مقدمة: المشهد العام في السودان
أتاحت الظروف الموضوعية فرصة ذهبية للحركة الإسلامية لقيادة التغيير في المنطقة العربية، لكنها أُصيبت بنكسة كبيرة في مصر وانتكاسة في السودان. ففي مصر فشلت الحركة الإسلامية في التعامل مع الواقع من ناحية الدولة العميقة والإعلام ومعطيات الحداثة. فقد وظَّف الليبراليون/العلمانيون الإعلام لتصوير الإخوان المسلمين بأنهم ضد الفنون والتمثيل والسياحة – مقرونة بأخطاء في الممارسة بسبب انعدام خبرة الحكم عند الإخوان – فاستعْدَت قطاعاً كبيراً من الرأي العام المصري على حكم الإخوان، فكانت الحركة المضادة التي استغلها الجيش وأطاح بها الرئيس المنتخب محمد مرسي. وفي السودان أيضاً فشلت الحركة الإسلامية في الانتقال من الفكرة إلى الدولة حيث أُصيبت بانتكاسة بسبب الانشقاقات داخل الحركة، والفساد وسوء الخطاب وسوء التعامل مع الملف الخارجي ولا سيَّما الغرب، وبخاصة أمريكا؛ إضافة إلى أنها أصبحت حاضناً للإرهاب والإرهابيين، وخصوصاً في تسعينيات القرن العشرين.
ربما كانت الحالة السودانية التي سبقت ثورات الربيع العربي بثورتين (1964 و1985) هي الأكثر قابلية للانفجار من بلدان الربيع العربي. ففي السودان كانت تَمور فيها كل تفاعلات الثورة ومحركاتها قبل اندلاعها في تلك البلدان. لكن مصدر توافر عوامل الثورة والصانع للأزمات هو نفسه القوة التي شكلت القوة الكابحة للانفجار والمانعة للتغيير، وهي الحركة الإسلامية الحاكمة في السودان باسم (المؤتمر الوطني). فقد «صنعت» أزمات في الداخل وأثارت مشكلات وقطيعة مع الخارج، ومع ذلك – في الوقت ذاته – أصبحت هذه الحركة الإسلامية هي «أفضل السيِّئين» المطلوب بقاؤهم، مع إصلاحها، حفاظاً على دولة السودان من الانهيار، لأن البديل – في غياب مَن هو في المستوى (الأيديولوجي والتكنوقراطي) – القادر ملء الفراغ دون انفلات، سوف يكون وضعاً فوضوياً وحركات دينية متطرفة وسلفية جهادية، من بوكو حرام إلى القاعدة.
المشهد في السودان يقول إن جل عوامل، ومناخ، استزراع تلك القوى والجماعات متوافر في هذا البلد الأكثر تنوعاً من كل بلدان المنطقة، من حيث الجغرافيا والتعدد المذهبي والطائفي والإثني؛ مقروناً بوجود حركات متمردة/مسلحة وبعضها له عمق في الدول الأفريقية المجاورة التي بما تمور به من أزمات وتعقيدات ربما تنقل الحالة السودانية المضطربة – إذا ما حدث انفلات أمني – إلى حالة من التعقيد والتأزيم أكبر من كل بلدان الربيع العربي المضطربة حالياً (سورية، اليمن، ليبيا، مصر والعراق). هذا إضافة إلى قوى أجنبية – إقليمية ودولية – جاهزة للتدخل في السودان، مقروناً بالاكتشافات الكبيرة في النفط والذهب واليورانيوم ومعادن أخرى.
المشهد السياسي في السودان بعد انتخابات أبريل/نيسان 2015 – التي فازت بها الحركة الإسلامية (حزب المؤتمر الوطني) – يشير إلى أن لا جديد في واقع السياسة السودانية، وأن لا أمل في مستقبل سياسي أفضل في السودان ما لم تغيِّر الحركة الإسلامية عقلها السياسي الشمولي وقبضتها الأمنية وأسلوبها الإقصائي وخطابها الاستعلائي وسلوكها الإثني/الجهوي. فالحركة الإسلامية الحاكمة في السودان منذ استيلائها على الحكم عام 1989 لم تطرح برنامجاً جديداً يبشر بمرحلة جديدة أو تحوُّل ديمقراطي حقيقي. فما زال الواقع السوداني يعكس قبضة أمنية تتحكم في كل خيوط اللعبة وتشكل ظهيراً لحزب هو أقرب إلى الحزب الشمولي في ممارسته الإقصائية، ما أدى إلى محاولات انقلابية من داخله وإلى انشقاقين: في عام 1999، حيث انشقَّ حسن الترابي في حزب جديد هو «حزب المؤتمر الشعبي»؛ ثم انشقاق خريف 2013، عندما انسلخت مجموعة «إصلاحية» بقيادة غازي صلاح الدين عتباني وأسست حزب «الإصلاح الآن». وبينما كان يترقب الجميع – منذ بداية عام 2014 – تحولاً نحو المزيد من الديمقراطية وتهيئة المناخ السياسي لحوار وطني يجمع كل الأطراف في الداخل والخارج، إذا بانتكاسة جديدة تعصف بكل أمل في الانتقال الديمقراطي. فقد تم إبعاد علي عثمان محمد طه، النائب الأول لرئيس الجمهورية (وأحد أكبر العقول السياسية المستنيرة) وحلَّ مكانه الفريق أول (ركن) بكري حسن صالح، في عسكرة واضحة للقيادة السياسية. ثم تم اعتقال الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي لمجرد إبداء آراء ناقدة للحكومة؛ وفي يوم واحد تمت مصادرة 14 صحيفة يومية سياسية، واعتقال معارضين سياسيين مثل أمين مكي مدني (رئيس الكونفدرالية السودانية لمنظمات المجتمع المدني)، وفاروق أبو عيسى (زعيم تحالف المعارضة المعروف بـ «التجمُّع الوطني الديمقراطي»). وقد تم إطلاق سراحهما لاحقاً.. لكن حالة الاحتقان وعدم الثقة بين الحكومة والمعارضة ما زالت تعيق أي مناخ مشجع لإدارة حوار شامل وجاد من أجل بناء نظام سياسي يقوم على ديمقراطية حقيقية ومستدامة.
عندما يبلغ عدد طالبي اللجوء السياسي 22000 شخص، ويتم منع الندوات، وتُصَادر الصحف ويتم وقف بعضها، ويستمر الفساد بلا محاسبة وتنعدم الشفافية، فهل يمكن أن يتوقع أي مراقب تحوُّلاً ديمقراطياً حقيقياً؟ تؤكد معطيات الواقع السياسي في السودان، والسلوك السياسي الفعلي للنخبة الحاكمة، أن السودان ما زال بعيداً من عمليات التحول الديمقراطي، وأن الانتخابات التي جرت كانت حقاً نزيهة لكنها تمت في غياب أي تنافس حقيقي حيث جرت تحت سيطرة حزب واحد – الحزب الحاكم – الذي يسيطر على الإعلام ويسخِّر مؤسسات الدولة لخدمته في مواجهة أحزاب صغيرة وضعيفة (تحالفت مع الحزب الحاكم وفق محاصصة في السلطة) حيث قاطعت الأحزاب الكبيرة تلك الانتخابات وهي بالتالي (أي الانتخابات) لا تشكل معياراً حقيقياً لشرعية الحكومة القادمة أو تمثيلاً حقيقياً لقطاعات الشعب أو ممارسة ديمقراطية حقيقية. فغياب المعارضة وغياب المنافسة الحقيقية أفرغ الديمقراطية من محتواها.
لقد أضاعت الحركة الإسلامية في السودان فرصة تاريخية في تقديم نموذج ناجح للحكم في ظل مناخ محلي وإقليمي مواتٍ لذلك. لكنها، بدلاً من ذلك، ارتكبت أخطاءً تاريخية كبيرة شوَّهت التجربة وأدخلتها في أزمات وضعت السودان في سلسلة من الحروب والصراعات والعزلة والعقوبات. فكانت النتيجة دولة مضطربة، هشة وممزقة، وأصبحت في التصنيف العالمي ضمن منظومة الدول الفاشلة والحكومات الفاسدة والأشد فقراً على الرغم من ثرائها بالموارد الطبيعية والأراضي والمياه والقوة العاملة.
لكن في المقابل حققت الحركة الإسلامية في السودان إنجازات في مجال النفط والاتصالات والطرق والجسور والسدود والكهرباء والتعليم. فقد تحسّن الإمداد الكهربائي بدرجة كبيرة وغطت الشبكة القومية للكهرباء أجزاء كبيرة من القطر؛ وامتدت شبكة الطرق بين الولايات المختلفة وصلت حتى دارفور؛ وأصبح السودان من أفضل الدول الأفريقية في مجال الاتصالات؛ وعملت على تطوير الخدمات الصحية وأدخلت نظاماً ناجحاً في التأمين الصحي، وضاعفت عدد الجامعات من خمسة إلى 34 جامعة حكومية؛ وقامت بمحاولات في التصنيع الثقيل والحديث (السيارات والطائرات والأسلحة) والتنقيب عن الذهب وتصديره.
غير أن الفساد في السودان وخطأ السياسات أدّيا إلى الفقر وتدهور الاقتصاد والهجرة والبطالة وانتشار الجريمة وزيادة الحروب القبلية وانتشار الفساد، مقابل عدم المحاسبة. كما فشلت في التعامل مع احتجاجات أقاليم الهامش وقمعها بالقوة بدل النظر في تظلماتها، ما أدى إلى اندلاع حروب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وانعكس فشل السياسات الخارجية من خلال استعداء الغرب بشعارات متطرفة، مع إيواء إرهابيين، وهو ما أدى إلى العقوبات الاقتصادية والعزلة وتراجع الاستثمار، وتراكم الديون، الأمر الذي انعكس سلباً على الاقتصاد في الداخل، مقروناً بالحروب التي استنزفت الاقتصاد، فضاعف ذلك من الأزمة وحجم المعاناة، وهاجر في أقل من عام واحد (2014) أكثر من خمسين ألفاً من الكوادر المؤهلة.
وبين إنجازات كبيرة وإخفاقات وأخطاء كارثية للحركة الإسلامية يقف الشعب السوداني حائراً بين هذا النظام – على علّاته – وبين الخوف من المجهول: من مصير بلدان الربيع العربي، في غياب بديل في المستوى المطلوب وذلك لوجود معارضة ضعيفة – غير مستعدة لملء الفراغ، مقروناً بوجود ميليشيات مسلحة وقبائل تمت عسكرتها – ربما تأتي الانتفاضة بوضع فوضوي وانفلات أمني وتفكك للدولة مثل ما حدث للعديد من دول الإقليم.
إذاً، ما هو الحل، وكيف المَخْرَج من هذه الحيرة أو المعضلة (Dilemma) في سياق هذه المعادلة الصعبة؟
يمكن رصد عدد من الشواهد والمؤشرات التي تشكل حقائق الواقع الذي يمكن أن يدعم أي تقييم موضوعي لتجربة الحركة الإسلامية في الحكم:
أولاً: الوضع الأمني
أصبح السودان تحت حكم الحركة الإسلامية دولة هشة (Fragile State) ومضطربة لأن كثيراً من المناطق بات خارج سيطرة الحكومة؛ ويشمل ذلك مناطق في دارفور وجنوب كردفان (جبال النوبة) والنيل الأزرق. وأصبحت القيادة السياسية على مستوى العاصمة والولايات تتحدث عن جهود تُبذَل لـ «إعادة هيبة الدولة» أو «فرض هيبة السلطة». وهذا اعتراف صريح بهذا الواقع المتهرئ أمنياً. يعيش السودان في أزمة أمن حقيقية؛ ففي كثير من المدن والمناطق لا يشعر المواطن بالأمن والطمأنينة. وعلى الرغم من أن الحكومة السودانية في الخرطوم تتحدث بين الفينة والأخرى عن «أنها كسرت شوكة التمرد» إلا أن الواقع لا يؤكد ذلك. ففي دارفور – مثلاً – ينعدم الأمن حتى في المدن الكبرى مثل الفاشر ونيالا أكبر مدن الإقليم. وبين الحين والآخر تتم عمليات خطف لمواطنين من منازلهم أو من مواقع عملهم – نهاراً – ويتم قتلهم. على سبيل المثال تم اغتيال رجل أعمال معروف في نيالا (إسماعيل وادي) حيث قُتل بالرصاص هو وابن أخته وجُرِح ابنه وذلك بالقرب من منزله . كما تم خطف موظف بنك نهاراً من مكان عمله وهرب به المسلحون خارج المدينة. وفرضت حالة الطوارئ في جميع ولاية جنوب دارفور . وتكفي الإشارة إلى أن مدينة نيالا، مثلاً، خضعت لحالات حظر التجول عدة مرات في السنوات القليلة الماضية. وبين الحين والآخر تتعرض عاصمة ولاية جنوب كردفان (كادقلي) لقصف بالصواريخ والمدفعية من حركات التمرد، ويتعرض المواطنون للقتل والترويع (قصفت حركة التمرد مناطق في الولاية عشية انتخابات نيسان/أبريل 2015 وقتلت 149 مواطناً).
وحتى نهاية عام 2014 تم إعلان حالة الطوارئ وحظر التجول في ولاية شرق دارفور من التاسعة مساء وحتى السابعة صباحاً «منعاً للتفلتات الأمنية». وحتى قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (اليوناميد) التي جاءت لحفظ السلام في دارفور تعاني انعدام الأمن وتتعرض للهجوم من الحركات المسلحة. ولغاية تشرين الأول/أكتوبر 2014 فقدت هذه القوة 137 جندياً و43 شرطياً وثلاثة موظفين دوليين و18 موظفاً محلياً. وقد بدأت ترتب للخروج بطلب من الحكومة السودانية، في ظل أوضاع إنسانية ما زالت مأسوية. فهناك الآن أكثر من 200000 لاجئ سوداني في تشاد وأكثر من 355000 نازح في معسكرات في إقليم دارفور، أكثر من ثلث هذا العدد لم تتمكن المنظمات من الوصول إليهم بسبب الظروف الأمنية.
وزادت الأوضاع الأمنية سوءاً في دارفور بسبب الحروب القبلية، حيث قُتل أكثر من 2500 مواطن وجرح أضعاف هذا العدد، فضلاً عن حرق القرى وقوع خسائر مادية تُقدر بمليارات الجنيهات السودانية وذلك في خلال 12 عاماً (2003 – 2015). إن تصاعد الصراع القبلي الذي أصبح مسلحاً بالأسلحة الحديثة هو نتاج مباشر لأزمة دارفور ولأخطاء حكومة المؤتمر الوطني التي تدخلت بصورة غير محايدة في تعاملها مع القبائل، ما أدى إلى استقطاب سياسي/إثني حاد بين الحكومة والحركات المسلحة. ومع استقواء طرف بالقوى الأجنبية تم تعقيد الأزمة وتدويلها فتحولت إلى أكبر أزمة إنسانية دولية عرفها العالم في العقد الأول من الألفية الثالثة وحتى الآن. ويوضح الشكل الرقم (1) أثر سياسات النخبة الحاكمة وتدخلها غير الرشيد وسياساتها غير الحكيمة في تصاعد الصراع القبلي الذي وصل إلى أعلى تصعيد له في قتال بين قبيلتي المعاليا والرزيقات (قبائل عربية، بسبب الأرض) في 11/5/2015 حيث قُتل فيه نحو 114 وجُرِح 188 من الطرفين. وقد اعترفت الحكومة بأن الصراعات القبلية أصبحت تشكل أكبر مهدد للأمن الوطني السوداني.
يظهر الشكل الرقم (1) أن سياسات النخب (في 1) التي أخطأت عندما ألغت في عام 1971 (في يمين الشكل) النظام الأهلي المعروف بالإدارة الأهلية (2)، وهو نظام اجتماعي قبلي يقوم على الأعراف والتقاليد التي تشكل عناصر الضبط الاجتماعي. فنتج من ذلك فراغ إداري (3) من دون أن تعوِّض ذلك بمؤسسات الدولة الرسمية (4) مثل الشرطة والمحاكم، مقروناً ذلك بموجة الجفاف والتصحر والصراع حول المرعى ومصادر المياه (5) في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، فأدى ذلك إلى فراغ أمني أسفر عن تصاعد وتيرة الصراع القبلي بصورة دموية وعنيفة (6).
من الناحية الأخرى (على شمال الشكل) أدت السياسات الخاطئة المتمثلة بغياب التنمية الشاملة العادلة إلى شعور الأقاليم الطرفية (مثل دارفور) بالظلم والتهميش (7) ومع ظهور طبقة متعلمة من أبناء الإقليم (8) بدأت تعبر عن هذا الظلم (9) بالتزامن مع ظروف إقليمية (10) – الصراع في تشاد وتدفق اللاجئين والحركات المسلحة وتدفق السلاح من ليبيا حيث تدخل القذافي لدعم طرف في الصراع التشادي بينما احتمى الطرف الآخر بالامتداد (التداخل) القبلي في دارفور – فأدى كل ذلك إلى ظهور الحركات المسلحة (11)، التي تتشكل من إثنيات غير عربية، فتدخلت الحكومة بصورة غير محايدة (12)، حيث سلَّحت الطرف العربي (في ما يُعرف بـ «الجنجويد») ما أدى إلى تبلور مفاهيم إثنية (13) – عرب ضد الأفارقة: أو «الحُمْرة» ضد «الزُرْقَة» – فأنتج ذلك استقطاباً عرقياً/سياسياً حاداً بين الحكومة والحركات المسلحة (14). وفي مقابل تسليح حكومة الحركة الإسلامية للقبائل العربية استقوت الحركات المتمردة بالأجنبي (15) فأدى ذلك إلى تدويل مشكلة دارفور (16) ومزيد من التعقيد والتأزيم (17).
الشكل الرقم (1)
أثر سياسات الحركة الإسلامية في تصعيد القبلية وتعقيد الوضع الأمني
ثانياً: الوضع الاقتصادي
يظهر الفشل الاقتصادي لحكومة الإنقاذ (المؤتمر الوطني/الحركة الإسلامية) في أن السودان أصبح دولة غارقة في الديون (أكثر من 40 مليار دولار أمريكي)، وفشلت في الحصول على إعفاء. وزاد العجز في ميزان المدفوعات وارتفع التضخم ثلاثة أرقام (حيث وصل إلى 166 بالمئة في العقد الأول لهذه الحكومة)، وتدهورت قيمة العملة السودانية مقابل الدولار الأمريكي (عندما وصلت حكومة البشير إلى السلطة كان الدولار يساوي 12 جنيهاً سودانياً؛ أما اليوم (2015) فهو يساوي 6000 جنيه سوداني بالسعر الرسمي وأكثر من 9000 جنيه سوداني في السوق السوداء).
الشكل الرقم (2)
أسعار الجنيه السوداني مقابل الدولار الأمريكي منذ 1989 حتى نهاية 2014
متوسط معدل الانهيار (30 بالمئة) في السنة
وقد استمرت حكومة الإنقاذ في تطبيق سياسة «التحرير الاقتصادي» التي انتقدها خبراء الاقتصاد في السودان لأنها أضرت بالاقتصاد الوطني واصفين ما حدث بأنه هو انتقال الاقتصاد من حكومي إلى اقتصاد سلطوي تسيطر عليه شركات معينة[1]. وقد انعكس هذا التردي الاقتصادي بصورة واضحة على الحالة الاجتماعية والصحية للمواطن، إذ أصبح السودان الأسوأ على مستوى العالم من حيث مستوى سوء التغذية واحتل ذيل الدول الأكثر جوعاً في العالم (بعد بورندي وإريتريا وجزر القمر)[2]. وذكر تقرير منظمة الفاو أن هناك طفلاً واحداً من بين كل ثلاثة أطفال سودانيين يعانون سوء التغذية، وأن 12 بالمئة من أطفال السودان يعانون سوء التغذية الحاد.
تدهورت الزراعة والصناعة والقطاع الإنتاجي بصورة عامة وزاد العجز في الموازنة العامة والاستدانة من النظام المصرفي وطباعة النقود، دون تغطية إنتاجية، ما ضاعف التضخم وأضعف القوة الشرائية للجنيه وزاد معاناة المواطنين. وأمام هذا العجز المستمر اضطرت الحكومة إلى رفع الدعم عن المحروقات الذي تسبب في احتجاجات شعبية في صيف 2012 وفي خريف 2013 قابلتها الحكومة بقمع راح ضحيته أكثر من 80 مواطناً ومئات الجرحى وتم اعتقال العشرات.
كذلك فشلت الحكومة في مجال الاستثمار، إن من حيث جذب الاستثمار الأجنبي أو تشجيع الاستثمار المحلي. فالمستثمر الأجنبي يواجه إجراءات معقدة. بل تحدثت الصحف اليومية عن أن الموظفين في مؤسسات الاستثمار يطلبون رشوة لتسهيل الإجراءات للمستثمر. وقد أعلن برلمانيون أن موظفين وشخصيات طفيلية يستغلون المستثمرين بدفع رسوم إجراءات الاستثمار مقدماً قبل بدء العمل، ما أدى إلى عزوف الأجانب عن الاستثمار في السودان. وأن هناك موظفين بالدولة يتلقون «عمولات» لمصلحة تنفيذ مشاريع استثمارية[3]. وحتى المستثمر الوطني هرب برأسماله إلى دول أخرى، ويكفي أن استثمارات السودانيين في إثيوبيا المجاورة بلغت نحو 2.3 مليار دولار أمريكي[4].
كذلك من مظاهر فشل الحكومة أن أكثر من نصف سكان السودان أصبحوا يرزحون تحت مستوى الفقر، وأن 6.9 مليون سوداني (20 بالمئة من السكان) يحتاجون إلى مساعدات عاجلة (في مجال الإيواء، والحماية، والتغذية، والخدمات الصحية، وتوفير مياه الشرب) تقدر بأكثر من 900 مليون دولار[5]. تقول إحصاءات الحكومة الصادرة في عام 2012 – 2013 أن نسبة الفقر في السودان بلغت 46 بالمئة؛ بينما ترى مصادر أكاديمية محايدة أن أكثر من 90 بالمئة من سكان السودان فقراء[6]. ونتيجة لتدهور الأوضاع في الريف (غياب التنمية الشاملة العادلة لأقاليم الهامش) أصبح 25 بالمئة من فقراء السودان يعيشون في العاصمة الخرطوم، و57 بالمئة من السكان يعيشون في معسكرات النازحين واللجوء والمناطق العشوائية والفقيرة. أما الخدمات الصحية فلا تغطي إلا 40 بالمئة من السكان. أكثر من 70 بالمئة من السودانيين يعانون في الحصول على أساسيات الحياة من مياه وتعليم وصحة. وبحسب تقارير القومسيون الطبي يسافر «35 ألف سوداني سنوياً للعلاج بالخارج»[7]. كما أن العاصمة نفسها التي ترقد بين نهرين – النيل الأزرق والأبيض – يعاني معظم سكانها قلة الحصول على المياه الكافية والنظيفة.
ثالثاً: الخدمة المدنية: بين التسييس والتمكين والفساد
أما الخدمة المدنية فقد تجلَّت فيها أكبر أخطاء حكومة الإنقاذ وهي عملية التسييس والتمكين والإقصاء. وتحت شعار «الإحالة للصالح العام» تم تشريد وفصل كل مَن لا ينتمي إلى الجبهة الإسلامية/الحركة الإسلامية. فقدت الخدمة المدنية الكفاءات المتميزة وتم شَغل الوظائف بكوادر أقل كفاءة وعديمة الخبرة. فتأثرت الخدمة المدنية وتأثر دولاب الدولة. لذلك تأثرت حياة الناس بهذا التمكين؛ وانتشرت المحسوبية والواسطة وعمّ الفساد. وتدنت الخدمات حتى في العاصمة الخرطوم من ناحية المياه والخدمات الصحية وصحة البيئة والمواصلات وما شابه ذلك.
إن انتشار الفساد من أمْيَز مظاهر فشل حكم الحركة الإسلامية في السودان في نظام أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية ويتحدث عن الإسلام والدولة المسلمة. فقد كانت الحكومة تنفي باستمرار وجود فساد. وبعد دستور عام 1998 والانفتاح الجزئي والتخفيف النسبي للقبضة الشمولية من خلال السماح لصحف خاصة بالصدور، بدأت الحكومة تتحدث عن الفساد. لكنها كانت تمنع الحديث عن الفساد. وفي بداية الألفية الثانية كانت الحكومة وعلى لسان الرئيس البشير تنفي وجود فساد بل كان الرئيس يهدد الصحف بالقول بأن كل مَن يتحدث عن فساد دون إثبات سوف تتم محاسبته. وهذا كان من أكبر الأخطاء التي تسببت في انتشار الفساد حتى اضطرت الحكومة بعد عشر سنوات أن تعترف بوجود فساد وشكلت له نيابة «الثراء الحرام والمال المشبوه» ثم مفوضية للفساد. لقد وفّر نفي الحكومة للفساد وتهديد مَن يتحدث عنه حماية للفساد وأوجد مناخاً مشجعاً لاستشرائه حتى انتشرت النكات حول الظاهرة. وبسبب حماية الفساد والتستر عليه ظل الفساد (تسميه الحكومة الاعتداء على المال العام) في تصاعد مستمر وذلك بحسب تقارير المُراجع العام للحكومة نفسها الذي درج على تقديم تقريره إلى البرلمان كل عام. وبحسب تقرير المُراجع مثلاً وصلت جرائم المال العام في عام 2002 إلى 137 حالة[8].
وقد تعرضت مؤسسات وشركات عامة ناجحة لفساد كبير فانهارت. ومن أمثلة ذلك شركة الأقطان التي ظهر فيها 10 متهمين بالفساد (في ضوء تقرير المراجع العام للدولة). وقد أوصى التقرير بـ «اتهام رؤوس كبار ومسؤولين في الدولة حيث كشف التقرير عن تورطهم في مسائل جنائية تتعلق بالتزوير في كراسة العطاءات الخاصة بمحالج شركة السودان للأقطان المحدودة»[9]. وقد بلغ حجم الفساد في شركة الأقطان أكثر من 300 مليار جنيه سوداني[10]. وهناك فساد شركة الخطوط الجوية السودانية (سودانير (Sudan Air))، وقد كتب الصحافي المعروف عثمان ميرغني سلسلة تحقيقات عن الفساد فيها كشف حجم الفساد الكبير الذي دمر هذا الناقل الوطني – في عهد حكومة الحركة الإسلامية – وهو ناقل له تاريخه واسمه على مستوى العالم ومن الخطوط الرائدة في أفريقيا (ترجع إلى أربعينيات القرن العشرين). وارتبط بالفساد فيه أيضاً فساد آخر تمثل ببيع خط هيثرو في بريطانيا ولم يُعرف كيف بيع وكم الثمن ومن الذي باعه وأين ذهب المبلغ[11]! وقد كتب الصحافي عثمان ميرغني في تحقيقه الاستقصائي قائلاً: «إن كل الحلقات التي تتناول قضايا شركة الخطوط الجوية السودانية صادمة للغاية لأنها لا تكشف حجم الفساد فحسب، بل الإهمال والـ «اللامبالاة» بالمال العام، وتكشف أن السبب في كل مصائب هذا الوطن هو غياب الشفافية»[12]. غير أن الكاتب لم يستطع إكمال الحلقات التي تبقى منها ثلاث قبل أن يتوقف عند الحلقة السادسة[13]. وقال الكاتب في التحقيق: «… هنا لا يصبح الأمر مجرد خسارة.. ولا مجرد نكبة تجارية.. ولا حتى كارثة مالية، هنا جريمة كاملة الأركان.. وفي وضح النهار وفوق رؤوس الأشهاد»[14]. وقد أورد الكاتب في الحلقات معلومات دقيقة وأرقاماً ووثائق ومستندات تؤكد حجم الفساد.
كما نشرت صحيفة الصيحة اليومية المستقلة فساد مسؤول كبير في الأراضي حيث حصل على 6 قطع سكنية وتجارية في مناطق متميزة[15]. كذلك كشفت الصحيفة نفسها وبالوثائق أن مدير المساحة بولاية الخرطوم قد حصل على 7 قطع أرض تجارية وسكنية في مناطق مميزة مسجلة باسمه[16]. حتى إن موظفي مكتب حاكم ولاية الخرطوم تورطوا في فساد كبير حيث اختلسوا مليارات الجنيهات. ففي نيسان/أبريل 2014 كشفت صحف الخرطوم أن الموظفين بمكتب والي (حاكم) ولاية الخرطوم (السابق) عبد الرحمن الخضر، قد ارتكبوا اختلاسات بما يُقدَّر بمبلغ 600 مليار جنيه سوداني. كذلك تم كشف أن وزير المالية حتى نهاية العام 2013، علي محمود، قد اشترى منزلاً بمبلغ 19 مليار جنيه سوداني (1.850.000) دولار أمريكي، إضافة إلى امتلاكه منزلين آخرين في أحياء راقية في العاصمة الخرطوم، علماً أنه هو الذي دعا السودانيين إلى التقشف بعد انفصال الجنوب[17]. ولكنه صرح في الصحف بـ «أن البيعة لم تتم». والمشكلة الكبيرة في أن الحكومة لم تقدم أي متهم بالفساد للمحاكمة.
من أخطاء حكومة المؤتمر الوطني في التعامل مع الفساد أنها شجعت الفساد من خلال ما أسمته «فقه السترة»[18]، كما جاءت بـ «فقه التحلل». وبالتالي لا يتورع أي من منتسبي المؤتمر الوطني أن يأخذ من المال العام ما دام مصيره – إذا ما تم كشفه – إرجاع المال والتستر على القضية/الفضيحة. من الأمثلة على ذلك أن نيابة المال العام عندما استدعت وزير الشباب والرياضة، حاج ماجد سوار آنذاك (في عام 2011) وعدداً من المسؤولين عن تنظيم بطولة الأمم الأفريقية للمنتخبات للمحليين في العام 2010، التي وردت في تقرير المُراجع العام الذي تناول فيه الأموال التي تم صرفها دون وجه حق حسب التقرير والبالغة 14 مليار جنيه سوداني (قرابة 2 مليون دولار أمريكي)، صرَّح الوزير الشاب لإحدى الصحف اليومية الصادرة في الخرطوم بالقول: «حاسبنا عدداً من أعضاء حزبنا عقب ثبوت تجاوزهم في المال العام. لم نعلن أسماءهم للإعلام لأننا نتعامل بفقه السترة»[19].
ووفقاً لمؤشر الشفافية الدولية جاء السودان بين أكثر عشر دول تعاني الفساد حيث تبوأ المركز 177 وحصل على 1.6 نقطة (من 10 نقاط) حيث اقترب من نقطة الواحد التي تعني انعدام الشفافية بالكامل. وقد أقر بفشل التجربة الإسلامية في السودان الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة في تونس: «تحولت الحركة الإسلامية في السودان إلى حكم سلطوي قامع، وتحولت طائفة كبيرة من رجاله إلى رجال دولة في حكم مستبد، يُزاحم كثير منه لنفسه ولأسرته على المشاريع التجارية والشركات، ويبذلون ما في وسعهم للاستئثار بالمناصب والمصالح لأنفسهم وأبناء قبائلهم»[20].
رابعاً: الوضع السياسي
تمثل الفشل السياسي في السودان في أن هذا البلد تحت حكم الجبهة الإسلامية صار الأكثر سوءاً في ملف حقوق الإنسان. ويمثل هذا واحداً من أوجه فشل «المشروع الحضاري». فحتى أيلول/سبتمبر 2014 ظل مجلس حقوق الإنسان بجنيف يصدر القرارات الجديدة ضد حكومة المؤتمر الوطني بسبب تدهور حقوق الإنسان في السودان. ويرتبط بالسجل السيئ لحقوق الإنسان المزيد من التدهور في علاقات السودان بالمجتمع الدولي. وتتأثر تبعاً لذلك العلاقات مع مؤسسات التمويل الدولي ومع المانحين. وقد قال أحد مفكري الحركة الإسلامية السودانية الذين تنحّوا جانباً وأخذوا ينقدون سلوك الإسلاميين في الحكم (البروفيسور حسن مكي): «ارتكبت الحركة الإسلامية العديد من الأخطاء وهي خارج وداخل الحكم. فانقلابها على السلطة كان خطأ، ومحاولة اغتيال حسني مبارك وكذلك ما يحدث الآن من كبت للحريات والحجر على الآراء. كل هذه الأخطاء وإذا كان الشعب غائباً عن المراقبة فهذا يعني تفويضاً مطلقاً وخطأ كبيراً فينبغي أن تعي الحركة الإسلامية أنها ليست من جنس الملائكة فهي بشياطينها والمجتمع لديه ملائكته»[21]. وقد انتقد تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش» الحكومة السودانية لاعتقالها العشرات من المواطنين الذين شاركوا في التظاهرات ضد قرارات رفع الدعم وزيادة الأسعار في أيلول/سبتمبر 2014 ولم يتم تقديمهم للمحاكمة. وطالبت المنظمة بإجراء تحقيق حول ادعاءات سوء المعاملة. كما طالبت بإطلاق سراحهم أو تقديمهم للمحاكمة[22].
يعيش المؤتمر الوطني (حزب الحركة الإسلامية الحاكم) في أزمة حقيقية في داخله. فهناك صراع قوى في داخله وعلى المستويات المختلفة حيث طفحت في الأخبار كثير من مظاهر هذا الصراع في ولايات السودان المختلفة. وقد تعرض الحزب لانقسام كبير في عام 1999، ثم في عام 2013.
كما تجلى الوضع المتأزم في داخل الحركة الإسلامية (المؤتمر الوطني) في محاولة انقلابية لإطاحة البشير. وقد فشلت المحاولة وتم اعتقال المتهمين مثل الفريق صلاح قوش واللواء ود إبراهيم وآخرين (تم إطلاق سراحهم لاحقاً)، ثم دارت الأيام وتمت إطاحة نافع نفسه.
طبقت حكومة المؤتمر الوطني فدرالية ناقصة وديمقراطية مشوهة. فما زالت الحكومة تصادر الصحف وتعتقل من ينتقدها، حتى إنها اعتقلت الصادق المهدي لمجرد انتقاده سلوك «قوات التدخل السريع». وكذلك وقف الصحف واعتقال الصحافيين حتى بعد خطاب الرئيس الخاص بفتح الباب للحوار الوطني (كانون الثاني/يناير 2014). وفي جانب النظام الفدرالي (الاتحادي) ما زال المركز قابضاً على كثير من السلطات. وقد أنشأت الحكومة كثيراً من الولايات الإضافية وكثيراً من المعتمديات (المحافظات) والمحليات (البلديات) لموازنات سياسية وترضيات قبلية أدت إلى تعزيز القبلية والنعرات العنصرية، وإلى تضخم الجهاز البيروقراطي وزيادة الصرف على الدستوريين والامتيازات، كل ذلك على حساب التنمية والخدمات؛ وترهل الحكم الاتحادي حيث هناك 1360 دستورياً بالولايات يتقاضون 240 مليار جنيه سوداني[23]. ولم تحقق الفدرالية مكسباً للمواطنين. والديمقراطية المطبقة تحت ظل حكومة المؤتمر الوطني ناقصة على جميع المستويات. فكثير من الولاة الذين تم انتخابهم من قبل مواطني الولاية تعرضوا لإقالة بقرار جمهوري وتعيين آخرين بدلاً منهم، وهذا يناقض مبدأ الديمقراطية. وفي المؤتمر العام للمؤتمر الوطني في تشرين الأول/أكتوبر 2014 تم الاتفاق على أن يتم اختيار الولاية بالتعيين من رئيس الجمهورية، وقد تم ذلك بالفعل في حزيران/يونيو 2015. وهذا بلا شك انتكاسة لهامش ديمقراطي محدود. وكان المبرر منعاً للقبلية في عملية انتخاب الوالي. بينما هذه القبلية تصاعدت بفعل سلوك حكومة الإنقاذ، والقضاء عليها لا يتم بقرار منع الانتخابات بل بتغيير السلوك السياسي وترسيخ الوعي ونشر الثقافة السياسية، ويبدأ الأمر بتغيير في سلوك النخبة الحاكمة نفسها المسؤولة عن إثارة هذه القبلية والعنصرية والجهوية.
خامساً: الوضع الاجتماعي
من أكبر أخطاء الحكومة التي زاد من فشلها هو تكريسها للقبلية وإثارتها للنعرات العنصرية/الإثنية. حيث تعاملت الحكومة مع المجتمع السوداني من خلال الكيانات القبلية والطائفية فبلورت هوية إثنية على حساب الهوية الوطنية التي تم تمزيقها. كما أن عمليات التوظيف تستند إلى الانتماء القبلي والجهوي، ويكفي أن الأوراق الرسمية للتقدم إلى الخدمات والتوظيف أو طلب استخراج جنسية مطلوب فيها تحديد اسم القبيلة. وقد شعرت كثير من القبائل أنها مهمشة ومظلومة من حيث المشاركة في السلطة ومن حيث التنمية والخدمات. فظهر مفهوم «المناطق المهمشة» وحملت نخبتها السلاح بعد أن فشلت في إقناع الحكومة المركزية أن تتعامل بالعدل والمساواة بين جميع المناطق في توزيع الثروة والسلطة. وقد فجر ذلك الأزمات وصراع الهويات والحروب الأهلية وانفصال الجنوب.
إن اتخاذ النخبة الحاكمة من القبيلة مدخلاً للتعامل مع بنية المجتمع السوداني وحراكه أدى إلى ترسيخ هذا المفهوم على المستوى الرسمي والشعبي. والخطر في أن هذا السلوك سوف يؤدي إلى تفتيت الهوية الوطنية على أساس قبلي وإثني. وبالتالي سوف تنمو الهوية الإثنية على حساب الهوية الوطنية.
كذلك على المستوى الاجتماعي ارتفعت حالات الطلاق إلى أكثر من 67 بالمئة في عام (2013) وزادت نسبة العنوسة بسبب عطالة الشباب نتيجة لفشل السياسات الاقتصادية ولفشل السياسة الخارجية أيضاً. وظهر الانحراف وسط الشباب وهاجرت الفتيات السودانيات وتلطخت سمعة السودان بانتشار ممارسات لم تكن معروفة عن الشعب السوداني في الخارج مثل البغاء. وقد كتبت صحف كثيرة عن إشانة سمعة السودان بواسطة بعض السودانيات المهاجرات في دول أخرى. كذلك زادت حالات الانتحار في السودان في السنوات الأخيرة.
وزادت الهجرة بدرجة كبيرة، إذ هاجر من السودان في النصف الأول من العام 2014 أكثر من 50 ألف سوداني[24]، معظمهم من الشباب ونحو 20 بالمئة منهم من الكفاءات المتميزة (أساتذة جامعات وأطباء ومهندسون)[25]. وبحسب تقرير صادر عن جهاز السودانيين العاملين بالخارج لعام 2014 بلغ عدد السودانيين الذين هاجروا للعمل في الخارج نحو 4 ملايين سوداني، منهم 2 مليون في السعودية وحدها[26]. وهناك من طلب حق اللجوء السياسي في أوروبا من لاعبين وصحافيين ودبلوماسيين.
خاتمة
في ضوء المتغيرات الإقليمية وثورات الربيع العربي وعمليات الاختراق وظهور الحركات المتطرفة والإرهابية والمتشددة و«الفوضى الخلّاقة» أفرز الوضع في السودان معطيات جديدة قد تدفع المحلل إلى تقديم تبريرات بشأن الحالة السودانية – ربما تبدو متناقضة مع اتجاهات التغيير في المنطقة. فمنطق الثورات الشعبية يحتم تغيير الأنظمة الفاقدة للشرعية (وربما الفاسدة والفاشلة)، لكن الحالة السودانية تصطدم بما أفرزته هذه الثورات من إسقاطات سالبة على الأوضاع في تلك الدول. فيصبح التساؤل المطروح إزاء الحالة السودانية: هل الأفضل التغيير غير مضمون العواقب وفق ما وصلت إليه ثورات الربيع العربي أو آلت إليه التجارب الماثلة، أم إصلاح ما هو موجود بمنطق الخيار الأقل سوءاً؟
الاستثناء في التجربة التونسية لا ينطبق على السودان لأن في تونس حكماء وعقلاء – من أمثال راشد الغنوشي – الذين قدموا تنازلات كبيرة من أجل استقرار الدولة بينما في السودان لا يتوافر هذا النموذج. لقد اتضح من التجارب الراهنة كيف أن الثورات عندما تكون بلا قيادة وبلا برنامج أو رؤية يكون الناتج هو الفوضى والفشل وربما سرقة الثورة. وفي ظل مناخ الفوضى هذه تتحول الثورات إلى فرص لتصفية الحسابات والاغتيالات والتشفي. ويكون هناك فعل ورد فعل، وعنف يقابله عنف. وفي حالة السودان من المتوقع أن يكون هناك تدخل من الخارج وربما ينتهي الأمر بتقسيم السودان إلى عدة دول.
في الانتخابات التي جرت في السودان في نيسان/أبريل 2015 فاز البشير بمنصب رئيس الجمهورية بنسبة تزيد على الـ 94 بالمئة، وجاء في المركز الثاني بفارق شاسع وكبير مرشح الرئاسة فضل السيد عيسى شعيب الذي حصل على نسبة 1.4 بالمئة من العدد الكلي من الأصوات للمرشحين لرئاسة الجمهورية الـ 16. وفاز حزبه الحاكم (المؤتمر الوطني) بنحو 75 بالمئة من مقاعد البرلمان بينما تقاسمت بقية المقاعد أحزاب صغيرة وبعض المستقلين.
الملاحظة المهمة التي يمكن الإشارة إليها في تلك الانتخابات هي فوز مستقلين بـ 19 مقعداً – بنسبة تزيد على 4 بالمئة من مقاعد البرلمان. ثلاثة من هؤلاء المستقلين كانوا أعضاء في المؤتمر الوطني فاستقلوا عنه ونزلوا في دوائر جغرافية وفازوا فيها على منافسين لهم يمثلون المؤتمر الوطني. هذا مؤشر يدل على أن الشعب السوداني قد بدأ يبحث عن بديل.
إن مستقبل الديمقراطية في السودان رهين عدة عوامل:
أولاً: إعادة توحيد الأحزاب السياسية. حيث انسلخ من الأحزاب الكبيرة أفراد والتحقوا بالمؤتمر الوطني (استجابة لإغراءات السلطة)، وانشقت إلى عدة أحزاب، فكان ذلك خصماً على قوة النظام الحزبي الذي يقوم عليه النظام السياسي، وهو ما مهّد الطريق لحزب المؤتمر الحاكم بالسيطرة على الساحة السياسية. ويتهم المراقبون حزب المؤتمر الوطني بأنه هو السبب خلف هذه الانشقاقات.
ثانياً: أن تعكف هذه الأحزاب – بعد توحيدها باسترداد الأجنحة المنشقة – على إعادة بناء نفسها. والأفضل تجميع (أو تحالف) الأحزاب المتشابهة والمتقاربة في الخط الأيديولوجي. فهناك أكثر من 100 حزب سياسي في السودان، منها 83 حزباً مسجلاً تسجيلاً رسمياً، 42 منها شارك في انتخابات نيسان/أبريل 2015. معظم هذه الأحزاب صغير جداً ويفتقر إلى السند الشعبي ولا يسجل حضوراً ونشاطاً واضحاً في الساحة السياسية. وعلى جميع الأحزاب السياسية أن تدرك أن الواقع السياسي في السودان بدأ يتغير وفقاً لمتغيرات عديدة في الداخل والخارج. وأن طريقة تفكير الجيل الجديد وطموحاته وحركة الوعي التي بدأت تدب في أوصال المجتمع السوداني بفعل عوامل عديدة (مثل انتشار التعليم وتأثير الحداثة والعولمة) تستلزم أن تعكف الأحزاب السياسية على إعادة النظر في بنيتها وقياداتها ورؤيتها وسياساتها حتى تواكب تلك المستجدات، وإلا فإن ظهور أحزاب جديدة تستوعب تلك المتغيرات وتقوم على أسس ديمقراطية أمر متوقع وهو ما يمكن أن يهدد الأحزاب التقليدية المنقسمة على نفسها بما فيها حزب المؤتمر الوطني نفسه.
ثالثاً: التمسك بمبدأ الحوار الوطني والصبر على استمرار الحوار مع المؤتمر الوطني ما دام الحزب الحاكم التزم بهذا المبدأ للتأسيس لتحول ديمقراطي شامل. فمن خلال الحوار الوطني يمكن لهذه الأحزاب أن تطرح مقترحاتها لبناء قاعدة للتحول الديمقراطي من حيث وضع دستور جديد وإقرار مبدأ الحريات والتوافق على نوع الحكم وشكل الدولة والنظام الانتخابي. ويكون أفضل إذا ما تحالفت هذه الأحزاب لتشكِّل كتلة تفاوضية موحدة في آلية الحوار. فهذه فرصة تاريخية على الأحزاب استثمارها. كما يتطلب الأمر تقديم الطرفين تنازلات من أجل حوار جاد يحقق أهدافه المتمثلة بوضع دستور يشكل ضمانة لتأسيس ديمقراطية مستدامة.
رابعاً: أن تتبنى الأحزاب استراتيجية «الإصلاح» بدلاً من التغيير بالقوة أو تحريك الشارع من أجل انتفاضة شعبية غير مأمونة العواقب في غياب أحزاب كبيرة قوية ومتماسكة لها فلسفة ورؤية وبرنامج ليملأ الفراغ، ولا سيَّما بعد ما حدث من عسكرة لمكونات المجتمع السوداني والميليشيات الكثيرة والقبائل المسلحة، خشية إعادة إنتاج النموذج الليبي أو السوري أو اليمني… يمكن لهذا الأحزاب – مجتمعة – أن تمارس ضغطاً على المؤتمر الوطني الذي استجاب هو الآخر لضغوط سابقة فبدأ يتخلص تدريجياً من القبضة الشمولية المطلقة التي كانت سائدة قبل اتفاقية نيفاشا للسلام (2005)، فكانت النتيجة درجة من الحريات (الصحفية والنشاط الحزبي…) يمكن للأحزاب توظيفها للتأسيس لتحول ديمقراطي شامل.
خامساً: في نظرة إلى واقع المؤتمر الوطني وواقع الحركات المسلحة نجد أن المعارضة (الحركات المسلحة) قد بدأت تضعف بعد أن فقدت أنظمة داعمة لها مثل ليبيا القذافي، وفقدت قواعد حاضنة لها، مثل تشاد بعد التقارب والمصالحة بين الرئيس التشادي إدريس دبي والسوداني عمر البشير وتشكيل قوات حدودية مشتركة، فلجأت للجنوب الذي أصبح مأزوماً بحرب مزقته وأتاحت الفرصة للتدخل من قوى أخرى مثل أوغندا (في شكل تدخل عسكري)، وإسرائيل (في شكل خبراء وتدريب). وأصبحت حكومة الخرطوم تهدد حكومة جوبا (عاصمة دولة جنوب السودان) بأنها سوف تدعم معارضيها إذا ما دعمت حركات التمرد السوداني، كما أن الجنوب نفسه يعيش خطر انهيار الدولة. من ناحية أخرى تلقت الحركة الأقوى في دارفور (حركة العدل والمساواة) ضربات متتالية ابتداءً من فشلها في احتلال الخرطوم في 10 أيار/مايو 2008 ثم مقتل قائدها خليل إبراهيم في 25/12/2011، ثم تعرضت لخسارة كبيرة عندما تصدت لها القوات الخاصة (قوات الدعم السريع) في معركة في جنوب دارفور في 27/4/2015، فقدت فيها الحركة مئات العربات المدرعة والأسلحة وسقط لها عدد كبير من القتلى بمن فيهم قادة ميدانيون، إضافة إلى الأسرى. وتعرضت حركة العدل والمساواة نفسها لانقسام حيث انسلخ جناح منها ووقع اتفاقية (الدوحة) مع الحكومة السودانية في 14/7/2011، كما انشقت الحركات الأخرى والتزم معظمها بالحل السلمي. بل تحول بعضها إلى أحزاب سياسية – تم تسجيلها – وشاركت في انتخابات 2015 وحصل بعضها على عدد من المقاعد. فلم تعد حركات التمرد الدارفورية بالقوة نفسها وبدأت تضعف بصورة واضحة وكل المؤشرات تدل على أن خيار الحل السلمي هو الأرجح.
سادساً: حققت الانتخابات الأخيرة – رغم نقائصها – مكسباً كبيراً ربما لا يراه الكثيرون في غمرة نقدهم لهيمنة حزب المؤتمر الوطني، وهي أنها أرست قاعدة التداول السلمي للسلطة، وأسست لمبدأ الديمقراطية واحترام قواعد اللعبة حيث شهدت مقاطعة عدد من الأحزاب ولكنها في الوقت ذاته لم تجنح المعارضة للعنف، فهذا مكسب يصب في مصلحة التحول الديمقراطي.
سابعاً: يحتاج الوضع في السودان إلى إصلاح في الهياكل والمؤسسات ومحاربة الفساد وتطبيق مبدأ الشفافية والمحاسبة، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب حيث تكون الكفاءة هي المعيار في الاختيار للوظيفة. وأن يكون الحزب الحاكم جاداً في محاربة المحسوبية والقبلية والجهوية.
ثامناً: أن تشمل عملية إصلاح الهياكل والمؤسسات والسياسات عملية الفصل الواضح بين الحكومة وحزب المؤتمر الوطني، والفصل بين الجهاز التشريعي (البرلمان) والجهاز التنفيذي، مع تفعيل هذا البرلمان بحيث يعمل بعيداً من تأثير الحزب الحاكم.
تاسعاً: تطبيق الفدرالية الكاملة، حيث يتم الآن تعيين حكام الولايات بواسطة رئيس الجمهورية بدلاً من انتخابهم؛ وتطبيق الديمقراطية التوافقية التي نجحت في دول مشابهة للسودان (في تنوعه الإثني والديني والثقافي) مثل نيجيريا ورواندا، وأن يتم تطبيقها في إطار نظام التمثيل النسبي.
قد يهمكم أيضاً السودان… إلى أين؟
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #السودان #الحركة_الإسلامية #الحركة_الإسلامية_في_السودان #الحكم_في_السودان #الربيع_العربي #دراسات
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 441 في تشرين الثاني/نوفمبر 2015.
(**) عبده مختار موسى: أكاديمي وباحث من السودان.
[1] الرأي العام (الخرطوم)، 24/8/2014، ص 7.
[2] تقرير منظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة. انظر: جريدة التغيير (الخرطوم)، 29/11/2013، ص 9.
[3] جريدة التيار، 19/7/2014، و جريدة السوداني، 19/6/2014.
[4] جريدة السوداني، 10/7/2014.
[5] «احتياجات السودان الإنسانية تصل إلى 982 مليون دولار أمريكي،» منسقية الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية والتنموية (الخرطوم) (16 تموز/يوليو 2014)، <http://khartoum.sites.unicnetwork.org/2014/07/16/>؛ قناة الجزيرة (الدوحة) (16 تموز/يوليو 2014)، وجريدة السوداني، 17/7/2014.
[6] الخبيرة الاجتماعية الشفة علي خضر، مخاطبة منتدى الفقر، في: جريدة الانتباهة (الخرطوم)، 21/8/2014.
[7] جريدة الصيحة (الخرطوم)، 27/11/2014.
[8] جريدة المجهر السياسي (الخرطوم)، 17/8/2014.
[9] جريدة السوداني، 2/9/2014.
[10] جريدة السوداني، 24/4/2014.
[11] جريدة التيار، 20/12/2014.
[12] انظر: عمود «حديث المدينة» للكاتب عثمان ميرغني، في: جريدة اليوم التالي (الخرطوم)، 28/12/2013، الصفحة الأخيرة.
[13] بدأ عثمان ميرغني في هذه الحلقات التي تكشف الفساد في شركة سودانير تحقيق استقصائي في جريدة اليوم التالي ابتداءً من يوم 25/12/2013 وبداية العام 2014 ونشر ستّ حلقات تحت عنوان: «جثة مجهولة الهوية»، ولكنه توقف ولم يتمكّن من نشر الثلاث حلقات المتبقية.
[14] جريدة اليوم التالي، الخرطوم، 25/12/2013، ص 5.
[15] جريدة الصيحة (الخرطوم)، 17/5/2014.
[16] جريدة الصيحة، 14/5/2014.
[17] جريدة الأهرام اليوم (الخرطوم)، 16/9/2014، وعمود رئيس التحرير ضياء الدين بلال، في: جريدة السوداني، 17 – 18/9/2014، الصفحة الأخيرة.
[18] السوداني: 5/9/2014.
[19] الانتباهة، 19/3/2011.
[20] بابكر فيصل بابكر، «راشد الغنوشي متحدثاً لجريدة الشروق التونسية، 30/9/2014،» جريدة السوداني، 11/10/2014، ص 6.
[21] حسن مكي محمد أحمد: هو بروفيسر في العلوم السياسية في جامعة أفريقيا العالمية في الخرطوم، ومدير هذه الجامعة سابقاً، باحث وأكاديمي إسلامي. انظر حوار صحفي مع حسن مكي محمد أحمد، في: جريدة اليوم التالي (الخرطوم)، 29/10/2013.
[22] جريدة التغيير (الخرطوم)، 29/11/2013.
[23] جريدة الصيحة، 16/11/2014.
[24] انظر: «تقرير وزارة العمل السودانية، 26/8/2014،» جريدة الرأي العام (الخرطوم)، 27/8/2014.
[25] الرأي العام، 24/8/2014.
[26] حاج ماجد سوار: هو رئيس جهاز السودانيين العاملين بالخارج. انظر: جريدة التغيير، 11/11/2014.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.