مقدمة:

عرفت العلاقات الصينية – الأفريقية خلال العقدين الأخيرين تطورات كبيرة، عمت المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، فحجم هذه العلاقات وطبيعتها ومجالاتها قد تغيرت إلى حد كبير منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، ولعل الشاهد الأساسي على ذلك يتمثل بسن السلطات الصينية مع منتصف العقد الماضي «سياسة أفريقية جديدة»، لم يكن الغرض منها فقط الاستجابة لحاجاتها الاقتصادية المباشرة والمتزايدة، بل لمواكبة الصعود الصيني المتسارع على الساحة الدولية أيضاً، وإعطائه وزناً اقتصادياً ونفوذاً جيوستراتيجياً‏[1]. لذلك توالت الزيارات والاتصالات الدبلوماسية بين القادة الصينيين وقادة عدد كبير من الدول الأفريقية، نتج منها إبرام اتفاقيات تجارية، وعقود عمل لإنجاز أشغال كبرى في مجال البنى التحتية، حتى غدت الصين الشريك التجاري الأول للقارة منذ عام 2013، متجاوزة كـلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.

تأمل هذه الدراسة مقاربة أبعاد ومظاهر وأهداف استراتيجية الوجود الصيني في أفريقيا، مع توضيح آلياتها ووسائلها، وما مدى تأثيرها في تزايد حدة التنافس الدولي بالقارة، من خلال الإجابة عن التساؤلين التاليين:

– ما هي خلفيات وبواعث استراتيجية التوجه الصيني نحو القارة الأفريقية؟ وما مدى انعكاسها على سياسات القوى الغربية، وخصوصاً الأمريكية منها، تجاه أفريقيا؟

تنطلق الدراسة من فرضية رئيسية مفادها أن التوجه الصيني نحو القارة الأفريقية جاء في سياق يرتبط بمنظومة الأهداف والمصالح التي تسعى الاستراتيجية الصينية لتحقيقها على المستوى الدولي. لذلك أصبحت الصين شيئاً فشيئاً بديـلاً استثمارياً وتجارياً للقارة الأفريقية، أقصى إلى حد كبير الدور الغربي في العديد من الميادين، لكونها لا تضع وهي تطور علاقتها بدول القارة اشتراطات سياسية أو اقتصادية كما هي حال الدول الغربية.

أولاً: السياق العام للعلاقات الصينية – الأفريقية

دشنت الصين خلال العقود الثلاثة الأخيرة مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية، فأصبحت حالياً تعتبر من أكبر اقتصادات العالم، بحيث تشير الإحصاءات إلى أن معدل النمو في ناتجها المحلي الإجمالي قد ارتفع خلال الفترة 1990 – 2004، بنسبة 9,4 بالمئة، ليصل سنة 2010 إلى 10,5 بالمئة نتيجة استحواذها على 8,5 بالمئة من إجمالي الصادرات العالمية خلال نفس السنة‏[2]، بل أكثر من ذلك تحولت الصين في عام 2012 إلى أكبر قوة تجارية في العالم بحجم تجارة بلغ 3.89 تريليون دولار أمريكي، لتتجاوز لأول مرة الولايات المتحدة الأمريكية‏[3]. كما ارتفعت نسبة الصادرات الصينية من مجمل الصادرات العالمية، من 4,7 بالمئة سنة 2000 لتصل إلى 24,1 بالمئة سنة 2013، في حين تراجعت نظيراتها الأمريكية والأوروبية من 24,2 بالمئة و29,6 بالمئة إلى 9,2 بالمئة و20,2 بالمئة على التوالي حسب معطيات صندوق النقد الدولي‏[4]، ليقارب الناتج المحلي الإجمالي الصيني 9641,9 مليار دولار سنة 2014 رغم تباطؤ النمو الذي عرفته في السنوات الأخيرة، وبذلك أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم متقدمة على اليابان. واستناداً إلى توقعات صندوق النقد الدولي أيضاً، فإن الناتج المحلي الإجمالي في الصين سيبلغ في العام 2017 نحو 12714 مليار دولار‏[5].

أدى النمو الاقتصادي الصيني إلى إعادة هيكلة التجارة الدولية في كثير من المجالات، وخصوصاً في ظل ارتفاع طلبها على الموارد الأولية، فتزايدت قيمة وارداتها من المعادن والمواد الخام نحو عشرة أضعاف ما بين 2000 و2010، فارتفعت من 17,2 مليار دولار إلى 171,7 مليار دولار‏[6]، وذلك نتيجة نمو استهلاكها للعديد من المعادن منذ سنة 1980، كما يوضحه الشكل الرقم (1) أدناه.

الشكل الرقم (1)

تطور نسبة استهلاك الصين لبعض المعادن الأساسية خلال الفترة ما بين 1980 – 2020

المصدر: Bernice Lee [et al.], «Resource Futures: a Report Chathom House,» Chathom House, London (December 2012), p. 18.

لقد أصبحت الصين حالياً المستورد الأول عالمياً لأغلب المعادن باستثناء النحاس. فهي تستورد 98 بالمئة من حاجاتها من الكوبالت، و97 بالمئة من الكروم، و94 بالمئة من البلاتين، و84 بالمئة من النحاس، و78 بالمئة من المنغنيزيوم‏[7]. كما تعتبر المستهلك الأول للنيكل والنحاس المكرر 3 بالمئة والألومنيوم الخام (40 بالمئة)، والرصاص المكرر (45 بالمئة)، والحديد (60 بالمئة)‏[8].

إن النمو المتسارع لأي اقتصاد يتطلب مزيداً من الطاقة، فالصين اليوم هي «مصنع العالم»، والشطر الأكبر من ناتجها الاقتصادي متجه نحو الصناعات التي تشكل الطاقة دافعها الرئيسي. كما أن الصين شيدت واحدة من أوسع البنى التحتية الخاصة بالطرق السريعة في العالم، لتحل السيارات محل دراجاتها الهوائية البالغة مليار دراجة، ففي عام 2004 أنتجت الصين وباعت ما يزيد على خمسة ملايين سيارة‏[9]، ومن المتوقع أن يصل عدد السيارات في الصين إلى 140 مليون سيارة بحلول عام 2020‏[10]. كل هذا أدى إلى زيادة كبيرة في طلب الصين على موارد الطاقة، علماً أنه لا يتوافر سوى القليل منها على أراضيها، ومن ثم كان عليها التوجُّه إلى الخارج، لتظهر الدول الأفريقية كأحد المرتكزات في هذا التوجه. فالقارة الأفريقية أصبحت تحتل موقعاً مهماً في خريطة إنتاج الموارد الطاقية على المستوى العالمي، وها هي في عام 2011 تنتج 8,8 مليون برميل في اليوم، وهو ما يمثل أكثر من 10 بالمئة من الإنتاج العالمي‏[11].

اعتماداً على تقديرات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية ارتفع احتياطي القارة الأفريقية من النفط بنسبة 120 بالمئة خلال العقود الثلاثة الماضية. بعبارة أخرى، زادت احتياطيات القارة من النفط من 57 مليون برميل في عام 1980 إلى 124 مليون برميل في عام 2012. وارتفع احتياطي القارة أيضاً من الغاز الطبيعي من 210 تريليونات م3 في عام 1980 إلى 509 تريليونات م3 في عام 2012، أي بزيادة تقدر بـ 140 بالمئة، مع العلم أن هذه الأرقام ستعرف ارتفاعاً نتيجة الاكتشافات الجديدة في كل من تنزانيا والموزمبيق‏[12].

كما تمتلك القارة الأفريقية ثروات معدنية مهمة؛ فهي حسب المعهد الجيولوجي الأمريكي تعتبر ثاني مصدر لاحتياطيات البوكسيت، والكوبالت، والألماس، والمنغنيز، والفوسفات، والبلاتينوم، والصودا‏[13]. وبصفة عامة، فهي تحوز 30 بالمئة من الاحتياطيات العالمية من الموارد المعدنية‏[14]، وبذلك بلغت نسبة أفريقيا 6,5 بالمئة من مجموع صادرات المعادن على المستوى الدولي خلال سنة 2011‏[15]. وتفيد التوقعات أن هذه النسب والمعدلات مرشحة للارتفاع، وذلك بالنظر إلى أن أجزاء كبيرة من القارة لم تشملها المسوحات الجيولوجية. من هنا يمكن القول إن القارة الأفريقية ستكون المورد الأساسي للصناعة في العالم مستقبـلاً، إضافة إلى أن أراضيها الشاسعة الصالحة للزراعة تشكل قرابة 35 بالمئة من إجمالي مساحة القارة التي تبلغ 33 مليون كلم2، يستغل منها 7 بالمئة في الزراعة بشتى أنواعها. ورغم ذلك فالقارة الأفريقية تسهم بنحو 60 بالمئة من إجمالي إنتاج العالم من الكاكاو، وتنتج كذلك ما يعادل 22 بالمئة من الإنتاج العالمي من البن. و12 بالمئة من الشاي، و40 بالمئة من زيت النخيل، زيادة على إنتاجها المهم من بعض المواد الأخرى كالذرة، والأرز، والقمح، والألياف النباتية، وقصب السكر، والفول السوداني‏[16].

وتتزايد أهمية أفريقيا للصين إذا علمنا أن عدد سكان القارة الأفريقية وصل إلى مليار نسمة منذ عام 2009‏[17]، نصفهم من الفئة النشيطة‏[18]، وأزيَد من ثلثهم ينتمي للطبقة المتوسطة‏[19]. وقد يبلغ عدد سكان القارة الأفريقية سنة 2050 نحو 2,6 مليار نسمة، منها 1,1 مليار نسمة تنتمي للطبقة المتوسطة‏[20]، سيقطن أغلبها في المدن، وبالتالي تصبح مشاريع إمدادها بالماء والطاقة وتشييد شبكة المواصلات وتحديثها مسائل حيوية في أفريقيا‏[21]، أي أن الموارد الأكثر قيمة لأفريقيا ليست النفط ولا الألماس، بل مستهلكوها الذين تتزايد حاجاتهم للمواد الغذائية والصناعية‏[22].

ثانياً: الأهداف الاستراتيجية للتوجه الصيني نحو أفريقيا

عندما نستقرئ تطور العلاقات بين الصين وأفريقيا منذ فترة حكم الرئيس ماو تسي تونغ وإلى يومنا الحاضر، تبدو لنا الاختلافات والتمايزات جلية، سواء بمقياس طبيعتها أو بمؤشر حجمها. مع ذلك، ثمة بين الفترتين عناصر استمرارية ثابتة، لعل أقواها على الإطلاق ذلك البعد التضامني جنوب/جنوب، الرافع للواء «مناهضة الإمبريالية والاستعمار والهيمنة»، والداعم لوحدة الصين، الذي لا يزال مروّجاً على الرغم من تبدّل السياقات واختلاف الظروف والملابسات، أما بقية الأبعاد فقد عرفت تحولات جوهرية منذ بداية تسعينيات القرن الماضي‏[23].

1 – الأهداف السياسية للصين بأفريقيا بين الاستمرارية والتغيير

تتميز العلاقات الصينية – الأفريقية السياسية بالقِدم؛ فدعم الصين لحركات التحرر الأفريقية التي بدأت في خمسينيات القرن الماضي تعتبر الركيزة الأساسية التي انطلقت منها هذه العلاقات‏[24]، وكانت الصين خلال هذه المرحلة تركز على الأيديولوجيا الاشتراكية في علاقاتها مع الدول الأفريقية‏[25].

بحلول عام 1971 أثبتت العلاقات الصينية – الأفريقية نجاحاً كبيراً، عندما حققت انتصارها التاريخي في منظمة الأمم المتحدة على الولايات المتحدة الأمريكية وتايوان؛ عقب التصويت لمصلحة انضمام الصين الشعبية إلى هذه المنظمة، بما فيها مجلس الأمن، بدلاً من تايوان، وذلك بعد محاولات صينية استمرت منذ عام 1949. ولقد كان لأفريقيا دور رئيسي في هذا الحدث التاريخي؛ وهو ما اعترف به ماو تسي تونغ بقوله «لقد استعدنا دورنا في الأمم المتحدة بفضل مساندة الدول الأفريقية»‏[26]، حيث صوتت 26 دولة أفريقية إلى جانب الصين الشعبية، أي ما يقرب من ثلث الدول المؤيدة‏[27].

ونتيجة للتغيرات الدولية مع بداية تسعينيات القرن الماضي، والتطور الذي عرفته الصين، تحولت علاقاتها بأفريقيا من الارتكاز على العوامل الأيديولوجية، ومساندة النظم الشيوعية إلى إقامة علاقات أكثر براغماتية، تستند إلى المصالح والمنافع المتبادلة، وربما كان العنصر الأيديولوجي الوحيد الذي ظل قائماً في علاقات الصين بدول القارة، هو مبدأ «صين واحدة»‏[28].

وقد عبرت كلمات جيانغ زيمين (شباط/فبراير 1999) عن السياسة الصينية الجديدة في أفريقيا، عندما قال: «إننا نحبذ أن تتوصل أفريقيا إلى حلول لمشاكلها ونزاعاتها من خلال المفاوضات السلمية، إن الحكومة الصينية تدعم جهود الدول الأفريقية، بشأن استكشاف واختيار النظام السياسي، وأسلوب التنمية الذي يتلاءم مع ظروفها الوطنية»‏[29].

وحسب وسائل الإعلام الصينية، فإن تعزيز التعددية القطبية على مستوى العالم، وتزايد نمو التعاون الصيني – الأفريقي، لن يساعد على حماية حقوق ومصالح الدول النامية فحسب، بل سيشكلان نظاماً عالمياً جديداً‏[30]. لذلك تعتبر الصين نفسها من الدول النامية، التي تتزعم جبهة هذه الدول في المحافل الدولية، وذلك في مواجهة الدول الصناعية الكبرى وسياساتها، وبخاصة في إطار منظمة التجارة العالمية، وما يتعلق بالمفاوضات الخاصة بإزالة الدول الصناعية الغنية للقيود التجارية التي تفرضها على سلع الدول النامية‏[31].

إضافة إلى ذلك، تعول الصين على الكتلة التصويتية لدول القارة الأفريقية للمطالبة بتعديل عدة اتفاقيات دولية، ومن أهمها اتفاقية الملكية الفكرية، التي ما زالت تعتبر أهم نقاط الخلاف في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث تتهم الأولى الثانية بسرقة البرمجيات الأمريكية للحاسوب والأقراص المدمجة. ومما زاد المسألة تأجيجاً ارتباطها بأبعاد أخرى تتمثل بكون الأمريكيين يعوِّلون على حقوق الملكية الفكرية والتراخيص لتعويض عجزهم التجاري اتجاه الصين، في الوقت الذي يرى فيه الصينيون أن الاتفاقيات الدولية لحماية الملكية الفكرية تجسد قانون الأقوى‏[32].

لذلك يمكن فهم اهتمامات الصين الحقيقية ودوافع نشاطها في أفريقيا من خلال المعايير الجيوسياسية والاقتصادية. فمن الناحية الجيوسياسية: تعد الدول الأفريقية ضرورية للمصالح الصينية التي تسعى إلى تطبيق سياسة «الصين الواحدة»، وذلك من أجل عزل تايوان، وتعديل التوازن لمصلحتها في مقابل الهيمنة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في مجال العلاقات الدولية ولا سيَّما في ما يخص حقوق الإنسان. على أن السياق الأوسع هو الدعوة التي تتبناها الصين برفع مستويات التعاون بين سكان الجنوب، وتشكيل مجموعة «البريكس» (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا) كمنتدى يطالب بإصلاح المؤسسات الدولية الرئيسية؛ من أجل تحقيق نظام يضم الجميع، ويحقق مزيداً من العدل والمساواة‏[33].

تهدف الصين، في إطار تطوير علاقاتها مع دول القارة الأفريقية، إلى مواجهة محاولة انضمام اليابان والهند إلى العضوية الدائمة في مجلس الأمن، في ظل تزايد طرح مسألة إصلاح العديد من المؤسسات الدولية، وترحيب الولايات المتحدة بهذا الانضمام الذي تسعى من خلاله إلى منع ظهور مراكز قوى عالمية منافسة، وفي هذا الإطار عملت الولايات المتحدة الأمريكية إلى حث اليابان على إعادة التسلح لتوظيفها ضد الصين في شرق آسيا. ففي خطابه في طوكيو 13 آب/أغسطس سنة 2004 حث «كولن باول» وزير الخارجية الأمريكي آنذاك اليابان على التخلي عن دستورها السلمي، إذا أرادت أن تنضم إلى العضوية الدائمة لمجلس الأمن، وهو ما استجابت له اليابان مؤخراً، فالعقيدة الأمنية اليابانية عرفت تغيرات جوهرية، وخصوصاً بعد وصول شينزو أبي إلى السلطة؛ فمع نهاية آذار/مارس 2016 دخلت تشريعات أمنية وعسكرية جديدة أقرّها البرلمان الياباني عام 2015 حيز التنفيذ، حيث تسمح للقوات اليابانية بالدخول في صراعات مسلحة خارج حدود البلاد لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحسب مايكل أوسلين (Michael Auslin) فهذه التغيرات في العقيدة الأمنية اليابانية، جاءت نتيجة تنامي التهديدات الإقليمية، خصوصاً من طرف كوريا الشمالية، وتزايد القدرات العسكرية الصينية‏[34]، في ظل استمرار التنازع الإقليمي حول منطقة بحر الصين الجنوبي التي تعد شرياناً هاماً سواء بوصفها مخزوناً اقتصادياً للطاقة، أم مكوناً استراتيجياً، أم ممراً حيوياً لإمدادات الطاقة إلى أغلب دول الإقليم وآسيا والباسيفيك‏[35]. ويمكن تفسير دعم الولايات المتحدة لهذا التوجه الياباني برغبتها في تحميل اليابان جزءاً من تكاليف حروبها في بعض مناطق العالم، والاستعداد لأي مواجهة يمكن أن تحدث مستقبـلاً مع الصين، وخصوصاً مع تزايد النفوذ الصيني ببعض المناطق كأفريقيا، التي نتج منها التضييق على مصالح القوى الغربية هناك.

بصفة عامة تحاول الولايات المتحدة الإبقاء على الوضع في الإقليم الآسيوي تحت سيطرتها كي لا يسمح بظهور تحد كبير قد يهدد هيمنتها على النطاقين السياسي والعسكري مستقبـلاً. وفي هذا الإطار يندرج اتفاق التعاون النووي الأمريكي – الهندي الذي وقعه الرئيسان بوش وسينغ في آذار/مارس 2006‏[36]؛ بل يؤكد المسؤولون الأمريكيون أن الولايات المتحدة ستساعد الهند لتصبح قوة عالمية كبرى في القرن الحادي والعشرين‏[37]، فقد أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما في تشرين الثاني/نوفمبر 2010 دعمه ترشيح الهند عضواً دائماً في مجلس الأمن‏[38]. كما أكدت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة سنة 2015 على حرص الإدارة الأمريكية على الاندفاع نحو الهند، لتقوية الشراكة الاقتصادية والسياسية معها‏[39].

2 – الأهداف الاقتصادية للتوجه الصيني بأفريقيا

أ – فتح الأسواق الأفريقية

عرفت العلاقات التجارية الصينية – الأفريقية تطوراً كبيراً، إذ تضاعفت أكثر من عشر مرات منذ بداية القرن الحادي والعشرين‏[40]؛ فبعد أن انتزعت الصين نصف الأسواق الأفريقية منذ عام 2000، غدت الشريك التجاري الثاني للقارة سنة 2010 بعد الولايات المتحدة الأمريكية وقبل فرنسا‏[41]. وقد وصل حجم التبادل التجاري بين الطرفين سنة 2012 إلى ما يقارب 198,49 مليار دولار، أي بنسبة نمو سنوية 19,3 بالمئة. شكلت الصادرات الصينية نحو أفريقيا ما قيمته 85,31 مليار دولار، أي بنسبة نمو 16,7 بالمئة. أما الواردات فقد بلغت 113,71 مليار دولار، أي بنسبة نمو 21,4 بالمئة‏[42]. وحسب تقرير التنمية البشرية لسنة 2013 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تحت عنوان نهضة الجنوب: تقدم بشري في عالم متغير، فقد ارتفعت خلال الفترة 1992 – 2011 قيمة مبادلات الصين التجارية مع منطقة جنوب الصحراء الأفريقية من مليار دولار إلى أكثر من 140 ملياراً. أما في سنة 2013 فأصبحت الصين تمثل الشريك التجاري الأول لأفريقيا؛ إذ تشير الإحصاءات إلى أن حجم التبادل التجاري بين الطرفين وصل إلى مستوى 200 مليار دولار في سنة 2013 – 2014 ليتجاوز بذلك حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والقارة الأفريقية بنحو الضعفين‏[43]. ولتشجيع الصادرات الأفريقية نحو الصين، ألغت هذه الأخيرة ابتداءً من سنة 2012 الرسوم الجمركية لما يقرب من 60 بالمئة من صادرات 30 دولة أفريقية لها علاقات دبلوماسية مستقرة معها‏[44].

وللإشارة، تبقى العلاقات التجارية بين الصين وأفريقيا مركزة مع عدد قليل من الدول الأفريقية؛ فنحو 60 بالمئة من الصادرات الصينية موجهة إلى ست دول أفريقية فقط، وهي جنوب أفريقيا، ومصر، ونيجيريا، والجزائر، والمغرب وبنين؛ في حين أن 70 بالمئة من الواردات الصينية تأتي من أربع دول، وهي أنغولا، وجنوب أفريقيا، والسودان، وجمهورية الكونغو‏[45].

وما يمكن ملاحظته هنا، هو أن فرنسا عرفت تراجعاً كبيراً في مواقعها التجارية التاريخية بالقارة الأفريقية، أمام صعود الصين في المبادلات التجارية لهذه الدول؛ فخلال المرحلة الممتدة ما بين 1990 و2011 أصبحت الصين تتحكم في العديد من الأسواق الأفريقية، كنيجيريا، وكينيا، وجنوب أفريقيا، والكوت ديفوار، والكاميرون، وهو ما نتج منه تراجع فرنسا في هذه الأسواق على الشكل التالي: 6,4 نقطة في نيجيريا، و4 نقط في كينيا، و0,8 نقطة في جنوب أفريقيا، و17,1 نقطة في الكوت ديفوار، و22,2 نقطة في الكاميرون‏[46].

تتكون بنية الصادرات الصينية نحو أفريقيا من الآلات المصنعة، والبضائع، والمواد الغذائية والمواد الكيميائية، في حين يشكل النفط 70 بالمئة من الواردات الصينية من أفريقيا، يستورد أغلبه من أنغولا والسودان‏[47].

ب – البحث عن الثروات الطبيعية

التزود بالثروات الطبيعية من أهم أهداف التوجه الصيني نحو القارة الأفريقية، وخصوصاً الطاقية منها؛ ففي سنة 2013 أصبحت الصين ثاني أكبر دولة مستوردة للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، فهي تستورد حالياً قرابة سبعة ملايين برميل نفط يومياً، وبتزايد حاجاتها للنفط بمعدل 30 بالمئة سنوياً، فإنها من المتوقع أن تفوق الولايات المتحدة في استيراد النفط خلال السنوات القادمة. وتأخذ الصين ما يقارب ثلث حاجاتها من النفط من أفريقيا، ويتوقع أن يزداد اعتمادها على استيراد النفط من القارة في السنوات القادمة‏[48]. لذلك حلت أنغولا محل السعودية كأكبر مزوِّد للصين بالنفط على المستوى الدولي، حيث تمدها بـ 15 بالمئة من كل وارداتها النفطية. كما أن للصين أنشطة نفطية في الجزائر، وتشاد، والسودان، وغينيا الاستوائية، والكونغو، ونيجيريا. فالسودان (قبل تقسيمها) كانت تصدر نصف إنتاجها من النفط إلى الصين، ويمثل هذا 5 بالمئة من حاجات الصين الكلية. كما أن الصين عملت على شراء حصص كبيرة في منطقة دلتا النيجر، ففي أوائل عام 2007 أعلنت شركة النفط البحرية الوطنية الصينية شراءها حصة نسبتها 45 بالمئة من حقل نفط وغاز نيجيريا، واشترت أيضاً ما نسبته 35 بالمئة من ترخيص للاستكشاف في دلتا النيجر بالإضافة إلى الاستثمارات الصينية في هذا المجال بأنغولا‏[49].

فالنفط أصبح عنصراً استراتيجياً أساسياً متزايد الأهمية في علاقات بكين الدولية، ويعكس صعود الصين في مجال الطاقة الحجم الهائل لطلبها المتزايد على النفط، ولدبلوماسيتها الاستراتيجية ذات النشاط المتزايد والمصممة لتزويدها بإمدادات الطاقة في المستقبل‏[50].

أشارت بعض الدراسات الطاقية إلى أن الاستهلاك الصيني للنفط من المتوقع أن يرتفع في الأمد المنظور إلى الضعفين، حيث يرتفع الاستهلال الفعلي من نحو 4.2 مليون برميل يومياً من النفط عام 1997 إلى نحو 9.5 مليون برميل يومياً في عام 2020، مقابل ظهور فجوة كبيرة في الطلب الصيني على النفط والغاز الطبيعي بسبب النقص الوارد في الاحتياطيات المحلية من الطاقة، وهو ما يضطرها إلى رفع معدلات البحث والتنقيب عن مخزونات جديدة في أعماق أخرى من المياه الإقليمية لبحر الصين الجنوبي‏[51].

ففي عام 2005 أنتجت الصين ما يقارب 3.7 مليون برميل واستهلكت 6.7 مليون برميل، أي أن العجز مقداره 3 ملايين برميل، كان يجب تعويضه بالاستيراد من الخارج، وعند نسبة 45 بالمئة من إجمالي الاستهلاك فإن مستوى تبعيتها كان أقل بشكل ملحوظ من معدل استيراد أمريكا البالغ 60 بالمئة، ولكن ناتج النفط المحلي في الصين يتوقع له أن يبقى ثابتاً خلال العقود المقبلة، في حين يُتوقع أن يزداد الطلب بنسبة 3,4 بالمئة سنوياً، مسبباً زيادة موازية في الطلب على المستوردات. وتتوقع بعض التقديرات أن يصل الاستهلاك الصافي للصين من النفط عام 2030 إلى ما يقرب من 15.7 مليون برميل من النفط يومياً، في حين سيبقى الناتج عند 4.1 ملايين برميل، مما سيؤدي إلى واردات قدرها 11.6 مليون برميل يومياً تقريباً 4 أضعاف الكمية المستوردة عام 2001، وبحلول العام 2045 سيبلغ اعتماد الصين على مصادر خارجية للطاقة 45 بالمئة من حاجاتها‏[52].

تحاول الصين – شأنها في ذلك شأن القوى الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية – البحث عن دول ومناطق جديدة لتأمين حاجاتها الطاقية؛ لذلك عملت على حشد مواردها الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والعسكرية بهدف السيطرة على الموارد النفطية الجديدة في أفريقيا. فقد انتقلت الصادرات النفطية الأفريقية إلى الصين من 10 بالمئة سنة 2007 إلى 14 بالمئة سنة 2011‏[53] نتيجة زيادة الصادرات الأنغولية والنيجيرية والجزائرية من هذه المواد إلى الصين، بعدما كانت تعتبر من الشركاء التقليدين للولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية بصفة عامة للتزود بالموارد الطاقية. ويمكن تفسير التوجه الصيني نحو النفط الأفريقي، برغبتها في التخلص من الاعتماد على المناطق التي تتحكم الدول الغربية في مضايقها المائية.

وعلى مدى العقد الأخير، تزايدت واردات الصين من أفريقيا من كل المواد الخام، باستثناء الحديد، بقدر أكبر من زيادة وارداتها من بقية أنحاء العالم‏[54]. فقد سعت الصين إلى توقيع عقود احتكار استخراج واستغلال خامات: الكوبالت، والتنتاليم (التي تستخدم في عمليات تصنيع الهواتف المحمولة وأجهزة الحاسوب)، والفحم، واليورانيوم، والذهب، والمنجنيز، والألماس، والزنك مع حكومات كل من: الكونغو، ونيجيريا، وزامبيا، وكينيا، والسنغال، ومصر، والجزائر، وتشاد، وإثيوبيا. وقدرت قيمة هذه العقود بنحو 29 مليار دولار، بتمويل من بنك التنمية الصيني‏[55]. ولهذا هناك من يجادل أن التدخل العسكري الفرنسي في مالي وأفريقيا الوسطى، جاء في سياق التنافس مع الصين، التي أصبحت تخترق مناطق نفوذها بهذه القارة؛ إذ إن الإطاحة بالرئيس بوزيزي، وفق برنامج «برنارد باتانا»، جاء عقاباً له على توقيع عقد مع الصين لاستغلال حقل النفط في «باراما»، وهو ما لم تستسغه فرنسا، صاحبة النفوذ على الثروات الطبيعية في البلاد الموروثة عن الحقبة الاستعمارية‏[56]، وهو أيضاً ما تؤكده العبارة الشهيرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، في إثر تدخل القوات الفرنسية في مالي: «نريد أن تجرى الانتخابات في مالي في نهاية تموز/يوليو، ولا مجال للنقاش في هذا الموضوع» لكن هل المواعيد الانتخابية في دولة ذات سيادة تناقش في مكان آخر، بل أكثر من ذلك هل تناقش بقرار أجنبي؟ إن هذا الموقف يعتبر خرقاً مطلقاً لمبدأ السيادة كأحد أهم مبادئ القانون الدولي، بيد أنه أكثر ما يحمل، أيضاً، بصورة منطقية نفح الإذلال المتجدد، وربما المبالغ فيه، حسب برتران بادي (Bertrand Badie)‏[57].

بصفة عامة، ارتفعت واردات الصين من مجموع الصادرات المعدنية الأفريقية من 7 بالمئة إلى 39 بالمئة ما بين 2000 و2009. في حين عرفت واردات الاتحاد الأوروبي خلال الفترة نفسها من الصادرات المعدنية الأفريقية تراجعاً كبيراً بلغ نحو النصف، إذ انخفضت من نسبة 47 بالمئة من مجموع الصادرات المعدنية الأفريقية سنة 2000 إلى 26 بالمئة سنة 2009، ونفس التوجه عرفته واردات الولايات المتحدة الأمريكية من المعادن الأفريقية، فقد انخفضت من 13 بالمئة من مجموع الصادرات الأفريقية سنة 2000 إلى 6 بالمئة سنة 2009، وذلك نتيجة تزايد واردات القوى الصاعدة من المعادن الأفريقية خلال العقد الأخير‏[58].

مثـلاً، في سنة 2010 أصبحت الصين من أهم الشركاء التجاريين لأفريقيا جنوب الصحراء في مجال المعادن، إذ استوردت من هذه المنطقة خلال هذه السنة أربعة أضعاف ما استورده الاتحاد الأوروبي منها في هذا المجال. فالصين باتت المستورد الخاص للعديد من المعادن الأفريقية، إذ استوردت نسباً مهمة من مجموع ما تصدر أفريقيا من المعادن التالية خلال الفترة 2001 – 2008: النيوبيديوم (95 بالمئة)، والكوبالت (80 بالمئة)، والمنغنيز (40 بالمئة)، والكروم (20 بالمئة)، والحديد (10 بالمئة)‏[59].

3 – الأهداف الأمنية والعسكرية

ولأن التزود بالموارد الطبيعية الأفريقية، وخصوصاً الطاقية منها، باتت من مرتكزات الأمن القومي الصيني؛ فمن الطبيعي أن نشهد حماية صينية لمناطق نفودها بهذه القارة، سواء عبر المشاركة في عمليات حفظ السلام المنتشرة ببعض الدول الأفريقية (ليبيريا، الكوت ديفوار، جنوب السودان، السودان، الكونغو الديمقراطية)‏[60]، أو من طريق توريد السلاح؛ فقد استوردت أفريقيا 13 بالمئة من الصادرات الصينية من الأسلحة التقليدية خلال الفترة 2007 – 2012 التي بلغت قيمتها المالية 6462 مليون دولار‏[61].

بينما لا يبدو أن ثمة صعوداً لحروب الموارد بين القوى الغربية والصين بأفريقيا حالياً، ولا حتى في المستقبل المنظور، إلا أنه لا يبدو من الممكن إنكار نمو الأبعاد العسكرية والأمنية في العلاقات التي تجمع القارة الأفريقية بالقوى الدولية، هذا التوجه العام المتجذر في توجه القوى الغربية بدأ يتزايد في التوجهات الصينية نحو القارة الأفريقية، نتيجة عدم الاستقرار الذي أصبحت تعرفه العديد من دولها؛ فالصين لم تعد مجرد مشاهد سلبي لديناميات هذه الصراعات، ولكنها باتت شريكاً نشطاً بشكل مزايد فيها لتأثيرها في مصالحها.

لقد أضفت قرارات الأمم المتحدة شرعية على عسكرة القارة الأفريقية، وإذا كانت القوى الغربية هي المحرك لهذه القرارات على المستوى السياسي والعسكري، وهو ما يفسره البعض بكونه ضربات استباقية من هذه القوى للحفاظ على مصالحها الاقتصادية الطويلة الأمد بهذه القارة، وهو ما يؤكده تصريح آلان جوبيه وزير خارجية فرنسا سابقاً في حوار مع صحيفة لوباريسيان (Le Parisien) (27 آب/أغسطس 2011)، أن تكلفة العمليات العسكرية بليبيا وصلت إلى مليون يورو يومياً، وهي تمثل «استثماراً» للمستقبل‏[62]. غير أن ما يلفت النظر ليس فقط مدى موافقة بكين على هذه المناورات، ولكن تأييدها الأجندة الأمنية الغربية بأفريقيا بشكل متزايد بدلاً من معارضتها كما فعلت لعقود. فالصين من بين جميع أعضاء مجلس الأمن الدائمين هي أكبر مساهم في بعثات الأمم المتحدة بإرسالها ما يصل إلى 2000 عسكري بشكل جماعي إلى ليبيريا ودارفور وجنوب السودان، كما أرسلت مئات الجنود إلى مالي، وهو ما أصبح يشكل تغيراً ملحوظاً في السياسة الصينية تجاه أفريقيا‏[63]، وهو ما تؤكده الوساطة الصينية في جنوب السودان سنوات 2011 – 2013 التي أصبحت تمثل مقاربة صينية جديدة لتعاملها مع قضايا القارة، حيث تملك علاقات تجارية مهمة جداً مع شمال وجنوب السودان، الأمر الذي جعلها تعيِّن مبعوثاً خاصاً بها للمنطقة (لوي كيجان)، وهي أدت – أي الصين – دوراً أساسياً بمجلس الأمن الدولي في حل الخلافات بين الطرفين، من أجل حماية مصالحها، وخصوصاً إذا علمنا أنها تستورد نحو 82 بالمئة من النفط المنتج في جنوب السودان، وزهاء 70 بالمئة من إنتاج شمال السودان‏[64].

كما نلاحظ أنه للمرة الأولى منذ القرن الخامس عشر، تنشط البحرية الصينية على الساحل الأفريقي ضمن القوات المتعددة الجنسيات التي تقوم بدوريات لمحاربة القرصنة قبالة الصومال‏[65]، بموازاة تأييد الصين للمواقف الدولية المتشددة لمقاومة حركة شباب الصومال المتمردة والجهاديين الأجانب، كما أعطت الصين الضوء الأخضر للتدخل الفرنسي في مالي وساحل العاج، بالرغم من كون تلك العمليات عملت على حسم وتحويل توازن السياسة الداخلية لمصلحة أحد المتحاربين‏[66].

خلّف الحراك الشعبي في دول شمال أفريقيا وضعاً جديداً في هذه المنطقة. وبالرغم من أنه لا يزال من المبكر تحديد تأثير هذه الأحداث في مصالح القوى الأجنبية، إلا أن ذلك لا يحول دون تبيُّن بعض الإرهاصات الأولية إن صح التعبير، وبخاصة في ما يتعلق بسلوك القوى الكبرى كالصين. فمن أكثر الأمور الكاشفة لتحوُّل السياسة الصينية تجاه الأحداث الأفريقية، هو موقفها من الأزمة الليبية، فالصين لم تستخدم حق الفيتو كما توقع البعض ضد القوى الغربية التي طبقت الحظر الجوي فوق ليبيا ممهدة الطريق لإسقاط النظام الليبي، الأمر الذي كلف الصين خسائر اقتصادية كبيرة، فقد وصل حجم مبادلاتها التجارية الثنائية مع ليبيا إلى 6,6 مليار دولار سنة 2010 قبيل سقوط النظام السابق، كما وصلت قيمة الاستثمارات الصينية غير المالية في ليبيا قرابة 59 مليار دولار، أغلبها في قطاع النفط. فهذه الأخيرة تصدر للصين ما نسبته 11 بالمئة من مجمل صادراتها النفطية، وهو ما يشكل نسبة 3,1 بالمئة من واردات الصين النفطية‏[67]، كما تم التخلي عن بعض الشركات والمشاريع المتفق عليها والتي تساوي مليارات من الدولارات – نحو 18,8 مليار دولار‏[68]. وبينما استنكر المثقفون الصينيون تصرفات القوى الغربية بليبيا بعد هذا القرار، فإن ما يمكن ملاحظته هو أن نقد بكين لتفسيرات القوى الغربية لهذا القرار، بدا وكأنه يخدم المصلحة المحلية بإرضاء الدوائر المضادة للإمبريالية في الحزب الشيوعي الصيني‏[69]، بالرغم من كون البعض يجادل في أن رفض الصين رفقة روسيا لقرارات مجلس الأمن ضد سورية جاء كرد فعل على هذه التجاوزات الغربية بليبيا، غير أن استخدام الصين حق الفيتو ضد قرار فرض العقوبات على سورية في مجلس الأمن، جاء، في نظرنا، نتيجة معطيين أساسين:

الأول، التأثر بالموقف الروسي المدافع عن مصالحه الاستراتيجية هناك، أي أن الصين قررت على ما يبدو أنه من الأفضل ألّا تعرّض علاقاتها مع الروس للخطر وألّا تخاطر بفقدان دعم موسكو، التي قد تحتاج إليها بكين في المستقبل. لقد أصبح الآن محور روسيا – الصين الذي يعرقل قرارات مجلس الأمن متغيراً حاسماً في عملية صنع القرار في مجلس الأمن، أي أن البلدين قد وصلا إلى تفاهم استراتيجي سوف يعمل على تقييد الولايات المتحدة وتحقيق التوازن معها، والتقليل من قدراتها على فرض حلولها على مشاكل الشرق الأوسط‏[70]، التي أصبحت ترى فيها الصين مزيداً من تأجج الأوضاع الأمنية بالمنطقة، وهو ما من شأنه أن يؤثر في أمنها الطاقي برفع تكلفته المادية، في ظل الاكتشافات الطاقية الأمريكية بأراضيها التي من شأنها تعويض وارداتها النفطية من هذه المنطقة.

ثانياً يكشف هذا الموقف الصيني أحد ردود الفعل المباشرة على الإعلان الأمريكي عن التحول في استراتيجيتها نحو منطقة المحيط الهادئ الآسيوي، وهي الاستراتيجية التي عبّر عنها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في كانون الثاني/يناير 2012 بالحديث عن «مراجعة دفاعية تقوم على تركيز القوات الأمريكية في آسيا والمحيط الهادئ». فإذا ربطنا هذه الاستراتيجية بتكرار الولايات المتحدة التعبير عن قلقها من زيادة الصين لنفقاتها العسكرية نستدل على توتر بين الطرفين في هذه المنطقة، نظراً إلى إدراك الصين أن الولايات المتحدة تقوم بما أطلق عليه بعض الباحثين «الهندسة الجيوسياسية» (Geopolitical Engineering)، وهو ما دفع نائب الرئيس الصيني تشي جينبنع (Xi Jinping) إلى القول إننا «نأمل بأن تحترم الولايات المتحدة مصالح وهواجس الصين والدول الأخرى في هذه المنطقة»؛ وهو ما يجعل الصين ترد في مناطق أخرى، وقد شكلت الأزمة السورية فرصة لبعض هذا الرد‏[71].

لقد أعطت الأحداث التي عرفتها ليبيا فرصة استراتيجية للصين لإظهار قدراتها العسكرية، فعمليات الإنقاذ التي نفذتها الصين في ليبيا توضح التحول العميق لسياستها الأمنية بالمنطقة، في حين تم نقل معظم المدنيين بالسفن التجارية أو الطائرات المستأجرة من جانب الدبلوماسيين الصينيين والشركات الصينية، كما بعثت بحرية جيش التحرير الشعبي (PLAN) فرقاطة سوزهو جديدة من نوع Jiangkai-class إلى الساحل الليبي لتنسيق عمليات الإجلاء بحراً، وهو ما يعتبر المرة الأولى التي تظهر فيها سفينة عسكرية صينية في البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يبعث برسالة قوية إلى المنطقة والعالم‏[72].

كانت لعمليات نشر القوات الجوية والبحرية لجيش التحرير الشعبي في ليبيا أهمية خاصة، من حيث إنها تمثل ليس أول العمليات الصينية في أفريقيا فقط، إلى جانب المشاركة في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وفي دوريات مكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال كما تم التطرق إليها سابقاً، بل كونها تمثل أيضاً أول عمل عسكري للصين في البحر المتوسط، وهو مؤشر رئيسي لتطور قدرات الجيش الصيني على التدخل السريع حتى في المناطق البعيدة. ففي عام 2012 ضخت الصين 56 مليار دولار في حاملات الطائرات والبوارج، ووسعت قدراتها الجوية، وأنظمة الصواريخ القادرة على استهداف أساطيل ناقلات الولايات المتحدة التي تقبع في غرب المحيط الهادئ، وكان هذا جزءاً من برنامج التحديث العسكري الذي سيسمح للصين بالدفاع عن مصادرها من الطاقة، وحماية الممار البحرية التي تحمل الوقود إليها، ومحاولة تحقيق التوازن مع قدرات الولايات المتحدة البحرية‏[73].

وفي خطوة جديدة تؤكد التحول الاستراتيجي في السياسة الخارجية الصينية وتزايد الأهمية الاستراتيجية لأفريقيا في هذه السياسة، أعلنت وزارة الخارجية الصينية في كانون الثاني/يناير 2016 التوصل إلى اتفاق مع جيبوتي لبناء قاعدة عسكرية بحرية صينية هناك، ستعد أول قاعدة عسكرية تملكها الصين في الخارج‏[74]، كما أن هناك تقارير تتحدث عن توجه صيني لبناء قواعد عسكرية في كل من السيشل وجزر موريس‏[75]. وهو ما يعني تصاعد الانخراط الصيني في القضايا الأمنية الأفريقية مستقبـلاً.

ثالثاً: موقف الإدارة الأمريكية من آليات ووسائل الاستراتيجية الصين في أفريقيا

وفق مارك ليونارد، المدير التنفيذي للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، في كتابه فيمَ تفكر الصين، «… فإن كل تحد عالمي تقريباً، قد اكتسب بعداً صينياً: من التنمية الأفريقية، إلى إصلاح نظام الأمم المتحدة، إلى محادثات التجارة العالمية،… إلى «الإبادة الجماعية في دارفور»،… لم تعد الصين ذلك البلد الكبير الذي يمكن أن يختاره المرء لينعم بإقامة علاقات تجارية أو دبلوماسية معه؛ بل بدأت تصبح جزءاً من نسيج السياسة العالمية ووسيطاً تجارياً عالمياً نحن مجبرون على التحاور معه»‏[76].

ترسخت العلاقات الصينية – الأفريقية مع انطلاق منتدى التعاون الصيني – الأفريقي الذي تأسس في عام 2000، وشكل آلية فعالة للحوار الجماعي، وملتقى مهماً للتعاون بين الجانبين. وتحت إطار المنتدى ألغت الصين ديوناً تصل قيمتها إلى 1,38 مليار دولار كانت مستحقة على 31 من البلدان الأقل تقدماً والمثقلة بالديون في أفريقيا‏[77]، كما أنها وسَّعت نطاق إلغاء التعريفة الجمركية على المنتجات الأفريقية المصدرة إلى الصين، إذ ارتفعت هذه المنتجات من 190 إلى 440 منتجاً‏[78].

كما عرفت الاستثمارات الصينية المباشرة بأفريقيا ارتفاعاً سريعاً؛ بحيث انتقلت من 16 مليار دولار سنة 2011 إلى 26 مليار دولار سنة 2013، ويرجع هذا الارتفاع إلى السياسات المستهدفة التي تسعى إلى تشجيع وتعزيز استثمارات المقاولات الصينية بالقارة الأفريقية، التي باتت تعتبر ثاني أكبر سوق للمقاولات الصينية في مجال الأشغال؛ فحالياً أكثر من 2000 شركة صينية تشتغل بأفريقيا في قطاعات: الزراعة والطاقة والاتصالات والمطاعم والصناعات التحويلية‏[79]. وبذلك أصبحت الصين أكبر مموِّن لمشاريع البنية التحتية بأفريقيا بنسبة 28 بالمئة من مجموع التمويلات المخصصة لهذا المجال، متقدمة على كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان‏[80]، وهو ما نتج منه تزايد عدد أفراد الجالية الصينية في أفريقيا إلى أزيد من مليون نسمة‏[81]. ولقد سيطرت هذه الجالية على بعض المجالات التجارية في عدد من الدول الأفريقية، كما أن الشركات الصينية في إطار إنجاز المشاريع تفضل توظيف الصينيين بدلاً من العمالة المحلية، حيث تبلغ نسبة العاملين الصينيين أحياناً 70 بالمئة‏[82]، وهو ما سيكون له انعكاس على ارتفاع البطالة في عدد من الدول الأفريقية، ما سيولد اضطرابات اجتماعية في هذا المجال‏[83]، وخير مثال على ذلك الاشتباكات التي اندلعت بين مجموعة من الجزائريين والصينيين في العاصمة الجزائرية التي تعكس موجة الغضب التي تجتاح الجزائريين ضد الوجود الصيني في بلادهم الذي يقدر بالآلاف‏[84]. ولمواجهة هذه الاضطرابات بدأت تتوجه بعض الدول الأفريقية نحو فرض نسبة معينة من الموارد البشرية لتنفيذ أي مشروع جديد. فهذه أنغولا مثـلاً تفرض على الشركات الصينية أن يكون 30 بالمئة من الموارد البشرية على الأقل في كل مشروع جديد من الأيدي العاملة المحلية‏[85].

لقد باتت القوى الغربية قلقة من المنافسة الصينية في أفريقيا، حيث لم يعد الحضور الصيني في أفريقيا مقتصراً على شراء المواد الأولية أو التزود بالنفط، بل دخلت الشركات الصينية حلبة المنافسة الدولية مع الشركات الغربية في القطاعات التي كانت تحتكرها هذه الشركات، مثل المواد الطبية والأدوية والاتصالات‏[86]. فمثـلاً أصبحت شركة «هواوي» تمتلك حصصاً بالسوق الأفريقية نحّت جانباً شركات أوروبية عملاقة من قبيل ألكاتيل الفرنسية وإريكسون السويدية وغيرها‏[87]، بل أكثر من ذلك، لقيت الصين ترحيباً من عدد من المسؤولين الأفارقة إن لم نقل الشعوب‏[88]، وقد عبّر الرئيس السنغالي السابق عبد الله واد عن ذلك بقوله: «… إن فهم الصين لحاجاتنا أفضل من الفهم البطيء والمتغطرس في بعض الأحيان للمستثمرين الأوروبيين، والمنظمات المانحة، والمنظمات غير الحكومية»، و«… ليست أفريقيا وحدها التي يجب أن تتعلم من الصين ولكن الغرب أيضاً»‏[89].

وبانعقاد القمة السادسة لمنتدى التعاون الصيني – الأفريقي في كانون الأول/ديسمبر 2015 بجنوب أفريقيا، أكدت الصين أنها ستعمل على تنفيذ مجموعة من المبادرات في أفريقيا خلال السنوات المقبلة، تهم دعم التصنيع، والتحديث الزراعي، والبنية الأساسية، والخدمات المالية، والتنمية الخضراء، والتسهيلات في مجال التجارة والاستثمار، وتخفيف حدة الفقر والرعاية الاجتماعية والصحة العامة، والسلم والأمن‏[90].

لتنفيذ هذه المبادرات أعلنت الصين أنها سوف تقدم دعماً مالياً تبلغ قيمته 60 مليار دولار للقارة الأفريقية، في شكل استثمارات وقروض ومساعدات مالية، كما تعهدت الصين بتقديم 60 مليون دولار كمساعدة مجانية للاتحاد الأفريقي، لدعم بناء وتشغيل قوة الاستعداد الأفريقية للاستجابة السريعة للأزمات‏[91]. وهو ما يتجاوز ما قدمته الولايات المتحدة خلال قمتها الأخيرة مع دول القارة، المنعقدة في آب/أغسطس من سنة 2014 بنحو الضعفين، ما يعني أن الصين أصبحت تستعرض قوتها المالية في إطار البحث على مناطق النفوذ.

ومن اللافت للنظر في سياسة المساعدات الصينية لأفريقيا، أنها تعتمد على القروض بدلاً من المنح، وربما يعزى ذلك إلى أمرين أساسيين: أولهما أن الصين تستخدم القروض كذريعة بعد ذلك لضمان تدعيم العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول المتلقية لها، فإذا تحقق هذا الهدف تقوم الحكومة الصينية بشطب هذه الديون وفق جدول زمني متفق عليه. والأمر الثاني يتمثل بارتباط اتفاقيات هذه القروض بمشروطية معينة؛ إذ يتم النص على ضرورة استفادة الشركات الصينية بنسبة كبيرة من مشروعات هذه القروض. ولعل القرض الذي منحته الصين لأنغولا في عام 2004 خير مثال على هذه السياسة‏[92].

بات في إمكان البلدان الأفريقية الاعتماد على عدد أكبر من الشركاء الجدد للحصول على المساعدات الإنمائية، وهذا يوسع خياراتها في ظل تنافس القوى الأجنبية على مناطق النفوذ، والوصول إلى المستهلكين المحليين، فقد أصبحت دول مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي، التي تعتبر الصين من أهم أعضائها، تعمل على توفير آليات تمويلية بعيداً من المؤسسات المالية الكبرى التي يهيمن عليها الغرب (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، بحيث أُنشئ بنك خاص برأس مال قيمته 100 مليار دولار جاء معظمها من الصين لتمويل مشروعات التنمية في البلدان النامية، ومشروعات البنية التحتية، وهو ما سيشكل إجمالاً آلية دفاع اقتصادي تنموي في مواجهة الآليات التي يتحكم الغرب فيها‏[93].

لذلك بات النفوذ المتزايد للصين بأفريقيا يمثّل إحدى زوايا انشغالات الولايات المتحدة الأمريكية؛ ففي السادس من كانون الأول/ديسمبر 2005 أصدر مجلس العلاقات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية تقريراً حذر من مواجهة ضارية من جانب الصين تتعلق بإمدادات النفط من أفريقيا، داعياً واشنطن إلى انتهاج أسلوب استراتيجي تجاه القارة باستثمار المزيد من الموارد هناك. وأكد المجلس: أن أهمية أفريقيا الاستراتيجية تتزايد، بسبب إمدادات الطاقة، وأنه يتعين على الولايات المتحدة تجاوز أسلوب التعامل مع القارة من منظور إنساني، واعتبارها شريكاً‏[94]. ففي العام 2011 استوردت هذه الأخيرة من أفريقيا، وعلى وجه الخصوص من شمال وغرب أفريقيا، ما يقدر بـ 2,3 مليون برميل في اليوم، أي 20 في المئة من إجمالي الواردات النفطية الأمريكية‏[95].

وللحفاظ على مصالحها هناك وضعت الإدارة الأمريكية ونفذت العديد من البرامج العسكرية الخاصة بالقارة الأفريقية، وخصوصاً تلك الموجهة إلى منطقة الساحل الأفريقي‏[96]، الذي يضم الدول الغنية بالطاقة. وفي إطار تعليقه على هذه البرامج العسكرية، أكد «ببير أبروموفتشي» أن هدف الولايات المتحدة الأمريكية من تعزيز التدابير العسكرية والجهود الأمنية في هذه المنطقة، ليس من أجل تعزيز الأمن أو دعم السلام كما تؤكده الإدارة الأمريكية، ولا هي جزء من الحرب على الإرهاب، بل هي جزء من التنافس الاقتصادي الجديدة التي تشهده المنطقة‏[97]. وهو الأمر الذي يستشف من قول مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية جوني كارسون إنه على الرغم من المنافسة الاقتصادية الصينية في أفريقيا، فإن الإدارة الأمريكية لا تنظر إلى الصين باعتبارها تهديداً أمنياً أو عسكرياً. إلا أنه مع ذلك أكد وجود خطوط حمر لا يمكن أن تسمح الولايات المتحدة الأمريكية للصين بتخطيها، وخصوصاً في النشاطات العسكرية والاستخبارية‏[98].

لذلك يمكن القول إن إنشاء القيادة العسكرية الأمريكية الخاصة بالقارة الأفريقية (AFRICOM) يعدّ نوعاً من التحسب لاحتمالات تصاعد التنافس الدولي بأفريقيا في المستقبل، قد تعتبره الولايات المتحدة تهديداً لمصالحها الحيوية، أي الاستعداد لأسوأ السيناريوهات المتعلقة بالتنافس مع الصين، ليس في وقتنا الحالي فحسب، وإنما خلال المستقبل المنظور في ظل تزايد الانتقادات الموجهة للصين من طرف الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد طرمب، الذي اعتمد في حملته الانتخابية على تحميل جزء كبير من المشاكل الداخلية لدى الولايات المتحدة الأمريكية للسياسات الاقتصادية الصينية، وخصوصاً في مجال سرقة مناصب الشغل كما يدعيه.

خلال إدارة أوباما استمر الجهد العسكري لأمريكا في القارة الأفريقية للحفاظ على مصالحها هناك، حيث عمل على زيادة المخصصات المالية لبرنامج التعليم والتدريب العسكري بنسبة 30 بالمئة عن تلك التي كانت مخصصة خلال فترة بوش‏[99]. بصفة عامة، فبالرغم من التوقعات بتعميق العلاقات الأمريكية – الأفريقية بوصول أوباما لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة بعد زياراته للقارة في 2009 و2013، فإن سياسته لم تحقق الكثير، ولم تعكس تغيراً ملحوظاً عن الإدارات السابقة عليه في هذا الصدد، فنتيجة للضغوط الاقتصادية اضطرت الإدارة الأمريكية إلى خفض المعونة المقدمة إلى القارة، وخفض التمثيل الدبلوماسي فيها، فضـلاً عن زيادة عسكرة التوجه الأمريكي نحو الساحل الأفريقي‏[100].

ويمكن القول إن هذه المشاريع الأمنية الأمريكية بأفريقيا ليست إلا حلقة من سلسلة السياسات الاستراتيجية الأمنية الأمريكية التي تسعى من خلالها إلى إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية والجيواستراتيجية للمناطق الممتدة من أقصى الشرق إلى الشرق الأوسط فأفريقيا، وصولاً إلى المنطقة المغاربية والساحل الأفريقي، فقد كانت البداية من الصومال، فأفغانستان، والعراق، والسودان، وليبيا، وأخيراً مالي، بالإضافة إلى موجات ما اصطلح على تسميته «الربيع العربي»‏[101].

وبموازاة البرامج العسكرية، عرفت الاستثمارات الخارجية الأمريكية في أفريقيا ارتفاعاً بأكثر من 16 مليار دولار ابتداءً من سنة 2009. لكن التدفق السنوي للاستثمارات الأمريكية نحو القارة الأفريقية تباطأ، حيث كان خلال سنة 2009 يقدر بـ 10,4 مليار دولار، ليتراجع إلى 3,7 مليار دولار سنة 2012، وستعرف الاستثمارات الأمريكية أول مرة منذ بداية العقد الماضي، تراجعاً طفيفاً سنة 2013، وتتركز هذه الاستثمارات أساساً في أربع دول أفريقية هي نيجيريا وموريشيوس وجنوب أفريقيا وغانا‏[102]. لكون أكثر من نصف هذه الاستثمارات موجهاً لاستخراج الموارد الطبيعية (المعدنية والطاقية)، في حين أن النصف الباقي موزع بين: الصناعات التحويلية، وشركات التأمين والخدمات المعلوماتية‏[103].

خاتـمة

في الختام نخلص إلى أن تزايد حدة التنافس الدولي في أفريقيا ارتبط أساساً بالدور الصيني الدؤوب للحصول على الموارد الطاقية والمعدنية الأفريقية لتأمين تطورها الاقتصادي، وفتح أسواقها لتصريف منتجاتها الصناعية، وهو ما أصبح يشكل تهديداً للمصالح الاقتصادية الغربية، وخصوصاً إذا علمنا أن الصين أصبحت الشريك التجاري الأول للقارة الأفريقية حالياً، والمستورد الأول للكثير من معادنها. لذلك فاستراتيجية هذه الأخيرة في القارة الأفريقية إنما تهدف إلى تأكيد نفودها كقوة عالمية تتحدى السيطرة الغربية على مقدرات القارة؛ فالصين باتت تقدم نفسها لأفريقيا كبديل للنموذج الغربي من خلال نموذج اقتصادي يستند إلى مبدأ الاستثمار والتجارة والمساعدات المالية، وتقديم القروض الميسرة من دون شروط سياسية، على عكس السياسات الغربية التي ما زالت تعتمد على الأساليب الاستعمارية القديمة لحماية مصالحها الاستراتيجية في كثير من الدول الأفريقية، كالتدخلات العسكرية، التي كان آخرها التدخل الفرنسي بمالي، وأفريقيا الوسطى، وتدخل حلف الناتو بليبيا، وما أسفر عنه من انقسامات داخل المجتمع الليبي لا تزال تبعاتها مستمرة حالياً، وهو ما يعني محدودية تأثير الصين في الأوضاع السياسية والأمنية الأفريقية.

ما من شك في أن تطور العلاقات بين الصين وأفريقيا أسهم في تنويع خيارات الحكومات الأفريقية، وفي تقوية وضعها في المفاوضات مع شركائها التقليديين، بيد أنه رغم الاختلافات بين نهج الصين في التعامل مع أفريقيا ونظيره الغربي، فلا بد من أن تشهد العلاقات بين الطرفين بعض مشاكل العلاقات بين الغرب وأفريقيا. ويتمثل الخطر الذي يواجه البلدان الأفريقية في هذا الإطار بأن يقتصر دورها على مجرد تزويد الصين بالسلع الأولية، وعدم استطاعتها، لأسباب مختلفة – تتضمن شروطاً تجارية غير مواتية، والمنافسة الدولية، والفساد الداخلي وغياب الإرادة السياسية – التحرك أبعد من هذا ورفع نموها الاقتصادي من خلال تنويع الأنشطة الاقتصادية؛ فالصادرات الصناعية الصينية أدت إلى وقف التصنيع في بعض البلدان ولا سيَّما في مجال النسيج، لكن الأخطر من ذلك توجُّه الصين إلى بناء قواعد عسكرية بأفريقيا، وما سيكون له من انعكاسات على الأوضاع الأمنية بالقارة الأفريقية مستقبـلاً في ظل تزايد نفوذها الاقتصادي بهذه القارة، واختراقه مصالح القوى الغربية هناك.