أولاً: لماذا نخطط أصـلاً للغة؟

لكي نجيب عن السؤال الكبير الذي احتل عنوان هذه المقالة، قد يكون جيداً المباغتة بسؤال أصغر منه، ولكن في اتجاه معزز له بطريقة ما؛ سنجلوها للقارئ دون إبطاء، ومفاده: لماذا يا تُرى نحتاج إلى أن نخطط للغتنا القومية الحضارية (اللغة العربية)؟ حين تُباغَت في سياق ما، فلا تركن إلى غير المباغتة أسلوباً في الرد، وجوهر المباغتة يكمن في رد موجز حاسم. لا أحسب أن الجواب المطوّل عن هذا السؤال سينتهي في نهاية تطوافه إلى إجابة تخرج عن مقولة أننا إنما نخطط للغتنا من أجل حمايتها وتأمينها في مستقبل أيامها، بما يجعلها قادرة على النمو وفق كينونتها هي، بما في ذلك معاونتها على اهتبال الفرص المواتية أو التي يمكن أن تكون كذلك وتخطي التحديات الراهنة والقادمة على حد سواء. هكذا إذاً، فحماية اللغة وإنماؤها هما الباعثان الرئيسان للتخطيط اللغوي. إن المباغتة عادة لا تأتي فُرادى، وربما لا تدعنا نلتقط أنفاسَ جذلِنا بما قد نعدّه كسباً في جولتنا الأولى، إذ إنها تغمرنا في سلسلة متوالية مربكة، وكأننا بمثل ذلك الجواب القاصد قد فتحنا باباً؛ تراصّتْ خلفه مجموعة متناثرة من الأسئلة، فاندفعت نحونا بكل عنفوانها، ومن بينها: لماذا نحمي لغتنا؟ هل تحمي اللغة ذاتها؟ ما ماهية الحماية اللغوية وما جوهرها؟ ماذا نحمي في اللغة؟ كيف نحمي لغتنا؟‏[1]

ومع وجاهة هاته الأسئلة، فنحن نغض الطرف عنها لكونها نادَّةً عن عنوان هذه المقالة وهدفها، سوى الأول منها، لأنه يمثّل تأسيساً فكرياً ومعنوياً مباشراً للتخطيط اللغوي، إذ لا نرى البتة نجاعة طرح المصطلحات، ما لم نُلِمّ بقدر كافٍ من التحشيد المفاهيمي المشاعري، بما يجعلها قابلة لأن تُترجَم في ميادين التطبيق العملي، وإلا أضحت مقالاتنا البحثية حشواً ومراكمة لفائض القول، الذي يتوهم البعض بأنه يمثل إنجازاً في حد ذاته، والأمر ليس كذلك. حسناً، إذاً سنعالج في هذا الجزء سؤال: لماذا نحمي لغتنا؟

إن سؤال «اللماذا» ملتصق بالعلِّيَّة، وإن لم تكن معبأة دومـاً في قوالب الضرورة والقهرية (أو السببية الصلبة ويقابلها الفضفاضة، كما في تعبير عبد الوهاب المسيري)، إذ قد يكفينا الاقتران المصاحب أو المعاند، الذي لا يبرح مكانه: في موضع ما في شبكة العلاقات بين العوامل التي نمعن التفكير في جوانب من عليّتها ومعلوليتّها. ومردّ هذا التقنّع – من القناعة – تمرد هذه العوامل وتفلُّتها وغموضها، كيف لا، وهي متعلقة باللغة، وبطلها أو سفاحها هو الإنسان ذاته!

لماذا نحمي لغتنا؟ نعم، ما العلّة «المقنعة»، التي تسوّغ لنا الاشتغال باجتهاد وكُلفة ودأَب في برامج التخطيط اللغوي وغيره، لضمان حماية لغتنا من غوائل الزمن وعوائد التمدُّن والمعاصرة؟ أيُّ العلل الأربع المشهورة هي الأكثر أهمية وإقناعاً لنا في هذا المبحث؟:

- أهي العلة المادية: أي الكلمات بالنسبة إلى اللغة: هل العلة الدافعة لنا هي حماية كلمات اللغة لذاتها وفي ذاتها؟

- أم هي العلة الصورية: أي شكل اللغة: هل العلة الباعثة لنا هي الحفاظ على هيكل أو نظام اللغة نفسه؟

- أم هي العلة الفاعلة: أي صانع اللغة: من الذي صنع اللغة ومن أوجدها أصـلاً؟

- أم هي العلة الغائية: أي غاية اللغة: ما الغاية النهائية للغة في نهاية المطاف؟

لا يسعنا الخوض المفصل في الإجابة عن هذه الأسئلة الفلسفية العويصة في هذه المقالة المختصرة، ولا نطيقه أصـلاً، وهذا يلجئنا إلى إيجاد مسرب للتخلص من هذه الورطة بإجابة مكثفة علّها تحمل قدراً من الوجاهة والإقناع. العلتان الأوليان متعلقتان بكون اللغة أداة تواصل بين البشر، إذ إن الكلمات حينما تستخدم وفق هيكل اللغة ونظامها، فإنما تقوم بدور الموصل لما يروم الإنسان إيصاله إلى الطرف الآخر في عملية الاتصال. لا أحسب أن أحداً سيكترث للغة ذاتها بكلماتها (مادتها) ونظامها أو هيكلها (صورتها)، حينما ينخرط في عملية تواصل، إذ إن بغيته هي إيصال المراد بأفضل طريقة وأدقها وأخصرها. وتنتهي هنا الحكاية. وعليه، فإن هاتين العلتين تقصران عن إقناعنا بحشد جهودنا وأموالنا وأوقاتنا لحماية كلمات اللغة ونظامها، وهذا يجعلنا نقذف باللغة في مهب التغيرات الحضارية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولا نبالي إذاً بقدر التغير – أو حتى التشوُّه – الذي قد يلحقها في كلماتها (مادتها) وهيكلها (صورتها)، لقناعتنا بأن مادة اللغة وصورتها الراهنة والمستقبلة أيضاً قادرة على الوفاء بوظيفة الاتصال الإنساني وكسب معاشه وعمارة أرضه.

والعلة الثالثة تتمحور حول سؤال عن صانع اللغة وموجدها؟ هذا سؤال محيِّر جداً، ولا طائل كبيراً وراءه. فمثـلاً، لو قلنا بأن صانع اللغة الأولى هو الله تعالى، حينما فتق لسان آدمَ وعلَّمه الأسماء كلَها، ثم تعلَّم بنو آدم كيف يعبّرون وكيف يكتبون وكيف يراكمون المعارف، فتطورت لغاتهم وفق سيرورة حياتهم وتقلباتها، ونحواً من ذلك. هب أننا قلنا بهذا أو بشيء مشابه له، ماذا عسانا نخرج به من هذه العلة الفاعلية؟ لست بقادر على الخروج بشيء ذي بال، سوى أن اللغة تتبادل مع مجتمعها التأثير والتأثر، بطريقة ما وبقدر ما، وفق عوامل متشابكة معقدة. هذه خلاصة مفيدة بلا شك، بيد أنها لا تسد رمق سؤالنا عن العلة المقنعة الدافعة لنا لبذل جهود وتحمّل كُلف من أجل حماية لغتنا والدفاع عنها.

لهذا، لا يتبقى لنا سوى العلة الرابعة، وهي العلة الغائية. والغاية هنا ترمز إلى العلة النهائية لإيجاد الشيء على ما هو عليه. والغاية متشبثة بجوهر الشيء، لا بأعراضه، وذلك أن الجوهر يعكس ما يتوقف عليه وجود الشيء على ما هو عليه، ومن ثم تحقيق وظيفته المحورية. وهذا ما يقودنا إلى السؤال عن جوهر اللغة؟ يذهب كثيرون إلى أن اللغة في جوهرها هي: «هُويّة»، وليست مجرد أداة تواصل‏[2] (وفي هذا نفيٌ للعلتين الأوليين: المادية والصورية). ولتأكيد الأهمية الكبيرة للهوية في المسألة اللغوية، اقترح جون جوزيف إدماج الهوية لتكون ضمن المسائل المبحوثة في اللسانيات الحديثة، هادماً النظرة «العلموية» الجائرة التي تزعم عدم إمكان بحث مثل تلك المسائل بطريقة «موضوعية»‏[3].

وهنالك مقولات مكبْسلة ذات دلالة باذخة في هذا السياق، من قبيل «هُوية كل مجتمع تتأسس على لغته»‏[4]، و«اللغة هي أم الرموز الثقافية» المشكّلة لهُوية الإنسان‏[5]. وقد يكون تعريفي للغة بأنها: «هُوية ناطقة» من أعون الدلالات على تكريس البعد الهوياتي، إذ إنه ينأى باللغة عن مجرد كونها أداة تواصل‏[6].

في الفضاء العربي، «العربية» هي آكد طبقات الهُوية وليس الدين أو الدولة. أنا هنا أتحدث عن الهوية من جهة الترسخ والثبوت؛ لا من جهة الأهمية المطلقة أو النسبية. ماذا يعني لنا هذا في سياق مسألة أن جوهر اللغة هو الهُوية؟ له عدة معان واستحقاقات. من ذلك، أنه يعني أن العربية بالنسبة إلى العربي هي ركيزة إدراكه لذاته، وهي تمثّل تماهياً تاماً مع «ذاته العميقة». فالعربية هي التي تصنع للعربي مشاعره تجاه ذاته، متجسداً ذلك بشعوره (وهو تمثيلات عقلية نفسية) بأنه «عربي»، وذاته العميقة تشير إلى «وعي الوعي»، أي وعيه بأنه يعي بأنه عربي، فهو لا يعرف أنه عربي فحسب، بل يعرف أنه يعرف أنه عربي، ومستوى التفكير هذا يسمى – في أدبيات علم النفس الاجتماعي – «الانعكاسية»‏[7]. ويمكننا – إن نحن استعرنا مصطلحات عالم النفس وليام جيمس‏[8] – أن نقول بمعادلتَي الفاعل والمفعول به كما يلي: «العربية = الذات العارفة» (الذات الفاعلة)، «العربي= الذات المعروفة» (الذات المفعول بها).

ويمكن لمتسائل أن يبادر: وماذا عساك تقصد بـ «العربية» وبخاصة أنك قد تحاشيت إلصاق مفردة «اللغة» بـ «العربية»؟ العربية في السياق السابق تعني الثقافة، بكل تراكميتها ومغذياتها ومكوناتها، وبدهي أن «اللغة» على رأسها، وذلك أن «اللسان يقع في قلب كل القضايا.. وهو صورة تعكس الواقع الاجتماعي والنفسي للأفراد أو لمجموعة لسانية ما»‏[9]، ولا سيَّما في حضارتنا العربية الإسلامية الموسومة بأنها «حضارة الكلمة»‏[10]، التي حققت خرقاً لعوائد اللغة، إذ لأول مرة في التاريخ «يُكتب للسان طبيعي أن يُعمّر حوالي سبعة عشر قرناً محتفظاً بمنظومته الصوتية والصرفية والنحوية، فيطوّعها كلها ليواكب التطور الحتمي في الدلالات من دون أن ينتزع النظام الثلاثي من داخله»‏[11]. من هنا نستبين الأهمية الجذرية للغة العربية في تكوين هويتنا العربية الإسلامية، في سرديتها التاريخية الحضارية‏[12].

ولكي أجيب عن أسئلة فرعية أحسب أنها قد تتخلق هٰهنا، أوضح مسألة مهمة. دعوني استجلب حالة تطبيقية، فيها قدر من التطرف والشذوذ، كي أبيّن أعمق الزوايا المعتمة في تلك المسألة. تخيلوا معي لو أن عربياً يعيش في المهجر، وفَقَدَ تعمّداً لغتَه العربيةَ بغية التخلص من «ذاته العربية»، فإنه يعيش في مرحلة يمكن نعتها بـ «الهوية الباهتة»، فـ «عربيته منتقصة» من جهة الأفكار واللسان، مما يعيّشه وضعاً لا يتوافر فيه على «تمثيلات عقلية نفسية» تكفي لإكمال «ذاته العربية»، ولكنه في الوقت ذاته، لا يطيق الانفكاك من كونه «عربياً»، فالثقافة العربية المحيطة به – وإن كانت في أضعف حالاتها – قادرة على خلق تمثيلات كافية لإيقاعه دوماً في ِفخاخ «الهوية العربية» التي يريد هو أن يهرب منها، وهذا التورط ظاهر وجلي، في «نَفْسه» وفي «نَفْس الآخر» أيضاً. أما لو انعدمت «الثقافة العربية» تماماً من محيط الإنسان الذي أصله عربي ويعيش في المهجر، فإنه يمكن القول بأن «هويته العربية» تلاشت أمام «هويته الجديدة» التي صنعتها الثقافة التي تلقفته تربية ولساناً، كما في حالة «ستيف جوبز» – رئيس شركة آبل – فكونه عربياً من جهة أبيه (السوري)، لم يسهم في إكسابه «الهوية العربية»، لا في نفسه ولا في نفوسنا ولا في نفوس الأمريكان، فقد عاش «أمريكياً» ومات «أمريكياً»، وعلى أحسن الأحوال كان ينعت بالقول «من أصول عربية». ومؤدى هذا، أن العرق ليس له أهمية تذكر مقابل أهمية اللغة في إكساب الإنسان الهوية. يؤكد ذلك، أن الأخوة الأمازيغ في المغرب العربي يَعدّون أنفسهم عرباً ونحن نَعدّهم عرباً، سواء بسواء‏[13].

خلاصة هذا الجزء يمكن سكبها في جملة واحدة: نحن نحمي لغتنا العربية، لأنها تشكّل هُويتنا وتصونها، وتصنّع لنا ذخائر النمو الفكري والاقتصادي المستقلين، وليس لأنها مجرد أداة تواصل فيما بيننا. وهذه النتيجة تمثّل المشروعية التأسيسية للتخطيط اللغوي الساعي إلى حماية اللغة وإنمائها.

ثانياً: مقاربات منهجية للتخطيط اللغوي

تفصح أدبيات المسألة اللغوية في المكتبة العربية بأن الإسهامات العلمية في مجال «التخطيط اللغوي» شهدت في السنوات الخمس الماضية قفزة ملحوظة، وأنا أعد اللحظة التي ولدت فيها أول مجلة علمية عربية محكّمة تاريخاً مفصلياً في مجال التخطيط اللغوي‏[14]. وآمل ألا يُفهَم من كلامي هذا أنني أقول بأننا قد حققنا المنشود وأرجعنا المفقود، كلا، فعلى الرغم من هذه الصحوة البحثية إلا أن أبحاث التخطيط اللغوي لا تزال محدودة جداً من حيث الكم، مقارنة بالقضايا الأخرى كالهوية واللهجات العامية واللغات الإثنية ومسائل تعليم العربية للناطقين بها وبغيرها. ومن جهة النوع، تفتقد جملة من دراسات التخطيط اللغوي في أدبياتنا العربية الصلابة العلمية في جوانبها المنهجية والإجرائية، الأمر الذي يضعف ثمراتها البحثية والعملية في أبعاد رئيسة مثل: التحليل والتشخيص والتنبؤ والبلورة للمعطيات والقضايا الاستراتيجية والرؤى والأهداف والمبادرات الاستراتيجية. غير أنه يحسب لهذه الإسهامات أنها أبقت جذوة التخطيط اللغوي مشتعلة في الميادين البحثية والفكرية طوال العقد الماضي، مع التعريف ببعض أبعاد التخطيط اللغوي وبعض تطبيقاته العملية، ومن ذلك مثـلاً تأكيد بعضها أن «كل تخطيط في المجتمع بناءٌ على شفا جرف هاو ما لم يواكبه تخطيط لسلامة الوجود الداخلي للإنسان، وعلى رأس هذا التخطيط التخطيط اللغوي»‏[15]. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن التخطيط اللغوي استُخدم كأداة لمقاومة الهجمات الشرسة على بعض اللغات والهويات الوطنية من جانب بعض الدول المحتلة، حيث تم إقصاء تلك اللغات وإضعافها، الأمر الذي دفع بعض الباحثين والمؤسسات الوطنية والدولية لبذل جهود تخطيطية من أجل استعادة مكانة تلك اللغات وحل المشكلات التي خلقتها أوضاع الاحتلال المباشر أو غير المباشر كما في بعض الدول الآسيوية والأفريقية‏[16].

والمحدودية البحثية العربية في مجال التخطيط اللغوي تقابلها حركة بحثية نشطة في الأدبيات الغربية، حيث نجد مئات الأبحاث والكتب المتخصصة التي يصدرها تباعاً متخصصون في عدة فروع معرفية، ليس ذلك فحسب بل ثمة مجلات علمية محكّمة عديدة في مجال التخطيط اللغوي، مما أوجد ثراءً نوعياً وكمياً في الأدبيات الغربية‏[17]. وفي هذا السياق، أشدد بصوت عال على خطورة استمرارنا في «النهل المفصل» من الأدبيات الغربية في عموم مسائل اللغة ومباحثها، ومنها التخطيط اللغوي، وذلك للاختلاف الجوهري في بعض الأبعاد اللغوية فيما بين المجتمع العربي والمجتمع الغربي، فنحن لنا لغة تتميز بسماتها المعيارية والوظيفية المتفردة عن سائر اللغات، في وقت ما زلنا نؤمن بهذه المعيارية وبضرورة المحافظة عليها وفق أطر علمية وتطبيقية لا تتنكر لأهمية التلبس بالمرونة والانسيابية، ولكن بقدر مدروس، وبما لا يخدش الصلابة اللغوية، ولا يعرض الهوية للخطر، فاللغة العربية قبل أن تكون أداة تواصل فيما بيننا هي أداة لبناء هويتنا العربية وصيانة وحدتنا الفكرية والمجتمعية‏[18]. وما يدعوني إلى هذا الطرح، أن بعض الباحثين العرب يجروننا إلى مباحث لغوية (ومنها مسائل وأنشطة تخطيطية لغوية) لا نحتاج إليها في محيطنا العربي، وما حملهم على الاشتغال بها سوى أنهم وجدوا مئات الدراسات في الأدبيات الغربية حول تلك المباحث، فتنشط لديهم نمط النقل الميكانيكي للأفكار، وهو نمط يجلب لنا ما لا حاجة لنا به من مصطلحات ومناهج ونماذج في مسائل عديدة‏[19]. هذا النمط مؤذٍ لنا، ليس في مسائل اللغة فحسب، بل في عموم مسائلنا الثقافية، ويحد من قدراتنا على تشغيل عضلاتنا البحثية والفكرية على نحو يحرك تروس الإبداع لدينا في خلق المصطلحات الجديدة إلى جانب بلورة النماذج التفسيرية التي تشخّص واقعنا بدقة وتعيننا على فهمه واستيعابه ومن ثم بلورة الحلول الملائمة وفق حاجاتنا ومقاساتنا ومزاجنا الخاص، وبما يسهم في إحداث التراكمية الفكرية المنشودة المفقودة، التي أعدها مقوماً رئيساً لنهوضنا الفكري وتعافينا الحضاري. وإن سلّم لي بما فرط تقريره، فإني أبادر بالقول بأننا مدعوون إلى بناء إطار علمي متماسك للتخطيط اللغوي، يأخذ في الحسبان الأسلوب المهجّن وتداخل التخصصات، مع إمكان الاغتراف المقتصد من الأدبيات الغربية في بعض الجوانب والإسهامات العلمية المعمقة التي تتقاطع مع لغتنا العربية وتشابه تحدياتنا اللغوية التي تتهددنا في مساقات متعددة. وهذا يتطلب الكثير من الجهد العلمي التراكمي الذي يلتزم منهجية علمية دقيقة، ويتوخى الإفادة من مختلف الحقول العلمية ذات الصلة بالمسألة اللغوية. وتأسيساً على ما سبق، تتوسل هذه المقالة بمنهج تحليلي وصفي متكئ – جزئياً – على منهج التشخيص الثقافي الحضاري، الذي يتم بموجبه إخضاع الظاهرة محل البحث لملاحظة علمية تراكمية وتحليل معمّق لمسبباتها الكبرى ذات الطبيعة الثقافية الحضارية، بما في ذلك المشكل السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. وفي ضوء ذلك، تقر المقالة بوجود خصوصية عربية تجاه المسألة اللغوية، الأمر الذي يدفع إلى بناء إطار علمي متماسك للتخطيط اللغوي، يأخذ في الحسبان تلك الخصوصية ويتأسس على الأسلوب المهجّن وتداخل التخصصات، مع الإفادة من بعض الأطر العلمية التخصصية في الأدبيات الغربية، فالمنهج المتبع هنا لا يوصد الأبواب ولا يقر الانكفاء المعرفي، ولكنه ينزع نحو ترسيخ «أنفتنا الثقافية»‏[20] التي تؤمّن لنا الحق في أن يكون لنا فكر يلائمنا ويفي بحاجاتنا، في إطارنا الحضاري العربي‏[21].

هنالك مزاعم أو تخوفات يبديها بعض المتخصصين في الأدبيات العلمية مفادها بأن اللغة تستعصي على التخطيط أصـلاً‏[22]، ومرد ذلك أنها صنيعة التطور الاجتماعي الحتمي. وقد نكون قد أفلحنا نظرياً في تجاوز مثل تلك المزاعم، إلا أن التطبيق العملي يشي كما لو كنا نركن إليها ونسلّم بها، فالساحة العربية تفتقر إلى الفعل التخطيطي اللغوي سواء كان في ميدان البحث والدرس أو التشريع والتنفيذ.

والحفر في مسألة استعصاء أو عدم جدوى التخطيط – وكلاهما سواء من حيث النتائج – يجب ألّا يقتصر على الإشكاليات الأكاديمية كالتي أشرت إليها آنفاً، إذ ثمة إشكاليات تنبع من ثقافتنا العربية – الإسلامية ذاتها، وهي كثيرة. ولعلّي ألتقط بعضاً من تلك الإشكاليات التي ترتبط بالتخطيط اللغوي وتؤثر فيه بطريقة أو أخرى. فالثقافة العربية – الإسلامية أورثت لدى بعض الأفراد نوعاً من الإيمان الدوغمائي بوجود ضمانة إلهية مطلقة لحفظ اللغة العربية على نحو تلقائي، بزعم ما يفهمونه من الآية القرآنية ﴿إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وأولئك لا يمكن أن يؤمنوا بجدوى التخطيط اللغوي، فاللغة مصونة محفوظة، مع أن تلك الآية الكريمة لا تفيد البتة مثل ذلك الحفظ التلقائي، فالقرآن الكريم هو المحفوظ بالعناية الإلهية وهذا ما حصل بالفعل، أما اللغة فلا حفظ لها إلا بجهود البشر، الأمر الذي يستلزم أن ندرج أنفسنا في عداد الذين يؤمنون بضرورة النضال اللغوي، بما يقتضيه من تخطيط استراتيجي ذكي، وما يستتبعه من مبادرات تشريعية وتنفيذية في مختلف المجالات.

ومن الإشكاليات الثقافية التي تعوق تحريك تروس التخطيط اللغوي لدينا ما يتعلق بمبدأ «الإيمان بالقضاء والقدر»، الذي يعدّ ركناً من أركان الإيمان في الدين الإسلامي، فالبعض لديه فهم مغلوط لعقيدة القضاء والقدر، حيث يميلون إلى ما يشبه التسليم بالواقع وترك العمل بحجة أن «كل شيء مكتوب ومقدّر»، وقد أثبتت بعض الأبحاث التطبيقية أن بعض الفئات المتديِّنة في المجتمع العربي تميل إلى مثل هذا السلوك الذي يتنكر للفعل التخطيطي والاستعداد الذكي للمستقبل‏[23]. ومثل هذا التفكير المعوج يتطلب جهداً كبيراً من أجل تنقية رواسبه وتخليص العقل العربي من انعكاساته إزاء التنبؤ بالمستقبل وتكوينه.

ثالثاً: تعريف موجز بالتخطيط اللغوي

قبل التعريف بـالتخطيط اللغوي وأهدافه وأنواعه والحقول المعرفية التي أسهمت في بنائه من حيث المنهج والتطبيق، أشير إلى التواشج العضوي بين موضوعَي «التخطيط اللغوي» و«السياسة اللغوية»، إذ يندر أن نجد إسهاماً علمياً يعالج التخطيط من دون أن يعرج على السياسة‏[24]. والفرق بينهما يكمن جوهرياً في أن السياسة اللغوية تُضمَّن بطريقة أو بأخرى في الوثائق الرسمية التي تعتمدها الحكومات إزاء اللغة الرسمية وحقوقها وامتيازاتها وكل ما يصونها ويحافظ عليها واستخداماتها في الحياة والتعليم والتجارة والإعلام وغيره، وأما التخطيط اللغوي فيشير إلى الجهود التي تبذل لتحقيق هذه السياسة في أرض الواقع‏[25]، على أن بعض الباحثين يقررون أن السياسة اللغوية غالباً ما تتخذ شكـلاً ضمنياً في الدساتير والتشريعات في ظل ضعف أو غياب التخطيط اللغوي‏[26].

وبعد تفحُّصي لبعض الأدبيات والممارسات في ما يخص المسألة السابقة، أدركت أن هنالك بعض الإشكاليات، ومنها ما يتعلق بسؤال: من يسبق من؟ هل يتوجب علينا وضع السياسة اللغوية بوصفها إطاراً حاكماً على تخطيطنا اللغوي؟ أم أن هذا التخطيط سيكون ضمن مخرجاته مثل تلك السياسة؟ وقد خلصت إلى أن الأمر يحتمل هذا ويحتمل ذاك، شريطة ألّا يكون ثمة تشوش في الفهم لهذه المسألة، كما في بعض أعمالنا في الوطن العربي. ولعلّي أشير إلى مثال واحد على مثل هذا التشوش. أصدرت مؤسسة الفكر العربي في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2012 وثيقة بعنوان «لننهض بلغتنا»‏[27] وقد غشيها قدر من التشوش حول العلاقة بين التخطيط والسياسة، حيث جاء في التوصية الأولى ما يدل على أن التخطيط اللغوي يسبق السياسة اللغوية، فقد ذكرت هذه التوصية ما نصه: «السعي الجاد والحثيث إلى اتخاذ سياسات لغوية ملزمة مبنية على تخطيط لغوي شامل…»، ثم رجعت الوثيقة وقلبت المعادلة السابقة في عنوان رئيس (البند ثالثاً)، حيث جاء كما يلي: «التخطيط المستقبلي في إطار سياسة لغوية واضحة»، أي أن السياسة تسبق التخطيط وتحكمه.

من هنا فإنني أشدد على خطورة مثل هذا اللبس الذي ينعكس سلباً على جودة المخرجات في ما يخص التخطيط اللغوي والسياسة اللغوية، ويمكن القول بأن السياسة اللغوية‏[28] توضع في البداية كإطار حاكم وموجه وملهم في المسألة اللغوية، بعد القيام بنوع من التخطيط اللغوي الذي يتسم بالعمومية، وبعد أن يصار إلى وضع تلك السياسة، ينفذ تخطيط لغوي تفصيلي، يجهد لأن يحقق الغايات الكبرى التي تضمنها هذه السياسة ويلتزم بمبادئها ومقوماتها واشتراطاتها، ومثل هذا النهج يتبنى التفاعلية فيما بينهما، ويفيد في تحقيق قدر كبير من التكاملية.

إزاء تعريف التخطيط اللغوي، يرى كل من كابلن وبالدوف أن التخطيط اللغوي هو: حزمة اعتقادات وأفكار وتشريعات وقواعد تغيير وممارسات بغية إحداث تغيير «إيجابي» مستهدف في استخدام اللغة أو توقيف تغيير «سلبي» محتمل فيه. ويعبّران عنه بأنه: جهود مبذولة من قبل البعض من أجل تعديل السلوك اللغوي في أي مجتمع لسبب ما، ومن ذلك المحافظة على ثقافة المجتمع وحضارته عبر صيانة لغته. وقد تكون هذه الجهود على المستوى الكلي أو الجزئي، مع التنويه بأن المستوى الأخير بدأ يلقى اهتماماً أكبر في الأدبيات العلمية الغربية‏[29].

ومع أن الباحث روبرت كوبر – في كتابه الشهير‏[30] – يقر فكرة أن التخطيط اللغوي يهتم أساساً بحل المشكلات، وأن هذه الفكرة هي محور عشرات التعريفات لهذا التخطيط، إلا أنه – بحكمة أقرّه عليها – يعارض أن التخطيط اللغوي يتوجه لحل مشكلات اللغة ذاتها، حيث يرى أنه يرمي – جوهرياً – إلى الخلوص إلى توجيه «السلوكيات اللغوية» لمن يتحدث باللغة، ومن ثم فإنه وإن كان ملتحماً باللغة إلا أن مخرجاته «غير لغوية» في الغالب.

ومؤدى هذا أن التخطيط اللغوي لا يوجه تروسه الكبيرة صوب «مشكلات اللغة» بقدر ما يوجهها حيال «مشكلات حول اللغة»، أي أنه يشتبك مع الأطر الثقافية والمحددات المجتمعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتقنية والمعلوماتية، في مسعى لتثبيت أركان اللغة والمحافظة عليها وصيانتها وتعزيز وظائفها واستخداماتها وزيادة منسوب اعتزاز أهلها بها على المستويات الأسرية والمجتمعية والقطرية والقومية كافة. وهذا الملمح يلائمنا تماماً في محيطنا اللغوي العربي.

يستهدف التخطيط اللغوي الإسهام في تحقيق قدر عال من‏[31]:

  1. التنقية اللغوية (الداخلية والخارجية).
  2. المحافظة على اللغة وعدم اندثارها.
  3. الإصلاح اللغوي.
  4. المعايرة اللغوية.
  5. الانتشار اللغوي.
  6. تحديث المعاجم.
  7. توحيد المصطلحات.
  8. تيسير الأساليب اللغوية.
  9. تعزيز الوظيفة الاتصالية للغة.
  10. الصيانة اللغوية.
  11. تيسير اللغة لبعض ذوي الحاجات الخاصة (كالعميان والصم والبكم).

والتخطيط اللغوي هو حقل معرفي «مهجّن» أو «متداخل التخصصات» (Interdisciplinary)‏[32]، أي أنه يستقي أصوله ومبادئه من علوم شتى كاللغة واللسانيات والإدارة وعلم النفس وعلم الاجتماع والتربية والسياسة، ويتوجب علينا أن ندعم هذا التخاصص إن أردنا أن نفيد من هذه العلوم بطريقة إثرائية تكاملية، على أنني في الوقت ذاته أشدد على ضرورة الإفادة من علم الإدارة للإسهام في بناء الإطار المنهجي للبعد التفكيري في الفعل التخطيطي اللغوي على وجه التحديد، وذلك بالاتكاء على الأدبيات العلمية والممارسات الجيدة في حقلي: الإدارة الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي.

هنالك ثلاثة أنواع رئيسة متداخلة مترابطة للتخطيط اللغوي. ومن المفيد استعراضها مع الإشارة إلى التخصصات التي يمكن أن تسهم في كل نوع منها، وذلك وفق التوصيف المختصر الآتي‏[33]:

1 – تخطيط هيكل اللغة

هذا النوع من التخطيط يشتغل على الأبعاد الداخلية للغة ذاتها، حيث يُعنى بالجوانب اللغوية الصرفة، ومن ذلك ما يتعلق بالقواعد والأساليب والكلمات والمصطلحات والمعاجم، والإبداع والاقتراض اللغوي بما في ذلك الاعتراف الرسمي بالكلمات الدخيلة ونحو ذلك. ويعد اللغويون واللسانيون الأقدر على هذا التخطيط نظراً لإنطوائه على أبعاد لغوية تخصصية.

2 – تخطيط وضع اللغة

يركز هذا اللون من التخطيط على الأبعاد النظامية والقانونية ويدخل في ذلك ما يتعلق بوضع اللغة ودرجة إلزامية استخدامها وكونها اللغة الرسمية أو اللغة المستخدمة في هذا المجال أو ذاك. كما يشمل أيضاً الأبعاد الثقافية والمجتمعية ذات الصلة بوضع اللغة ومكانتها ومنسوب احترامها في المجتمع والاتجاهات والصور الذهنية نحو اللغة واستخدامتها، ويجعل البعض ما يتعلق بمكانة اللغة نوعاً خاصاً يسمونه تخطيط المكانة، على أنني لست ميالاً لجعله نوعاً مستقـلاً برأسه لكونه متولداً من تخطيط الوضع وفرعاً منه (وثمة آخرون يقترحون أنواعاً أخرى مثل تخطيط الخطاب، ومثل هذا التشقيق – في نظري – يضعف ولا يقوي). ويمكن للسانيين وعلماء الإدارة والنفس والاجتماع أن يقدموا إسهامات ملموسة في هذا المجال التخطيطي.

3 – تخطيط اكتساب اللغة

يتمحور هذا الضرب من التخطيط حول العوامل المتصلة بمسائل اكتساب أو إعادة اكتساب اللغة (الأولى أو الثانية) والمحافظة عليها وصيانتها. وهذا التخطيط هو ميدان المتخصصين في اللسانيات واللغة والتربية وعلم النفس.

ويقرر روبرت كوبر‏[34] أن هذه الأنواع من التخطيط تستلزم الإجابة عن ثمانية أسئلة:

  1. من الذي سيقوم بالتخطيط اللغوي؟
  2. ما السلوكيات أو الأبعاد اللغوية التي سيتم التأثير فيها أو توجيهها؟
  3. ما الشريحة المستهدفة من عملية التخطيط؟
  4. ما الإطار الزمني لهذا التخطيط؟
  5. ما الظروف المحيطة بالفعل التخطيطي؟
  6. ما الوسائل والآليات التي سُيتوسل بها؟
  7. كيف سيتم صناعة القرار؟
  8. ما الآثار المتوقعة؟

إن الأدبيات العربية – التي اطلعت عليها – تكاد تخلو من التعريفات العلمية الدقيقة للتخطيط اللغوي، حيث يغلب عليها البعد الوصفي، وهذا ما يشجعني على اقتراح تعريف نظري يأخذ في حسبانه أربعة أنواع من المحددات: منهجية، ولغوية، واستراتيجية، وذاتية:

أ – المحددات المنهجية

حيث ننظر إلى التخطيط اللغوي على أنه مسلك تفكيري يلتزم بالمنهجية العلمية، في بعديها: العمليات والمخرجات، بما في ذلك طرائق جمع البيانات والمعلومات وأساليب تحليلها والخلوص إلى النتائج المستهدفة.

ب – المحددات اللغوية

وأعني بها الخصائص والمقومات التي تختص بها لغتنا العربية وما يرتبط بها من طموحات مجتمعنا العربي تجاهها. ولعل من أهم تلك الخصائص والمقومات ما يتعلق بضرورة الالتزام الدقيق بمعيارية اللغة العربية حيث نؤمن بأنها حققت «اكتمالاً مستقراً» في بنائها اللغوي (أي صلابة لغوية)، وهذا لا يتنكر لأهمية التلبس بقدر كافٍ من المرونة التكيفية التي تمكّن الضاد من رفع درجة تفاعلها الحضاري، شريطة أن تكون مرونة معيارية‏[35]. ومن ثم فإنه يمكن القول بأن التخطيط اللغوي للعربية يكثف تركيزه على نوعين من التخطيط: الوضع والاكتساب، وليس الهيكل. وهذا الأمر يقودنا إلى مراعاة ذلك في التعريف من حيث الوزن والأهمية والأولوية (الترتيب).

ج – المحددات الاستراتيجية

وأركز فيها على ركائز التخطيط الاستراتيجي كما هي في الأدبيات العلمية في الإدارة الاستراتيجية. ومن الركائز المحورية ما يتصل بكون النشاط التخطيطي الاستراتيجي يشتغل على السياق المستقبلي للتصرفات والموارد والقرارات ذات التأثير الاستراتيجي الكبير في إطارها الزمني البعيد، بعد القيام بـ «تحليل الوضع الراهن» في نطاقيه الداخلي (قوة وضعف) والخارجي (فرص وتهديدات)، مع ضرورة انبثاق التخطيط من رؤية أو غايات كلية نروم تحقيقها وفق معطيات محددة. كما أنه من المهم ترسيخ فكرة أن هذا التخطيط يؤمن بـ «المجتمع المفتوح» المتفاعل مع محيطه بطريقة ملائمة، وهو ما يرفع مستويات التفاعلية والتناغم والاستغلال الذكي للموارد والفرص المتاحة‏[36].

د – المحددات الذاتية

ذلك أن التخطيط اللغوي ذاته يتسم بعدد من السمات، ولعل من أهمها:

(1) التخطيط اللغوي يتعامل مع مسائل بالغة التعقيد، حيث إنه لا يشتبك بالمعطى اللغوي فحسب، بل بالثقافي والسياسي والمجتمعي أيضاً، في سياق ديناميكي، تتوالد وتتجدد إشكالياته وألغازه وتحدياته.

(2) يتأثر بالمنظومة الفكرية للقائمين عليه، وبخاصة أن اللغة العربية ارتبطت بالبعد الديني بعد نزول القرآن الكريم بها، وهو ما يدخل الديني في المسألة اللغوية.

(3) يتطلب جهداً كبيراً لإعداده منهجياً بدقة.

(4) يتضمن ثلاثة جوانب: «مدخلات» و«عمليات» و«مخرجات».

(5) يحتاج إلى تضافر عدد من التخصصات أو الحقول العلمية (أي ممارسة التخاصص أو المحاقلة)‏[37].

(6) يصعب نجاحه من دون توافر سياسة لغوية جيدة وإرادة مجتمعية قوية وعوامل نجاح حرجة أخرى.

(7) يستلزم اشتراك القطاعات الحكومية والخاصة ومؤسسات المجتمع المدني مع الأذرع التربوية والإعلامية؛ بفاعلية وحماسة كافيتين.

(8) يمكن إعداده على أربعة مستويات: الحكومة، والقطاعات، والمجموعات، والأفراد.

(9) يحتاج وقتاً طويـلاً كي تظهر نتائجه، وربما استغرق عدة أجيال.

(10) من الصعوبة قياس نتائجه، وبخاصة إن كانت على المستوى الكلي.

وفي ضوء المحددات السابقة، يسعني تعريف «التخطيط اللغوي»، على أنني أتوسل بقالب التعريف المطوّل، لأنه الأكثر أمانة مفاهيمية في جلب كل الدلالات والاستحقاقات الضرورية، ولعله الأعون لنا في بدايات تشكيل مفاهيمنا وتصليب أبنيتها المنهجية والإجرائية. التخطيط اللغوي في نظري هو:

«نشاط ذهني راقٍ هادف يتوخى رسم المسار المستقبلي لوضع اللغة واكتسابها وهيكلها واستخدامها عبر تشريعات وقرارات وآليات وبرامج طويلة الأجل توجّه سلوك مستخدميها فردياً وجماعياً؛ بطريقة معيارية مرنة تعين على حماية بنائها وإنمائها، واحترام سيادتها، وتعزيز وظائفها، وتحسين إسهامها في صيانة الهُوية والوحدة والذاكرة التراكمية، وتقدم العلوم، وتنمية المجتمع؛ في سياق يتفاعل بروح المبادرة والابتكار مع ثورات المعرفة والاتصال والتقنية».

مؤكد أن مثل هذا التعريف يحتاج إلى بعض التحليل والتفكيك لمكوناته الأساسية، ألا أنني أضرب عن ذلك صفحاً مراعاة للحجم المتوقع في هذه المقالة البحثية المختصرة. تجدر الإشارة هنا إلى أن التخطيط اللغوي وإن كنت أرى ضرورة انعتاقه من بوتقة التفكير الرغبوي أو النزعة المثالية المسطحة في النتائج المستهدفة، إلا أنه يتوجب أن يكون متوفراً على تحدٍ كافٍ وطموح عالٍ، وهذا شرط أساس في أي تخطيط استراتيجي فاعل. تتأكد هذه الملاحظة إذا وضعنا في الحسبان تأثير بعض مناهج البحث وفق المنظومة الغربية، حيث إنها تتضمن ما يسمى «المقاربة الوضعية» (Positivist Approach) التي تتأسس على نزعة إذعانية حيال الظواهر المبحوثة، فهو يزعم بأن العلم يدرس الظواهر والأشياء كما هي في الواقع وليس وفق ما نريد نحن أن تكون عليه. وكعادة الفكر الغربي في ميوله نحو التفكير الثنائي الدوغمائي الصراعي، تتوجه المقاربة السابقة إلى نسف تام للمقاربة المعيارية (Normative Approach). وبكل وضوح وثقة، أقول بأننا في العالم العربي لسنا ملزمين بل ولا مكترثين بهذا النمط المتطرف من التفكير المنهجي الغربي، إذ إننا نؤسس مناهجنا في جانب كبير منها على المقاربة المعيارية في سياق يستوعب الواقع وتحدياته واستحقاقاته في مختلف المراحل، الأمر الذي يكسب مثاليتنا عقلانية ورشداً، بما يوصلنا إلى التلبس بالطموح والواقعية في آن واحد‏[38].

الأجزاء السابقة جعلتنا فيما أظن نُلمّ بشيء من إجابة السؤال الكبير: كيف نجعل التخطيط اللغوي معززاً لفاعلية الضاد؟ إذ إنها أكسبتنا قدراً من الفهم النظري لأهم أبعاد التخطيط اللغوي، وقدمت لنا تعريفاً رام أن يكون مستوعباً لجملة من المحددات المنهجية والثقافية، وكل ذلك أمر جيد، بيد أنه غير كاف، إذ قد يكون ما قيل مبثوثاً في دراسات سابقة، وهذا ما يدفعنا إلى المضي قدماً من أجل التماس سبل إنهاض المفاهيم من رواقدها النظرية، لتمارس عبوراً نحو التطبيق الفعال. وفي هذا توريط للأجزاء التالية لتشتبك أكثر بالجوانب التطبيقية.

رابعاً: نحو تفعيل التخطيط اللغوي

ألمحت في الأجزاء الفارطة أننا بحاجة ماسة إلى ممارسة الفعل التخطيطي اللغوي لكي نقطف ثمرات حقيقية، ويتطلب ذلك منا تجاوز قنطرة الطروحات المفاهيمية والنظرية صوب البحوث التطبيقية والاستشارات المهنية في مجال التخطيط اللغوي. وأشدد هنا على أن التخطيط اللغوي إنما هو في جوهره تخطيط استراتيجي في مجال اللغة، وتفيد الممارسات المثلى أن هذا التخطيط لا ينجح فقط بتكليف من يدرك خطوات أو منهجية التخطيط الاستراتيجي، بل هو مفتقر إلى مفكرين استراتيجيين. وللإسهام في تدعيم البعد التطبيقي للتخطيط اللغوي، ارتأيت أن أقوم بالآتي‏[39]:

(1) طرح نموذج مقترح للتخطيط اللغوي للغة العربية، بما يزيد من مستويات الإفادة من علم الإدارة في هذا المجال، وتقريب المنهجية العلمية في التخطيط الاستراتيجي لغير المتخصصين.

(2) تنفيذ التحليل البيئي (الداخلي والخارجي) للغة العربية والخلوص إلى نتائج مبدئية في شأن نقاط القوة ونقاط الضعف (البيئة الداخلية) والفرص والتهديدات (البيئة الخارجية).

(3) وضع توصيات عملية من شأنها تعزيز الفعل التخطيطي اللغوي العربي، على المستويات القطرية والقومية، الجزئية والكلية، الحكومية والشعبية.

1 – نموذج مقترح للتخطيط اللغوي للغة العربية

يهمني التنويه في هذا الجزء إلى أن ثمة قدراً كبيراً من الاتفاق بين ممارسي التخطيط الاستراتيجي على المكونات والعمليات الرئيسة لهذا التخطيط، مع وجود بعض التنوع في الأساليب والخطوات الفرعية، وهذا عائد إما إلى اختلاف المدارس الفكرية داخل الرواق الاستراتيجي أو إلى اختلاف المجالات والمواضيع محل التخطيط أو إلى كليهما. لذلك فسوف أعمد إلى اختيار ما أعتقد أنه يلائم التخطيط اللغوي وفق ما استقرت عليه الممارسة الاستراتيجية، مع استفراغ وسعي لطرح نموذج مبسّط والتعريف بأبعاده ومكوناته.

هذا النموذج يتضمن جزأين متفاعلين متكاملين:

الأول: يختص بالسياسة اللغوية، وقد اخترت أن تكون السياسة سابقة للتخطيط اللغوي، على أن تكون مسبوقة بتخطيط لغوي عام، وقد ألمحت إلى ذلك في الأجزاء الماضية.

الثاني: يختص بالتخطيط اللغوي التفصيلي المقترح القيام به إزاء اللغة العربية، ويتضمن بعدين أساسيين: التخطيط والتنفيذ.

يمكننا الاستنتاج مما سبق، أن النموذج يجهد لأن يكون شامـلاً، حيث ينطلق من السياسة اللغوية ويمر بالتخطيط اللغوي وينتهي بأعمال التنفيذ والمتابعة والتقييم والمراجعة الاستراتيجية، ومؤدى هذا أننا لا نتوجه إلى إصدار مجرد وثائق للتخطيط اللغوي، وإنما إلى تطوير مؤسساتنا وإجراءاتنا وآلياتنا لضمان التطبيق الدقيق لهذا التخطيط. ويرجى أن يسهم ذلك وإن جزئياً في تطوير تفكيرنا اللغوي وفق منظور استراتيجي.

يتضح لنا من الشكل الرقم (1) أن النموذج المقترح يؤمن بدينامية التخطيط اللغوي، من جراء التغيرات والمستجدات التي يجب مراعاتها على نحو مستمر، من هنا فقد جرى النموذج على مبدأ التفاعلية والتكامل والإثراء المتبادل، فالسياسة اللغوية تحكم التخطيط اللغوي، كما أن هذا التخطيط قد يقود إلى مراجعة ونقد هذه السياسة وتطويرها في ضوء بعض المتغيرات، لذلك تم استخدام الأسهم باتجاهين. وينطبق الكلام نفسه على العلاقة الثنائية التفاعلية بين بعدي التخطيط اللغوي والتنفيذ، بل يتعدى هذا ليشمل علاقة تفاعلية إثرائية بين السياسة والتنفيذ، أي أن التنفيذ قد يجرنا إلى نوع من المراجعة والتطوير للسياسة، وبخاصة أن التنفيذ هو ما يجعل السياسة اللغوية على المحك.

ولكي يكون النموذج واضحاً فإنه يلزمني التعريف – وإن باختصار – لمكوناته ومصطلحاته، وذلك وفق البنود التالية:

أ – الرؤية

الصورة المستقبلية الطموحة الجذابة التي تتراقص في مخيلتنا تجاه ما نرومه للغتنا العربية في مستقبل أيامها المتوسطة والبعيدة. وتختص الرؤية بإطار زمني بعيد نسبياً (عشر سنين فأكثر).

ب – الغايات الكلية

الأهداف النهائية للغة وللسياسة اللغوية في ضوء منظومة المعتقدات والرؤية الكلية لنا تجاه لغتنا العربية، بما في ذلك وظائفها الكبرى ورسالتها الحضارية.

ج – تحليل بيئي استراتيجي عام

هنالك أسلوب مشهور في الأدبيات والممارسات الاستراتيجية لتحليل البيئية الداخلية والخارجية. وهذا الأسلوب يمتاز بالبساطة والعمق والشمولية في تحليل البعدين الداخلي والخارجي، فهو يحدد نقاط القوة ونقاط الضعف في البيئة الداخلية، التي تشير إلى الجوانب الإيجابية والسلبية – على التوالي – مما تقع تحت تصرفنا، وتحديدها يفيد في تعظيم الإيجابي والتقليل من السلبي قدر المطاق. كما أنه يحدد الفرص والتهديدات في البيئة الخارجية التي تعني الجوانب الإيجابية والسلبية – على التوالي -، مما لا تقع تحت تصرفنا، ولكن بوسعنا تهيئة أنفسنا من أجل استغلال الفرص وتجنب التهديدات قدر المستطاع. وقد سمي هذا الأسلوب «SWOT» نظراً إلى التقاط الحروف الأولى من الكلمات: نقاط قوة ونقاط ضعف وفرص وتهديدات. وحين نقول تحليل بيئي استراتيجي عام فإننا نقصد ملامسة الأبعاد العامة في البيئة الداخلية والخارجية للغة العربية من حيث وضعها واكتسابها وهيكلها واستخدامها، من دون الدخول في التفاصيل.

د – صياغة السياسة اللغوية

أي إعداد مسودة لهذه السياسة التي تعكس الموقف الرسمي من اللغة العربية متضمناً وضعها وحقوقها وامتيازاتها واستخداماتها وكل ما يصونها ويحافظ عليها، على نحو يحمي سيادتها في مختلف السياقات والمجالات الحياتية والمهنية.

هـ – اعتماد السياسة اللغوية

أي إقرار هذه السياسة وتضمين جوهرها في الدستور بشكل صريح، وتضمين بقية أبعادها ومكوناتها في التشريعات الملائمة إلى جانب الرؤية والخطط الاستراتيجية الوطنية، بما يوضح الغايات الكلية للغة العربية ورسالتها ووظائفها في البناء الحضاري للمجتمع والازدهار المدني في سائر المجالات.

و – القضايا الاستراتيجية

تشير إلى العوامل الرئيسة التي يتوجب مراعاتها في التخطيط اللغوي. ومن المهم التأكد من اكتمال هذه القضايا وعدم إغفال أي قضية استراتيجية لئلا يتسطح أو يتشوه الفكر الاستراتيجي بسبب عدم معالجة هذه القضية أو تلك ضمن مدخلاته الأساسية، الأمر الذي قد يسفر عن نقص وضعف في المخرجات الاستراتيجية. ومن أمثلة تلك القضايا ما يتعلق بوضع اللغة، واكتسابها، وهيكلها، وطرائق استخدامها، والإعلام الاجتماعي الجديد، والسياقات المحلية والدولية، الأبعاد الدستورية والقانونية ونحو ذلك.

ز – تحليلي بيئي استراتيجي تفصيلي

وفق ما سبق بيانه حول التحليل البيئي، يتم في هذا التحليل التفصيلي البحث المكثف والاستقصاء الدقيق للعوامل المؤثرة كافة، سواء في الإطارين الداخلي أو الخارجي، لتحديد نقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات، على أن يتم ذلك عبر التوسل ببيانات ثرية يتم جمعها من أطراف متعددة (الأطراف ذات الصلة) باستخدام أساليب المقابلات ومجموعات التركيز وورش العمل والاستبانات وتحليل الوثائق.

ح – الأهداف الاستراتيجية

تشير هذه الأهداف إلى نتائج مرجوة ومقاييس للأداء طويل الأجل. ويجب أن تكون الأهداف شاملة لجميع الجوانب المهمة في المسألة اللغوية. ويفضل ترتيبها وفق أهميتها وأولويتها، مع إعطاء أوزان نسبية لكل هدف. ومن المهم اتسام الأهداف – ما أمكن – بأنها: محددة ودقيقة، تمنح روح التحدي وقابلة للتحقق في الوقت ذاته، وشاملة ومتكاملة، وقابلة للقياس. وقد توضع أهداف استراتيجية عامة، وفي ضوئها توضع أهداف استراتيجية فرعية، وقد يُكتفى بالأهداف العامة.

ط – مشاريع/مبادرات

تعكس هذه المشاريع منظومة متكاملة من الأهداف الفرعية المحددة والأنشطة التفصيلية والإجراءات ومؤشرات تنفيذ الأداء، وهي تسهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية. وتوضع مجموعة من المشاريع/المبادرات لكل هدف استراتيجي، على أن تكون شاملة ومتكاملة وقابلة للتطبيق وفق الظروف والإمكانيات المتاحة. ولكي يكون التخطيط اللغوي منهجياً، فإنه من المهم التشديد على أن عملية تحديد مثل تلك المشاريع/المبادرات لا يكون نتيجة «عصف ذهني» يقوم به فريق التخطيط اللغوي بعد جمع البيانات وتحليلها، بل يتوجب استخدام بعض الأساليب التخطيطية العلمية، ومنها ما يسمى «مصفوفة التحليل البيئي الاستراتيجي» (SWOT Analysis Matrix) التي تعين المخططين على بلورة مشاريع/مبادرات متنوعة ومتصفة بروحها الابتكارية أيضاً، وتأخذ المصفوفة عادة الجدول الرقم (1).

الجدول الرقم (1)

مصفوفة التحليل البيئي الاستراتيجي

التهديدات:

هنا يتم وضع أهم عشرة تهديدات

الفرص:

هنا يتم وضع أهم عشر فرص

كيف تُستخدم نقاط القوة في تجاوز التهديدات؟كيف تُستخدم نقاط القوة في استغلال الفرص؟نقاط القوة:

هنا يتم وضع أهم عشر نقاط قوة

كيف يمكن تجاوز نقاط الضعف والتهديدات؟كيف تُستغل الفرص في تقليل نقاط الضعف؟نقاط الضعف:

هنا يتم وضع أهم عشر نقاط ضعف

 

ك – خطة تنفيذية

بعد الانتهاء من إعداد الخطة الاستراتيجية التي عكستها المكونات السابقة، يتوجب وضع خطة تنفيذية تفصيلية كي نضمن وجود آلية متكاملة وواضحة للتنفيذ، على أن تشمل كل الأبعاد المتعلقة بالتنفيذ، التي تشمل: توصيف تفصيلي دقيق لكل مشروع/مبادرة، يتضمن هدفه العام وأهدافه التفصيلية، والأنشطة الرئيسة التي يتوجب القيام بها، وفترة التنفيذ ومدته، وعدد مرات تكرار التنفيذ، والمعوقات والصعوبات المحتملة، ومؤشرات تنفيذ الأداء، والجهات المسؤولة عن التنفيذ التي يمكن تصنيفها إلى: جهات مرجعية وهي المسؤولة عن التنفيذ ووضع الاشتراطات والمعايير التفصيلية، وجهات مشاركة وهي التي يقع المشروع/المبادرة في نطاق عملها الرئيس، وجهات داعمة لا يقع المشروع/المبادرة في نطاق عملها الرئيس، ولكن بوسعها تقديم خدمات دعم لوجستي من شأنه تيسير أعمال التنفيذ وإنجاحها.

ل – مؤشرات تنفيذ أداء

تعكس هذه المؤشرات معايير ومقاييس دقيقة للأداء، بحيث تعين على تحديد مستوى النجاح في تنفيذ كل مشروع/مبادرة، ومن ثم فهي تعاوننا على تقدير مستويات الجودة في أعمال التنفيذ.

م – التنفيذ

يشير التنفيذ إلى التطبيق الفعلي لكل ما ورد في الخطة الاستراتيجية والخطة التنفيذية عبر الجهات المعتمدة ووفق مؤشرات تنفيذ الأداء. والتنفيذ هو حجر الزاوية لقياس مستوى النجاح الكلي للتخطيط اللغوي، وتفيد الأدبيات العلمية والممارسات العملية أن كثيراً من الفشل في التخطيط لا يعود إلى سوء الخطة بقدر ما يعود إلى ضعف التنفيذ. ويعد تنفيذ الخطة أكثر صعوبة من إعدادها، وذلك لأسباب منها أن التنفيذ يتطلب جهداً ووقتاً كبيرين، ويستلزم بنوداً مالية ربما لا تتوافر، وربما عاد ذلك إلى الانشغال والانهماك في الأعمال الروتينية، كما أن المكلفين ربما لا يستطيعون التنفيذ من جراء نقض رصديهم المعرفي والمهاري، إضافة إلى احتمال ظهور بعض المشاكل والمعوقات التي لم تكن في الحسبان أثناء عملية التخطيط‏[40]. من هنا فمن المهم تبني التخطيط بأسلوب «السيناريوهات» مع تحديد احتمالية كل سيناريو والمخاطر المحتملة وكيفية إدارة المخاطر، وذلك وفق المحددات العلمية في هذا المجال.

ن – المتابعة والتقييم

نظراً إلى الصعوبة الكبيرة في أعمال التنفيذ، لا بد من وضع آليات فاعلة للمتابعة والتقييم من قبل الجهات القيادية بغية التحفيز والتشجيع وتذليل العقبات والضغط والمساءلة للجهات التنفيذية كافة.

س – المراجعة الاستراتيجية

أي خطة يجب أن تتسم بالمرونة الكافية والقدرة على الاستجابة التكيفية للمتغيرات، وبخاصة أننا شدّدنا على الوضع الدينامي للتخطيط اللغوي في بيئة مفتوحة تفاعلية، من هنا ثمة حاجة إلى إجراء مراجعة دورية لمخرجات التخطيط اللغوي (الخطة الاستراتيجية والخطة التنفيذية)، ويمكن تحديد فترة زمنية معينة كأن تكون كل خمس سنوات، مع ملاحظة أنه يتوجب مهنياً مراجعة الخطط وتطويرها في حالة حدوث متغيرات مؤثرة حتى لو كانت قبل الفترة المحددة للمراجعة الاستراتيجية.

2 – تحليل بيئي استراتيجي مبدئي للغة العربية

دعونا نجرب النموذج السابق، ونجري عليه تحليـلاً بيئياً استراتيجياً عاماً أولياً للغة العربية، وذلك في ضوء اهتمامي بالمسألة اللغوية لأكثر من عقد، قراءة وتحليـلاً وتأمـلاً ونقاشاً، مكتفياً ببعض العناصر التي تمثل في نظري أهم نقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات. وإني لآمل أن تكون هذه النتائج الأولية مهاداً لأبحاث مستقبلية تنقب في مدى دقة هذه الجوانب التي تم التطرق إليها، وفي هذا تغذية للتراكمية البحثية في أدبياتنا العربية. يمكن تصوير خلاصة ما وصلت إليه في الجدول أدناه:

الجدول الرقم (2)

ملخص بنتائج تحليل بيئي استراتيجي عام للغة العربية

نقاط القوة:

1.    قدرة اللغة على بناء الهوية وصيانتها، وبخاصة أن ثمة ارتباطاً وشائجياً مع المكوّن الديني.

2.    السمات الفريدة للغة العربية ذاتها في هيكلها ووظائفها (الصلابة المعيارية).

3.    تمتع العربية بقدرات هائلة على نحت المفاهيم الجديدة.

4.    القدرة على استيعاب الوافد اللغوي والحضاري عبر الاقتراض اللغوي.

5.    القدرة على الإبداع وتعضيد التنمية في مختلف المجالات.

6.    توافر الرغبة لتعضيد اللغة ودعمها لدى شرائح متعددة.

7.    وجود مؤسسات متعددة تعنى بالمسألة اللغوية.

8.    توافر طواقم من العلماء والباحثين المميزين.

9.    اعتماد العربية ضمن اللغات الرسمية في الأمم المتحدة.

10.  توافر ميزانيات جيدة لدعم المشاريع البحثية والتطويرية في بعض الأقطار العربية.

نقاط الضعف:

1.    خضوع المسألة اللغوية للأهواء والمكاسب وأحياناً المشاكسات السياسية.

2.    عدم وجود سياسات لغوية معتمدة أو ضعف تفعيلها.

3.    عدم اكتمال منظومة التشريعات لحماية اللغة وصيانتها.

4.    عدم أو ضعف ربط المسألة اللغوية بالمسألة التنموية.

5.    ضعف الأداء اللغوي الفصيح.

6.    ضعف «الغيرة اللغوية».

7.    تزعزع «الاعتزاز اللغوي» لدى شرائح متعددة.

8.    قلة إقبال الطلبة على تعلم اللغة وقواعدها وفنونها.

9.    ضعف مستوى تعليم اللغة في التعليم العام والجامعي.

10.  تنامي ظاهرة «الازدراد اللغوي»(أ).

الفرص:

1.    حمل اللغة بذور الاستمرارية في الثورة التقنية المعلوماتية.

2.    إمكان إقرار سياسة لغوية على المستوى القومي والقطري.

3.    إمكان ممارسة التخطيط اللغوي على المستوى القومي والقطري.

4.    إمكان استنهاض بعض الساسة لدعم المسألة اللغوية.

5.    إمكان استنهاض الديني لدعم المسألة اللغوية.

6.    إمكان استنهاض الثقافي لدعم المسألة اللغوية.

7.    التوسل بالمكنة الإعلامية وتفعيلها.

8.    الإفادة من الإمكانيات الهائلة للشابكة (الإنترنت)، وتعزيز المحتوى العربي الرقمي في سياق مجتمع المعرفة والاقتصاد المعرفي.

9.    تنامي الطلب على تعلم العربية من أبنائها.

10.  تنامي الطلب على تعلم العربية من الشعوب الأخرى.

التهديدات:

1.    التوهم بعدم قدرة اللغة على التفاعل الحضاري ومسايرة المستجدات.

2.    التوهم بصعوبة تعلم اللغة وإتقانها.

3.    طروحات البعض للتلبس بـ «الرخاوة اللغوية»(ب).

4.    الخطاب الداعي إلى «الاستسلام اللغوي»(ج).

5.    الشابكة (الإنترنت) وما تحمله من مهددات لغوية متعددة، ومنها ما يسمى «العربيزي»(د).

6.    الإعلام المجافي أو المعادي للعربية الفصيحة.

7.    تزايد الاعتماد على اللغات الأجنبية في التعليم العام والجامعي، بطريقة تهدد اللغة العربية.

8.    احتدام الصراع بين اللغة الفصيحة والعاميات (الثنائية اللغوية).

9.    احتدام الصراع بين العربية واللغات الأخرى (الازدواجية اللغوية).

10.  العمالة الأجنبية ومهدداتها اللغوية ولا سيما للأجيال الجديدة.

 

(أ) ظاهرة الازدراد اللغوي تشير إلى عملية ابتلاع كم هائل من الكلمات الأعجمية في وقت قصير دونما حاجة أو لنقل دونما مسوغات مقبولة وفق معايير الاقتراض اللغوي، انظر: عبد الله البريدي، اللغة هوية ناطقة: منظور جديد يمزج اللغة بالهوية والحياة (الرياض: مجلة الفيصل، 2013).

(ب) «الرخاوة اللغوية» تشير إلى تلك الطروحات التي تروم إخراج العربية عن معياريتها أو «صلابتها اللغوية»، ودوافع ذلك متعددة، انظر: المصدر نفسه.

(ج) «الاستسلام اللغوي» يقصد به ذلك الخطاب المشوش على مشروعية «النضال اللغوي» وبذل الجهد لحمايتها وصيانة سيادتها، بحجة أن اللغة تنمو وتنحط بحسب مستوى التحضر للمجتمع، وهي فكرة تزعم الاتكاء على الفكرة الخلدونية بتقليد المغلوب للغالب، وقد أثبتت اللسانيات الحديثة تفاهة هذا الادعاء، مع ملاحظة أن ابن خلدون نفسه لا يقر بالاستسلام اللغوي، بل هو على النقيض من ذلك يؤمن بالنصال اللغوي بمختلف أشكاله. للمزيد، انظر: المصدر نفسه.

(د) انظر: وسمية المنصور، «من استعمالات اللغة المحدثة (العربيزي)،» ورقة قدمت إلى: مؤتمر اللغة العربية ومواكبة العصر، المحور الخامس، المدينة المنورة، الجامعة الإسلامية، 2012، ص 427 – 489.

3 – توصيات عملية لتعزيز الفعل التخطيطي اللغوي العربي

أجزم بأن الفعل التخطيطي يمكنه أن يتحسن عند الشروع ببرامج عملية ناضجة، مع تشديدي على حتمية التعاون والتنسيق والتكامل فيما بين مؤسساتنا ومراكزنا في وطننا العربي وتلك التي تتخذ الدول الأجنبية مقراً لها. ولعلّي أختم ببعض التوصيات التي آمل أن تعين على ذلك، ولتكن في نقاط خمس مختصرات:

أ – التزام المؤسسات اللغوية العربية الكبيرة بدعم مشروع لتخطيط لغوي على المستوى القومي، والتشجيع على ممارسة الفعل التخطيطي على المستويات القطرية، في ضوء مخرجات التخطيط اللغوي القومي، مع فسْح هوامش كافية للأقطار العربية كي تتبنى ما يلائمها في بعض التفاصيل اللغوية، إذ لكل قطر عربي ظروفه وإمكانياته وإيجابياته وسلبياته وتحدياته وفرصه. مع تأكيدي ضرورة التعجيل بهذا المشروع، وتكوين فريق بحثي يمثل مجموعات البلدان العربية (قد يصعب التمثيل لكل دولة وإنما لكل مجموعة كدول الخليج والمغرب العربي ونحو ذلك). ويدخل في ذلك دعوة الجامعة العربية إلى تبني مشروع يلزم كل دولة عربية بتبني سياسة لغوية شاملة، يتم اعتمادها من قبل أعلى السلطات في الدولة، على أن تضمّن في الدساتير بطريقة ملائمة، وبطلب صريح وملزم.

ب – تبنّي موضوع «التخطيط اللغوي» ضمن برامج الدراسات العليا في اللسانيات واللغويات التطبيقية، مع ضرورة تكوين برامج تعليمية تقوم على مبدأ التخاصص أو المحاقلة، مع أهمية حفز الطلبة المميزين للانضمام إلى هذا المجال البحثي المهجّن، والحرص على تنوع تخصصاتهم في البكالوريوس. ويندرج في ذلك السعي إلى إدراج موضوع «التخطيط اللغوي» في بعض المقررات في البرامج التعليمية الملائمة.

ج – متابعة العمل على إصدار مجلات علمية محكِّمة في مجال التخطيط اللغوي، وتعزيز المجلة العلمية القائمة الصادرة من مركز الملك عبد الله الدولي لخدمة اللغة العربية بالأبحاث الجيدة، وتعميم نشرها والإفادة منها.

د – دعم تأليف كتب متخصصة في التخطيط اللغوي، على أن تكون ملائمة لأغراض متنوعة كالدراسات العليا والممارسة التطبيقية في مجال التخطيط اللغوي.

هـ – تقديم برامج تدريبية عالية المستوى في مجال التخطيط اللغوي في البلدان العربية كافة عبر آلية دقيقة، فيمكّن من تكوين خبرات مميزة في هذا المجال، تكون نواة لمشاريع التخطيط اللغوي في كل قطر عربي.

 

قد يهمكم ايضاً  أزمة اللغة العربية: الأسباب، المظاهر وسبل التجاوز

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #اللغة_العربية #مجمع_اللغة_العربية #التخطيط_اللغوي #فاعلية_اللغة_العربية #مستقبل_اللغة_العربية #السياسة_اللغوية