مقدمة:
يعد الباحث المغربي طه عبد الرحمن[1] من الدارسين العرب الذين تمثلوا المقاربة المنطقية أو التداولية في تقويم التراث، بالتركيز على المناظرة باعتبارها منهجية تداولية تراثية. ويتجلى ذلك واضحاً في كتابه تجديد المنهج في تقويم التراث[2] الذي خصه بدراسة نقدية واعتراضية للكتابات المعاصرة التي تناولت التراث العربي – الإسلامي، ولا سيما كتابات محمد عابد الجابري، كما يظهر ذلك بيناً في كتبه نحن والتراث[3]، وتكوين العقل العربي[4]، ونقد العقل العربي[5]، والتراث والحداثة[6]…
من هنا، فالكتاب عبارة عن قراءة نقدية حوارية لما كتب حول التراث بطريقة استبطانية استرجاعية، بغية استكشاف الآليات الشكلية التي استعملتها هذه الكتابات المعاصرة في قراءة التراث من جهة، وإعادة قراءة التراث العربي – الإسلامي من جديد من جهة أخرى، باختيار أسلوب المناظرة القائم على استدعاء الأطراف المتحاورة، وبخاصة المدعي والمدعى عليه، واستعراض مختلف الأدلة والبراهين والحجج لإفحام الخصم وإقناعه. وهذه هي الطريقة التي اختارها طه عبد الرحمن لمواجهة محمد عابد الجابري في ما كتبه عن التراث، بغية إظهار تناقضاته الاستدلالية، وكشف مساوئه الفكرية، وتبيان تهافته الفكري والفلسفي.
أولاً: منهج التقويم
ينطلق طه عبد الرحمن، في تقويم التراث بعامة، ونقد كتابات محمد عابد الجابري بخاصة، من المنهج التداولي المنطقي، بتمثل المناظرة طريقة للحوار والمناقشة والاعتراض، وتفنيد أطروحات الخصم. بمعنى أن طه عبد الرحمن فضل طريقة السجال النقدي المنطقي منهجية للتقويم. كما فضل الاعتراض التداولي لإفحام الخصم. لذا، استخدم في ذلك المناظرة التي عرف بها المفكرون العرب القدامى منذ العصر العباسي (يونس بن متى المنطقي وأبي سعيد السيرافي النحوي – مثـلاً). أي أن الباحث اختار منهجية تراثية لقراءة التراث، وأيضاً لمواجهة الجابري الذي يتبنى، في مختلف كتاباته الفكرية، مقاربات إبستمولوجية غربية معاصرة في قراءة التراث، كتطبيقه للمقاربة البنيوية التكوينية من جهة، أو تمثله للمادية التاريخية الجدلية من جهة ثانية، أو توظيفه للقطيعة الإبستمولوجية لغاستون باشلار (Gaston Bachelard) من جهة ثالثة. وفي هذا السياق، يقول طه عبد الرحمن محدداً منهجه النقدي: «ولما ألزمنا أنفسنا بهذه المبادىء النظرية والعملية، فقد حملنا ذلك على أن نأخذ في بحثنا بمنهجية تعتمد أساساً مسلكاً حوارياً موصولاً بالطريقة التي اشتهرت بها الممارسة التراثية، وهي: طريقة أهل المناظرة. ومعلوم أن هذه الطريقة التي شملت جميع دوائر المعرفة الإسلامية العربية، تنبني على وظائف منطقية تأخذ بمبدأ الاشتراك مع الآخرين في طلب العلم وطلب العمل بالمعلوم، كما تنبني على قواعد أخلاقية تأخذ بمبدأ النفع المتعدي إلى الآخرين أو إلى الآجل. وقد بسطنا القول في منطقيات وأخلاقيات المناظرة بما فيه الكفاية في كتابنا أصول الحوار وتجديد علم الكلام، فليرجع إليه.
وليس معنى أخذنا بمنهجية المناظرة نقـلاً لها، إجمالاً وتفصيـلاً، وإنما هو نقل حي لأركانها الأساسية؛ والشاهد على ذلك مراعاة هذا النقل لمقتضيين جوهريين: أحدهما، مقتضى تجدد المعرفة العلمية؛ والثاني، مقتضى خصوصية الموضوع المدروس. فإن كان أهل المناظرة قد أخذوا بآليات منطقية ولغوية تناسب النظريات المنطقية والحجاجية واللسانية المعاصرة؛ كما أننا ألزمنا أنفسنا بأن تكون الآليات التي نستعملها ملائمة في خصائصها للموضوعات التراثية التي ننزلها عليها؛ فالموضوع التراثي، عموماً، مبني بناء لغوياً ومنطقياً مخصوصاً، ولا يمكن وصفه وصفاً كافياً، ولا تعليله تعليـلاً شافياً إلا إذا كانت الوسائل التي تستخدم في وصفه ونقده ذات صيغة لغوية ومنطقية»[7].
ويعني هذا أن طه عبد الرحمن يطبق المنهجية التداولية المنطقية أو يتمثل فلسفة اللغة أو يأخذ بأسلوب المناظرة في قراءة تراث الأجداد، وتقويم الكتابات الفكرية المعاصرة التي تناولت التراث بدورها، بفحص الآليات المنطقية والتداولية واللسانية التي استخدمتها هذه الكتابات، مع مقارنتها بالأدوات الشكلية الداخلية التي استخدمها التراث على مستوى الإنشاء أو الانبناء الفكري والإبداعي.
إذاً، فقراءة طه عبد الرحمن للتراث قراءة تراثية تداولية ومنطقية واستدلالية. وأكثر من ذلك، فهي قراءة نقدية اعتراضية قائمة على إبطال دعاوى الخصم، باستخدام الحوار العقلاني المنطقي الذي يحترم أصول علم التداول أو أصول علم المناظرة العربية. لذا، فهو يقرأ التراث بالتراث، أو يقرأ التراث من الداخل، بالانغماس فيه إلى أخمص قدميه، مع تمثل النظرة الكلية، والتركيز على الآليات البنائية للمعطى التراثي، من دون التركيز على المضامين. كما يبدو ذلك جلياً عند المفكرين المعاصرين الذين كانوا يقرأون التراث من الخارج من جهة؛ وينطلقون في ذلك من نظرة تجزيئية من جهة ثانية؛ ويعتمدون على انتقاء مضامين النصوص، من دون الإنصات إلى الوسائل والتقنيات التداولية من جهة ثالثة؛ ويهتمون بالمفاضلة من جهة رابعة.
ويعني هذا أن طه عبد الرحمن يقرأ التراث قراءة تراثية داخلية أصيلة بعيدة من تأويلات الاستشراق والفكر التغريبي. وفي هذا، يقول الباحث: «لقد اتبعنا في الاشتغال بمسالك تقويم التراث منهجية تستمد أوصافها الجوهرية من المبادئ التي قامت عليها الممارسة التراثية الإسلامية العربية؛ فكانت، في مقصدها منهجية آلية لا مضمونية: فلم تنظر في مضامين الإنتاج التراثي بقدر ما نظرت في الآليات التي تولدت بها هذه المضامين وتفرعت تفرعاً، عمـلاً بمبدأ تراثي، مقتضاه «أن اعتبار المعاني لا يستقيم حتى يستند إلى اعتبار المباني»؛ كما كانت، في منطلقها، منهجية عملية لا مجردة: فلم تعتمد معرفة نظرية منقولة ومقطوعة عن الضوابط المحددة والقيم الموجهة للممارسة التراثية، بل استندت إلى أساليب التبليغ العربي في خصوصيتها، وإلى معاني العقيدة الإسلامية في شموليتها، وإلى مضامين المعرفة الإسلامية العربية في موسوعيتها، عملاً بمبدأ تراثي ثانٍ، مقتضاه «أن المعرفة لا تثمر حتى تكون على قدر عقول المخاطبين بها». وكانت، في مسلكها، أخيراً منهجية اعتراضية لا عرضية: فلم تكن تقرر الأحكام تقريراً وترسلها في عموم التراث إرسالاً، وإنما كانت تفتح باب السؤال، فتورد ما جاز من الاعتراضات على ما ادعاه بعض من تعاطوا لتقويم التراث من أقوال، بل على ما جئنا به نحن من دعاوى، حتى تمحصها كما ينبغي وتقومها بالوجه الذي ينبغي، عمـلاً بمبدأ تراثي ثالث، مقتضاه «أن الظفر بالصواب لا يكون إلا بمعونة الغير».
وإذا صح أن منهجنا مأخوذ من التراث، فليس يصح أننا تركنا العمل بموجب العقل العلمي الصحيح كما قد يتوهم ذلك من يجعل كل مأخوذ من التراث خارجاً على مقتضى العقل والعلم، فقد سلكنا في ما أخذنا مسلكاً لا يتساهل في ما يجب على الناظر في التراث استيفاؤه من دقيق الشرائط المنطقية ومن صارم المقررات المنهجية وراسخ الضوابط المعرفية؛ والشاهد على ذلك ما قضينا به على أنفسنا من التزام أقصى، بل أقسى القيود المنهجية، حتى ندفع عن دعاوينا أشد الاعتراضات المحتملة، فيكون لنا في دفعها غناء عن دفع ما هو دونها»[8].
وعليه، يتبنى طه عبد الرحمن منهجية منطقية وتداولية ولغوية في قراءة التراث، أساسها المناظرة العربية الأصيلة، وهدفها تقويم التراث من جهة، ونقد الفكر العربي المعاصر من جهة أخرى.
ثانياً: تقويم كتابات محمد عابد الجابري
يثبت طه عبد الرحمن أن الدراسات الفكرية التي تبنت تقويم التراث لم تنطلق من منهجية حوارية تداولية. ومن ثم لم تراعِ مقتضيات التراث النظرية والعملية، بل تعاملت، في عمومها، مع التراث من منظار انتقائي تجزيئي تفاضلي، كما يبدو ذلك واضحاً عند ثلة من المفكرين المعاصرين، مثل: عبد الله العروي، والطيب تيزيني، وحسين مروة، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري. ومن ثم، ينتقد الباحث – بصفة خاصة – العقلانية الفكرية عند الجابري، كما تتجسد في كتبه نحن والتراث، وتكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي والتراث والحداثة، بالتركيز على البنى المنطقية والتداولية التي توسل بها الجابري في تعامله مع التراث العربي – الإسلامي.
ومن باب العلم، فقد توصل محمد عابد الجابري إلى مجموعة من النتائج في كتابه نحن والتراث، مثل قوله بوجود مدرسة فلسفية مغربية مميزة من المدرسة المشرقية فصـلاً ومفهوماً وسياقاً ومنهجاً وقضيةً، يمثلها ابن طفيل، وابن رشد، وابن باجة… وقد أحسنت هذه المدرسة التوفيق بين الشريعة والحكمة، بالتركيز على مبدأ الفصل، ووحدة الهدف، واختلاف البنية. في حين، سقطت الفلسفة المشرقية، مع الفارابي وابن سينا على سبيل التمثيل، في التلفيق، حينما جمعت بين فيلسوفين مثاليين: أفلاطون وأفلوطين اعتقاداً منها أنها كانت توفق بين أفلاطون المثالي وأرسطو المادي. وفي هذا النطاق، يقول الجابري: «ننظر إلى المدرسة الفلسفية التي عرفها المغرب الإسلامي على عهد دولة الموحدين، كمدرسة مستقلة تماماً من المدرسة – أو المدارس – الفلسفية في المشرق، فلقد كان لكل واحدة منهما منهجها الخاص، ومفاهيمها الخاصة، وإشكاليتها الخاصة كذلك.
لقد كانت المدرسة الفلسفية في المشرق، مدرسة الفارابي وابن سينا بكيفية أخص، تستوحي آراء الفلسفة الدينية التي سادت في بعض المدارس السريانية القديمة، وبخاصة مدرسة حران، والمتأثرة إلى حد بعيد بالأفلاطونية المحدثة. أما المدرسة الفلسفية في المغرب، مدرسة ابن رشد خاصة، فقد كانت متأثرة إلى حد كبير بالحركة الإصلاحية، بل بالثورة الثقافية، التي قادها ابن تومرت، مؤسس دولة الموحدين، التي اتخذت شعاراً لها: «ترك التقليد والعودة إلى الأصول». ومن هنا، انصرفت المدرسة الفلسفية في المغرب إلى البحث عن الأصالة من خلال قراءة جديدة للأصول… ولفلسفة أرسطو بالذات.
إن الانفصال الظاهري بين المدرستين بوصفهما تنتميان إلى ما اصطلح على تسميته «الفلسفة الإسلامية» أو «الفلسفة في الإسلام»، لا ينبغي أن يخفي عنا «انفصالاً» أعمق بينهما. لقد عالج فلاسفة الإسلام، بالفعل، الموضوعات نفسها، وتناولوا المشاكل نفسها، ولكن ما يميز فكراً فلسفياً معيناً – كما يقول برييه – ليس الموضوع الذي يتناوله، ولا النظريات التي يدافع عنها، «إن الأهم من ذلك هو النظر إلى الروح التي يصدر عنها، والنظام الفكري الذي ينتمي إليه». ونحن نعتقد أنه كان هناك روحان ونظامان فكريان في المشرق والفكر النظري في المغرب، وأنه داخل الاتصال الظاهري بينهما كان هناك انفصال نرفعه إلى درجة القطيعة الإبستمولوجية بين الاثنين، قطيعة تمس في آن واحد: المنهج والمفاهيم والإشكالية»[9].
ويعني هذا أن المدرسة المغربية تتميز من المدرسة المشرقية بالفصل على مستوى النسق الفكري والتاريخي والأيديولوجي. كما يبدو ذلك واضحاً عندما تناول الجابري فلسفة ابن طفيل بالدرس والتحليل والمناقشة: «ومما هو جدير بالملاحظة أن الفيلسوف الأندلسي يترك الطريقين متوازيين في النهاية كما وضعهما في البداية. لقد فشل حي بن يقظان في إقناع سلامان وجمهوره بأن معتقداتهم الدينية هي مجرد مثالات ورموز للحقيقة المباشرة التي اكتشفها بالعقل، فشل حي في ذلك، وعاد إلى جزيرته الشيء الذي يعني فشل المدرسة الفلسفية في المشرق التي بلغت أوجها مع ابن سينا في محاولتها الرامية إلى دمج الدين في الفلسفة . أما البديل الذي يطرحه ابن طفيل، بل المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس، بكامل أعضائها، فهو الفصل بين الدين والفلسفة»[10].
كما أشاد الجابري بابن رشد باعتباره أحسن شارح لأرسطو، وأنه رمز للعقلانية البرهانية. وفي الوقت نفسه، وجه نقداً لاذعاً لعلم الكلام والتصوف العرفاني. ومن ثم، فقد مجد العقلانية الرشدية باعتبارها مسلكاً واقعياً لتحقيق النهضة والحداثة والمشروع الحضاري. وفي هذا، يقول الجابري: ««الخطاب الفلسفي الرشدي عقلانية نقدية واقعية. لقد تحرر ابن رشد معرفياً من هيمنة الجهاز الإبستمولوجي الذي كرسته في المشرق مدرسة حران بكيفية خاصة، والأفلاطونية الجديدة بكيفية عامة، وأيديولوجيا من العوامل الاجتماعية – التاريخية التي صاغت حلم المدينة الفاضلة الفارابية والحكمة المشرقية السينوية، فاتجه إلى معالجة العلاقة بين الدين والفلسفة بعقلانية واقعية تحفظ لكل من الدين والفلسفة هويته واستقلاله، وتسير بهما في اتجاه واحد، اتجاه البحث عن الحقيقة.
إنه جزء من خطاب عقلاني واقعي نقدي تميز به الفكر العربي – الإسلامي في المغرب والأندلس على عهد الموحدين، خطاب كان هو الآخر مظهراً من مظاهر الصراع السياسي الصامت أحياناً، المتفجر أحياناً بين مشرق الخلافة العباسية والفاطمية من جهة، ومغرب خرج هو والأندلس على سلطة الخلافة، منذ بداية الدولة العباسية نفسها. إن الحذر في المجال السياسي يتحول إلى نقد في المجال الفكري. إن الواقعية النقدية الرشدية لم تكن امتداداً للنزعة نفسها لدى ابن باجة وابن طفيل وحسب، بل كانت تتويجاً لتيار نقدي ظل يتحرك في اتجاه واحد، اتجاه رد بضاعة الشرق إلى المشرق في الفقه مع ابن حزم الظاهري، وفي النحو مع ابن مضاء القرطبي، وفي التوحيد (الكلام) مع ابن تومرت، وفي الفلسفة مع ابن رشد»[11].
من ناحية أخرى، قسم الجابري العقل العربي إلى ثلاث محطات أو بنيات أركيولوجية هي: بنية البيان، وبنية البرهان، وبنية العرفان. وفي هذا الصدد، يقول الجابري: «فالبيان كفعل معرفي هو الظهور وإظهار الفهم والإفهام، وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الذي تبنيه العلوم العربية الإسلامية الخالصة، علوم اللغة وعلوم الدين… وكنظام معرفي هو جملة من المبادئ والمفاهيم والإجراءات التي تعطي لعالم المعرفة ذاك بنيته اللاشعورية…
وأما العرفان كفعل معرفي فهو ما يسميه اْصحابه بـ «الكشف» أو «العيان»، وكحقل معرفي هو عبارة عن خليط من هواجس وعقائد وأساطير تتلون بلون الدين الذي تقوم على هامشه لتقدم له ما يعتقد العرفانيون بأنه «الحقيقة» الكامنة وراء ظاهر نصوصه… (وكنظام معرفي يتمحور) حول قطبين رئيسين؛ أحدهما يستثمر اللغة بتوظيف الزوج الظاهر/الباطن، والثاني يخدم السياسة… وذلك، بتوظيف الزوج الولاية/النبوة.
وأما البرهان كفعل معرفي فهو استدلال استنتاجي، وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الفلسفية العلمية المنحدر إلى الثقافة العربية عبر الترجمة، ترجمة كتب «أرسطو» خاصة (وكنظام معرفي، يتمحور) حول قطبين: أحدهما يخص المنهج ويوظف الزوج الألفاظ/المعقولات… والآخر يخص الرؤية ويوظف الزوج الواجب/الممكن»[12].
وتأسيساً على ما سبق، فقد وجه طه عبد الرحمن إلى محمد عابد الجابري انتقادات لاذعة، منها أن تقسيم العقل العربي إلى بيان، وبرهان، وعرفان، هو تقسيم فاسد، يوظف فيه صاحبه مجموعة من المعايير المغلوطة، مثل: المعيار اللغوي (البيان)، والمعيار العقلي الاستدلالي (البرهان)، والمعيار المعرفي (العرفان). ويعني هذا أن تقسيم الجابري لبنية العقل العربي هو تقسيم مردود عليه، وغير خاضع لتقسيم برهاني سليم من حيث مواده. وفي هذا، يقول طه عبد الرحمن: «إن التقسيم الثلاثي: «البرهان» و«البيان» و«العرفان» تقسيم فاسد، ودليل فساده ازدواج المعايير المتبعة في وضعه، هذا الازدواج الذي لا يؤدي إليه إلا عدم تحصيل الملكة في العلوم الصورية والمنهجية، ولو أن الجابري اعتمد معياراً موحداً، لكان له الخيار في تقسيمات متعددة، كل تقسيم منها يقوم به معيار معين، كالتقسيم بحسب المضمون (العقل والعلم والمعرفة مثلاً) أو التقسيم بحسب الصيغة اللفظية (القول والعبارة والإشارة مثـلاً) أو التقسيم بحسب الصورة الاستدلالية (البرهان والحجاج والتحاج)، وهو أقرب التقسيمات إلى العمل بمعيار العقلانية المجردة التي ظل الجابري يناضل من أجلها، فيكون البرهان هو نظام الآلية الاستنباطية، والحجاج هو نظام الآلية القياسية، والتحاج هو نظام الآلية التناقضية»[13].
وإذا كان الجابري قد دافع عن الفلسفة أو الإلهيات، وفضلها على باقي الخطابات الفكرية الأخرى (علم الكلام والتصوف)، فإن طه عبد الرحمن قد دافع عن علم الكلام باعتباره علماً داخلياً أصيـلاً، في حين تعد الفلسفة علماً خارجياً منقولاً. وأكثر من هذا، فابن رشد كان يستدخل في فلسفته الإلهية مبادئ علم الكلام. ويعني هذا أن ثمة تداخـلاً بين علم أصيل (علم الكلام) وعلم دخيل منقول (الفلسفة). بل كان يستدخل كذلك التصوف، على الرغم من النقد الذي وجهه ابن رشد للمتصوفة. «وقد نذهب بعيداً [يقول طه عبد الرحمن] بأن أبا الوليد كان يرى في التصوف عنصراً مكمـلاً للفلسفة أو عنصراً متكامـلاً معها، إذ كان ينزل الصوفية من العمل منزلة الفلاسفة من النظر، فقد كان يفرق بين درجتين من العلم: إحداهما، عامة متعلقة بالجمهور، والأخرى، خاصة يستقل بها أهل البرهان؛ وكذلك كان يفرق بين درجتين في العمل: إحداهما، عامة متعلقة بالجمهور؛ والثانية، خاصة يستقل بها الصوفية»[14].
لذلك، واجه طه عبد الرحمن دعاة العقلانية المجردة بالنقد والاعتراض والتقويم، بتسفيه منطلقاتهم المنهجية، في ضوء مقاربة تداولية منطقية واستدلالية داخلية. وفي هذا، يقول الباحث: «يذهب أصحاب الآليات الاستهلاكية العقلانية من دارسي التراث إلى أن المنهج العقلاني هو أقدر المناهج طراً على توفير الاستفادة العلمية من التراث، وقد تأدوا عن طريق هذا المنهج المقتبس إلى تشريح التراث شرائح متعددة ومتباينة، حتى يتسنى لهم أن ينتقوا منها ما يبدو لهم أقرب إلى الاستجابة لمعايير العقلانية؛ غير أن دعاة الأخذ بالمناهج العقلانية المنقولة في تقويم التراث، وإن اتفقوا على العمل بمبدأ التشريح ومبدأ الانتقاء، فإنهم اختلفوا اختلافاً في تعيين الشرائح التراثية التي تمثل أفضل تمثيل النموذج العقلاني. فمنهم من يقول بأنها النصوص الفلسفية، ومنهم من يرى أنها هي النصوص الفقهية، ومنهم من يعتقد أنها النصوص اللغوية، ومنهم من يذهب إلى أنها هي النصوص الكلامية، ومنهم أخيراً من يجمع بين أجزاء هذه النصوص. ثم ما كان من هذه النصوص واضح الانتساب إلى العقلانية، لزم في نظرهم تحقيقه والانتفاع به وفق مقتضيات الحداثة وشروط التطلع إلى المستقبل؛ وما كان منها مجانباً أو مخاصماً لهذه العقلانية، وجب عندهم تركه»[15].
كما توصل الدارس إلى أن فكر الجابري تغلب عليه النزعة التجزيئية من جهة، والنزعة التفاضلية من جهة أخرى، وبخاصة عندما فضل البرهان على البيان والعرفان؛ وفضل ابن رشد على باقي الفلاسفة الآخرين. ويعني هذا أن الجابري يتعامل مع التراث في ضوء نظرة تسييسية مادية انتقائية، مع إساءته استخدام العقل في التعامل مع الظواهر التراثية، ولا سيما الكلامية والفقهية والعرفانية منها، والتعسف في تأويل النصوص بما يخدم تصورات الجابري، والوقوع في تناقضات عدة على مستوى التداول المنطقي، وعدم احترام آليات الاستدلال والبرهنة والحجاج المنطقي، وإعطائه الأهمية الكبرى للمضامين على حساب البنى التداولية والمنطقية، وتمثله لآليات عقلانية وأيديولوجية غريبة عن التراث في نموذجه التقويمي. مما أوقعه هذا كله في نظرة خاطئة وسيئة إلى التراث تتسم بالتهافت، والتجزئة، والعلمانية، وتقليد الآخر، والجهل بالتراث، والقصور في العلم الناتج من الذاتية، والخروج عن جادة الصواب، والجنوح عن أسس الفكر العلمي الموضوعي. ومن ثم، فتصورات الجابري مغرقة في التسييس بتركيزها على ما هو مادي وتاريخي وجدلي في التراث، مع إهمال الجوانب الدينية والروحية والأخلاقية والعرفانية على حد سواء، ناهيك باستخدام الآليات العقلانية المجردة.
وفي هذا السياق، يقول طه عبد الرحمن: «ولما كانت النظرة التجزيئية في نقد التراث مقترنة بالاشتغال بمضامينه من دون وسائله، لكونها تستبدل بهذه الوسائل التراثية آليات عقلانية وفكرانية مستندة إلى مبادئ الموضوعية والعلمانية والنظر المتوحد، فإن اعتناق الجابري لها أفضى به إلى أن يجمع، في نموذجه التقويمي، إلى العثرات الناتجة عن نقصان الاستيعاب، آفات المبادئ التي تستند إليها هذه الآليات، وأن يدخل في تقطيع التراث تقطيعاً، وفي تفضيل بعضه على بعض تفضيـلاً، وفي استيفاء قسم ضحل وغير أصيل منه، مخلٍ بالقيم الأصيلة للتراث التي تضمن له الترابط والتكامل. ومتى علمنا أن مبادئ النظرة التجزيئية الثلاثة ليست، على الحقيقة، إلا قيماً أملتها على إرادات العلماء ظروف ثقافية ومجتمعية معينة، أدركنا إمكان وجود قيم، علمية هي الأخرى، قادرة على تحقيق التقدم والتحضر بوجه قد يكون أفضل مما حققتهما به القيم المصطنعة السابقة، كيف لا وبين أيدينا التراث الإسلامي – العربي الذي يختص بقيم مغايرة لا نحتاج في توظيفها العلمي، إلا أن نستنبط الآليات الإنتاجية التي عملت حقاً في تشكيل مضامينه، تكويناً وتطويراً، تلويناً وتوسيعاً»[16]!
ويعني هذا أن الجابري – بحسب طه عبد الرحمن – يقرأ التراث قراءة خارجية برانية، باستغلال المعطيات التاريخية والمادية والأيديولوجية في قراءة التراث، ثم تسييسه بعد ذلك، ثم التركيز على المضامين دون فحص الآليات الشكلية المنطقية والتداولية، واختيار النصوص التي تتلاءم مع نظريته الأيديولوجية، واستبعاد النصوص التي لا تخدم أغراضه وتصوراته وأطروحاته الفكرية. أي يقف، ضمن قراءته التجزيئية والانتقائية، إلى المواقف التراثية التي تعضد أطروحته وفرضيته البرهانية، من دون مساءلة الخطابات المعارضة الأخرى التي تخالف أطروحته الفكرية والأيديولوجية.
وفي المقابل، يطرح طه عبد الرحمن قراءة تكاملية شمولية قائمة على التداخل والتقريب بين العلوم والمعارف والحقائق، مع استبعاد النظرة الانتقائية التجزيئية في قراءة التراث، والارتباط بأصول الفقه وعلم الأخلاق باعتبارهما مدخلين أصيلين إلى كل العلوم والمعارف الإسلامية مقارنة بالفلسفة والمنطق، وهما علمان دخيلان ومنقولان.
كما دافع طه عبد الرحمن عن ابن خلدون ذي المشروع العمراني، وجعله في أعلى مرتبة من ابن رشد على مستوى الأخذ بالاستدلال الحجاجي، يتوسطهما الغزالي الذي اتبع منحى ابن رشد في الدفاع عن المنطق اليوناني الأرسطي[17]. بعد أن كان ابن رشد يتسيد الساحة الثقافية والفلسفية المغربية في العصر الوسيط في منظور محمد عابد الجابري. وبهذا، يسقط طه عبد الرحمن بدوره في النزعة التفاضلية بدون أن يشعر بذلك.
ومن جهة أخرى، يقول طه عبد الرحمن: «أما نتائج التكامل التداخلي، فهي ثلاث:
إحداها: أن الاشتغال بالآليات المنتجة للمضامين التراثية يؤدي إلى اتخاذ موقف تكاملي من التراث، مما يدل على أن التوجه الآلي راسخ رسوخاً في الممارسة التراثية، وأنه مانع منعاً من المفاضلة بين عناصرها المختلفة.
والثانية: أن التداخل الذي يقع بين علمين أصليين يوجب أن يكون أقربها إلى مجال التداول باعتبار هذه النسبة والإفادة، فيكون علم الأخلاق عندئذ أنسب العلوم للتداخل مع علم أصول الفقه.
والثالثة: أن دخول علم مأصول في علم منقول يوجب أن يكون العلم المأصول أنسب العلوم الأصلية له، استشكالاً واستدلالاً، وأن يكون أقربها إلى مجال التداول باعتبار هذه المناسبة الاستكشافية والاستدلالية، فيكون علم الكلام حينئذ أنسب العلوم للتداخل مع الإلهيات»[18].
وأما نتائج التكامل التقريبي، فيمكن حصرها في أربع نقاط جوهرية على النحو التالي:
«أولاها: أن المجال التداولي الإسلامي – العربي ينبني على أصول لغوية وعقدية ومعرفية تضبطها قواعد تقوم بوظائف مخصوصة، وتؤدي مخالفتها إلى آفات تداولية تختلف درجة ضررها باختلاف أنواع هذه القواعد وعددها.
والثانية: أن تقريب العلوم المنقولة إلى مجال التداول الإسلامي – العربي يوجب تخريجها على مقتضيات أصوله الثلاثة: اللغة، والعقيدة، والمعرفة، فتأخذ بالاختصار في العبارة مكان التطويل، وبتشغيل المعتقد بدلاً من تعطيله، وبتهوين الفكرة بدلاً من تهويلها.
والثالثة: أن تقريب علم المنطق يوجب إخراجه من وصفه التجريدي إلى وصف عملي يجعل عبارته راسخة في الاستعمال العادي، وأدلته مستخرجة من النصوص الشرعية، ونتائجه موصولة بأسباب التطبيق النافع للآخر نفعه للذات.
والرابعة: أن تقريب علم الأخلاق يوجب إخراجه عن وصفه التجريدي إلى وصف عملي يجعل مفاهيمه موصولة بالمدلولات اللغوية المستعملة، وأحكامه مستمدة من الأحكام الأخلاقية المبثوثة في الشرع، ويجعل هذه المفاهيم والأحكام جميعاً، تدخل حيز التحقيق النافع في الآجل نفعه في العاجل»[19].
بهذا، يكون العقل التكاملي أفضل كثيراً من العقل التجزيئي الانتقائي، ما دام يراعي ضوابط التداول العربي – الإسلامي، مثل: اللغة، والعقيدة، والمعرفة. ويتطابق مع علم الأخلاق، ويجمع بين العاجلة والآجلة. وفي هذا، يقول طه عبد الرحمن: «وبفضل هذه النتائج التي توصلنا إليها، نكون قد طرقنا آفاقاً في الممارسة التقويمية للتراث تحمل على الاهتمام بكلية التراث وجمعية دوائره من غير حذف ولا استثناء، كما تجدد الاعتبار لجوانب من الممارسة التراثية تعرضت للتشنيع الباطل، وتحيي النظر في جوانب منها تعرضت للإهمال الفاحش، فضـلاً عن أنها تفتح باب استئناف عطاء التراث من غير انتحال آليات منقولة تنزل عليه إنزالاً.
والراجح أن يتخذ عطاء التراث مسالك مخصوصة غير المسالك التي تتبعها الآليات المستحدثة المنقولة؛ فقد يتطلب التقيد بالعمل الحي، حيث تتطلب هذه الآليات الاكتفاء بالنظر المجرد، وقد يستلزم منفعة الآخر حيث تقتصر هي على منفعة الذات، وقد يشترط المنفعة الآجلة حيث تنحصر هي في المنفعة العاجلة؛ ولا تقل مسالك التراث في العطاء عن المسالك المنقولة استيفاء لمقتضيات العقل والعلم، إن لم تعل عليها علواً؛ فعقل التراث عقل واسع يجمع، إلى النظر في الأسباب، النظر في المقاصد، وعلمه علم نافع يجمع، إلى النظر في الأسباب والمقاصد، العمل بها وفق ما يفيد الآخر ويفيد الآجل، بينما عقل الآليات المنقولة عقل ضيق يقطع الأسباب عن مقاصدها، وعلمها علم مشبوه، لا يوجب العمل ويحتمل الضرر؛ وشتان ما بين العقلين وما بين العلمين»[20]!
وهكذا، ينطلق طه عبد الرحمن من قراءة تكاملية شمولية قائمة على المقاربة التداولية واللغوية للتراث، بتمثل المناظرة في مواجهة محمد عابد الجابري. وبهذا، يمكن الحديث عن منطقين تراثيين مختلفين: منطق الخطاب مقابل منطق الواقع، أو منطق تحييد الخطاب مقابل منطق تسييس الخطاب.
ثالثاً: موقف طه عبد الرحمن من الحداثة الغربية
إذا كان طه عبد الرحمن قد تناول التراث من خلال قراءة نقدية تداولية، فقد تناول كذلك الحداثة الغربية بالفحص والدراسة والنقد، كما يظهر ذلك جلياً في كتابه سؤال الأخلاق[21]، حيث ركز فيه على دراسة الحداثة الغربية في مختلف مفاصلها المادية والمعنوية، وبخاصة تلك الحداثة التي ساهمت فيها شعوب سبقت أوروبا إلى الفعل الحضاري والتمدن الحداثي. وفي هذا، يقول طه عبد الرحمن: «ليست روح الحداثة، كما غلب على الأذهان، من صنع المجتمع الغربي الخاص، حتى كأنه أنشأها من عدم، وإنما هي من صنع المجتمع الإنساني في مختلف أطواره، إذ إن أسبابها تمتد بعيداً في التاريخ الإنساني الطويل؛ ثم لا يبعد أن تكون مبادئ هذه الروح أو بعضها قد تحققت في مجتمعات ماضية بوجوه تختلف من وجوه تحققها في المجتمع الغربي الحاضر؛ كما لا يبعد أن يبقى في مُكنتها أن تتحقق بوجوه أخرى في مجتمعات أخرى تلوح في آفاق مستقبل الإنساني»[22].
اعتمد طه عبد الرحمن في ذلك على فكر انتقادي جريء. وبعد ذلك، انتقل في كتابه روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلاميّة[23] إلى تأسيس حداثة إسلامية معنوية روحية وأخلاقية، تقوم على استقلالية الشخصية الإسلامية بحداثتها الداخلية؛ لأن لكل مجتمع حداثته الخاصة النابعة من ظروفه الداخلية، فلا يمكن تعميمها على باقي الشعوب والأمم الأخرى. ومن ثم تنبني الحداثة الإسلامية على الإبداع والاستقلال والخصوصية الثقافية والحضارية للمجتمع المسلم، وعدم اتباع الغرب في حداثته التي لا تتلاءم مع خصوصيات البيئة الإسلامية. كما أن الحداثة الغربية ليست النموذج التطبيقي الوحيد، بل يمكن الحديث عن مجموعة من النماذج الحداثية. وإذا أراد المسلم أن تكون له حداثة خاصة به، فلا بد من الانطلاق من خصوصياته الداخلية، وليس عبر استيراد الحداثة الغربية. إن تأسيس الحداثة الإسلامية بالنسبة لطه عبد الرحمن ينطلق أساساً من نقد الحداثة الغربية، و«التخلص من التبعية والإمّعية والوصاية التي تمارسها الحداثة الغربية على العقل المسلم»[24].
كما يدعو طه عبد الرحمن إلى قراءة القرآن قراءة جديدة بغية التزود بالطاقة الإبداعية لتحقيق الحداثة الإسلامية الحقيقية. وفي هذا النطاق، يقول طه عبد الرحمن: «لا دخول للمسلمين إلى الحداثة إلا بحصول قراءة جديدة للقرآن الكريم، ذلك أن القرآن، كما هو معلوم، هو سرّ وجود الأمة المسلمة وسرّ صنعها للتاريخ؛ فإذا كان هذا الوجود والتاريخ ابتدآ مع «البيان النبوي» أو قل «القراءة النبوية» للقرآن، فدشنت بذلك الفعل الحداثي الإسلامي الأول… فإن استئناف هذا الوجود لعطائه ومواصلة هذا التاريخ لمساره، وتالياً، تدشين الفعل الحداثي الإسلامي الثاني، كلّ هذا لا يتحقق إلا بإحداث قراءة أخرى تُجدد الصلة بهذه القراءة النبوية، ومعيار حصول هذا التجديد هو أن تكون هذه القراءة الثانية قادرة على توريث الطاقة الإبداعية في هذا العصر كما أورثتها القراءة المحمدية في عصرها»[25].
إذاً، يدعو طه عبد الرحمن إلى تمثل حداثة إسلامية أصيلة نابعة من الذات، تبنى على مقومات روحية وأخلاقية ومعنوية مفارقة للحضارة الغربية المادية.
رابعاً: القـــراءة التقويميـــة
يلاحظ من خلال تأملنا في ما كتبه طه عبد الرحمن، أن منهجيته، في قراءة التراث، منهجية لغوية ومنطقية آلية، ومنهجية شمولية ومتكاملة، ومنهجية عملية، ومنهجية اعتراضية ونقدية، ومنهجية تراثية تلتزم الحياد والموضوعية والعلمية في الحوار التداولي. علاوة على ذلك، فقد تسلح الباحث بترسانة من المفاهيم والمصطلحات العلمية المتشعبة والدقيقة، فيها اجتهاد كبير على مستوى التوليد والإبداع والابتكار، فضـلاً عن رؤية متميزة على مستوى التحليل والاعتراض والوصف والتفريع والتقسيم والتنظيم، ونقد الأفكار المطروحة للمناقشة والاعتراض، واستنباط الحقائق بالاستدلال الحجاجي، والتحكم الجيد في آليات المناظرة، واستيعاب موفق لمبادئ التداوليات، لا يمكن لأحد أن يجاريه في ذلك. والدليل على ذلك كتاباته المتعددة والمتنوعة التي تزخر بالجديد على مستوى الموضوع والمنهج والطرح.
بيد أن هذه المنهجية التراثية، كما يتمثلها طه عبد الرحمن في كتابه هذا، تقدم التراث من زاوية تراثية حرفية وأصيلة، وتنقله في شروطه البنائية اللغوية الداخلية اتساقاً وانسجاماً، من دون غربلته بشكل دقيق لانتقاء الإيجابي منه، وترك السلبي. ثم لا يمكن الحديث عن فائدة التراث ومتعته إلا إذا قرأناه من جميع الجوانب الداخلية والخارجية، باستكشاف بنياته اللغوية والمنطقية أولاً، واستجلاء أبعاده المرجعية والواقعية والسياسية والأيديولوجية ثانياً. أي: لا بد من وضعه في سياقه التاريخي والفكري لمعرفة بنية هذا التراث، واستكشاف دلالاته، وتحديد وظائفه المباشرة وغير المباشرة.
ولا يمكن أيضاً الوقوف عند درجة النقد والاعتراض دون البناء وتقديم تصورات جديدة في قراءة التراث . وفي هذا السياق أيضاً، ينتقد عبد الإله بلقزيز قراءة طه عبد الرحمن، ويدرجها ضمن المقاربة التراثية الاسترجاعية: «نسمي المقاربة الأولى استبطانية لأن من يأخذ بها من الدارسين لا يفعل أكثر من استبطان المعطى التراثي الذي يشتغل عليه، وإعادة إنتاجه بوصفه معطى معاصراً أو قابـلاً للمعاصرة. لا تقدم هذه المقاربة تحليـلاً للمادة التراثية، بل هي تعرضها على نحو استرجاعي استظهاري، وقد تجتهد في إسباغ بعض الجدة على تلك المادة بما يوفر لها حاجتها من الجاذبية. ولعل معظم من كتب من السلفيين العرب في التراث، نحا هذا النحو من المادة التراثية، لأن تأويله انتصر إلى نصها الذي نطقت به؛ وهو ما يقودنا إلى اعتبار هذه المقاربة ترداداً رتيباً للمادة التراثية عينها. على أنه من الإنصاف القول: إن هذه المقاربة شهدت شحنة تقنية نهاجية كثيفة وعالية الحبكة في السنوات الأخيرة بمناسبة قيام بعض الباحثين – مسلحاً بمعطيات علوم الألسنية والسيميائيات الحديثة – باجتراح أدوات تراثية داخلية – غير برانية – لتحليل التراث، ويمثل الباحث المغربي طه عبد الرحمن أحد رواد هذا المنحى وإلى حد ما، وإلى جنب مع دعاة إسلامية المعرفة ممن دعوا إلى تطوير أدوات مقاربة المقدس»[26].
ويعني هذا أن طه عبد الرحمن – بحسب عبد الإله بلقزيز – سلفي معاصر يقرأ التراث بالتراث، من دون الانفتاح على ما هو خارجي وبراني؛ مما أسقط دراسته في الرتابة والتكرار واجترار المادة، على الرغم من توهج القراءة لسانياً وتداولياً ومنطقياً.
وأتفق مع عبد الإله بلقزيز في أن دراسة طه عبد الرحمن منطقية وشكلية وآلية محضة، ظلت أسيرة النقد التراثي الداخلي، من دون الانفتاح على المعطى الخارجي لقراءة المتن التراثي قراءة سياقية وتاريخية وأيديولوجية لمعرفة النقط المضيئة من التراث، وتمييزها من النقط السود، إذ يستحيل عزل الفكر الإنساني عن مولداته السياقية أو معطياته الخارجية؛ لأن النص، بكل حمولاته المباشرة وغير المباشرة، يعكس المعطى الواقعي والذاتي والثقافي بامتياز.
وعلى الرغم من جدة القراءة التداولية المنطقية التي قدمها طه عبد الرحمن، فهي قراءة سلفية معاصرة ؛ لأنها لم تخرج على نطاقها التراثي، بل كانت تعنى بمساءلة الأدوات الشكلية على حساب المضامين والأطروحات الفكرية والأيديولوجية والتاريخية.
وعليه، يلاحظ أن طه عبد الرحمن يعنى بمنطق الخطاب الداخلي، بالتركيز على آلياته اللغوية واللسانية والحجاجية والتداولية، بغية تحرير الفكر المعاصر من شرنقة التبعية والتقليد والتخلف. ويهدف أيضاً إلى تأسيس حداثة عربية – إسلامية ذاتية قائمة على الأخلاق والإبداع الذاتي الأصيل. في حين، لا يتوقف محمد عابد الجابري عند المنطق الداخلي للتراث، بل يعيد قراءته من الخارج، بربطه بسياقه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي من جهة، وقراءته قراءة سياسية أيديولوجية من جهة أخرى. ويعني هذا أن هم طه عبد الرحمن علمي ذاتي خالص. بينما هم الجابري تاريخي وقومي وحضاري، يبحث عن سبل التقدم والنهوض للظفر بالتنمية الشاملة والمستدامة. ومن ثم، لا يمكن أن تتحقق النهضة – فقط – بالمجال التداولي الصرف، أو بإدراك آليات البناء المنطقي للخطاب التراثي، والانغماس فيه إلى الأعماق، بل بتحريكه واقعياً وميدانياً وجدلياً، وتمثله ممارسة وإنجازاً وعمـلاً، قصْد تغيير الواقع المعاصر، والانتقال به من الوعي الكائن نحو الوعي الممكن. ويعني هذا أن طه عبد الرحمن يدافع عن أيديولوجية سلفية معاصرة متنورة، تحنط النص في وسائله اللغوية والمنطقية والتداولية، من دون أن تنصت إلى الواقع السياسي والاجتماعي والتاريخي. في حين، ينطلق الجابري من الموقف السياسي، مدافعاً عن أيديولوجيا الإصلاح والنقد والتعرية والتغيير، وبناء الواقع العربي على أساس البرهان والاستدلال والعقلانية الهادفة البناءة، وتمثل الفلسفة الرشدية في خطاب التغيير.
خاتمة
خلاصة القول، أنه يتبين لنا مما سبق ذكره، أن طه عبد الرحمن ينطلق من منهج تداولي منطقي حجاجي واستدلالي، يقوم على أسلوب المناظرة في تقويم التراث من جهة، وتقويم الكتابات الفكرية المعاصرة التي تناولت التراث العربي – الإسلامي من جهة أخرى. إلا أن هذه القراءة تراثية في أبنيتها ومنهجها وأهدافها، إذ ظلت حبيسة الموروث العربي – الإسلامي، تقوِّمه من داخل الخطاب التداولي، بالبحث عن الآليات الشكلية واللغوية والمنطقية التي تتحكم في توليد الخطاب التراثي، والاعتراض على الفكر العربي المعاصر الذي كان يقرأ التراث من وجهة عقلانية وإبستمولوجية حداثية. ويعني هذا أن طه عبد الرحمن كان يهتم بمنطق الخطاب التراثي. في حين، كان الجابري معنياً بتسييس الخطاب في ضوء أبعاده التاريخية والاجتماعية والثقافية والأيديولوجية. أي أن طه عبد الرحمن كان بعيداً من واقع التراث السياسي وسياقه المرجعي والخارجي، بينما كان الجابري يقرأ هذا الواقع قراءة مادية جدلية، تستقرئ التاريخ والحيثيات السياقية في تماثل تام مع المتن الداخلي.
بتعبير آخر، إذا كان الجابري واقعياً في قراءته للتراث، فإن طه عبد الرحمن كان مثالياً يسيج التراث في قوالب المنطق والتداول والمناظرة التراثية. وبصيغة أخرى، كان طه عبد الرحمن شكلانياً في قراءته للتراث. في حين، كان الجابري مضمونياً في تقويمه للتراث. وشتان ما بين القراءتين: فالأولى تداولية ومثالية وتراثية، والثانية جدلية وواقعية ومعاصرة.
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 462.
(**) جميل حمداوي: كاتب وباحث من المغرب.
البريد الإلكتروني: hamdaouidocteur@gmail.com
[1] ولد طه عبد الرحمن عام 1944 بمدينة الجديدة (المغرب). وهو فيلسوف معاصر، متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق. حصل على الإجازة في الفلسفة، واستكمل دراساته العليا في فرنسا إلى أن حصل على دكتوراه السلك الثالث سنة 1972، برسالته الجامعية «في البنيات اللغوية لمبحث الوجود»، ثم حصل على دكتوراه الدولة عام 1985 بأطروحته «في الاستدلال الحِجَاجي والطبيعي ونماذجه».
وقد تكلف طه عبد الرحمن بتدريس المنطق وفلسفة اللغة في جامعة محمد الخامس بالرباط، من 1970 إلى حين تقاعده عام 2005.
[2] طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ط 2 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005).
[3] محمد عابد الجابري، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، ط 5 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1986).
[4] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، نقد العقل العربي؛ 1 (بيروت: دار الطليعة، 1982).
[5] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، نقد العقل العربي؛ 2 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1986).
[6] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة: دراسات.. ومناقشات (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1991).
[7] عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 20 – 21.
[8] المصدر نفسه، ص 421.
[9] الجابري، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، ص 212.
[10] المصدر نفسه، ص 120.
[11] المصدر نفسه، ص 43.
[12] الجابري، بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، ص 574 – 575.
[13] عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 55.
[14] المصدر نفسه، ص 147.
[15] المصدر نفسه، ص 25.
[16] المصدر نفسه، ص 71.
[17] المصدر نفسه، ص 115.
[18] المصدر نفسه، ص 422.
[19] المصدر نفسه، ص 422 – 423.
[20] المصدر نفسه، ص 423.
[21] طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000).
[22] طه عبد الرحمن، روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلاميّة (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006).
[23] المصدر نفسه.
[24] إدريس الكنبوري، «روح الحداثة وحق الإبداع،» موقع نوافذ.
[25] عبد الرحمن، روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلاميّة، ص 191.
[26] عبد الإله بلقزيز، أسئلة الفكر العربي المعاصر، سلسلة المعرفة للجميع؛ العدد 21 (الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2001)، ص 115 – 116.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.