاماً لنضال الشعوب الساعية إلى الحرية في آسيا وأمريكا اللاتينية. وكان طبيعياً بعد ذلك كله أن يكون للثورة دورها العالمي في حركة تضامن الشعوب الآسيوية – الأفريقية ثم في تأسيس حركة عدم الانحياز وقيادتها التي اكتسبت طابعها العالمي من الدول الثلاث المؤسِسة لها: مصر والهند ويوغسلاڤيا؛ وقدمت مخرجاً حقيقياً لشعوب العالم الثالث من الاستقطاب العالمي الرأسمالي – الشيوعي.
وهكذا تركت ثورة تموز/يوليو 1952 بالفعل بصمتها القوية الواضحة التي لا يمكن أن تُمحى في تاريخ مصر والوطن العربي وأفريقيا ونضال شعوب العالم الثالث بأسره، ومن ثم في تاريخ العلاقات الدولية. لذلك لا تزال هذه الثورة حاضرة إلى اليوم في ذاكرة كل من انتصرت الثورة لمبادئه وحقوقه المشروعة وقضاياه العادلة. غير أن بصمة الثورة أوضح ما تكون لدى خصومها؛ ففي العام المقبل يكون قد مر نصف قرن على رحيل زعيمها، ولأن أحداً من خصومه الداخليين والخارجيين لم يمكنه أن يشكك في نزاهته فإن معاول الهدم تحاول بلا جدوى منذ رحيله تشويه الثورة وتقويض إنجازاتها، غير أن كل يوم يمر يؤكد سلامة خيارتها ومنطلقاتها وسياساتها، ولم تترك الحملة المعادية للثورة وزعيمها شيئاً من هذه الخيارات والمنطلقات والسياسات إلا وشملته بمحاولاتها، فجمال عبد الناصر هو ذلك الحاكم الدكتاتور الذي استخف بحقوق الإنسان وأقام نظاماً استبدادياً عصف بخصومه السياسيين وروّع مواطنيه بسبب القبضة الحقيقية للأجهزة الأمنية لهذا النظام، وهو الذي أفسد التعلىم بجعله مجانياً للجميع، وهو الذي ضيّع موارد مصر في تجربة تنموية فاشلة ومحاولته السعي لبناء إمبراطورية تحقق طموحاته الشخصية، وهو الذي اصطدم بالقوى الكبرى والعظمى من دون مبرر فجلب الخراب لوطنه وأمته، وهو، أخيراً وليس آخراً، الذي انتهي حكمه وقد أنزلت إسرائيل به وبسورية والأردن هزيمة ساحقة أفضت إلى احتلال سيناء المصرية والجولان السورية والضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة وهما كل ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية.
لا توجد ثورة بلا أخطاء، لكن ثمة فارقاً هائـلاً بين نقد الثورة وهدمها، فالنقد يسعى لمواصلة البناء بالإفادة من الأخطاء. والهدم لا يجد لنفسه هدفاً سوى تقويض الثورة وتصفيتها، ولم يدَّعِ عبد الناصر يوماً أنه صاحب تجربة ليبرالية وإنما ركز في نضاله على المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية. لا يعني هذا أي دفاع عن انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في حق خصوم الثورة السياسيين، ولكن الموضوعية تقتضي الاعتراف بأن إنجازات عبد الناصر وثورته في مجالَي التنمية والعدالة الاجتماعية قد بنت الأساس الذي لا يمكن من دونه الحديث عن ديمقراطية سياسية حقيقية. وإذا كان هذا لم يحدث حتى الآن في مصر والوطن العربي رغم ادعاءات احترام الديمقراطية فهذا ليس ذنب ثورة تموز/يوليو. ومن المخجل أن بعض المغالين في نقد هذه الثورة وممارساتها «الدكتاتورية» يغمضون أعينهم تماماً عن ممارسات مطابقة في بلدانهم بل ويمعنون كثيراً في امتداحها كنموذج للديمقراطية، أما الانتقادات المتعلقة بالتجربة الاقتصادية والاجتماعية للثورة فعلى أصحابها الرجوع إلى تقارير الأمم المتحدة التي لا شك في أنها غير منحازة للثورة، وعليهم أيضاً تَذَكر الطفرة الصناعية والزراعية التي تمت والمشروعات العملاقة التي أُنجزت، كالسد العالي، كي يدركوا قيمة هذه التجربة من دون إنكار الاختناقات التي تعرضت لها بحكم الحصار الخارجي الذي فرضته قوى الهيمنة الغربية، وتبقى الانتقادات المتعلقة بتوجهات الثورة الاجتماعية كقراراتها المتعلقة بالعدالة الاجتماعية مسألة خيار للانحياز لمصالح الجماهير الواسعة على حساب القلة المستغِلة، وكما أن هذه القرارات قد أكسبت الثورة خصومها فمن دون قرارات كهذه ما كانت الثورة لتتمتع بما حظيت به من مساندة شعبية بلا حدود، أما الاتهامات الخاصة بإفساد التعليم بسبب مجانيته فهي لا تستحق الرد، أولاً لأنها بدورها مسألة انحياز اجتماعي لقوى الأغلبية الشعبية، وثانياً لأن ثورة تموز/يوليو لم تبتدعها، إذ يعود الفضل فيها للحكومة الوفدية قبل الثورة، وكل ما فعلته أنها مدت مظلة المجانية للتعليم العالي، وأخيراً فإن التعليم لم يبدأ في التدهور إلا بعد أن تم الانقلاب على سياسات الثورة بعد وفاة زعيمها.
لا شك أن هزيمة عام 1967 قد مثلت نكسة هائلة للثورة عكست خلـلاً بنيوياً فيها؛ لكن هذه الهزيمة لا تلغي أولاً إنجازات معارك التحرر من الاستعمار في الوطن العربي، كما أنها نجمت ثانياً، إضافة إلى هذا الخلل البنيوي، عن تآمر واضح من قوى الهيمنة الغربية الداعمة لإسرائيل، غير أن الأهم من ذلك كله أن الهزيمة لم تفقد الجماهير المصرية والعربية ثقتها بالثورة وزعيمها، فكان تحركها غير المسبوق في التاسع والعاشر من حزيران/يونيو الذي جدد الثقة في الزعيم ومكّنه من الشروع الفوري في إعادة البناء العسكري والسياسي على النحو الذي مثّل ملحمة نضالية جديدة في تاريخ الثورة يعدّها بعض أنصارها أفضل سنواتها لما تجسد فيها من قدرة فائقة على التصدي لإسرائيل التي كان غرورها قد بلغ ذروته فتلقت منذ الشهر الأول عقب النصر الكاسح الذي حققته في عدوان 1967 ضربات نوعية موجعة؛ بدأت بالفشل في معركة «رأس العش» واستمرت في إغارات الطيران المصري على المواقع الإسرائيلية في سيناء، ثم إغراق المدمرة «إيلات» أمام شواطئ بور سعيد وإنهاك القوات الإسرائيلية المتصاعد بضربات المدفعية الثقيلة وعمليات العبور الجزئية والعمليات الخاصة النوعية، وفي القمة منها العمليتان الخارقتان للضفادع البشرية المصرية في ميناء «إيلات»؛ ويجمع المحللون العسكريون المنصفون على أن «حرب الاستنزاف» هذه تُعَد بذاتها جولة مستقلة في الحروب العربية مع الكيان الإسرائيلي، والأهم أنها كانت المقدمة الطبيعية لإنجاز تشرين الأول/أكتوبر 1973 العظيم الذي تجسَّد فيه مفهوم الأمن القومي العربي بأسمى معانيه.
تمر الأمة العربية في السنوات الأخيرة، وبالذات منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وتداعياته على العراق والأمة العربية جمعاء والتداعيات السلبية التي ترتبت على المحاولات المشروعة للتغيير في الوطن العربي منذ مطلع هذا العقد وحتي الآن، بمرحلة هي من أخطر ما مرت به هذه الأمة في تاريخها المعاصر من مراحل وأشدها ظُلْمَة، ذلك بأن التداعيات السلبية للغزو الأمريكي للعراق قد امتدت إلى خارجه، بحيث انتشر الاحتقان الطائفي وتفاقم في بلدان عربية عزيزة ومتعددة، وأضافت موجات «الربيع العربي» وما آلت إليه بصمتها على هذه الأوضاع فنشبت الصراعات الداخلية في أكثر من بلد عربي مهم، وهو ما أدى إلى تهديد كيان الدولة الوطنية العربية بحيث حل الحفاظ على هذا الكيان محل هدف الوحدة العربية بعدما كان جيل من الرومانسيين القوميين يرون أن هذه الدولة عقبة كأداء في سبيل تحقيق الوحدة العربية فإذا بنا في الوقت الراهن نحاول ونسعى بكل السبل ونضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا دولنا الوطنية مهما كانت ملاحظاتنا على نظمها الحاكمة، لأن البديل يبدو مخيفاً ومفاقماً لكل ما يواجهنا في هذه اللحظة من تحديات؛ ومن ناحية ثانية فإن المخططات تُرسَم والمؤامرات تحاك من أجل تصفية القضية الفلسطينية وحرف الأمة العربية عن المصدر الرئيسي لتهديد أمنها القومي، وتتجلي هذه المخططات والمؤامرات كأوضح ما تكون في السياسة الأمريكية الفجة المفرطة الانحياز لإسرائيل أكثر من أي وقت مضى، وطرحها السخيف للأفكار الأكثر سخافة المسماة صفقة القرن ومحاولاتها، الفاشلة إن شاء الله، لتأسيس ما يُسمى الناتو العربي ضد إيران، وفي هذه الظروف الحالكة الظُلْمَة تبدو ثوابت ثورة تموز/يوليو 1952 وسياساتها كما البدر الذي نهفو إليه ونشتاق في الليلة الظلماء رغم أنف أعداء الأمة.
اضغطوا للحصول على المجموعة الكاملة لخطب وأحاديث وتصريحات جمال عبد الناصر: الجزء الأول: 1952 – 1954: بناء الثورة في مصر
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 485 في تموز/يوليو 2019.
(**) أحمد يوسف أحمد: أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، ورئيس اللجنة التنفيذية في مركز دراسات الوحدة العربية.
أحمد يوسف أحمد
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، ورئيس اللجنة التنفيذية في مركز دراسات الوحدة العربية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.