أولًا: التوريط بالعنونة والتخدير بالمقدّس

حين نقول مثلًا: ما أو من يحمي خالدًا في رحلته القادمة؟ فإننا نعني أن خالدًا غير قادر على حماية نفسه بنفسه، وأنه تعوزه قوة حامية، خارج ذاته. وسواءٌ بسواء، يأتي عنواننا هذا، فهو ينقل إلينا الرسالة عينها، فاللغة وفقه لا يسعها أن تتدبر مسألة حماية ذاتها بذاتها لعوامل بنيوية واجتماعية معقدة متشابكة، فهي بحاجة إذن إلى حماية خارجية بطريقة كافية على نحو معيّن، يلائم كينونتها الداخلية. وجعلنا لـ «ما» في العنوان عوض «من»، لا يعني البتة أننا نتقصد استبعاد العاقل (أي الإنسان) وجعل الحماية من نصيب الأدوات غير العاقلة فقط، كلا. فالإنسان هو الأساس، وهو المبتدأ والخبر. وما حملنا على تغليب ما في العنوان سوى دفع سوء الفهم الذي قد يخامر البعض حينما يطالع: من، فيتوهّم أننا نروم محادثة فئة من الناس بعينها، وهذا ما لا نتوخاه. وتذييله بـ «إذن» يوحي بأن هذه النتيجة إنما عصرتها معاناة التسآل ومعاينة الخذلان المعاصر للغة العربية وعدم مناصرتها وحمايتها كما يجب في عموم أقطارنا العربية، بنسب متفاوتة، ولكنها مقلقة كثيرًا.

ولهذه العنونة وجه آخر، كشفت عنه في الكتاب الذي حررته مؤخرًا بعنوان: اللغة لا تحمي ذاتها[1]. لقد جاءت العنونة بهذا الشكل في سياق ما أحب أن أنعته بـ «التوريط بالعنونة»، وأعني بها توريط أو إيقاع القارئ – حتى القارئ العابر في فخ المسؤولية، أيًّا كان موقعه ونفوذه، وتحميله المسؤولية كاملة غير منقوصة حيال لغته الأم، فلئن كانت اللغة لا تحمي ذاتها بذاتها فما ومن يحيمها إذن؟ هذا العنوان المورّط يوصل رسالة سافرة إلى عموم العرب بلغتهم، وحاصلها: لسانكم لا يطيق حماية ذاته بذاته، فلتهبّ أعضاؤكم لنجدته وغوثه؛ ليكون من ثمّ: لدينكم حافظًا، ولإبداعكم راويًا، ولآمالكم معبّرًا، ولآلامكم مشخّصًا.

وجعلُ السؤال مفتوحًا في العنوان، له دلالة مقصودة، إذ إنه يؤشر على أهمية الإبداع الحمائي عبر تفعيل كل أنواع الأدوات الحمائية الخارجية للغة؛ مع وجوب المراعاة الناجعة للسياقات المجتمعية المعقدة التي تكتنف الأبعاد الحمائية للغة. ومن طرائق الحماية الفعَّالة في العصر الحديث حماية اللغات عبر سن القوانين الملزمة بسلوكيات مستهدفة تجاه اللغة المحميّة، استخدامًا وتفعيلًا وإبداعًا وصيانة ووقاية وحماية.

اللغة كائن يعيش ضمن كائنات أخرى مجانسة ومباينة، ويلحقها في ذلك ما يلحق سائر الكائنات من: عنت الحياة، ومشقة النمو، وآفات الإتلاف أو الإضعاف أو حتى الإفناء. ولئن كان الوجود اللغوي له أسراره وأسبابه وأبوابه في منظومة مستغلقة، فإن على اللغات التي تنشد خلودًا أن تنفذ بطريقة ما إلى هاته المنظومة، سواء أكان ذلك بالعتاد الجواني للغة ذاتها، أم بالعتاد البراني لأهلها ومستخدميها، أم بهما معًا. ونشدان الخلود اللغوي يتأكد للغة العربية بوصفها اللسان المعبّر المؤوِّل للدين الخالد، كما في قوله تعالى: ﴿إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون﴾ (الحجر: 9). على أننا نبادر مع هذا إلى القول بأنه ليس صحيحًا البتة الزعم بأن القرآن الكريم سيحفظ في شكل آليّ اللغة العربية، فاللغات لا تحفظ بمجرد وجود كتاب مقدس يؤمن به المجتمع، وإنما تحفظ بفاعلية المجتمع المتكلم بها وحمايتها بالأدوات والطرائق الممكنة كافة، بما في ذلك رفع منسوب «الأنفة اللغوية». ما سيحفظه القرآن الكريم لنا هو فقط جزء من اللغة العربية يكفي لفهم القرآن والدين والتعبد لله بموجبه، وهذا هو مقتضى الوعد الإلهي في الآية الكريمة السابقة. ومعنى ذلك أننا إزاء جزء – لا يستهان به – من اللغة يحتاج إلى جهود بشرية مجتمعية كي يُحفظ ويُنمّى. وهذا يعني أن محيط اللغة العربية أوسع كثيرًا من المحيط اللغوي القرآني[2]. زاوية أخرى لا بد من تجليتها في هذا السياق هي أننا إنما نحافظ على لغتنا ليس للعامل الديني فقط على أهميته الكبرى بلا شك، وإنما لأننا نروم الحفاظ أيضًا على هويتنا الموحّدة وذاكرتنا الجمعية وذوقنا الخاص، وهذا ما تفعله المجتمعات الحية التي تحافظ على لغاتها القومية من دون أن يكون لديها بالضرورة كتب دينية أو نصوص مقدسة. فالإنسان العربي المعاصر يصون العربية وينمي ذخيرته اللغوية كي يكون قادرًا على الاستيعاب والاستمتاع الأتمَّين بجمال الأدب وفنونه وتقنياته وموسيقاه، كقول كثيّر لعزة:

كأنّي وإيّاها سحابةُ مُمحلٍ

رجاها فلمّا جاوزته استهلّت!

وإذا تقرر ما سبق، فإن المأمول هو الكف التام عن الاستمرار في بث أسطورة الحماية الآلية للغة العربية، أو ما يمكن وصفه بـالتخدير بالمقدس، لأن ذلك من شأنه تفتير همم الناس، أفرادًا وحكومات، وإضعاف جهودهم البنائية والحمائية، فلا ينشطون بما هو واجب عليهم لمعاونة الضاد على تجاوز أيامها الصعبة وتحدياتها الحضارية المتجددة، على أننا نشدد هنا على استحالة حدوث أي تنمية حقيقية في وطننا العربي من دون حل المشكل اللغوي الثقافي. لقد بات من المسلّم به في علوم التنمية أنه يتعذَّر على أي مجتمع أن يبدع خارج نطاق «قاموسه اللغوي»، لأن الإبداع يتطلب قدرة هائلة على الفهم المعمق للأشياء والمشكلات والحاجات والأسباب والعلل والآثار، إلى جانب مهارة ذهنية فائقة في تشغيل منظومة متكاملة متعاضدة من الكلمات والمفاهيم والمعاني للخلوص إلى عدة بدائل ومن زوايا متنوعة، تمكّن الإنسان في نهاية المطاف التفكيري من الانفلات من الحلول المقولبة السائدة ليصل إلى كسر الصندوق والتنفس في فضاءات الأفكار الخلّاقة الجديدة.

وكل ما سبق، يدفع باتجاه المحافظة التامة على اللغة العربية وضمان سيادتها في مختلف الميادين، بما يضمن لا وجودها فحسب، بل خلودها وإنماءها وفق كيونتها هي، ومعياريتها الواجبة (هذا له علاقة بما نسمّيه في أدبيات السياسة والتخطيط اللغوي، تخطيط هيكل اللغة)[3]. في هذه المقالة سنقدم مقاربة فلسفية مفاهيمية للحماية القانونية للغات. ولتحقيق ذلك، سنجالد أربعة أسئلة عويصة، وذلك وفق محاور متسلسلة.

ثانيًا: هل تحمي اللغة ذاتها؟

حينما نكون بصدد معالجة تتوخى الاقتراب من التخوم الفلسفية والمفاهيمية، يبرق سؤال: بأيهما نبدأ؟ لا ينطفئ سؤال كهذا، إلا بدفنه في سؤال شكس، من قبيل: وهل الفلسفة إلا بناء للمفاهيم وخلخلة لها؟ وهل المفاهيم إلا لبنات للفلسفة وحلحلة لها؟ دفن السؤال بهذه الطريقة، لا يؤدي إلى إزهاق وجاهته تمامًا، ولكنه يقوّض قدرًا معتبرًا منها، وهو ما يلجئه إلى القبول بفرضية التداخل البنيوي بين المنعرجين الفلسفي والمفاهيمي، فكلاهما يقرّبنا إلى فضاء اللغة؛ فنتنفس معنىً، ونشرق فهمًا، ونمسي تأويلًا. لا نطيق، بطبيعة الحال، السير في منعرجين في آن واحد، إذ لا بد أن نصطفي واحدًا منهما للعبور إلى وجهتنا، على أنه يسعنا استجلاب الثاني في الأول واستدخاله فيه، تجسّدًا لبعض معالمه ومضيًّا على بعض مساربه. وقد ابتدرنا – في مقالة سابقة - بما هو أقرب إلى البعد الفلسفي منه إلى البعد المفاهيمي، حيث قدمنا مقاربة لسؤال فلسفي بامتياز: لماذا نحمي لغتنا؟ في سياق حديث عن التخطيط اللغوي، حيث نقّبنا إذ ذاك في العلّة المقنعة، التي تسوّغ لنا الاشتغال باجتهاد وكلفة ودأب لضمان حماية لغتنا من غوائل الزمن وعوائد التمدن والمعاصرة؟ وخلصنا إلى أن هذه العلة إنما هي: العلة الغائية، التي قوامها كون اللغة هوية ناطقة، لا مجرد وسيلة للتواصل والإبانة[4].

وللإجابة عن سؤال المبحث، نحن مضطرون إلى توليد سؤالين فرعيين من شأنهما مقاربة الجواب لا بلورته بصورة مباشرة، وهما:

هل تمثل أو تملك اللغة سلطةً ما بحد ذاتها؟

أم أن اللغة هي مجرد وسيلة لإقرار سلطة ما؟

للإجابة عن هذين السؤالين، نشير إلى أن ثمة رأيين متقابلين، حيث يؤيد البعض فكرة أن: اللغة هي سلطة أو تملك سلطة بحد ذاتها، اعتمادًا على بعض المسوغات، ومنها[5]:

أن اللغة لها نظامها الداخلي الخاص، وهي تفرض سلطتها على المتحدث بها، بأن يلتزم بنظامها.

أن اللغة سابقة على الفكر، موجهة له (وفق الرأي القائل بذلك)، ومن ثم فهي تحدد للإنسان رؤيته الكلية في الحياة، أو أنها تسهم في ذلك.

أن اللغة تملك سلطة التأثير النفسي، عبر سحرها الشعري والنثري ومنظومتها اللفظية والدلالية.

أن اللغة تملك سلطة الإقناع العقلي، من خلال منظومة من الأغاليط السوفسطائية.

أن اللغة مستقلة عن الإنسان ولها كيانها الخاص (كما عند هايدغر وليفي ستروس وبارت وفوكو الأول)، ومن ثم فهي القانون المنظم للحياة الاجتماعية الكاشف عن ماهيته، وهذا يعني – كما يقول الشاعر نوفاليس نقلًا عن هايدغر في كتابات أساسية – أن اللغة «لا تبالي إلا بنفسها«، ويردف الناقل هايدغر بالقول: «ماهية الإنسان تقوم في اللغة»[6].

وفي الضفة الأخرى، هناك من يرى أن ليس للغة سلطة، وإنما هي مجرد أداة للسلطة أي لممارسة سلطة ما، وهؤلاء – ولعل من أبرزهم عالم الاجتماع الفرنسي بورديو – يتكئون على حيثيات متعددة، منها[7]:

■ لا يمكن القبول بفكرة أن التأثير كامن في كلمات اللغة ودلالاتها ذاتها، إذ إنهم يرون أن ذلك مرهون بالقدرة أو السلطة التي تقف خلفها، أي بمن فوّض لهذا الإنسان أن يقول ما يقوله، فهو في حقيقة الأمر إنما يتكلم بلسان سلطة أو جهة ما.

■ تتوقف سلطة الكلام على المكانة الاجتماعية للمتحدث، وهنا يمكن استدعاء شوقي القائل:

ما كلنا ينطقه لسانه

في الناس من ينطقه مكانه

■ يزداد حجم تأثير المتحدث بزيادة ذخيرة الرأسمال الرمزي للجماعة التي يمثلها أو ينتمي إليها، فمثلًا لا يؤثر خطاب الأستاذ أو الواعظ إلا حينما يعترف به بعدّه خطاب نفوذٍ وسلطة.

■ هنالك تأثير بيّن لمستوى التوافق بين المتحدث ووظيفته الاجتماعية من جهة، وما يصدره من خطاب من جهة ثانية، ولا يمكن فهم الخطاب إلا بربطه بالشروط الاجتماعية المنتجة له.

■ جرت العادة بألا يعترف بالخطاب إلا إذا كان خطابًا نافذًا تدعمه سلطة ما (ومن بينها الأيديولوجيا)، وهذا يعني أنه ليس ثمة سلطة خطاب، بل خطاب سلطة.

من الواضح أن لكل رأي قدرًا من الوجاهة، ويمكن الجمع بينهما في توليفة تصالحية، إذ نطيق مسايرة اللسانيات الاجتماعية الحديثة في ذهابها إلى أن «الكلمة في ذاتها لا تملك إلا سلطة نظامها»[8]، أي أنها تملك فقط سلطة داخلية، وفي الوقت ذاته مسايرة السوسيولوجيات المعمقة المقررة بأن النفوذ والقوة ليس بيد اللغة، وإنما بيد من/ما يقف وراء اللغة؛ إقرارًا بتأثير سلطة خارجية. وهنا نستدعي مقولة محلّقة للعلامة ابن خلدون (لاحظوا أنني ربطت السوسيولوجيات بالمعمقة لا الحديثة!)، فهو يرى: «أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها، أو المختطين لها… فلما هجر الدين اللغات الأعجمية، وكان لسان القائمين بالدولة عربيًا، هجرت كلها في جميع ممالكها، لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب»، ثم تحدث ابن خلدون عن ضعف العرب وسيادة غيرهم وتأثرهم بمخالطة الأعاجم وفساد لسانهم وضعف اللغة العربية وهوانها من جراء ذلك كله، إلى درجة أنه قال: «حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي، وكذا تدريسه في المجالس»[9].

من الجلي أن هذه المقولة الذهبية تحملنا على تأييد فكرة امتلاك اللغة لسلطة داخلية، تمارس خلالها النفوذ والضبط والسيطرة على نظامها وهيكلها الخاص، أي أنها تتفاعل على نحوٍ جيد مع مادتها وصورتها (أي مع العلتين المادية والصورية)، وأما فاعلها أو سفاحها فهي لا تقدر على مواجهته، سواء قلنا بأنه: الإنسان المعاصر أو السوق أو التمدن ، على فرض أن بين هذه الكلمات فروقًا في نهاية المطاف، فلسفيًا/مفاهيميًا!

إذن، لا تملك اللغة سلطة خارجية، تمكّنها من الدفاع عن ذاتها وحماية نظامها الخاص (مادتها وصورتها: كلماتها وهيكلها)، وهذا يعني أن السلطة الداخلية المومأ إليها عرضة للانهيار التام أو الجزئي أمام اكتساح الإنسان/السوق/التمدن. وهذا ما نشاهده في عدد من اللغات الكبيرة، وعلى رأسها اللغة الإنكليزية، كما سنبينه في الجزء الخاص بـ «ماذا نحمي في اللغة؟».

ثالثًا: ما ماهية الحماية اللغوية وما جوهرها؟

الحماية هي مصدر كلمة «حمى». جاء في اللسان: حمى الشيء حميًا وحمىً وحماية ومحمية: منعه ودفع عنه [10]. ومعانيها في اللغة تتحاشد حول: الدفاع عن الشيء المحمي، أي دفع الناس عنه، بعدم اقترابهم منه، وجعلهم يتوقونه ويجتنبونه، مهابة أو مخافة الحامي أو الحماة. والحماية تعني: الحفظ والوقاية والصيانة مما يضر، كما أنها تتضمن معنى الحراسة والنصرة والرعاية[11].

وعليه فإن الحماية تفيد صون الشيء المحمي من الأذى ورعايته وتأمينه. ولو طردنا هذه المنظومة من المعاني على قولنا: «حماية اللغة» (أو «حماية العربية»)، فإننا نجد أن «الحماية اللغوية» تعني: حفظ اللغة ووقايتها وحراستها وصيانتها وتقديم ضمانات للدفاع عنها والذود عن حياضها من أن يمس بأي: تهميش، أو إساءة، أو اعتداء. ويمكننا التعبير المختصر بالقول، إنها: صون كينونة اللغة وإنماؤها. هذا التعريف المختصر يدفعنا إلى أن نفكر في اللغة من جهة إنها كائن له كينونة (=وجود)، وهذا يعني أن هذا النوع من الحماية يجهد لأن يؤمّن «كينونة اللغة»، لتكون هي كما هي. وهذا يعني: تأمينها التام، لتغفو في مخدعها، وتعيش كما تريد هي، ولتحقق ما تصبو إليه من: الفاعلية والنمو والتعايش والخلود. ومثل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تأمين آليات: وقائية، ورقابية، وعقابية.

بعد التبيان المختصر للدلالة اللغوية العامة لمفهوم الحماية اللغوية، نصل إلى سؤال محوري، مفاده: ما جوهر هذه الحماية؟ لئن قلنا بأن الجوهر هو ما يجعل الشيء يقوم بذاته، فإنه يصعب التصور بأن جوهر الحماية شيء غير الدفاع أو الدفاعية؛ فالحماية توجد بوجود الدفاع وتنعدم بانعدامه، ولكي تدافع عن شيء فإنه يلزمك أن: تحامي وترد عنه السوء، وتنصره وترد إليه حقه، وترد التهم عنه والمزاعم وتبطلها، وتحمل الآخرين والسياق على تأدية ما يجب تجاهه.

وإزاء «الحماية القانونية» للغة العربية، تأسيسًا على ما سبق ، يمكننا التقرير بأن جوهر هذه الحماية هو الدفاع عن اللغة العربية والذود عنها وتأمين مستحقاتها؛ تامة غير منقوصة: تقليديها وعصريها، معنويها وحسيها، آنيها وآتيها، جوانيها وبرانيها. وسيكون لنا في الأجزاء التالية معالجات لعدة زوايا في هذا الموضوع.

ويدخل في الحماية القانونية اللغوية العمل على إزالة ما يسميه البعض «التلوث اللغوي»، ومن ذلك تصوير اللغة العربية الفصحى في الإعلام في سياقات سلبية جدًا، ومن ذلك التوسل في المسلسلات بالفصحى حينما يجيء حوار مع أو بين متطرفين أو إرهابيين، وهو ما يوجد ربطًا خطيرًا بين الفصحى والتشدد والإرهاب[12]، أو الربط بينها وبين الحمق والبلاهة ونحو ذلك من الاعتداء المعنوي السافر الخطير على العربية الفصيحة، بمادتها وصورتها (كلماتها ونظامها).

من جهة أخرى، أدرج إبراهيم الدغيري «المجال الحمائي» ضمن مجالات «التطوع اللغوي»، ناصًا على أنه «يقصد به مجال التطوع للدفاع عن اللغة العربية وصيانة جنابها، ودحض الشبهات المثارة ضدها»، واصفًا هذا الدفاع عن اللغة العربية بأنه ينبثق راهنًا بالدرجة الأولى من البعد الديني، وهو ما يلبسه رداءً حماسيًا، وأنه إنما يتجسد في بعض تمظهراته في اللاوعي، مستشعرًا الأخطار التي تتهدد العربية، مع إشارته إلى أن «استبطان مبدأ الدفاع عن اللغة هو استبطان للدفاع عن الهوية»، ومشددًا على وجوب تجاوز الدفاع التطوعي عن العربية الأبعاد الانفعالية أو العاطفية ليصل إلى «فعل تطوعي حمائي مؤسس على الحقائق والنتائج العلمية المتماسكة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، بحيث يشمل – على سبيل المثال – تشخيص الاتجاهات والنظرات السلبية تجاه العربية لدى بعض الشرائح الاجتماعية والفكرية»[13].

رابعًا: ماذا نحمي في اللغة؟

دعونا نلج هذا الجزء بـسردية مظلمة، ونقصد بها سردية الخيبات والهزائم، ففي جوف تلك السردية، تقبع الدروس والعظات المضيئة، المرشحة لأن تضيء لنا العتمة؛ فنفر بإهاب هويتنا وكساء لغتنا، لنظفر من ثم بالإشراق التنموي الحضاري. على أن الغرض هو التماس جادة توصلنا إلى إجابة سؤال المبحث: ماذا نحمي في اللغة؟ ولهذا الغرض، سنمرّ في عتمتين: العتمة الفرنسية؛ والعتمة الإنكليزية.

في البدء، دعونا نمر بصورة خاطفة على التجربة الفرنسية، وقد يكون لنا فيما أصاب اللغة الفرنسية درسًا مفيدًا. ضمرت الفرنسية ومنيت بهزيمة نكراء أمام الإنكليزية، وهو ما ترتب عليه الإقصاء والتهميش، وظهور لغة مهجنة مشوشة من الفرنسية المعجونة بالإنكليزية أو ما يسمى «الفرانكلية» أو «الفرانغلي» (Franglais) (وهذا التعبير ظهر عام 1959)، وقد نشر ريني إيتيامبل في 1964 كتابًا بعنوان: هل تتكلمون الفرانكلية؟[14]. ويطرح باحث فرنسي أن من ضمن الأسباب لهذه الظاهرة تراجع تدريس اللغات المصدرية للفرنسية وهما: الإغريقية واللاتينية، وهو ما تسبب في حرمانها مصدرًا ثريًّا للنمو والتوليد للمصطلحات والمفاهيم والكلمات الجديدة التي تواكب العصر، إلى جانب تكاسل الفرنسيين في الترجمة الإبداعية للمخترعات الجديدة والاكتفاء بعمليات التبني والاقتراض المفتوح.

ومن جهة أخرى، تفيدنا السردية الفرنسية بأن الخيبة اللغوية قد يصنعها بعض اللغويين أو المفكرين أو الأكاديميين، فبعضهم قد يحمل نظرات سلبية تجاه اللغة الأم لأسباب فكرية أو لادعاءات واضحة أو مبهمة، وهنا نتذكر اللغوي الفرنسي فريدريك مارتال حيث كتب مقالًا صافعًا للغتة القومية، معنونًا إياه: «أيها الفرنسيون، لكي تثبتوا وجودكم يجب أن تتحدثوا الإنكليزية»!، مشيرًا إلى خسارة المعركة في الاتحاد الأوروبي أمام الإنكليزية التي أضحت اللغة المشتركة في الاتحاد[15].

ونجد في السردية الفرنسية أنه قد تم تفعيل الخطاب الديني إلى حد ما، ومن ذلك دفاعية الأب غريغوار للُّغة الفرنسية والدعوة إلى استخدام اللغة الفصيحة ونبذ العاميات، حيث يقول: «مع ثلاثين عامية مختلفة، على صعيد اللغة في برج بابل، بينما نحن نشكل على صعيد الحرية طليعة الأمم… كيف يمكنكم النظر في قبول القوانين، كيف يمكنكم أن تحبوها وأن تطيعوها، إن كنتم تجهلون اللغة التي كتبت بها؟ إن اقتراح ترجمتها [إلى العاميات المنتشرة آنذاك] قد يكون بالنسبة إليكم مزيدًا من النفقات، وقد يعني إبطاء مسيرة الحكومة، زد على ذلك إن لمعظم العاميات نقصًا في الكلمات لا ينطوي إلا على ترجمات غير أمينة..»[16]. لا نعلم على وجه اليقين مدى نجاعة هذا الخطاب الديني في حينها، إلا أنه من المؤكد أن أثره الراهن يؤول إلى الصفر في معادلة الديانة الجديدة، ديانة السوق (النيوليبرالية)[17].

الخيبات اللغوية السابقة دفعت فرنسا إلى تبني الحماية القانونية للغتهم القومية، حيث تم إصدار عدة تشريعات توجب استعمال الفرنسية في جميع مجالات الحياة دون استثناء، كما هو موضح في موقع «جمعية حماية اللغة الفرنسية» (D.L.F)، وموقع «المفوضية العامة للغة الفرنسية» (D.G.L.F)، ومن ذلك على سبيل المثال إصدار الحكومة الفرنسية عام 2006 قانونًا يلزم ممثليها في المنظمات الدولية بالحديث بالفرنسية في جميع أحاديثهم بغض النظر إذا توافرت الترجمة أم لا[18]. هل توافرت الإرادة السياسية الفرنسية الداعمة لمثل هذه التشريعات؟! هذا هو مربط التأثير اللغوي، والمعول عليه، لا مجرد التشريع بحد ذاته[19].

لربما يقول قائل، لا تصح مثل هذه الخيبات إلا على اللغة الفرنسية وأمثالها، أي على اللغات التي خسرت المعركة أمام اللغة الإنكليزية، وهي اللغة المهيمنة المكتسحة الشرسة، التي استحقت وصف البعض لها بأنها: اللغة القاتلة (The Killing Language). حسنًا، قد يكون لهذا الاستدراك شيء من الصحة. لذا، فسنطيل الوقوف أمام العتمة الإنكليزية والتقاط الصور في الكثير من جنباتها وزواياها، لنجلي خيباتها، بما يدفعنا إلى تجنب الوقوع بها.

في ما يخص هيمنة اللغة الإنكليزية، فما لا خلاف حوله، أن هذه اللغة حققت نسبة كبيرة من الشيوع والاستخدام، وكسبت عدة معارك أمام لغات عالمية قوية كالفرنسية والإسبانية والألمانية والروسية. ومن ذلك ما أشار إليه سكوت مونتغمري – في كتابه الخطير هل يحتاج العلم إلى لغة عالمية؟[20] – من أن اللغة الإنكليزية لم تكن في بداية القرن العشرين سوى إحدى اللغات المهمة بعد اللغتين الألمانية والفرنسية، حيث كانت الأدبيات العلمية مكتوبة بهاتين اللغتين (مع الروسية) بنسبة تقارب 40 بالمئة حتى عام 1960، موضحًا أن تيار الإنكليزية زاد بعد الحرب العالمية الثانية وبروز القوة الأمريكية العظمى، وهو ما صعد بالأدبيات العلمية المكتوبة بالإنكليزية إلى نحو 70 بالمئة في ثمانينيات القرن العشرين، ووصلت إلى ما يلامس 90 بالمئة في مطلع القرن الحادي والعشرين، وقد طرح مونتغمري تقديرًا لحجم تعليم الإنكليزية كما في عام 2010، إذ أشار إلى أنه يقارب 50 مليار دولار، مع زعمه بأن إتقان الإنكليزية يزيد من فرص التوظيف، ليس ذلك فحسب، بل يزيد من التعويضات للموظفين بنسبة من 30 إلى 50 بالمئة، وهو يقرر عدد متحدثيها اليوم بنحو ملياري شخص في أكثر من 120 دولة، وبطلاقة إنكليزية مقبولة. ويقدّر بأن عدد دراسي اللغة الإنكليزية سيبلغ قرابة المليارين بحلول 2020، وأنها قد أضحت اللغة الأكثر تدريسًا في المدارس الابتدائية والثانوية في أكثر من 130 دولة، مع تزايد اعتماد الإنكليزية في التعليم الجامعي[21].

قطعًا هذه مؤشرات كبيرة ومخيفة كثيرًا، ولا جدل إطلاقًا حول الانتشار المتنامي للإنكليزية على الصعد كافة وفي مقدمها الأنشطة والممارسات البحثية، وهذه حقيقة يتوجب علينا التعامل معها بكل موضوعية وحكمة بعيدًا من الأطر العاطفية والانفعالات الهوياتية المجردة عن التخطيط اللغوي السليم؛ ومع ذلك فإنه يتوجب علينا التأني أكثر في الطرح وعدم التسرع بالحكم، فلربما كان وراء السردية الإنكليزية شيء من العتمة. لنأخذ الأمور بهدوء وتوازن، إذن، مع إبراز الشواهد والتقاط الدروس فيما يخص موضوعنا الرئيس.

عند التدقيق، ندرك أنه ليس صحيحًا أن الإنكليزية حققت انتصارًا بضربة قاضية على غريماتها الأخريات، إذ لا تزال ثمة مقاومة شرسة من جانب عدد من اللغات، وهنالك نمو مذهل لبعضها في سياقات مختلفة، وهو ما ينسف فرضية النمو المطرد بوتائر ثابتة ومضمونة للإنكليزية. ثمة عتمات للإنكليزية ومسارب مضيئة لغريماتها. ولعل من أكبر الشواهد الدالة وأخطرها في هذا السياق ما قرره مونتغمري نفسه – وإن بقوالب خجولة – حيث أشار في كتابه السابق إلى بعض المؤشرات التي تدعم فرضية المقاومة اللغوية للإنكليزية لدى بعض الأمم، ومن ذلك أنه في عام 2009 «جرى نشر 6555 مجلة بحث علمي على الأقل بالإسبانية والبرتغالية في اثنتين وثلاثين دولة تمتد عبر أمريكا اللاتينية والكاريبي وإسبانيا والبرتغال، وأغلبها مغطاة بقاعدة بيانات اللغة الإسبانية (Latindex)»[22].

ومن الشواهد أيضًا ما يتعلق بالمحتوى العام في الشابكة (الإنترنت)، إذ كان يعتقد في مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي أن الإنكليزية سوف تسحق الجميع في الشابكة، حيث وصل المضمون الشبكي الإنكليزي إلى نحو 80 بالمئة من إجمالي المضمون العالمي وذلك في عام 2000، إلا أنه تراجع إلى نحو 25 بالمئة[23]، وفق أحدث إحصائية حصلت عليها كما في نهاية كانون الأول/ديسمبر 2017، في نتيجة قد يراها البعض بعيدة عن المنطق، شاردة عن الصواب، إلا أن حقائق الأمور جارية في اتجاه آخر. وقد جاءت أعلى عشر لغات من جهة المضمون الشبكي كما يلي:

جدول بالمضمون الشبكي لأهم اللغات في العالم ونموه من (2000 – 2018)

اللغة نسبة حجم المضمون (بالمئة)عدد المستخدمين وفق اللغةمعدل نمو المضمون (2000 – 2018) (بالمئة)ملاحظات
الإنكليزية25.31,052,764,386647.9نسبة نمو منخفضة جدًا (نحو 650 بالمئة)، إذ إنها أقل من النسبة المتوسطة لبقية دول العالم البالغة نحو 935 بالمئة
الصينية19.4804,634,8142,390.9نسبة نمو متوسطة ، مع ارتفاع المضمون الشبكي الصيني إلى نحو 20 بالمئة
الإسبانية8.1337,892,2951,758.5نسبة نمو متوسطة أو حتى ضعيفة، استنادًا إلى كثرة الدول والسكان الناطقين بالإسبانية
العربية5.3219,041,2648,616.0نلاحظ هنا النمو الهائل للمضون الشبكي العربي، حيث بلغت النسبة أكثر من 8600 بالمئة وهي أضعاف أضعاف نسب النمو في العالم أجمع
البرتغالية4.1169,157,5892,132.8نسبة نمو جيدة بالنظر إلى قلة الدول المتحدثة بهذه اللغة والمتوسط العام
الإندونيسية – الماليزية4.1168,755,0912,845.1نسبة نمو متوسطة
الفرنسية2.9118,626,672152.0نسبة نمو محدودة جدًا وتراجع مذهل للغة الفرنسية
اليابانية2.7109,552,8423,434.0نسبة نمو فوق متوسطة بالنظر للمتوسط العام
الروسية2.8108,014,564800.2نسبة نمو ضعيفة
الألمانية2.284,700,419207.8نسبة نمو ضعيفة جدًا وتراجع حاد لهذه اللغة المهمة! ماذا عن الحماية القانونية؟ يستحق ذلك دراسة معمقة.
المتوسط العام لنسب نمو اللغات العشر77.13,206,613,8561,091
بقية لغات العالم(*)22.9950,318,284935

المصدر:  Internet World Stats, «Top Ten Languages Used in the Web,» 31 December  2017 <https://www.internetworldstats.com/stats7.htm>  (accessed on 6 August 2018).

(*) بخصوص ضآلة نسبة بقية دول العالم، يرجى ملاحظة الآتي: تقدر عدد اللغات في العالم بأكثر من 6000 لغة، علمًا بأن 10 لغات منها يتحدث بها أكثر من 50 بالمئة من سكان العالم، وأن 20 بالمئة منها يتحدث بها نحو 65 بالمئة، وأن 100 بالمئة منها يتحدث بها نحو 90 بالمئة من السكان. انظر: الزواوي بغورة، اللغة والسلطة: أبحاث نقدية في تدبير الاختلاف وتحقيق الإنصاف (بيروت: دار الطليعة، 2017)، ص 350.

ومن الشواهد الدالة أيضًا على عتمة الإنكليزية، الفرضية التي تبنتها بعض الدراسات القاضية بضعف تنامي هيمنة الإنكليزية في المستقبل، ومن ذلك دراسة دايفيد غرادول حيث يقرر أن مستقبل الإنكليزية غير مضمون، وأنها ستواجه تنافسًا عاتيًا من اللغات العالمية الصاعدة كالصينية والهندية والإسبانية، ومشيرًا إلى جناية الإنكليزية على أهلها، إذ صنعت منهم «أحاديي اللغة»، وتذهب دراسات أخرى إلى أن اللغة الإنكليزية هي آخر «اللغات العالمية المشتركة»، وأن وجود مثل هذه اللغة سيتناقص مع مرور الوقت من جراء التقدم التقني المذهل ويدخل فيه ما يتعلق بتقنيات الترجمة الفورية المبطلة للحاجة إلى تعلم لغة عالمية مشتركة[24].

دعونا نواصل سردية الإنكليزية في اتجاهات أخرى، تربطنا أكثر بنظام اللغة وكلماتها بقوالب تحليلية نقدية. حسنًا، لنمسك خيطًا من وصف سابق لي بأنها «لا ترد لسان ناطق» (على وزن لا ترد يد لامس)، وذلك من جراء اتصافها بمرونة هائلة، يتوهم الأكثرية بأنها سمة إيجابية تتفرد بها اللغة الإنكليزية إلى حدٍ كبير، فمرونتها تسهّل الخطاب وتيّسر عملية التواصل الإنساني، من خلال التقبل السريع للكلمات «المبتكرة» واستخدام الاختصارات والترميزات المشفّرة، وربما يرمي البعض لغتنا العربية بالجمودية والاستعصاء على الاختصار والترميز، وذاك أمر سلبي في نظرهم، وقد يتوهمون بأن ذلك معيق لها عن الحركة والتطور في فضاء العلم والتقنية[25].

غير أن الأمر – في نظري – ليس كذلك البتة، فمرونة اللغة الإنكليزية مؤذن بانهيارات ضخمة في نظامها وهيكلها الخاص (مادتها وصورتها)، أو لنقل بنوع من الفناء أو التهدّم الداخلي، كيف؟ الواقع المعيش يشهد أن الإنكليزية تتقبل كلمات دخيلة أو «مخترعة»، يحدثها أو يجود بها فيلسوف أو لغوي، أو أديب أو عالم أو شاب أو فنان راب أو حتى راقص في نادٍ ليلي، والبحث العلمي الرصين يؤكد مثل هذه الظاهرة، التي تُعرف بظاهرة ابتكار الكلمات (Neologism) (ابتكار كلمة جديدة أو معنى جديد لكلمة قديمة). ففي الأدبيات العلمية، نجد باحثًا غربيًا – هو البرفيسور ألان ميتكلف[26] – يقرر بأن آلاف الكلمات الجديدة تصاغ يوميًا في الإنكليزية، طبعًا هو لا يزعم أن جميع تلك الكلمات يتم الاعتراف بها بوصفها مولودًا لغويًا شرعيًا، ولكنها تستخدم بطريقة ما على نطاقات مختلفة، ومؤكد أن عددًا لا يستهان به منها تنتزع صك الاعتراف اللغوي، وبعضها يفلح في الولوج في المعجم، رسميًا أو حياتيًا (على أنه لا فارق كبيرًا بينهما في واقع الحال كما اتضح في هذه المعالجة). وضمن الابتكار «المشروع» في اللغة الإنكليزية – بوصفها لغة غير معيارية – تقبّل الكلمات والتراكيب والأساليب الجديدة حتى لو كانت مخالفة للقواعد الصحيحة. لعلي أضرب على ذلك مثالًا واقعيًا. جمعني غداء في ولاية كاليفورنيا – في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2012 – ببروفيسور أمريكي وآخر ألماني مع بعض الأصدقاء السعوديين، وانجر الحديث إلى اللغة. وفوجئت بالبرفيسور الألماني يقول بأن كلمات كثيرة إنكليزية خاطئة بدأت تستخدم على نطاق واسع ويصعب تخطئتها (!)، ثم واصل الحديث مستشهدًا باستخدام متزايد للكلمة الخاطئة badest (= «الأسوأ») (إذ الصحيح كما هو معلوم  استخدام: bad-worse-worst، التي تعني: سيّئ – أسوأ – الأسوأ). وهنا تدخل الأمريكي ليقول: لا، هذه الكلمة خاطئة تمامًا، ونحن لا نقول badest!. فرد الألماني ولكن الآلاف باتوا يستخدمونها في الشابكة – الإنترنت – ومنهم الصينيون (= الإنكليزية الصينية)، فما كان من الأمريكي إلا أن أذعن وقال: محتمل (Probably)، وراح يكمل طعامه الشهي[27].

وما ينطبق على ظاهرة ابتكار الكلمات ينطبق تمامًا وربما أكثر على حركة الترميز في اللغة الإنكليزية، فهي تشهد استخدامًا مكثفًا ومتزايدًا للاختصارات ولا سيما في عالم التقنية وفضاء المجتمعات الافتراضية، ومنطقي أن ذلك كله سيؤدي إلى حالة من شيوع تلك الاختصارات وغلبتها لدى الأجيال القادمة بطريقة تكون على حساب الكلمات والجمل والتراكيب اللغوية السليمة، وسيزداد هذا الأمر بمرور السنين، لتجد اللغة الإنكليزية نفسها بعد حقبة زمنية قصيرة نسبيًا – مئة سنة أو أكثر – محوطة بسيل كبير متلاطم من الاختصارات التي يجود بها أعداد متزايدة من البشر الذين يفتقدون في حالات كثيرة لأبسط قدرات الاختصار والكبسلة اللغوية بطريقة صحيحة، وستتصدق شعوب الأرض قاطبة على تلك اللغة بمزيد من الاختصارات التي تحمل قدرًا من عدم الدقة وربما التشوُّه، وسيحل كثير من تلك الاختصارات محل الكلمات والجمل والتراكيب، في سياق الكتابات في عالم الشابكة في البداية (وبخاصة للكلمات الصعبة من حيث التهجئة والقراءة)، مع انسحاب ذلك إلى السياقات الأكثر رصانة كالتعليم والمقالات ونحوها، وسيجهل كثير من الأجيال الجديدة مفردات إنكليزية متزايدة من حيث تركيبها وطريقة كتابتها (أي التهجئة Spelling)[28]؛ وهو ما يدفع ببعض اللغويين – المؤمنين بالمدخل الوضعي أو الواقعي أو بالأحرى الإذعاني (Positive) – إلى إقحام تلك الاختصارات في قواميس خاصة وربما تم إدماجها في القواميس العامة في مرحلة لاحقة، الأمر الذي يعني شرعنة لغوية لاستخدام الكثير من الكلمات والأساليب والاختصارات الشائعة، بوصفها مكونات لغوية سليمة أو فعالة أو مقبولة على أقل تقدير، وكل ذلك سيكون على حساب البناء اللغوي والمفردات السليمة والتراكيب والقواعد فضلًا عن الدلالات والمعاني، فهي مرشحة لتبدل سريع، بل لتشوهات ربما لا يملك المجتمع المتحدث بالإنكليزية السيطرة عليها.

وأنا حين استخدمت مصطلح الفناء أو التهدم الداخلي فإنني لا أقصد البتة أن اللغة الإنكليزية سوف تتعرض لحالة من الفناء أو التهدم الكامل، ولكنه اضمحلال شديد وتشوّه موجع، وأحسب أنه سيكون لذلك انعكاسات خطيرة على مسارات العلم والتقدم للمجتمعات الناطقة بها ولغيرها أيضًا، وأرجو ألّا يعتقد أحد بأن ذلك الأمر – على افتراض التسليم بدقة الاستنتاج – سيحدث بعد سنوات قصيرة، حيث أن التغيرات اللغوية الكبيرة تتطلب فترات زمنية طويلة نسبيًا[29].

ولعل من العتمات اللغوية في السردية الإنكليزية ما يمكننا نعتها بـ «العتمة القانونية»، إذ لا نجد أي جهد تشريعي قانوني لحماية الإنكليزية والحفاظ على ما تبقى من مرونتها المعيارية، ومن يحق له أصلًا إصدار مثل هذا التشريع وهي مبثوثة لكل أحد؟ من الواضح لنا أن إماتة العلة الغائية هي السبب الرئيس في هذه العتمة، إذ إن أهل الإنكليزية (من هم؟) يرونها مجرد أداة تواصل، لا هوية لهم، ومن ثم فهم لا يُقْدمون على ما يصونها ويدافع عنها، وفي هذا تعطيل تام لسلطتها الخارجية وحرمانها إياها. وبهذا، تمت حوسلة الإنكليزية – أي جعلها وسيلة – وتسليعها ورميها في أرفف السوق ومتاهات النمو.

وبعد الإيضاح السابق، تتعين الإشارة إلى أن ما يمكننا نعته بـالمرونة اللامعيارية للغة الإنكليزية (بسبب ما يحدث لها من تغيرات وتشوهات، ألمحنا إلى طرف منها)، وما ننشده في المقابل من مرونة معيارية للغة العربية وما نجهد للحفاظ عليه فيها، هو ليس من قبيل السمات الذاتية لأي من اللغتين. وذلك أن كلتا اللغتين تمتلك سلطة داخلية، تخولها بناء مرونة معيارية: (1) مرونة تمكّن اللغة من التطور والوفاء بمقتضيات التحضر والتمدن وتشقق العلوم، (2) معيارية تحافظ فيها اللغة على كلماتها ونظامها (مادتها وصورتها) عبر الالتزام بمعايير اللغة وسلطانها الهيكلي.

وكلتاهما في الوقت ذاته تفتقدان سلطة خارجية، تجعلهما قادرتين على الحفاظ على منظومة الكلمات وهيكلهما الداخلي. وكل ما سبق يعني أن اللغة – أي لغة – لا تحمي ذاتها بذاتها، كما أنه يؤكد صحة ما قررناه سابقًا حيال العلة التي تدفعنا إلى حماية لغتنا، حين أبطلنا مفعولية العلتين المادية (أي حماية كلمات اللغة) والصورية (حماية نظام اللغة)، فهما علتان غير كافيتين لتحمل مشقة الدفاع عن اللغة ودفع تكلفته الباهظة، وهو ما يبقي لنا العلة الحقيقية الباعثة على تحمل المسؤولية اللغوية، وهي العلة الغائية: الهوية.

القول بهذه العلة، يدفعنا من بعض زوايا التحليل إلى أن نتساءل: هل المجتمع هو من يحمي لغته أم اللغة هي «من»[30] تحمي مجتمعها؟ بقالب مختصر، يسعنا التقرير بأن كلًا منهما يحمي الآخر في قوالب تعاضدية تبادلية، فالمجتمع يحمي اللغة بـسلطانه الخارجي عبر آليات متعددة، لتجيء اللغة بـسلطانها الداخلي، فتحمي هويته العميقة وذاكرته السحيقة، من جراء قدرتها على الاحتفاظ بعتادها القديم – كلمات ومعان وقواعد – والذي ينيلها مفاتيح قراءة نصوصها العتيقة، فتنتظم سلاسل أجيالها، عازفة سيمفونية التاريخ الجامع الحاشد للوحدة والمصير.

قد يكون التحليل والسرد السابقان يسّرا أو شرّعا لنا طرح السؤال الآتي: ما هو الشيء الواجب حمايته في اللغة؟ المكونات اللغوية التي يتوجب علينا حمايتها، هي:

أولًا، ما يتعلق بنظام اللغة وهيكلها، والمتمثل ببنائها الداخلي؛ أي: بحروفها، ونحوها وصرفها، وأصواتها.

ثانيًا، ما يتعلق بمعجم اللغة وآدابها، والمتمثل بذخيرتها اللفظية والمعنوية، أي: بكلماتها ومعانيها، وشعرها ونثرها.

الأمر الذي يقود إلى التقرير بوجوب اشتمال المنظومة القانونية الحمائية للعربية على ما يحافظ على كل ما سبق وما ينميه، وتدبير الأمور ودفعها في هذا الاتجاه. وبعد معالجة المحاور السابقة، لا يتبقى لنا سوى الإجابة عن سؤال المحور الأخير.

خامسًا: كيف نحمي اللغة؟

ثمة من يؤكد أن «الوعي بالسيادة اللغوية وعي بوجود الدولة وأمنها الثقافي والاجتماعي»[31]، ويؤكد آخرون – ومن بينهم محمود الذوّادي – ضرورة تحقيق مقومات «الأمن اللغوي»، بوصفه أحد أهم أركان «الأمن الثقافي»، مبديًا استغرابه من ضعف اهتمام الساسة العرب به، وداعيًا إلى دراسة أسبابه [32]. ويذهب عبد السلام المسدّي إلى القول: «من ظن أن اللغة شيء والسياسة شيء آخر، فقد وضع نفسه خارج منطق التاريخ..»[33]، مضيفًا: أن هنالك «حملة واسعة تصاحب حملة الكونية الثقافية، تتقصد النيل من كل الثقافات الإنسانية ذات الجذور الحضاري المتأصلة، وفي مقدمتها الثقافة العربية، وتتوسل دائمًا بالعامل اللغوي..»[34]

إزاء الحماية اللغوية، لعله قد ترسخ من الأجزاء السابقة أن المعوَّل عليه هو السلطة الخارجية للغة وليس سلطتها الداخلية التي لا تملك سوى النفوذ على كلماتها ونظامها الداخلي. السلطة الخارجية للغة يمكن تفعيلها عبر عدة مسارات، ولعلي أضعها في مسارين كبيرين، وهما:

حماية اللغة بالتشريع والقانون والسياسة والتخطيط اللغوي.

حماية اللغة بالتنمية والاستثمار والابتكار والتقنية.

المسار الأول، هو ما يعنينا في هذه المقالة. ولعل من أهم القضايا التمهيدية التي يحسن طرحها هنا ما يتصل بالجوانب التي ينبغي للتشريعات والقوانين أن تتضمنها. دعوني أورد هنا نصًا فريدًا للعلامة الأندلسي ابن حزم، ففيه ملامح رائعة في سياق النقطة السابقة، حيث يقول: «إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم. فإنما يقيّد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم. وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل، وخدمة أعدائهم، فمضمونٌ منهم: موت الخواطر؛ وربما كان ذلك سببًا لذهاب لغتهم، ونسيان أخبارهم وأنسابهم، وبيود علومهم. هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة، ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الأعوام»[35].

من الصعب القيام بتحليل كامل لهذا النص الثري، ولكنني سأبرز بعض الجوانب التي أراها محورية في التشريعات والقوانين التي تزمع الدول سنها من أجل حماية اللغة العربية، وهي وقفات مكثفة جدًا، كما في العناصر العشرة الآتية:

■ لا تطيق أي لغة حماية ذاتها بذاتها، وإنما تكون الحماية بقوة الدولة وهيبة سلطانها.

■ قوة الدولة من قوة لغتها، وفق كوجيتو لغوي حضاري: لغتك قوية بصدق، إذن دولتك قوية بحق.

■ قوة اللغة يتطلب تفعيلًا للعلماء والمختصين والناشطين في المجال اللغوي وتفريغهم لتحقيق ما يجب إنجازه في هذا الشأن.

■ القوتان العلمية والإخبارية مرتهنتان بقوة الدولة وحيوية لغتها وفاعليتها وشيوعها.

الأعداء يشتغلون بما يقوي لغاتهم ويضعف لغتنا، مما يستوجب التفطن لما يحيكونه «آناء» الإعلام و«أطراف» اللغة!.

■ ثمة تأثير سلبي للأعاجم الذين يخالطون الناس في أسواقهم وأحيائهم وشوارعهم، وهو ما يتطلب معالجة قانونية ناجعة.

■ وهنالك تأثير سلبي أيضًا في المواطنين حينما يختلطون بالأجانب خارج دولتهم، وهذا يستلزم التفاتة قانونية ذكية.

■ دواع كبيرة توجب قيام الدولة بتعضيد «الاعتزاز اللغوي» و«الأنفة اللغوية»[36] لدى أفرادها وفرض مقوماته عبر قوانين ملزمة واضحة.

■ ضعف اللغة في الدولة مؤذن بـ «موت الخواطر»، أي ضمور الإبداع والابتكار، على نحو يضر بحاضر الدولة ومستقبلها ومساراتها التنموية وسيادتها.

■ ضعف دعم اللغة سبب موصل لانطمار الأخبار عن المنجزات التنموية والصلات الاجتماعية، وخمول العلوم وبيودها.

وأختم بالقول: لم يعد محل جدل كون التخلف الحضاري للأمة العربية الإسلامية من أهم أسباب ضعف الاعتداد باللغة العربية، وضعف شيوعها واستخداماتها في المجالات العلمية والتنموية والاستثمارية والتقنية والإعلامية. البعض يرى في هذا الأمر متملّصًا من النضالية اللغوية الواجبة، إذ إنه يكتفي بالقول: قوّ حضارتك، تقو لغتك! ويحسب أنه على شيء كبير من الشطارة والنباهة، وما علم أن لغته الأم هي بأمسّ الحاجة إليه في وقت ضعفها وهوانها على الناس؛ فرحم الله امرأ آمن بلغته، وحامى عنها، وصانها، وضمن لها: أسباب النمو، وأسرار الخلود. على أن الحماية اللغوية لا تتحقق وفق ما سبق كله، إلا إذا أفلحت الدولة في ترجمة قوتها وهيبتها ورفعتها إزاء الأنداد والأعداء إلى: تشريعات وقوانين حازمة ملزمة، تتضمن عقابًا رادعًا لمن يتسبب في هزال الدولة وضعفها وموت خواطرها وبيود علومها وانطمار أخبارها، أليس كذلك؟ ولهذا فإننا نؤكد أن السعي لإصدار القوانين اللازمة لحماية اللغة العربية في أقطارنا العربية وإنمائها وضمان سيادتها، لهو واجب محتم علينا جميعًا، شعوبًا وحكومات، أفرادًا ومؤسسات، كلٌّ بقدره وسعته ونفوذه. على أن الواجب الأسمى علينا إنما هو الدفع بتلك القوانين في المستقبل القريب، لأن تكون مطبّقة بصورة دقيقة في أبعادها النظامية الإلزامية البرانية، ليس ذلك فحسب، بل في فك شفرة هذه القوانين في سياقها المجتمعي؛ لجعلها متممة للمكارم الأخلاقية الحضارية الجوانية.

 

قد يهمكم أيضاً  اللغة العربية: من التراجع إلى التمكين

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #اللغة_العربية #الهوية_العربية #الثقافة_العربية #الحضارة_العربية #اللغة