«ليس الإنسان بالتملّك، بل بالتكوّن؛ ولا هو بالاغتناء الرغائبيّ، بل بالاعتناء العلائقيّ؛ ولا هو بالبحبوحة الاستهلاكيّة، بل بالكينونة» (عون، 2020 أ)

هناك تداعيات بشرية واقتصادية قد ألحقها فيروس كورونا بالعديد من بلدان العالم، ربما تتحول إلى نقطة تغير مهمة بالنسبة إلى العالم والمستقبل بأسره[1]. كشفت الأجواء السريالية لوباء كوفيد – 19 خطوط الصدع في الثقة بين البشر والدول؛ بين المواطنين والحكومات، وهي تدفعنا إلى طرح أسئلة كبيرة حول أنفسنا وعلاقاتنا الاجتماعية والحياة بوجه عام. ولا تقتصر هذه الأزمة فقط على الصحة العامة والبيئة أو الاقتصاد. ما نشهده هو لحظة الحقيقة في ما يتعلق بأزمة الحداثة المتأخرة ونظامها الرأسمالي على نطاق واسع وشامل. لن نتمكن من العودة ببساطة إلى «العمل كالمعتاد» بعد أن نمرّ بهذه الأزمة، وينبغي أن تعمل العلوم والأبحاث الاجتماعية وغيرها على تحليل هذه الحقائق الجديدة والانخراط بنشاط في معالجتها.

التباعد الاجتماعي: من مجتمع التواصل إلى مجتمع الاتصال

فرضت أزمة كورونا على الجميع التعايش وفق أسلوب «التباعد الاجتماعي» (Social Distancing): لا زيارات، لا سلام باليد، ولا تقبيل. هذه حالة قصوى من مشكلة فاقمتها حداثتنا المتأخرة من برودة العلاقات الإنسانية وسلعنتها وتشييئها. لكن اختفاء التواصل الجسدي المباشر لم يمنع من اكتشاف أشكال جديدة من التواصل الاجتماعي تعزز الروابط الاجتماعية. في بث للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليسكو) تقول سعاد الحكيم، أستاذة الفلسفة والتصوف في الجامعة اللبنانية، إن القلوب أيضًا تتواصل بدون أن تعيقها مسافات أو ترهبها إجراءات صحية أو وقائية. وإن محنة الكورونا ممكن أن تفتح آفاقًا واسعة للإنسان. فالخلوة التي فرضتها تحرره كثيرًا من الانشغالات، وربما تكون لحظة إعادة الوعي بذاته‏[2].

نظرية المؤامرة

لقد استطاعت هذه الأزمة أن تُظهر أهمية العلم والعلماء والأطباء، وتطرح أسئلة على بعض المؤثرين الافتراضيين وعلى سلوك التتفيه الذي أصبح رائجًا خلال وسائل التواصل الاجتماعي. لأول مرة شعر الجميع بتداخل العلوم لمواجهة محنة مَرَضية من خلال طرح تناول العلمي والنفسي والأخلاقي. ولكن هذا لم يمنع من نشاط نظريات المؤامرة. بوجه عام، تنشط نظريات المؤامرة في حالتين، الحالة الأولى عندما نشعر بالعجز في مواجهة الواقع ولا نعرف كيف نفسر شيئًا ما علميًّا، أو لا نريد الاعتراف بدورنا في شيء سيئ مثل الهزيمة في معركة ما. وفي الحالة الثانية عندما نصنف فئة من الناس بماهيات حادة تجعل منها عدوًا مطلقًا أو خائنًا أو مقابل طرف ثانٍ هو الضحية المطلقة التي تؤدي دور المظلومية.

أما في حالة ظهور فيروس كورونا لقد نشط الوصم (الأحكام المسبقة النمطية) بدون الاحتكام للنسبية الثقافية وتم تحميل كامل المسؤولية على طرف واحد، مثل ادعاء أنه سلاح بيولوجي أمريكي لشن حرب اقتصادية على الصين أو اعتبار بعض المسلمين أن هذا الفيروس لن يصيبهم طالما هم في مقام من أوليائهم، أو اعتبار بعض المسؤولين اللبنانيين أن اللاجئين السوريين هم بؤرة لانتشار المرض. إن رواج الأخبار الزائفة قد عمّق ونشر نظرية المؤامرة. ولسوء الحظ أدّت بعض وسائط الإعلام الاجتماعية دورًا كبيرًا في ترويج كثير من الأحكام النمطية وخلق حالة من الهلع الجماعي، إذ لم تعد هندسة الجهل حكرًا على أنظمة الاستبداد الفاشلة، وإنما أصبحت تشمل المجموعات التي تتغذى على فكرة المؤامرة. وحسب سعيد بنيس، أستاذ العلوم الاجتماعية بكلية الآداب، جامعة محمد الخامس بالرباط، هناك ثلاثة أنواع من الأخبار الزائفة، أولها يتمثل بالتضخيم والمبالغة مثل أن حالات كورونا في المغرب هي أكثر مما هو مصرَّح به، الأمر الذي يؤدي إلى حالة من الهلع المجتمعي؛ ثانيها التقليل وعدم الاكتراث بالخطر المحدق بل واقتراح حلول وادعاءات باكتشاف الدواء، وآخرها أخبار مزيج من ما هو صحيح وما هو كذب ومزيَّف حيث يعمد أصحابه إلى توظيف البيانات والجداول والخرائط والإحصاءات للإقناع والإيهام بالحقيقة المطلقة‏[3].

نظريات المؤامرة في حالة انتشار الأمراض ليست ظاهرة حديثة، إذا تذكرنا ما حصل في القرن الخامس عشر من مذابح ضد تجمعات يهودية بأوروبا عندما ظهر مرض «الموت الأسود» سيُعرف فيما بعد أنه الطاعون، حيث حصل إقصاء خطير جوهري للطرف الآخر وعُدّ بأنه هو سبب انتشار هذا الفيروس.

النضال ضد الأنثروبوسين

كوفيد – 19 هو مَرَض العَولمة والأنثروبوسين (Anthropocene)، وهو حلقة من حلقات التدمير التي يقوم بها الإنسان في حق بيئته وكَوكَبه. عُرِف منذ مدّة، أن مَوطن هذا الفيروس المُستجد هو بعض الحيوانات الصغيرة غير المُستأنسة (مثل قطط الزباد – السفيط، بأنجوليين، والفئران والخفافيش)، التي يبقيها الصينيّون في منازلهم والمَطاعم وتُقدَّم كوجباتٍ فاخرةٍ لإظهارِ التميّز الاجتماعي، والتي تستخدم أيضًا كعقارات طبيّة وعلاجات سحريّة لبعض الحالات المستعصية. إذ اعتقد قدماؤنا أنّ جميع السُموم لها فضائل، فهي داء ودواء.

إنّ هذه المُعتقدات لا تنحصر بالصينيين ولا يجب تحميل مسؤوليّة انتشار هذا الفيروس بما نوصم (إعطاء أحكام نمطيّة مُسبقة) به الصينيين من «انعدام النظافة» في الطعام وأكلهم لأنواع مُختلفة من الحيوانات بما في ذلك القطط والكلاب (دون التساؤل لماذا يُعدّ أكل مثل هذه الحيوانات غريبًا جدًا بينما لا نجد ذلك عند شعوب أخرى تأكل الحلزون مثلًا!). الموضوع هو مُشاركتنا جميعًا بتَدمير بيئتنا بسبب الجشع، حيثُ نأكل كثيرًا، ونسعى إلى تجميع الكثير من المال، ولا نكتفي بما لدينا بل نريد المَزيد دائمًا. المزيد من السفر (إذ أصبحت الإجازة تعني السفر حصريًا) والملابس الفاخرة وأحدث الصرعات والماركات وأحدث الهواتف المَحمولة. لذا سمحت الرأسماليّة الريعيّة والجشعة والعَولَمة بتحقيق ثروات كبيرة لحفنة من رجال الأعمال في مُدننا وذلك في وقتٍ قصيرٍ جدًا. وقامَت الطبقة الوسطى الجديدة والطبقة الوسطى الدنيا الجديدة بنسخ هذا الجشع ولو على مُستويات أقلّ لعدم قدرتها على التقليد الكامل. إنها مُحاولات أسطوريّة للوصول إلى السعادة، في ظلّ «معدّلات النمو» المُستمرّة كما لو أنّ الموارد لا نهاية لها. إلّا أنّ هذه النمطيّة لا تؤدّي إلّا إلى المزيد من المشاكل الصحيّة والأوبئة والموت والكوارث الطبيعيّة: إن التخمة عدوّ للشهوة. ويربط الفيلسوف اللبناني مشير باسيل عون على حق الدهاء الاقتصاديّ المعولم الذي يُتقن فنّ النفاذ إلى باطن الوعي الإنسانيّ المعاصر يخرّب فيه مباني الرغبة السليمة. ويسترجع عون الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور (1913 – 2005) الذي اعتبر أنّ «اللذّة المتخيَّلة تُسمَّى رغبة». الرغبة إذًا قد تعني التخيل والتوهم وتعبر عن جزء لاعقلاني ولاشعوري من النفس، وهنا تستطيع «مخطّطاتُ الاقتصاد الاستهلاكيّ أن تنسلّ إلى مباني الوعي الباطني لكيّ تنقضّ على مخيّلة الإنسان الراغب، فتزيّن له الواقع المشتهى بأبهى الصوَر والرسوم». ويتابع في هذا الخط بأمثلة على نتائج ذلك: «لستُ أظنّ أنّ بالناس حاجةً إلى ابتلاع ثمارٍ من الأرض المزروعة حُقنت بموادّ مستلّة من عضويّات أخرى أو جرى التلاعب بتركيبتها الجينيّة. ولستُ أظنّ أنّ التواصل الإنسانيّ يُسرّ بتكثيفٍ ضخم في التناقل المعلوماتيّ وبتسريعٍ هائل في الإبلاغ الهوائيّ يُفضيان كلاهما إلى موجات حارقة تخترق الأجساد، وتتلف الأعصاب، وتضرّ بالخلايا… ولستُ أظنّ أنّ الإنتاج الزراعيّ لا يكفي الناس حتّى يقتلعوا الغابات ويطردوا منها الحيوانات والحشرات التي منها تأتيهم جميعُ ضروب الفيروسات الفتّاكة» (عون، 2020 أ).

إذًا لا يمكن فصل النضال من أجل البيئة عن نوع الاقتصاد السياسي وطبيعة النظام الاقتصادي الذي نريده. إن رأسماليتنا النيوليبرالية ليست فقط طريقة إنتاج بل هي أيضًا تكوينات اجتماعية تنظم العلاقة بين البشر والطبيعة. وربما أفضل تحليل للأزمة الحالية في توجه الدول إلى «النمو السريع» جاء من جانب الاقتصادي الأمريكي جيمس غالبريث وعالم الاجتماع الألماني كلاوس دور. يعتمد النمو السريع على استقرار التكاليف (costs) الثابتة للمواد الخام والطاقة على المدى الطويل. عندما لا يكون كذلك، كما هو الحال الآن، تتكثف المضاربات المالية وتتقلص الأرباح، وتولد نزاعات حول توزيع الأرباح بين العمال والإدارة والمالكين وسلطات الضرائب. إضافة إلى ذلك، فإن تكلفة التغير المناخي مرتفعة، حيث إن محاولة خفض انبعاثات الكربون أكثر فأكثر جعلت العديد من الأنشطة التجارية المستهلكة غير مربحة. وبالتالي يقترح كلا المؤلفين «اقتصادًا جديدًا واعيًا بطيء النمو، يدمج الأسس البيوفيزيائية للاقتصاد في آليات عمله» (Galbraith and Dörre, 2019).

التحضير للمستقبل

يجب أن نقوم بإعداد مرحلة ما بعد الوباء من جانب الأكاديميين، وكذلك جميع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني وصانعي السياسات العامة، من أجل تحويل هذه المأساة إلى ميزة. لنتذكر، كان للكساد العظيم (Great Depression) في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي تأثير عميق في جميع أنحاء العالم، وكانت الاستجابات السياسية للأزمات مختلفة جذريًا. لنأخذ الولايات المتحدة والصفقة الجديدة (New Deal) التي اقترحها الرئيس فرانكلين روزفلت بين عامَي 1933 و1939. كانت الصفقة عبارة عن سلسلة من البرامج، ومشاريع الأشغال العامة، والإصلاحات المالية، وإصلاح قوانين العمل، وإصلاح العلاقات بين الإثنيات. على النقيض، كانت ألمانيا، في ردها، تستبدل الديمقراطية بالنظام النازي. يذكرنا ميشيل فيفيوركا، في مقابلة أجريت معه في آذار/مارس من هذا العام مع صحيفة ليبراسيون الفرنسية، أنه في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أنشأت المقاومة الفرنسية في عام 1944 برنامج عمل للمقاومة وسمّوه «الأيام السعيدة» (Les Jours heureux). من الضروري أن نقول إنه لم يكن هناك فقط بعض التدابير السياسية لاستعادة الديمقراطية، ولكن التدابير الاقتصادية الراديكالية تميزت بتأميم الإقطاع الاقتصادي والمالي المهيمن على نطاق واسع من إدارة الاقتصاد، وبالطبع بعض التدابير الاجتماعية، ولا سيما تحسين الأجور، وإعادة تأسيس نقابات العمال المستقلة ومجموعة عمل المندوبين، وخطة شاملة للضمان الاجتماعي. كانت السنوات الثلاثون التالية فعلًا السنين السمان،أي أيامًا سعيدًة حقًا لفرنسا. وبالتالي، علينا أن نقرر في أي اتجاه سنذهب، وما هو نمط حياتنا لما بعد كورونا. التخطيط مهم للغاية، ولكن يجب تعبئة جميع الموجهين الأخلاقيين لبناء الاعتراف والحظوة المجتمعية لا على النجومية والنزعة الاستهلاكية التمييزية والتنافسية، بل على مدى تضحية الفرد من أجل الجماعة واجتهاده في خدمتها، وهذا هو معراج في مدارج الإنسان نحو الكمال.

إن إعادة انغراس الاقتصاد في الاجتماعي والسياسي والثقافي لن يكون من دون ربط العلوم الاجتماعية بالفلسفة الأخلاقية، بالطريقة التي اقترحها بول ريكور بمقولة شديدة التكثيف: «هدفنا هو عيش الحياة الجيدة مع الآخرين ومن أجلهم في مؤسسات عادلة» («the Aim of Living the Good Life with and for Others in Just Institutions»). أي أن ربط فكرة العيش الكريم والأخلاقي مع الآخر لا يمكن أن يكون فرديًّا ومن دون إشراك الجماعة والمجتمع، ومن دون العيش من أجل الآخر، من خلال تبني أخلاقيات الحب والتضامن والضيافة والعطف مع الآخر، وبخاصة عندما يكون الآخر مهمشًا. وبدأ الوطن العربي يؤسس لفلسفة أصيلة في هذا المضمار، ولعل أهمهم ناصيف نصار وعزمي بشارة وطه عبد الرحمن. فنصار ربط الحرية بالعدالة الاجتماعية واعتبر المسؤولية هي الوجه الآخر للحرية: فالمسؤولية تتجاوز مسؤولية الفرد أمام نفسه أو أمام القانون، إنها المسؤولية الاجتماعية التي تنبثق من الوجود الاجتماعي نفسه (مسؤولية أمام نفسه والآخرين) (نصار، 2003). وذلك بتنظيره لليبرالية التكافلية القائمة على العدالة التضامنية، فهو من دعاة التضامن الاجتماعي الذي يفرض التوفيق بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة. وهو يؤسس الذات على «الوجود بالمعيّة» انطلاقًا من معنى العيش مع الآخر لفهم الذات المتكونة. وهو بالتالي ينتقد الديالكتيك الهيغلي الذي يقوم على السلب والنفي والتضاد الذي أثبتت التطورات بُطلانه وطغيانه مؤسسًا لمنطق الاختلاف الذي يقوم على الغيرية، والحق في التعدد، وهو الذي يحرر الفكر من كل نظرة معيارية لوغوقراطية (نصار، 2018). أما بشارة فيجادل أن الحرية اجتماعية ويؤكد ربطها بالديمقراطية أيضًا وتتطلب التحقّق في المؤسسات الاجتماعية ولكن دون أن تتنازل عن حرية الفرد (بشارة، 2016). أما عبد الرحمن فإن تأكيده موجه على العدالة الائتمانية الكونية (عبد الرحمن 2012؛ 2014) إنها محاولات جيدة لبناء صورة الآخر، ليس فقط في ما يتعلق بمن يُنظر إليه على أنه خصم، ولكن في ما يتعلق بكيفية اهتمامنا ورعايتنا للآخر. هنا يمكن للمناقشة الأخلاقية الجادة أن تروّض السعي لتحقيق مصلحتنا الذاتية.

تتماشى هذه المقاربات العربية مع اتجاه فرانكوفوني، والذي أصبح فيما بعد عالميًّا، مناهضًا للنزعة النفعية، والذي تمأسس بالمدرسة «التآلفية» التي نشرنا بيانها بنسختيه الأولى والثانية «Manifesto on Convivialism»‏[4] (Internationale Convivialiste, 2020) أنا أنادي مثل زملائي في هذا الاتجاه بضرورة العودة إلى الوعي الأنثروبولوجي المشترك للإنسانية، ليس بصفة فرد إنسان اقتصادوي (Homo Economicus)، وإنما الإنسان المأثرة والتضامن، والذي اكتشفه مارسيل موس (1872 – 1950) في دراساته عن الهبة أو اقتصاد التبادل (هِب، خُذ، رُد). وهذا الاتجاه الأخلاقي ينادي بإجراءات عملية للعدالة الاجتماعية مثل أن يكون هناك مدخول حد أدنى لكل العائلات (يحدد في كل بلد) ويحدد سقف أعلى لمدخول الفرد (من طريق سياسات ضرائبية صارمة)، ولو أدى ذلك إلى هروب بعض الاستثمارات وبطء النمو. إذ نطمح بهذا التوجه إلى أن يكون بديلًا لأيديولوجيات الشيوعية والاشتراكية والنيو – ليبرالية والفوضوية والعلمانية المتطرفة (التي تحولت إلى دين مناهض للأديان الأخرى) وهؤلاء فشلوا إما للخلل الفكري أو بسبب التطبيق.

أخيرًا

كما قرأ رولان بارت رواية «الطاعون» لألبيرت كامو على أنها معركة المقاومة الأوروبية ضد النازية، علينا قراءة أزمة كورونا على أنه اختبار إنساني وجودي كاستعارة سياسيًا، اجتماعيًا وأخلاقيًا. في مقالة رائعة لمشير باسيل عون (2020) يستعين ما كتبه الفيلسوفُ الوجوديّ الألمانيّ كارل ياسبِرس (1883 – 1969) أنّ الإنسان يختبر في مسرى وجوده ضروبًا شتّى من المعيش تتباين حدّتُها، ولكن هناك اختبارات قصوى، حدوديّة، شفيريّة، تخوميّة، كاختبار الألم، واختبار الصراع والاقتتال، واختبار الذنب، واختبار هشاشة العالم ولاوثوقيّته، واختبار الموت. أمام كلّ اختبار من هذه الاختبارات يبلغ الإنسانُ الحدَّ الأقصى من إمكانات الاستيعاب والاستدراك والاسترجاع. من جرّاء الاستعصاء الكلّيّ اللصيق بمثل هذه الانسدادات الضاغطة، يتهيّأ للإنسان أن ينعتق من أسر الضرورة ليُطلّ مجازيًّا، باطنيًّا، صوفيًّا، روحيًّا، على مشارف التجاوز والتعالي والتسامي. هل وصلنا إنساننا إلى ذلك؟

لن يكون لعلومنا وأبحاثنا لمرحلة ما بعد كورونا معنى إلا إذا كنت مسلحًا باليوتوبيا، أو «يوتوبيا واقعية» (Real Utopias)، حسب تعبير إيريك أولن رايت (Wright, 2010)، لأنه حتى إذا لم يكن من الممكن تحقيقها بالكامل، فستوجه أفعالنا. لا توجد حياة أخلاقية بلا يوتوبيا، والفرق بين رجل الدين والباحث هو أن هذا الأخير لا يشجب بالضرورة الآخرين حاملي رؤية معادية ليوتوبيا الباحث، ولكن يسعى للعمل مع أولئك الذين يؤمنون بعناد وإصرار. إنه «عناد الشهادة» في عصرنا، حسب تعبير ألبير كامو. وبالتالي يجب أن تقدر علومنا هذه علاقات التضامن والمأثرة والالتزام الأخلاقي والدفع من أجل ربط العلوم الاجتماعية بالفلسفة الأخلاقية.

ربما اسم الفيروس كوفيد – 19 يذكرنا أنه كان قبله 18 وباءً قد سيطر الإنسان عليها. ولكن في رأيي أن كوفيد – 19 يتطلب تعبئة راديكالية لإعادة ربط الإنسان بأخيه الإنسان، بمجتمعه بالطبيعة.

 

قد يهمكم أيضاً  العرب وكورونا: إدارة أزمة أم أزمة إدارة؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #كورونا #العرب_وكورونا #مجتمع_الاتصال #التباعد_الاجتماعي #كوفيد_19 #جائحة_كورونا #وجهة_نظر