مقدمة:

يُجمع المهتمّون بالشأن السوداني على أنه بلد شديد التعقيد، وعصيٌّ على الفهم والتنبؤ، بحكم التناقضات والمفارقات التي لازمته منذ النشأة. فقد خضع السودان، باستمرار ومن دون تغييرات جذرية، لعبء التاريخ وضرورات المكان، الأمر الذي حدّ قدرته على التجديد وولوج الحداثة. وبقي السودان أسيراً لثنائية الحديث والتقليدي؛ المبثوثة في كلّ مكونات الواقع السوداني. لذا، ظلّ التحدي الأكبر الذي يواجه السودان هو بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تُحقق الوحدة الوطنية بإدارة عقلانية للتنوع الثقافي، مع تحقيق تنمية منتجة عادلة ومتساوية.

وكانت نتيجة التقاعس في هذا الإنجاز إهداراً مريعاً للفرص التاريخية التي يصعب أن تتكرر. وقد عقد كثيرون الآمال على السودان كدولة رائدة نالت استقلالها مبكراً في أفريقيا، وبخاصة أنها استهلت ميلادها بإقامة نظام برلماني متميز، وانتخابات في سنة 1955، وُصفت بالنزاهة والحرية. كما عوّل آخرون، ومن بينهم المؤرخ «توينبي» على دوره كجسر بين الحضارات العربية والأفريقية متجاوزاً حاجز أفريقيا جنوب وشمال الصحراء[1].

وبسبب الموارد الطبيعية الهائلة والإمكانات البشرية، صُنّف كسلَّة غذاء المنطقة. ولكن دولة التعددية السياسية المبكرة، دخلت في دائرة شريرة من تعاقب الانقلابات العسكرية، والانتفاضات الشعبية، وعودة البرلمانية. وتحول الجسر الحضاري إلى جدار عازل بين العرب وأفريقيا، بعد فصل الجنوب. ومن المفارقة، أن بلاد سلة الغذاء المأمولة، غدت تضربها المجاعات بصورة دورية منتظمة. وصار السودان نموذجاً ثابتاً في تقارير الدول الفاشلة، ومتصدراً إحصاءات الفساد، ومتابعات انتهاكات حقوق الإنسان.

أولاً: إشكالية بناء الدولة الوطنية

ورث السودانيون بعد الاستقلال دولة ناقصة وعاجزة، وكان ذلك يتطلب جهداً فائقاً لبناء دولة وطنية حديثة؛ إذ بقيت التركة الاستعمارية كما هي، رغم تعاقب الحكومات المدنية والعسكرية. فالسودان دولة «مستزرعة» من القوى الاستعمارية، لذلك ورثت كثيراً من المشكلات الخاصة بالاقتصاد، والإدارة، وشكل الحكم. وقد لازمت أمراضٌ بدايات الدولة السودانية حتّى اليوم، لأن فكرة الدولة جاءت متأخرة ومتعثرة. ويؤرخ البعض لنشأة السودان ـ الدولة، وظهور حكومة مركزية لها حدود إدارية ودولية؛ بدءاً من غزو محمّد علي باشا للسودان عام 1821. وهذا يعني عدم وجود تقليد عريق كمصر مثلاً. ويعني هذا عدم اعتبار السلطنات السابقة مثل السلطنة الزرقاء («الفونج»، 1504 ـ 1821) كيانات سياسية تستحق صفة الدولة[2]. وهذا التحليل لا يدرج ـ بالتأكيد ـ المماليك القديمة والمسيحية كدول؛ والتي يتفاخر بها السودانيون حين يريدون تأكيد القدم والأصالة. ثمّ كان التشكيل الثاني للدولة على يد القوى الاستعمارية، وفق اتفاقية الحكم الثنائي عام 1899، التي استمرت حتّى الاستقلال عام 1956. أي أن حقبة المهدية (1885 ـ 1898) مجرد فترة انتقالية لم تشهد الاستقرار.

تعثرت الدولة السودانية، وفشلت كلّ المحاولات في ملاقاة رهانات ما بعد الاستقلال، وعلى رأسها تحقيق الوحدة الوطنية؛ حيث كان من المفترض تحويل كثير من الكيانات والتجمعات البشرية التقليدية القائمة على أسس قبلية، وعشائرية، وطائفية دينية إلى تكوينات وتنظيمات أحدث سياسياً ومتطورة اجتماعياً في إطار قومي شامل. لكن السودان ظلّ بسبب عوامل ذاتية وموضوعية، راكداً ومقاوماً للتغيير، أو ـ على الأقل ـ بطيء الاستجابة. فقد ضربت القبلية والطائفية الدينية بجذورها عميقاً في المجتمع والثقافات السودانية، وهو ما أعاق أي تحولات عميقة. ويتمثل عبء التاريخ باستقبال بلاد السودان منذ القدم، لهجرات عديدة من الشمال، وعبر البحر الأحمر، ومن أنحاء أفريقيا. من هنا جاء هذا التنوع في الأعراق، والإثنيات، والأديان، واللغات. ويمكن أن يكون التنوع الثقافي نعمة أو نقمة حسب طريقة التعامل معه. ولكنْ في السودان، عمل الاستعمار على توظيف التنوع الثقافي سلباً لإنجاح مشروعه الاستعماري بتكريس الانتماءات القبلية لخدمة سياسة فرّق تسُد. ومنذ البداية، شجعت الحكومة الاستعمارية نظام الإدارة الأهلية أو الحكم غير المباشر الذي يفوض بعض السلطات لشيوخ وعمد القبائل المحلية. ورغم الشكل الظاهري لنظام لامركزي، فإن الهدف الحقيقي وضع حواجز إدارية تصعّب الاندماج القومي. ووصل الحدّ إلى درجة إقرار قانون المناطق المقفولة عام 1922 الذي كان يمنع حركة الشماليين إلى الجنوب[3].

واستمر نظام الإدارة الأهلية المكرِّس للقبلية بعد خروج الاستعمار، لأن أغلبية قيادات هذه الإدارة شكلت عضوية الحزبين التقليديين: الأمة والوطني الاتحادي. وبقيت على هذا النظام الاجتماعي القديم، وبواسطته سيطرت على السلطة منذ الاستقلال. فقد احتفظ نظام الدوائر الجغرافية البرلمانية بتطابق الدائرة الجغرافية مع سكن أو دار كلّ قبيلة. وهكذا أبقت الحكومات الوطنية على عوامل الفرقة والتجزئة التي ابتكرها الاستعمار لتحقيق أغراض استعمارية، ثمّ تحولت الأغراض إلى أخرى حزبية بحتة. أما القوى الحديثة ـ اشتراكية وإسلامية ـ فقد رأت في هذا الوضع عقبة في سبيل حصولها على الأغلبية انتخابياً؛ وهذا هو سرّ تفكيرها في العمل الانقلابي. فقد كان الإسلاميون والشيوعيون وبقية الأحزاب العقائدية، يرون ضرورة تغيير العلاقات القبلية والعشائرية والطائفية، مهما كانت الوسائل. واعتبروا نظام الحزب الواحد إحدى الوسائل الناجعة لتوحيد السودانيين، الذين تفرقهم الحزبية التقليدية.

بشّر النظام الحالي السودانيين بـ «مشروع حضاري إسلامي سوداني»، يمتلك القدرة على حلّ كلّ مشاكل البلاد المزمنة والمستعصية. وقد رأى في الشعار الإسلامي ترياقاً ضدّ كلّ أشكال التشرذم والانقسام. وقد بادر النظام إلى إنشاء وزارة عرفتها النظم الشمولية مثل ألمانيا النازية، سميت «وزارة التخطيط الاجتماعي». وأعلنت هدفها المركزي، بلا تردد: إعادة صياغة الإنسان السوداني. ومن الغريب أن الحكام الإسلاميين أدركوا عمق أثر التاريخ في وحدة الكيان السوداني. ورغم انتشار الإسلام، طرحوا السؤال الصعب: «إن المعضلة الداخلية الأساسية أمام الحركة الإسلامية الحديثة في السودان هي كيف يمكن لها أن تحول الوجدان الصوفي السالب إلى رصيد ثوري موجب (…) إن الوجدان الصوفي لا يوجد في حالة منعزلة، إنّما توجد الطريقة الصوفية محمولة على القبيلة وملتحمة معها عضوياً في بعض الأحيان. ليس ذلك فحسب، بل إن التحام الطريقة بالقبيلة يتطور ويتعقد حتّى تتولد عنه الطائفية»[4].

وأقر المشروع الإسلامي الراهن، رغم حداثته المعلنة، بهزيمته أمام القبلية والطائفية في السودان. فقد انتقد منذ البداية، نقص أصولية الطرق الصوفية، وعدم نقاء إسلاميتها، وأعلن ضرورة تجاوزها. وحين شعر النظام الإسلامي بنفوذ الصوفيين والتفاف الناس حولهم، اضطر إلى التراجع. فقد تمّ تشكيل المجلس القومي للذكر والذاكرين، وهناك أمانة «الذكر والذاكرين» ضمن أمانات حزب المؤتمر الحاكم.

عمل النظام على أثننة السياسة أو إعادة القبلية لتحل محل الأحزاب. فقد تسربت القبلية من خلال النظام الفدرالي الذي يعدّه الحاكمون من أهم الإنجازات السياسية. ولكن توزيع وتفويض السلطة للأقاليم، كان في حقيقته تقسيماً جديداً لسلطة القبائل النافذة والكبرى، واستدعاء للإدارة الأهلية التي تمّ حلها في عهد الرئيس الأسبق النميري. وتمثل حكومات الأقاليم المختارة أو المنتخبة، القبائل والعشائر. وهذا وضع متوقع مع غياب المؤسسات الحزبية التي يمكن أن تتنافس حسب الأسس السياسية، على المناصب.

وقد وظّف النظام آلية تشجيع القبلية، رغم خطورتها، وعادت القبلية والأثننة في أقبح صورها إلى المجتمع السوداني، وإلى الحياة السياسية. لقد وظّف النظام أزمة عودة القبلية لمصلحة استمراره في السلطة من خلال العمل على جعل القبائل بديلة للأحزاب السياسية. وتقوم القبيلة بمهام الحزب في الأرياف والقرى، والنجوع البعيدة المهمشة. وعوضاً من الاندماج القومي، والوحدة الوطنية يقوم النظام بتذرير الوطن بعثاً لسياسة البريطانيين خلال الحقبة الاستعمارية، القائلة: قسّم واحكم. فالنظام الفدرالي، الذي كان يفترض أن يكون وسيلة جيدة لتوزيع السلطة والثروة والتنمية بعدالة بين المركز والأقاليم، تحول إلى شكل جديد للقبيلة بمنحها وضعاً دستورياً وقانونياً عوضاً من الوضعية العرفية التقليدية السابقة. وهذه بذور تمزيق النسيج الاجتماعي السوداني والسبب الحقيقي لمقاومة النظام الحاكم، وظهور الحركات الإقليمية (القبلية) المسلّحة. وقد صارت دارفور مسرحاً للصراعات القبلية، ولم تكن الدولة بعيدة عن تأجيج هذه النزاعات من خلال التسليح أو الانحياز لمجموعة عرقية معينة.

ويلاحظ أن كثيراً من الأوراق الرسمية صارت تتضمن سؤالاً عن القبيلة. وأصبح من المعتاد السؤال عن القبيلة في المقابلات الخاصة بالتوظيف والدراسة والابتعاث. وتتداول أجهزة الإعلام المختلفة بكثرة موضوعات قبلية، فقد بُعث الاهتمام بتاريخ القبائل وأدبها الشعبي. وعادت إلى الواجهة أخبار الاقتتال القبلي بالذات في دارفور. وهي استراتيجية لا تختلف عن سياسة فرّق تسُد، التي مارستها الإدارة الاستعمارية. وبالفعل أعاد الإدارة الأهلية مع التأصيل اللازم حيث سمي «شيخ القبيلة» بالأمير. وقام النظام بخلق كيانات موازية لإشعال التنافس وسط القبائل مع القوى الحديثة ذات المطالب المختلفة. ونجح النظام في سياسة التفريق، فقد تقلد بعض أبناء هذه القبائل وظائف رفيعة في مناطقهم حسب النظام الفدرالي الذي تحوّل إلى قبلي بامتياز. وهذه التحولات لم تصل إلى القواعد وبقيت على مستوى رشى تقدّم إلى النخب وتسمح للنظام التحدّث ـ زوراً ـ عن المشاركة الشعبية.

وفي محاولة تضخيم أزمة الوطن الكبرى، وبخاصة عند الحديث عن تهديد الهوية العربية ـ الإسلامية، ساعد النظام على تنامي الشعور العنصري بين مكوّنات الأمة الواحدة، وليس القبلي فقط. وعاد النظام هذه الأيام للعزف على وتر العنصرية، إذ يروّج الإعلام الرسمي لفكرة أن الجبهة الثورية هي في حقيقتها تحالف لاجتثاث العنصر العربي في السودان والقضاء على الثقافة العربية والإسلام. ويتكرر الحديث عمّا حدث للعرب في زنجبار في ستينيات القرن الماضي. ومثل هذا التخويف قد يجد له صدى بين عناصر معارضة للنظام ولكن بسيطة التفكير. وهنا يتم أيضاً إحياء مفاهيم متخلفة عن العروبة والدين تتحدث عن غدر «العبيد»، وهذه لفظة يتم تداولها بلا حرج.

لم تكن الحركة الإسلامية السودانية عند استيلائها على السلطة تملك أي رؤية للتعددية، والمشاركة السياسية أو الديمقراطية. لذلك، دخل النظام في عملية التجربة والخطأ باستمرار. وكانت البداية باللجان الشعبية اقتداءً بالنموذج الليبي، ثمّ ابتكر «الترابي» فكرة أحزاب التوالي. وأخيراً، أحزاب حكومة الوحدة الوطنية. فقد نجح النظام، منذ البداية، في القيام بعملية «تسريح سياسي» (Political Demobilization) لكلّ القوى السياسية من خلال ضربات قوية ومفاجئة، مستخدماً أقصى درجات العنف غير المعتاد سودانياً. وبعد فترة استطاع جهاز الأمن أن يقوم بالخطوة التالية، وهي الاختراقات الناجحة للأحزاب المعارضة، وتأسيس أجنحة منشقة عنها، ثمّ إشراك هذه الأجنحة كأحزاب في السلطة. ومثلت هؤلاء فئة مؤيدة للنظام، بغض النظر عن القناعات الإسلاموية. وساعد هذا الفراغ في سيطرة النظام على الواقع السياسي، حتّى ولو لم يكسب مؤيّدين وأعضاء جدداً للحزب الحاكم. كما أنه بحكم البقاء والاستمرار، نجح في عملية التحييد والتيئيس للمعارضة[5].

استطاع النظام وضع المعارضة الشمالية في حالة الدفاع، وانتزع منها المبادرة، وبخاصة أنه روّج لفكرة التماهي بين الوطن/السودان مع النظام الحالي، أي أن سقوط ونهاية النظام تعني بالضرورة انهيار السودان، أو صوملته (نسبة إلى الحالة الصومالية في التفتت). ونجح النظام في بيع الفكرة لزعيم أكبر حزب سياسي سوداني وهو السيد الصادق المهدي، وبالتالي استطاع تحييده وصار المهدي في منزلة بين المنزلتين: ليس بالمعارض ولا المناصر. وهذا وضع يستفيد منه النظام، لأن حزب الأمة كان مع المعارضة وهذا خصم عليها، حتّى وإن لم يؤيد النظام صراحة، لأن الوقوف في الوسط، حرم المعارضة سنداً بشرياً ومادياً.

يرى البعض أن النظام السوداني استطاع أن يعيش على إعادة إنتاج الأزمات، وهذا عكس ما تقوله العلوم السياسية أو تجارب الحكم. فهو لا يلجأ إلى البحث عن حلول نهائية لأزماته بل يعمل على تكريسها أو اختلاقها. وهذا من أسباب ميله إلى الحل الأمني، وعدم الجدية في تنفيذ المقترحات السلمية. فقد كان من المفترض ـ عقلانياً ـ بسبب الأزمات المتتالية، أن تكون أولوية النظام التقارب مع المعارضة، وتوحيد الجبهة الداخلية عبر وفاق وطني يجمع كلّ القوى السياسية، وبخاصة أن المعارضة والوسطاء أبدوا الرغبة في حلول قومية تجنّب البلاد تداعيات العزل والإقصاء والإهمال. ولكن الواضح أن تيار الاستئثار بالسلطة هو المنتصر، الذي يرى أن الآخرين لن يضيفوا له شيئاً غير تقييد حريته المطلقة في اتخاذ قرارته، كون ميزان القوى ما زال في مصلحته. لذا فشلت كلّ الدعوات إلى الحوار كتلك التي أطلقها الصادق المهدي مثل ميثاق «التراضي الوطني» أو «كوديسا» أي النمط الجنوب الأفريقي في المصالحة والمصارحة.

ثانياً: المأزق الاقتصادي

يقف السودان الآن على حافة الانهيار الاقتصادي، وهذا أمر لم يعد يحتمل المغالطات؛ رغم أن النظام يحاول اختراع الأرقام والإحصاءات ثمّ يوظفها سياسياً. ففي بداية الأزمة الاقتصادية العالمية ادّعى أنه لم يتأثر بها بسبب استقلالية اقتصاده غير المرتبط بالسوق العالمية. وبعد انفصال الجنوب، أكد النظام أن هذه الخطوة لن تؤثر فيه. وفي الحالتين لا يجد النظام الآن ما يعلّق عليه فشله غير هذين العاملين. وكان تأثير انفصال الجنوب في تموز/يوليو 2011 قوياً، وهو ما يدلّ على سوء التقدير السياسي والاقتصادي، إذ انخفضت حصة السودان من إجمالي عائدات النفط بنسبة بلغت 75 بالمئة، أي حوالى 1.1 مليار دولار، بعد أنْ كانت 4.4 مليار دولار قبل الانفصال، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي نحو 58.77 مليار دولار في عام 2012 بالأسعار الجارية، وتراجعت معدلات النمو الاقتصادي إلى 1.1 بالمئة في عام 2012 مقارنة بنسبة 1.9 بالمئة في عام 2011، وهي معدلات منخفضة لا تتناسب مع معدلات النمو السكاني التي تبلغ 2.4 بالمئة سنوياً، إذ من المفترض أن يعادل نمو الناتج المحلي ثلاث مرات معدلات نمو السكان.

أدى انخفاض معدلات نمو الناتج المحلي السوداني إلى تزايد معدلات التضخم، إذ أظهرت بيانات رسمية أن معدل التضخم السنوي في السودان ارتفع إلى أكثر من 40 في المئة. ويرجع ذلك إلى عجز الحكومة عن خفض الإنفاق، الذي يذهب معظمه للحرب والأمن، حسب تقرير آفاق الاقتصاد العالمي 2012 الصادر عن صندوق النقد الدولي. وصاحب ذلك قفزة في أسعار أغذية مثل اللحوم والسكر، على ما ذكره الجهاز المركزي للإحصاء في نشرته الشهرية[6].

يعتمد السودان على الخارج بشكل كبير في سدّ حاجاته التمويلية، وهذا ما توضحه بيانات التقرير السنوي للبنك المركزي السوداني لعام 2012، حيث أشار التقرير إلى أن الدين العام الخارجي بلغ 41.4 مليار دولار، وهو ما يعادل 70.4 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي برسم العام نفسه. ويبيّن التقرير الاقتصادي العربي الموحّد لعام 2012 أن السودان حصل على مدار عقدين على 19.4 مليار دولار من إجمالي المساعدات الإنمائية الدولية، وبنسبة تبلغ 8.6 بالمئة من إجمالي المساعدات الموجهة للمنطقة العربية، أي أن السودان خلال هذه الفترة حصل على مساعدات سنوية في المتوسط تقدر بنحو 0.97 مليار دولار. وتشمل هذه المساعدات الدعم العربي وغير العربي، وهي مساعدات تقدّم على شكل قروض مُيسّرة، وليست منحاً لا تردّ، وبالتالي فهي جزء من الديون الخارجية المستحقة على السودان[7].

أمّا بالنسبة إلى العون الخارجي، فقد جاء في تصريح لأحمد حسين (مدير وكالات الأمم المتحدة) «أن إلغاء وزارة التعاون الدولي، والتي كان يمكن أنْ تستقطب نحو مليار دولار لتنفيذ برامج العون الخارجي، له تأثير على العمل مع الدول المانحة للعون الخارجي في الفترة المقبلة»[8]. كما كشف وزير التجارة الخارجية السوداني، عن عجز في الميزان التجاري بلغ 6.107 مليار دولار في العام 2012 من فائض قدره 419.7 مليون في 2011. وعزا ذلك إلى انخفاض الصادرات بنسبة 65 بالمئة، أي ما يعادل 6.312.18 مليار عن العام 2011 لخروج صادرات البترول المقدرة بـ 96 بالمئة، وانخفاض عائد صادرات المنتجات المصنعة من 21.42 مليون دولار في 2011 إلى 7.10 مليون دولار خلال 2012.

وأعلن ارتفاع فاتورة الواردات من 9.236 مليار دولار في 2011م إلى 9.475 مليار دولار خلال 2012 بزيادة 3 بالمئة، وأرجع ذلك لارتفاع فاتورة المواد الغذائية. وتظهر أرقام الميزان التجاري عن ارتفاع قيمة واردات المواد الغذائية من 1.887.87 مليار دولار إلى 2.049 مليار دولار العام الماضي بنسبة زيادة قدرها 8.5 بالمئة[9].

أدت السياسات الاقتصادية الخاطئة إلى تخريب شامل للقطاع الزراعي بشقيه التقليدي والحديث. فقد أدى الإهمال الكبير للقطاع الزراعي إلى تلاشي الآمال بأن يتحول السودان إلى سلة غذاء للعالم. ففي قطاع الزراعة المروية الحديث، صارت مشكلة الري والعطش تتكرر سنوياً وتتسبب في فشل الموسم الزراعي الصيفي والشتوي. وتوقف التمويل تماماً، وصار السماد والمبيدات والبذور فاسدة ومغشوشة ومنتهية الصلاحية. وبعدها ظهر التدمير في تعسر الري بأقسام المشروع المختلفة بسبب تدمير مؤسسة الري والحفريات وتبعية الري لإدارة المشروع بعد أنْ كان يتبع لوزارة الري، وبعد ذلك ظهر التدمير في توقف زراعة القطن ومنح المزارع الحرية لزراعة ما يريد من محاصيل السوق وليس محاصيل الصادر، وذلك بإصدار «قانون 2005»[10]. وأصيب العديد من المشاريع الزراعية الكبيرة في محافظات الجزيرة والنيل الأبيض ومناطق متاخمة للعاصمة بانتكاسة كبيرة أدت إلى تراجع مريع في الإنتاج.

وأدى فقدان الثقة في الاقتصاد السوداني من قبل المستثمرين العرب والأجانب إلى تقلص حجم الاستثمارات في القطاع الزراعي، في وقت تسارع فيه الدول الغنية التي تمتلك فوائض نقدية كبيرة، إلى الحصول على فرص استثمارية في القطاع الزراعي في مختلف بلدان العالم من أجل توفير الأمن الغذائي[11]. وأصبح قطاع الزراعة المطرية التقليدية معطلاً تماماً، لعدة أسباب، منها: عدم الالتزام بتطبيق القوانين خاصة بالدورات الزراعية واستخدامات الأراضي؛ وضعف البنى التحتية بما يؤثر سلباً في عمليات الاتصال وانسياب المدخلات والمعلومات والتسويق؛ وضعف التمويل المصرفي وعدم انسيابه في المواعيد المطلوبة[12].

يرى الاقتصاديون أن أساس الأزمة يكمن في البطالة والدين؛ ثمّ زاد التأزم مع تآكل الرصيد من العملات الأجنبية. لهذا نجد أن معدلات الفقر والبطالة في السودان من أعلى المعدلات عربياً، فالبطالة بلغت نحو 18.8 بالمئة من قوة العمل البالغ تعدادها 9.3 ملايين عامل، كما أنَّ الفقر يشمل نحو 46 بالمئة من إجمالي السكان المقدر عددهم بـ 37.2 مليون نسمة.

أُجبر النظام على اتخاذ عدة إجراءات وسياسات للخروج من هذه الأزمة الخانقة، إذ من المتوقع أن يوفر رفع الدعم عن المحروقات للسودان نحو 6.5 مليار جنيه سوداني (نحو 1.5 مليار دولار). وكانت الحكومة قد أعلنت مؤخراً من خلال اجتماع الحزب الحاكم تبنيها سلسلة من الإجراءات الاقتصادية عبر عدة محاور تهدف إلى تقليص الصرف الحكومي وزيادة إيرادات الدولة، وتحرير أسعار المواد البترولية وزيادة الضرائب والجمارك على السلع الكمالية والاتصالات ورسوم السفر والتذاكر مع استثناء السلع الاستهلاكية ومدخلات الإنتاج.

يتشكك العديد من المراقبين في فعالية الإجراءات المتخذة أخيراً في معالجة المشكلة الاقتصادية، فالدولة تحتاج إلى بذل المزيد من الجهود لتنمية القطاعات الإنتاجية الحقيقية وتبني سياسة تسهم أكثر في جذب الاستثمارات الأجنبية مع سياسة موحّدة للاستثمار تسعى لمنح المزيد من الإعفاءات للاستثمارات لجذبها إلى البلاد.

يشترط أغلب الاقتصاديين السودانيين من أجل تجاوز الأزمة إلغاء سياسة السوق الحرّة، وعودة القطاع العام كمنتج وكمقدم للخدمات بما فيها التوزيع، وضرورة وقف الصرف البذخي على الحرب، والأجهزة الأمنية، والحزب الحاكم. وفي مخاطبة أمام المجلس الوطني، اعترف وزير المالية بتضخم الصرف الأمني والعسكري، وقال ـ بحسب ما أوردت صحف الخرطوم ـ إن حجم الإنفاق الأمني والعسكري زاد خلال الستة أشهر الأولى من العام الحالي إلى 6.129 مليار جنيه مقارنة مع 4.825 مليار جنيه[13].

على النقيض من كلّ التوقعات، تزداد حلقات الأزمة الاقتصادية ضيقاً، إذ جاء توقف ضخّ النفط نتيجة الاقتتال الجنوبي ـ الجنوبي، ضربة إضافية. وتتتالى الصدمات… ففي 28 شباط/فبراير الماضي (2014)، أخطرت بنوك سعودية وغربية بعض المصارف السودانية بوقف التعامل معها. وهذا ما دفعها إلى إبداء خشيتها من نتائج القرار. وعبّرت أوساط مالية عن مخاوفها من تداعيات القرار السلبية على اقتصاد البلاد في ظلّ اعتماد الشركات التجارية والجوالي السودانية في الخارج على خدماتها. لكن البنك المركزي السوداني قلل من أثره وأعلن عن مساعٍ لتقليص تبعاته وخطورته. وعزا وزير المالية والاقتصاد الوطني بدر الدين محمود القرار لتعرّض تلك البنوك لضغوط أمريكية غير طبيعية. وأعلن في تعليقات للصحفيين عن ترتيبات للتغلب على الآثار الناجمة عن القرار، واصفاً وقف المعاملات والمراسلات البنكية بين السودان وبعض البلدان العربية بالمؤثر. وتوقع الخبير الاقتصادي التيجاني الطيب زيادة التكلفة الكلية للاقتصاد وصعود التضخم مع اشتداد حدة الأوضاع المعيشية المتردية. ورأى أن خيارات التعاطي مع هذا الوضع محدودة لأن اللجوء إلى التبادل السلعي غير ممكن بحكم أن السودان لا يملك ما يكفيه. وهو يعتقد أن القرار سيؤدي إلى وقف تدفق الاستثمار الأجنبي على البلاد، بل إلى وضع ضغوط على المستثمرين الموجودين بها ودفعهم إلى سحب رؤوس أموالهم، حسب تقديره[14].

ثالثاً: بناء الدولة الحديثة الموحّدة

بدأت مبكراً، دوامة الصراع حول دينية أو مدنية الدولة، دستور إسلامي أم علماني؟ وكان من الطبيعي أن يتقدم الدين، وما يعنيه ذلك من تداعيات أخرى، ليحتل موقعاً أساسياً وفعّالاً في تحديد طبيعة الدولة وعمل أجهزتها. وقد كان هذا هو سبب عجز كلّ البرلمانات المتعاقبة عن إقرار الدستور الدائم لعدم التوافق حول علاقة الدين بالدولة في الدساتير المقترحة. ومن المفارقات أن كلّ دساتير السودان تمّ إعلانها من قبل دكتاتوريات عسكرية، وبالتالي لم تحز إجماعاً أو قبولاً شعبياً. فقد كلّفت معركة الدستور الإسلامي السودانيين ثمناً غالياً. ومن بين ذلك، انقلاب 25 أيار/مايو 1969، الذي أوقف إجازة الدستور الإسلامي. وتكرر الخطأ بعد اتفاقية السلام، حين وصل الإسلاميون السودانيون إلى معادلة صعبة، غير ضرورية، تخيّر بين الشريعة أو الوحدة. واختار النظام والإسلاميون «الشريعة» بدلاً من الوحدة، وكان الانفصال.

رأى الإسلامويون في الجنوب معوّقاً أساسياً في طريق قيام دولة إسلامية «نقية». لذلك، صرح عمر أحمد البشير قائلاً: «في حالة انفصال الجنوب سنقوم بتعديل الدستور لذلك لا مجال لحديث عن التعدد الثقافي والاثني (…) ستكون الشريعة والإسلام هي المصدر الرئيسي للدستور. وسيكون الإسلام هو الدين الرسمي للدولة وستكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة»[15]. ومع الانفصال عاد السودان المقسّم إلى الجدل العقيم حول الدستور الإسلامي باعتبار أنَّ الظروف صارت مناسبة تماماً للتطبيق.

وقعت أحزاب سودانية وتيارات وجماعات إسلامية في شباط/فبراير 2012، مع الإعلان عن الإعداد لدستور دائم للبلاد، بياناً يُعلن عن تأسيس جبهة «الدستور الإسلامي». وقالت الجبهة إنّه ليس هنالك ذريعة للحكومة أنْ تتنصل من الدستور الإسلامي بعد أنْ أصبح 97 بالمئة من السودانيين مسلمون. واتّهمت الجبهة الحكومة بالاتجاه إلى التنصل من الدستور الإسلامي نزولاً عند الرغبات الغربية والضغوط الاستثمارية الأجنبية. وقدمت الجبهة في اجتماعها التأسيسي، رؤية قالت إنها مسودة لدستور جديد للبلاد بعد انفصال جنوب السودان ذي الأغلبية الوثنية، وهو ما دفع ببعض التيارات الأخرى إلى رفض الفكرة، بل ونقدها بشكل كبير. واعتبرها محاولة لفرض وصاية ورؤى بعينها على الشعب السوداني. ويقول أحد التقارير، إن مسودة الجبهة الجديدة جاءت في وقت وصل فيه الجدل والخلاف بين مكونات المجتمع السوداني مداه، وهو ما يعني أن المرحلة المقبلة قد تشهد تطورات غير معلومة إذا ما تمسك الجميع بمواقفهم المتباعدة. فبينما يرى القائمون على المسوّدة أنها تمثل المخرج الذي يستوجب الاتفاق عليه بين التيارات الإسلامية كافة بالبلاد، اعتبرها آخرون أحد مخرجات الحزب الحاكم لخلق أزمة داخلية جديدة[16].

وضمن التصعيد الإعلامي، استنكر الأمين العام لجبهة الدستور الإسلامي ناصر السيد مساعي الحكومة لصناعة الدستور في بلد إسلامي، وأشار إلى أنّه طالما أنَّ البلد إسلامي فمصدر الدستور هو الكتاب والسنة، وقال إنّهم قد يلجؤون إلى الجهاد المدني ضدّ الحكومة عبر تحريض الجماهير على الاحتجاج للمطالبة بدستور إسلامي[17].

تجنبت النخب السياسية التي حكمت السودان بعد الاستقلال، العمل على بناء دولة وطنية مدنية حديثة، تقوم على حقّ المواطنة، وتعترف بالتالي بالتنوع الثقافي. وظل التحدي الاستراتيجي هو كيفية إدارة التنوع على أسس ديمقراطية بما يقود بالضرورة إلى علمنة الدولة، بمعنى فصل الدين عن الدولة والسياسة. وهذه العملية السياسية الحداثية التي تضمن الوحدة الوطنية، يصفها الخبثاء من السياسيين بأنها تعني طرد الدين من الحياة. ويهدف هذا الوصف إلى ربط العلمنة بالإلحاد. وقد ظلّ هذا القرار خياراً صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، لأن هذه الأحزاب ـ أصلاً ـ أحزاب دينية وطائفية. وعوضاً من أن يحوّل فقدان الجنوب تفكيرها عن الدولة الدينية، حدث النقيض تماماً. وظنت القوى التقليدية الدينية أن الظروف قد تهيأت الآن، حيث جرى إبعاد غير المسلمين من الوطن. وهذا يكشف موقف الإسلاميين من فكرة الوطن. هناك إضعاف مقصود للشعور بالانتماء الوطني لمصلحة الديني. وتسهم الدولة في دعم هذا التوجه من خلال تغيير المناهج التعليمية بعد أن انحسرت المناهج الخاصة بجغرافية السودان وتاريخه؛ ليحلّ محلّها مقرر عنوانه: الإنسان والكون.

يواجه سودان الغد السؤال التالي: هل يريد أن يحاول مرة أخرى إقامة دولة دينية في القرن الحادي والعشرين في قُطر يتحدث بمئات اللغات واللهجات، ويدين بعشرات المعتقدات؟ مع ضجيج المطالبة بالدستور، سوف يهدر السودان سنوات كثيرة مجدداً في الخلاف الذي يقرّبه إلى حافة التشرذم. فقد تعمد القائمون بأمر الإعداد للدستور، إقصاء العناصر المدنية والعلمانية والليبرالية، قدر الإمكان؛ فالسودان المبتعد من دولة المواطنة، يقترب، بالضرورة، من خطر التفتت والانقسام. وهذه أحد مخاطر الاستقرار، أي فرض دستور غير توافقي وقائم على المبادئ نفسها التي عرقلت الوحدة الوطنية والسلام. فالدستور المدني هو ضمانة الاستقرار، ويضع البلاد في المجرى الصحيح الذي يخرجها من الأزمة المزمنة.

رابعاً: المخاطر الأمنية

راهن النظام السوداني على توقيع اتفاقية السلام الشامل في العام 2005، وقد ظن أنها ستكون نهاية الحروب والاقتتال والدمار، وبداية عهد جديد للسلام، والتنمية، والبناء. وهذا يفسر لماذا قدّمت حكومة الخرطوم تنازلات كبيرة، وتجاوزت أي مخاطرة أو إخفاقات مستقبلية. ومن أهم التوقعات أن النظام كان يرى في وقف الحرب إرضاءً للغرب الذي وقف باستمرار مؤيداً لمطالب الجنوبيين القومية. وحين بدأت المفاوضات التمهيدية المبكرة، كانت العقوبات الاقتصادية ضدّ النظام قد دخلت حيز التنفيذ. فقد كان النظام السوداني يتوقع أن تسارع الولايات المتحدة الأمريكية إلى رفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإلغاء العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية. وسارع إلى إجراء الاستفتاء بطريقة أرضت الجميع من رعاة المفاوضات والمراقبين. وفي النهاية، التزم النظام بالنتائج رغم كارثيتها: الانفصال. وانتظر النظام المكافأة، لكن الولايات المتحدة والغرب عموماً منذ كانون الثاني/يناير 2011 تجاوزوا الجنوب واتفاقية السلام الشامل، وشرعوا في الاهتمام بدارفور، ومناطق هامشية أخرى. ورأوا في هذا التنازل الكبير مفتتحاً لتنازلات أخرى قادمة.

يعاني السودان الآن عواقب وتداعيات الاتفاق المنقوص في نصوصه وتطبيقه. علماً أن النظام استمات في إبعاد المعارضة من المشاركة في صناعة السلام. وبهذه النظرة الحزبية الضيقة، أضاع فرصة أن يكون الاتفاق حلاً شاملاً لمشكل السودان وليس الجنوب فقط. ورغم ثنائية الاتفاقية، فقد كان روح الاتفاقية وجوهرها، هو إنجاز مهام متطلبات التحوّل الديمقراطي كأساس لنجاح كلّ الشروط الأخرى. ولكن كان من الواضح من البداية، أن لكلّ طرف اتفاقيته أي تفسيره الخاص وأجندته المحددة مسبقاً. فقد رأى حزب المؤتمر الوطني الحاكم في اتفاقية «نيفاشا» تفويضاً وشرعنة للاستمرار في السلطة بالصورة التي يختارها. واستمر التوتر بين الدولتين لوجود كثير من الألغام الموقوتة بسبب القضايا المعلّقة.

يمكن لقضية «أبيي» أن تفجر الوضع في أي لحظة، وهي لم تحسم رغم التدويل وتحكيم لاهاي. ومع تفاقم الأزمة، واندلاع الاحتجاجات الشعبية، وجمود أزمة دارفور؛ تصاعد الصراع حول أبيي. فقد قرر «دينكا نقوك» إجراء الاستفتاء في المنطقة رغم معارضة حكومتي السودان وجنوب السودان، ومجلس السلم والأمن الأفريقي للخطوة وعدم الاعتراف بنتائجها مستقبلاً. وطالب الاتحاد الأفريقي مراعاة ما ورد في بيانات مجلس السلم والأمن ذات الصلة، التي تمثل حلاً عادلاً ومتوازناً يأخذ بعين الاعتبار الالتزامات القائمة ومصالح المجتمعات المحلية على أرض الواقع. وحثت مجتمعات أبيي على ممارسة أقصى درجات ضبط النفس، وإعطاء أقصى قدر من التعاون مع قوات حفظ السلام «يونيسفا» (UNISFA)، من أجل ضمان الحفاظ على السلام والاستقرار في أبيي. وذكّرت بأهمية الزيارة المقبلة لمجلس السلم والأمن لأبيي نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2013، وأنها على ثقة بأن لقاءات مجلس السلم والأمن مع جميع الأطراف المعنية يمكن أن تساعد على نزع فتيل التوتر السائد، ويسهل طريقة توافقية للخروج من الأزمة، بدعم من آلية التنفيذ الرفيع المستوى التابع للاتحاد الأفريقي. لكن السودان منع أعضاء في مجلس السلم والأمن بالاتحاد من زيارة أبيي بدعوى الأوضاع الأمنية[18]. وأدان الاتحاد الأفريقي هذا المنع، الأمر الذي سيؤثر في علاقاته مع الحكومة السودانية.

اقترعت عشائر قبيلة «دينكا نقوك» في 26 ـ 29/10/2013 للاختيار بين الانضمام إلى السودان أو إلى جنوب السودان، رغم رفض الدولتين، ونداءات لقاءات القمة بين الرئيسين البشير وسيلفاكير. وأرجعت حكومة جنوب السودان عدم تدخلها بمنع إجراء استفتاء أحادي في أبيي، إلى عدم تبعية المنطقة إدارياً لها. وقال نائب سفير دولة الجنوب بالخرطوم «كاونك مفير» إن دولته ليس من حقها منع دينكا نقوك من إجراء استفتاء في أرضهم، لأن ذلك يتعارض مع حقوق الإنسان كما قال، وأضاف «لا يمكن أن نمنعهم من حقّ تقرير مصيرهم». وأكد التزام بلاده بقرارات الاتحاد الأفريقي السابقة حول المنطقة، لكنه أشار إلى أن تأخر الحكومتين في إجراء استفتاء كان مقرراً في تشرين الأول/أكتوبر دفع دينكا نقوك إلى إجراء استفتائهم، في وقت اعتبر فيه رئيس اللجنة الإشرافية على أبيي من جانب السودان، أن «ما يجري في أبيي اتجاه لخلق فوضى في المنطقة. وما بني على باطل فهو باطل». ووصفه الاتحاد الأفريقي بأنه «تهديد للسلام»[19].

من ناحية أخرى، أعلنت قبيلة المسيرية اعتزامها إجراء استفتاء مماثل لاستفتاء دينكا نقوك بأبيي، واتهم رئيس اتحاد عام منطقة المسيرية دينكا نقوك بمحاولة استفزاز المسيرية للقيام بعمل عسكري ليستغلوا الفرصة، وقال نحن واعون لذلك ولا نقوم بأي هجوم وملتزمون قرار الأمم المتحدة، ونفوّت عليهم الفرصة. وحمّل الحكومة السودانية مسؤولية إجراء دينكا نقوك للاستفتاء. وأعلن أن المسيرية سيبدأون تحرّكاتهم لدخول المنطقة، وسيتمركزون في المراعي التقليدية حول أبيي كرعاة منظمين ملتزمين كلّ الشروط، بما فيها عدم حمل السلاح. وذكرت الأخبار أن المسيرية يتجمعون بمنطقة دفرة (28 كم شمال أبيي). ويشبه البعض مشكلة أبيي بقضية «كشمير» في تعقيداتها ودوامها.

وقد تسبب الانفلات الأمني في تآكل هيبة الدولة، وبخاصة في المناطق النائية والطرفية، حيث تدور صراعات مسلّحة خارج سيطرة الدولة. وفي دارفور لجأ النظام إلى معالجات أشبه بالمغامرة، حين قام بتسليح بعض القبائل لتتكفل بمواجهة قبائل أخرى. وكأنه يقوم بعملية خصخصة الأمن وتفويض سلطاتها السيادية إلى القبائل؛ إذ لم تعد هناك جهة مركزية لاتخاذ القرار السياسي، كما هي الحال في الأوضاع الطبيعية. وهذا يؤكّد غياب رؤية شاملة، وضعف في الإرادة السياسية. أما حكومات الأقاليم فقد وهنت علاقتها بالمركز، وغاب أي تنسيق بينها والمركز. وقد تجلى في أزمة دارفور عجز النخب السياسية السودانية المزمن عن إدارة التنوع الثقافي، وعن إنجاز تنمية تنفي التخلّف بكلّ أشكاله. فهذا الإقليم الشاسع والغني، ظلّ فقيراً ومهملاً يتصارع أهله لدرجة الحرب حول موارد محدودة ومتناقصة. وقد تصاعدت هذه الكارثة من «مستصغر الشرر»، إذ كان من الممكن الإطفاء من البداية الأولى. ولكن سوء التقدير والإدارة حرما النظام من المعالجة الصحيحة للأزمة في بداياتها. وقد أكملت أزمة دارفور عشرة أعوام على اندلاع قتال محدود، وذلك عندما سيطر متمردون على مدينة «قولو» في منطقة جبل مرة خلال عام 2003، على أمل إنهاء سيطرة عرب الأقاليم الشمالية على الثروة والسلطة في البلاد. ورداً على ذلك، نشط المقاتلون العرب أو «الجنجويد» المدعومون من الحكومة وارتكبوا فظائع ضدّ الإثنيات الأفريقية في الإقليم مثيرين صدمة في العالم، ومع أن أسوأ مراحل العنف مضت، فما زال الإقليم الواقع غرب السودان يعاني عدم الاستقرار.

كان من أهم محاولات الحلّ السلمي الجادة الاتفاق الإطاري الذي تمّ توقيعه في 18 آذار/مارس 2010. وكانت أبرز سماته أنْ يكون حلّ مشكلة دارفور شاملاً وعادلاً، وأن يشارك في تحقيق السلام كلّ قوى دارفور الفاعلة بمساعدة الشركاء والمسهلين والأصدقاء. فقد أثبتت التجربة فشل أي حلّ جزئي أو إقصائي، كما حدث في اتفاقية أبوجا 2006. وبسبب طول الزمن والمماطلة، يقول البعض بتراجع الاهتمام بقضية درافور في ظلّ تفجر العديد من الصراعات والأزمات في السودان، رغم نفي «التجاني السيسي» رئيس سلطة دارفور الإقليمية؛ فهو يشدد على أن مشكلة دارفور قضية قومية وإقليمية ودولية وستبقى في الصدارة إلى حين تطبيق السلام. وأُعلن عن بدء الإعداد لمؤتمر دولي لإعادة إعمار دارفور ستحتضنه الدوحة في وقت لاحق من هذا العام[20]. لكن ما يؤكّد التراجع، هو تأجيل موعد المؤتمر غير مرة. ومن ناحية أخرى، أوصت الأمم المتحدة بخفض عدد الجنود والشرطة في بعثتها لحفظ السلام بإقليم دارفور. كما لا تزال مشكلة الأذونات الحكومية للمنظمات في الدخول إلى دارفور معلّقة.

وحمّلت السلطة الإقليمية الحكومة الاتحادية المسؤولية. واعتبرت أن عدم توافر الدعم اللوجستي يشكل العقبة الأساسية في تنفيذ بند الترتيبات الأمنية. وكشفت مفوضية نزع السلاح عن حاجة الترتيبات الأمنية إلى 50 مليون دولار، قاطعة بعدم توافرها في 16 تموز/يوليو 2012، وظهور 11 نوعاً جديداً من الأسلحة. وتشير كلّ الدلائل إلى أن عدم تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية يهدد اتفاق الدوحة.

يدور الاقتتال في كثير من أرجاء البلاد، والحرب لم تتوقف في دارفور. فشلت كلّ محاولات التسوية والوساطات، بدليل أنَّ القلة من المواطنين التي عادت إلى ديارها رجعت مرة أخرى من حيث أتت بسبب الحرب وعدم الاستقرار الأمني والنزاعات القبلية. والأخطر من ذلك، أن الحرب انتقلت من دارفور إلى جنوب كردفان وجبال النوبة وولاية النيل الأزرق، ومناطق واسعة على الحدود الممتدة بين الجنوب وغرب السودان، وانتقلت الآن إلى شمال كردفان[21].

تفاقمت في الفترة الأخيرة النزاعات القبلية المسلّحة وشملت كلّ أنحاء الإقليم وخارجه. اندلعت الحرب والعدائيات بين الرزيقات الأبالة مع البني حسين. وقد خلفت مئات الضحايا في دارفور. وتسبب انضمام فصائل دارفور المسلّحة إلى الجبهة الثورية، في توسيع مجالات الاقتتال مع الحكومة عوضاً من إحلال السلام في دارفور. وأضيف  إلى أهداف العدوان جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. وقد عاد السودان إلى المربّع الأوّل بعد الانفصال. اتهم الرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية الحكومة السودانية بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية في إقليم جبال النوبة، وباستخدامها الطائرات المقاتلة والألغام المضادة للأفراد والمدفعية في شنّ هجمات على تجمعات السكان في المنطقة وتفريغ القرى من السكان وإضرام النار فيها. كما منعت الحكومة السودانية منظمات الإغاثة من دخول المنطقة لتقديم العون للسكان. وأضاف، أنه بسبب اتّباع الحكومة السودانية سياسة الأرض المحروقة يمضي السكان أغلب وقتهم في كهوف ولا يجرؤون على الخروج إلى الحقول[22].

خامساً: نهج التغيير القادم

عوّل الديمقراطيون السودانيون كثيراً على قيام تحالف «قوى الإجماع الوطني» المعارض. وهو تكتل يضم 17 حزباً معارضاً. تأسس في أيلول/سبتمبر 2009، لكنه سرعان ما بدأ في تكرار أخطاء «التجمع الوطني الديمقراطي» الذي قاد المعارضة منذ مطلع تسعينيّات القرن الفائت. وقد فشل التحالف في الانتقال من مرحلة اللفظية إلى مرحلة الفعل وتحريك الشارع. ويسخر النظام من نشاطات التحالف ويسميها معارضة مايكروفونات، وأنها عجزت عن تحريك تظاهرة واحدة. وبمثل هذا الاستخفاف يسيء النظام التقدير، وربما يتسبب ذلك في تحويل سعي المعارضة لقيام انتفاضة شعبية سلمية، إلى التفكير أكثر في العمل المسلّح العنيف.

جاءت التظاهرات التي اندلعت في 23 أيلول/سبتمبر 2013 تعبيراً عن اليتم السياسي للشباب السوداني، إذ لم يحدد تجمع الأحزاب موقفه، وبخاصة الحزبان التقليديان الكبيران، من الانتفاضة. فقد نزل الشباب إلى الشوارع في عفوية يحركها الحس السليم فقط. فهذه انتفاضة شبابية نتاج أزمة اقتصادية ـ اجتماعية وثقافية بين الشباب، وهم غير مسيسين كثيراً. لذلك كانت تحتاج إلى دفعة سياسية مبتكرة وذات خيال مبدع، من القوى السياسية المجربة؛ حركة اجتماعية وليدة أشكال متعددة للتهميش الذي انتهى بفصل الجنوب، وقهر النساء، والفخر بجَلدهن علناً، وتطبيع الفساد. ومن الواضح أن النظام قرر استخدام العنف المفرط بدقةٍ تحقق هدف بثّ الرعب وإرهاب الجماهير. فأعداد القتلى وكثافة استخدام الرصاص الحيّ، تؤكد أن النظام يخشى عواقب أي تساهل محتملة، إذ بلغ عدد القتلى ما لا يقل عن 33 قتيلاً حسب التصريحات الرسمية، مقابل تقديرات فاقت 210 قتلى وفق إحصاءات نقابة الأطباء المستقلة. ومن أهم خصائص الانتفاضة هذه المرة، انتشارها الجغرافي بامتدادها إلى الأقاليم، وعدم اقتصارها على العاصمة فقط.

تظهر خطورة الأوضاع الأخيرة مع بوادر الانقسامات والفوضى التنظيمية داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم نفسه. فقد عمل الحزب الحاكم على لعبة خلق الانقسامات في الأحزاب المعارضة. وقد نجح ـ إلى حد كبير ـ في شقّ أغلب الأحزاب. فكلّ الأحزاب التي تشكل ما يسمى «حكومة الوحدة الوطنية» هي في حقيقة الأمر أجنحة صغيرة منشقة، ثمّ أعطيت مناصب وزارية لا تتناسب مع أوزانها الشعبية. لكن السلاح انقلب على الحزب الحاكم، فشهد حراكاً في اتجاه التمرد والانقسام. وهذا ما تؤكده مذكرات ناقدة، وتصريحات خارجة عن الخطّ الحزبي، وكتابة ما يسمى «المراجعات». وإضافة إلى هذه الخلافات السياسية والتنظيمية، من المتوقع خروج الكثيرين، ليس لخلافات مبدئية، بل بسبب التقشف الذي سيصيب امتيازات أغلب الذين جاؤوا إلى المؤتمر الوطني لإشباع مصالح ذاتية صرفة، ولن يترددوا في المغادرة مع توقف تلك الامتيازات.

كانت البداية المتمردة هي المحاولة الانقلابية في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2012، التي قام بها إسلامويون نافذون وناقمون. وقد جاءت بعد أيام قليلة من مؤتمر الحركات الإسلامية والذي ظهرت فيه بوضوح خلافات الإسلاميين السودانيين.

في نهاية العام الماضي، ظهرت مجموعة أثارت ضجيجاً عالياً بدعوى أنهم يمثلون «تيار الإصلاح». وقد ضموا قيادات إسلامية ظلت متقدمة في أخطر فترات الإنقاذ، ثمّ اكتشفت فجأة وجود نظام يحتاج إلى إصلاح. وقد تضايقت الأغلبية من هذا السلوك، فتمت محاسبتهم سريعاً. وتم في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2013 فصل قادتهم وعلى رأسهم «غازي صلاح الدين العتباني»، وشرعوا في تأسيس حزب جديد. وفي مطلع كانون الأوّل/ديسمبر أُعلن «حزب الإصلاح الآن». وفي تطور آخر، قاد «تحالف القوى الإسلامية والوطنية» الذي أسسه إسلاميون أخيراً، موكب احتجاج إلى القصر الجمهوري. وقدم مذكرة تقول إن السودان أمام حافة أخطار مدمرة، وتطالب الرئاسة بتشكيل مجلس رئاسي من شخصيات قومية، وهيئة عليا من القوى الوطنية لإدارة البلاد خلال مرحلة انتقالية، وحكومة مهمات وطنية محايدة، وفك ارتباط رئيس الجمهورية بأي انتماء حزبي أو سياسي، وإطلاق الحريات وإلغاء القوانين المقيدة للحريات وإقامة انتخابات حرة ونزيهة خلال عام (٧/10/٢٠١٣). كذلك، أعلنت مجموعة أخرى من الإسلاميين عن إنشاء حركة جديدة باسم «الحركة الوطنية للتغيير» وأصدرت بيانها التأسيسي في 8 آذار/مارس 2014. وقد شملت التوقيعات أسماء أهم شخصيات الحركة الإسلامية المميزين، والمعروفين بنشاطهم السياسي والفكري. ورغم قلة عددهم، لكنهم يمثلون عضوية نوعية.

من الواضح أن الحزب الحاكم فقدَ الميزة التي تفوّق بها على بقية القوى السياسية، وهي: وحدة الصف. ولم يعد النظام قادراً على ضمان مواجهة معارضيه في حالة احتدام الصراع السياسي، لأنه صار مشغولاً بخلافاته الداخلية. وأصبح من المتوقع حدوث تغيير في السياسات لو اتسم النظام بقدر من العقلانية أو حتّى حسن التقدير للظروف والواقع السياسيين. فالنظام يعلم أنه رغم القمع وممارسة السلطة، قرابة 25 عاماً، لم يحقق النظام شرعية دستورية، أو توسيع قاعدته الشعبية.

من ناحية أخرى، حدث تطور نوعي في الكيانات السياسية الجهوية من حيث العمل الجبهوي والتكتّل. وبدأت المجموعات الهامشية تصاب بالضجر بسبب مناورات النظام، وانسداد الأفق. وهنا نشأت معارضة مسلّحة نشطة، كثيراً ما تهمل بسبب بعدها عن العاصمة والمراكز الحضرية. وتكونت الجبهة الثورية السودانية للتغيير من تحالف يضم الحركة الشعبية ـ قطاع الشمال، وحركة العدل والمساواة، وحركة تحرير السودان بجناحيها ـ عبد الواحد نور/مني أركو مناوي. ووقعت الجبهة ميثاق «كاودا» لإسقاط النظام في تشرين الثاني/نوفمبر 2011. ومنذئذ صار النظام مواجهاً بمعارضة مسلّحة في الأقاليم القصية أو الهامش؛ وأخرى تدعو إلى التغيير السلمي بوسائل النضال المدني.

ويخشى النظام كثيراً تحالف وتلاحم هذه الفصائل في كيان موحّد؛ لذلك يلعب بورقة العنصرية والجهوية في إحداث الفرقة والحذر. فهو ينشر فكرة أن المكونين للجبهة الثورية من أصول معادية للعرب والثقافة الإسلامية، ويعملون على تحويل السودان إلى هوية من أصول معادية للعرب والثقافة الإسلامية، إلى هوية أفريقية. ومثل هذه الادعاءات تثير مخاوف حتّى بين بعض المعارضين الشماليين. ولكن كلّ المؤشرات بعد الاحتجاجات الأخيرة تؤكد التقارب المتسارع بين كلّ فصائل المعارضة: المسلّحة والمدنية. وبخاصة مع رفع شعار: الانتفاضة الشعبية المحمية بالسلاح.

بشّر النظام المواطنين بأنه سيتمكن من سحق الحركات المتمردة، مؤكّداً أن السلام سوف يحلّ قريباً سواء بقبول التفاوض أو بالسلاح. ولكن القتال تجدد في دارفور، وتورط النظام في حرب استنزاف، واضطر إلى العودة إلى المربّع الأوّل أي القصف والتهجير والإرهاب. ووقف العالم مجدداً ضدّ ممارسات النظام، وتتالت عليه الإدانات. وأوضحت تقارير الأمم المتحدة أن دارفور شهدت المزيد من النازحين على نحو مما حدث في أي سنوات أخرى، منذ ذروة النزاع في دارفور في عام 2004، وقال أحد المسؤولين الأمميين: «للأسف فإن ما نراه الآن هو تزايد وتيرة النزاع وآثار العنف على حياة الناس العاديين بدارفور». وإلى ذلك قالت منظمات برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الهجرة العالمية إن أكثر من 40 ألف مدني نزحوا عن مناطقهم في دارفور مؤخراً، بسبب أعمال العنف، في وقت قالت بعثة الأمم المتحدة في الإقليم، إنها تجد صعوبات في الوصول إلى المناطق المتضررة في دارفور بالرغم من اتفاق مع الحكومة لضمان حرية تحرّك جنود الأمم المتحدة هناك[23].

وصرح رئيس السلطة الانتقالية لإقليم دارفور (التجاني السيسي) إن الهجوم الذي شنه متمردون على ولايتيّ شمال وجنوب دارفور، خلال الأيام الماضية، أسفر عن مقتل مدنيين (لم يحدد عددهم)، وإصابة العشرات، وحرق أكثر من 35 بلدة، ونزوح قرابة 30 ألف شخص من منازلهم. وأعرب عن قلقه من تجدد القتال في دارفور، مضيفاً: «الأوضاع هناك تنبئ بالخطر»؛ وطالب الحكومة السودانية بالتدخل السريع لاحتواء الموقف، متوقعاً استمرار اعتداءات المتمردين على مزيد من مناطق الإقليم في حال عدم تدخل الحكومة السودانية. وقد شنّ متمردون ينتمون إلى حركة «جيش تحرير السودان» هجمات متتالية خلال الأيام الماضية على عدد من المدن والمناطق في ولايتي جنوب وشمال دارفور[24]. وهكذا تدخل دارفور منطقة الخطر وتقترب من مصير جنوب السودان: الانفصال أو التفتت.

انقضت فرحة الجنوبيين بدولتهم الوليدة سريعاً، إذ دخل حلفاء الأمس في صراع مسلّح وأحكام بالإعدام، واتهامات متبادلة بالخيانة والتآمر. وصرح الرئيس سلفا كير، بعد اجتماع مجلس التحرير في يوم 15/12/2013، أن بعض القياديين يخططون في هذا الوقت لانقلاب عسكري. وسرعان ما دخل أنصار الرئيس كير ونائبه رياك مشار في مواجهات مسلّحة لحسم الخلاف. وسقط كثير من الضحايا، وتدفق اللاجئون واستقبل الشمال مئات اللاجئين. وتضرر البلدان كثيراً بسبب القتال في مناطق إنتاج النفط، وهو ما يفاقم الأزمة المالية القائمة أصلاً في البلدين. لكن هذه التطورات عجلت من محاولات التهدئة بين حكومة السودان والحركة الشعبية (قطاع الشمال). وبدأت المفاوضات بينهما في أديس أبابا متعثرة، ولكنها انطلقت. فالنظام السوداني يريد حصر التفاوض حول مناطق النزاع، أي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، بينما تقترح الحركة حلاً قومياً ويأتي ضمنه وضع المنطقتين.

وسط هذه الأجواء المتوترة، بدأ الخطاب الرسمي يتغير؛ فقد أعلن المشير عمر البشير رئيس الجمهورية قيام الانتخابات القادمة في مطلع 2015 داعياً كلّ القوى السياسية إلى الإعداد الجيد والمبكر لتلك الانتخابات التي سنعمل على أن تجري بالنزاهة والشفافية المطلوبة وتوفير الأجواء المؤاتية لطرح الأفكار، أعلن استعداد الحكومة السودانية للإصلاح والحوار السياسي. وقال البشير في خطابه في افتتاح أعمال الدورة الثامنة للبرلمان (28/10/2013) إن «الإصلاح والتغيير هما عملية يومية تمر بها البلاد»، مؤكّداً استعداد الحكومة لإصدار «عفو» عن الحركات المسلّحة التي تنضم إلى عملية السلام وإجراء حوار سياسي معها. إلا أن المحللين يقولون إن الحزب الحاكم لا يصغي إلى الآراء المختلفة في صفوفه[25].

جاء في صحف 8 كانون الأوّل/ديسمبر 2013: «اعتمد اجتماع المكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم التشكيلة الحكومية الجديدة التي تضمنت تغيير طاقم رئاسة الجمهورية بخروج كلّ من النائب الأوّل لرئيس الجمهورية علي عثمان طه والحاج آدم يوسف ومساعد رئيس الجمهورية نافع علي نافع». وأوضحت أنه تمّ تعيين الفريق أول الركن بكري حسن صالح نائباً أول لرئيس الجمهورية، وحسبو محمّد عبد الرحمن نائباً للرئيس، وإبراهيم غندور مساعداً للرئيس، والفاتح عزّ الدين رئيساً للمجلس الوطني (البرلمان)، وعيسى بشري نائباً له.

ونقلت الأنباء عن نافع علي نافع نائب رئيس المؤتمر الوطني لشؤون الحزب قوله، في تصريحات صحفية عقب اجتماع المكتب القيادي للحزب، إن التغيير شمل بعضاً من الوزراء كما تمّ الإبقاء على بعضهم الآخر. وكان البشير أعلن في وقت سابق استقالة نائبه الأوّل علي عثمان طه من منصبه، ونقلت الإذاعة السودانية الحكومية عن البشير ـ الذي عقد اجتماعاً مع المكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم لإقرار التعديل الوزاري ـ قوله إن «علي عثمان تنحى لإفساح المجال أمام الشباب، ولا خلافات بيننا». ووصف البشير في كلمة أمام حشد جماهيري في منطقة قرى شمال العاصمة الخرطوم، طه بـ «رأس الرمح وقائد التغيير في التشكيل الوزاري الجديد»، مضيفاً أن «علي عثمان سيتنازل عن مكانته كما تنازل طوعاً من قبل عندما وقع اتفاقية السلام الشامل». وأقسم البشير على «عدم وجود خلافات أو صراعات» بينه وبين طه، مؤكّداً أن القرار جاء بهدف فسح في المجال أمام الشباب في الحكومة الجديدة.

اعتبر المراقبون أن هذه التغييرات تمثل تصفية للعناصر المؤدلجة الإسلامية أو ما تبقى من الحركة الإسلامية القديمة التي عاصرت الشيخ (الترابي). ويرون في التشكيلة الجديدة مزيداً من تمكين العناصر العسكرية والأمنية، باعتبار أن المرحلة القادمة، كما تقول أدبيات النظام تحتاج أكثر إلى «القوي الأمين»، وليس إلى المنظرين والمجادلين. ولكن هذه التشكيلة يغلب عليها متوسطو القدرات والمغمورون، ويبدو أن أمثال هؤلاء هم عناصر المرحلة الأفضل.

سادساً: أيّ مستقبل؟

أعلن النظام قبل أشهر، عن مفاجأة سوف يفجرها البشير في خطاب عام. وانطلقت التكهنات والتوقعات بلا حدود، وتوقع الكثيرون قيام حكومة قومية تقود البلاد في المرحلة القادمة وتتولى مهمة وضع الدستور وإجراء الانتخابات، ويسبق ذلك إطلاق الحريات ووقف الحرب الأهلية. وفي يوم 27 كانون الثاني/يناير 2014 ألقى الرئيس البشير ما أسماه الإعلام الرسمي «خطاب الوثبة»، الذي جاء خالياً من أي قرارات تنفيذية. فقد كان دعوة إلى الحوار مع كلّ القوى السياسية، والتي تساءلت عن تهيئة أجواء الحوار، وهذا يعني في حدّه الأدنى ضمانات لحقوق التعبير والتجمع والتنظيم. ولكن مع ذلك، وبسبب حيرة كلّ الأطراف، يتناقش الجميع حول الحوار. ولكن البعض بدأ في التشكك لكون كلّ ما يحدث مناورة وكسباً للوقت. ولكن نطاق المناورات ضاق كثيراً، واللعب في الوقت بدل الضائع، لأننا أهدرنا كثيراً من الوقت بلا جدوى. وما زالت الأزمة السياسية تتضخم والخيارات تتناقص. من ناحية أخرى، رأى البعض في هذا الحراك محاولة لتوحيد الإسلاميين ولا سيّما الحزبين: المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي؛ وبخاصة بعد لقاء الترابي والبشير في 14 آذار/مارس 2014، إضافة إلى الحماسة التي يبديها أنصار الترابي للحوار حيث يؤدون دور الوسيط في بعض الأحيان.

إن التساؤل عن السودان إلى أين؟ هو حديث عن المستقبل. وفي البدء لا بُدَّ أن ندرك ونتفق على أن المستقبل يبدأ هنا والآن. فالسودانيون يحملون تاريخاً وذاكرة ـ حقيقية ومتوهمة ـ تثقلان عليهم الحركة والنهوض. فقد ظلّ السودانيون منذ الاستقلال يطرحون سؤالاً خاطئاً ويشتجرون ويتقاتلون حول: من نحن؟ أي سؤال الهوية. ويفترض في أي أمة أو نخبة واعية وعاقلة أن تطرح الأسئلة التي تكون قادرة على الإجابة عنها وحلها في الوقت نفسه. كما تتطلب الأسئلة المصيرية تحديد الجدوى من الإجابة المتوقعة. ثمّ ما هي وظيفة النتيجة والمعطيات، في تكوين رؤية فكرية ووضع خطط واقعية للعمل؟

يرتهن مستقبل السودان بالإجابة الصحيحة عن أسئلة: أولاً، الدولة الحديثة الموحّدة، وهذا يرتبط بوجود دستور يحقق الوحدة الوطنية لأي قائم على حقّ المواطنة، وليس العقيدة؛ ثانياً، الديمقراطية، أي قيام نظام سياسي تعددي ديمقراطي في ذاته قبل أنْ يطالب بالديمقراطية عامة؛ ثالثاً، التنمية، أي الخروج من المأزق الاقتصادي؛ وأخيراً، الأزمة الأمنية وهي سبب ونتيحة لأي حل أو إصلاح للمتغيرات السابقة.

صارت احتمالات مزيد من التفكك والتقسيم عالية نتيجة للطريقة السهلة التي حدث بها انفصال جنوب السودان، إضافة إلى اللامبالاة التي أظهرها أغلبية الشماليين في التعامل مع هذا الزلزال العظيم. والآن، البلاد محاطة بأزمات اقتصادية وسياسية وأمنية خانقة تهدد وجود الوطن ذاته. وتقف كلّ القوى السياسية، حكومة ومعارضة، عاجزة عن تقديم حلول ناجعة. لذلك، يقول الواقع إن السودان على حافة فقدان دارفور، وتجدد الاختلاف مع دولة الجنوب بسبب أبيي، والاقتتال الجنوبي ـ الجنوبي. وتبقى جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق خارج السيطرة الحكومية الكاملة. وقد تكرر تصنيف السودان على قائمة الدول الفاشلة بسبب عدم قدرة النظام على بسط سيطرته على كامل التراب الوطني، وحماية الحدود الدولية.

يضاف إلى ذلك تخبّط السياسات الاقتصادية التي أودت بالبلاد إلى حدود إعلان الإفلاس، وسقوط بعض المناطق في براثن المجاعة. وأخطر ما في الأمر هو أن النظام يعيش عزلة دولية نادرة الحدوث. فالرئيس السوداني مطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية. فهو منقوص الأهلية والشرعية، إذ لا يستطيع التحدّث باسم شعبه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مثل كلّ رؤساء العالم. وهذا الوضع يقلل الاهتمام العالمي بحل سياسي للأزمة السودانية. ويأمل النظام في حلّ على النمط اليمني ولكن تعوزه القوى الإقليمية أو الدولية التي يمكن أن تدفع بمثل هذا الحلّ كما فعلت دول الخليج والغرب. وكان الأمل في مصر، ولكنها غارقة في مشاكلها الداخلية. وقد يتجه أفريقياً مطوراً دور «أمبيكي» مبعوث الاتحاد الأوروبي.

أرى أن احتمالات مزيد من التقسيم هي الأرجح، بسبب واقع حال الشعب السوداني بعد قرابة ربع القرن من الزمن، إضافة إلى تاريخ طويل من الفرقة؛ فقد عجز السودانيون عن تأسيس دولة مركزية، وهو ما جعل الولاء الوطني ضعيفاً. وكان للتعدد الثقافي، والنظام القبلي، والتبعثر الجهوي والمكاني، أثرها في تحويل المجتمع والإنسان السودانيين إلى الميول الانقسامية والانشطارية أكثر من التوحيدية. وحديثاً، كرست الحزبية، والطرق الصوفية، وصراع الأيديولوجيات، روح الانقسام والانشطار على حساب الائتلاف والوحدة. ومن يتابع الحياة الحزبية تستوقفه هذه الانقسامات المفزعة. فحزب عريق مثل حزب الأمة، يتوزع الآن إلى أكثر من سبعة أجنحة. وتنسحب ظاهرة الانقسامات والأجنحة على كلّ الأحزاب بلا استثناء. لذلك، رغم تفاقم الأزمة السودانية الراهن، لم يصل السودانيون إلى رؤية قومية موحّدة. وفشلت محاولات كتابة ميثاق جامع أو عقد مؤتمر قومي شامل لا يقصي أحداً، لبحث الخروج من الأزمة. وباعدت عودة الولاءات القبلية مجدداً، مضافة إلى الهجرة الكبيرة المستنزفة إلى الخارج، من احتمال بلورة نخبة جديدة قومية تؤدي دوراً طليعياً في استنهاض الجماهير وقيادة التغيير. ويدور حديث مستمر عن وحدة قوى المعارضة، وعقدت لقاءات كثيرة، ووقعت بيانات كثيرة، ولكن كلّ ذلك لم يتحول إلى ممارسة وواقع. ورغم أنه لا توجد خلافات أساسية موضوعية، تتغلب المصالح الحزبية والمنافسات الشخصية، في النهاية على المصلحة العامة!.