تمهيد:

يحلل هذا البحث ظاهرة اللامساواة في توزيع الدخل في لبنان من خلال تتبع جذورها ورصد العوامل المؤسسة لها. والمفارقة هي أن تلك الظاهرة ترافقت مع مراحل طويلة نسبياً من الازدهار ولا سيما في الحقبة الفاصلة ما بين الاستقلال 1943 والحرب الأهلية 1975، وسجل بنتيجتها هذا البلد أعلى معدل للدخل الفردي في البلدان العربية غير النفطية. ولم ينعكس النمو المرتفع إيجاباً على معامل عدم المساواة بل ربما تسبب في اتساع الفجوات بين المحافظات والقطاعات والطبقات المختلفة، تبعاً لانحياز السياسات وصانعيها إلى مناطق ومجموعات من دون أخرى.

وبناء عليه، تكمن إشكالية البحث في تلازم نمو الناتج الوطني مع التوزيع غير العادل لعوائده. وهذا الأمر لم يرتبط بسياسات ظرفية بل اتصلت أسبابه بالسياق الذي نشأ فيه اقتصاد جبل لبنان واستمر في إطاره بعد قيام دولة لبنان الكبير وفي حقبة الاستقلال وما بعدها. وسينطلق البحث من فرضية مفادها أن اللامساواة في توزيع الثروة والدخل في لبنان، ليست مسألة اقتصادية صرفة وآنية فحسب، بل إن جذورها تمتد إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين تضافرت العوامل الخارجية والطائفية والاجتماعية على إعطاء النظام الاقتصادي للبنان طابعاً غير متوازن. ولا نغفل هنا نتائج الانفتاح التجاري غير المحدود للبنان والمنطقة على الخارج، والذي قام على قاعدة التبادل غير المتكافئ، فمهَّد لهيمنة الرأسمال الغربي وأسَّس للتبعية.

سنعتمد في البحث المنهج التحليلي مستندين إلى تتبع المعطيات التاريخية التي رصدها الباحثون ولا سيما منهم الذين قلّبوا وثائق الدبلوماسية الغربية المتعلقة بلبنان والمنطقة، في الربع الثالث من القرن العشرين، أي في الحقبة التي اكتسب خلالها الاقتصاد اللبناني وجهه الليبرالي وحددت في أثنائها اتجاهاته الأساسية.

لم نعثر على أعمال مكرسة على نحو خاص لتحليل جذور التفاوت في لبنان، لكن كتباً وأبحاثاً لامست هذه الإشكالية، نذكر منها: كتاب تاريخ لبنان الحديث من الإمارة إلى اتفاق الطائف، لـ فواز طرابلسي (2013)؛ ودراسة سليم نصر: «بيروت الكبرى 1975 وحدود الاندماج الاجتماعي» (1981)؛ وكتاب مسعود ضاهر: الجذور التاريخية للمسألة الطائفية في لبنان (1981)؛ وكتاب بطرس لبكي عن التاريخ الاقتصادي للبنان في نهاية الحقبة العثمانية 1918 – 1940 (1984). إلى جانب دراسات مهمة لباحثين أجانب أبرزها: دراسة كلود دوبار (مع سليم نصر) عن الطبقات الاجتماعية في لبنان (1976)، ودراسة كارولين غايتس عن الدور التاريخي للاقتصاد السياسي في لبنان (1997)، ودراسة أيرين جندزاير (Irene Gendzier) عن تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في لبنان والشرق الأوسط في السنوات (1945 – 1958)، ناهيك بنتائج دراسات بعثة إيرفد (Irved) المنشورة في 1960 – 1961. وجميع هذه الأعمال ولا سيما هذه الأخيرة قدمت مادة غنية ووافرة ومفيدة في موضوع البحث، لكنها لم تولِ مسألة التفاوت اهتماماً منفصـلاً عن التحليل الاقتصادي والاجتماعي العام لأوضاع لبنان في الفترات الزمنية التي درستها.

مقدمة

اتخذ التفاوت الاقتصادي في لبنان منذ القرن التاسع عشر طابعاً مناطقياً وطائفياً، لكنه كان يعكس في واقع الحال ظروف التبعية وشروط عملها، التي قضت بحصر قنوات التبادل والإنتاج في مناطق محددة، وداخل دوائر اجتماعية ضيقة. وكان لتقليص قاعدة التخصص الإنتاجي من جهة، والارتباط برأس المال الأوروبي من جهة ثانية، دور حاسم في تركيز النشاط الاقتصادي في أيدي قلّة من الأسر. صحيح أن تطور العاصمة بيروت في ما بعد، ونمو دورها وسيطاً بين الخليج والعالم ساعد على توسيع نطاق المستفيدين من النمو الاقتصادي في مرحلة ما بعد الاستقلال، إلا أن الطبقة التجارية التي عرفت صعوداً كبيراً منذ أواسط القرن الماضي، كانت تتغذى أيضاً من الأدوار الخارجية التي تؤديها المدينة على الصعيدين المالي والخدماتي.

بعد الاستقلال صار النظام الطائفي هو الآلية التي يتم من خلالها توزيع الثروة، وفي أحضانه نمت طبقة – اقتصادية – سياسية تتبادل المنافع في ما بينها، وتستفيد من ثلاثة عوامل: القوة السياسية المكتسبة من حداثة عهد النظام السياسي الاستقلالي وتمتُّعه بقاعدة مساندة عريضة وفرها له ميثاق عام 1943؛ لمكاسب الموروثة من مرحلتي المتصرفية والانتداب التي في أثنائها تحكمت حفنة قليلة من الأفراد بعمليات الاستيراد والتصدير؛ أما العامل الثالث، فهو الدور الجديد لبيروت مع تنامي اقتصاد النفط كقناة مالية بين الدول الخليجية المنتجة والدول الغربية المستوردة لهذه السلعة الحيوية.

كانت الطائفية ذات البعد المؤسساتي المنظم، هي السبيل الذي اختاره اللبنانيون لبناء إجماع إيجابي بديل لانقسام ولاءاتهم بين فرنسا بالنسبة إلى المسيحيين وسوريا/الداخل العربي بالنسبة إلى المسلمين قبل الاستقلال. ومع أن التقاسم الطائفي للسلطة نجح في إقامة دولة ما بعد الاستقلال، لكنه كان عقبة أمام التحديث السياسي والثقافي، ومانعاً من تطوير منظومة الحقوق السياسية والاجتماعية/الاقتصادية. صحيح أن النظام الطائفي ساعد على وجود دينامية اقتصادية ذات منحى ليبرالي، إلا أن تداخل هذه الدينامية مع أخرى معاكسة ناتجة من تضارب أو تلاقي المصالح الطائفية، أبطأ النمو الاقتصادي، وأدخل لبنان بين فترة وأخرى في دوامة الأزمات السياسية والأمنية المتعاقبة التي كانت أثمانها الاقتصادية باهظة.

انعكس التكوين السياسي والاقتصادي للبنان على التوازنات القطاعية والطبقية منذ الاستقلال؛ ففي عام 1948، كانت الزراعة والصناعة تؤمنان حوالى ثلث الناتج الوطني، وما يقارب 90 بالمئة من مداخيل السكان، وبالمقابل استحوذ 10 بالمئة ممن يعتاشون من أنشطة الخدمات على أكثر من ثلثي الناتج. وفي عام 1949، كان عمال التجارة يكسبون ضعف ما يتلقاه عمال الزراعة وأكثر بالثلث من عمال الصناعة. وبلغ متوسط دخل أرباب العمل الصناعيين 23 ضعف دخل العمال الصناعيين، وكان أصحاب المؤسسات الصغيرة الناشطة في التجارة الداخلية، ينالون سبعة أضعاف ما يناله عمالهم. وفي عام 1954، كان متوسط دخل القاطنين في بيروت يزيد على خمسة أضعاف القاطنين في المناطق الريفية والزراعية. وقد بينت دراسة بعثة إيرفد أن 4 بالمئة من اللبنانيين استحوذوا على 33 بالمئة من الناتج، في حين أن النصف الفقير من اللبنانيين استحوذ على 18 بالمئة فقط‏[1].

هذا التفاوت المناطقي والطائفي والطبقي ساهم في تعميق الانقسامات الاجتماعية في لبنان، فعلى سبيل المثال كان أحد التصورات الشائعة والمثيرة للنزاع بين الفئات اللبنانية، أن معظم القطاعات المالية – التجارية المربحة تكتلت في أيدي المسيحيين، بينما تمركز نشاط المسلمين الاقتصادي في القطاعات ذات القيمة المضافة المنخفضة. ومن التصورات الأخرى أن المسيحيين ينتمون غالباً إلى الطبقة العالية والوسطى فيما المسلمون يشكلون غالباً الطبقة الدنيا.

وسنحلل في الفقرات الآتية العوامل الرئيسة التي مهدت لقيام اقتصاد غير متوازن، اتسم بقدر عال من عدم المساواة في توزيع المداخيل والثروة، مع التركيز على الآتي: تخلُّف النظام الرأسمالي في لبنان وتبعيته، الترابط بين أنواع التمييز الطائفي والمناطقي والقطاعي، وتغلغل جماعات النفوذ في الدولة.

أولاً: رأسمالية طرفية تابعة

يعود اندماج لبنان المبكر في السوق الرأسمالية العالمية، إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من خلال قناتين: الأولى، تتمثل في تعزيز التبادل التجاري مع أوروبا وتصدير خيوط الحرير وزيت الزيتون وغيرها من المواد الأولية أو المنتجات ذات القيمة المضافة المنخفضة. والثانية، هي زيادة حجم الاستثمار الأجنبي في قطاعات تخدم المصالح الاقتصادية للدول الأوروبية، التي دعّمت نفوذها في لبنان والمنطقة على حساب الدولة العثمانية؛ فهذه الأخيرة اضطرت وبسبب تراجع قوتها إلى عقد اتفاقيات مع الدول الأوروبية (بدءاً من بريطانيا عام 1838) قيدت احتكاراتها الداخلية وفتحت الباب واسعاً أمام الرأسمال الأوروبي للتغلغل في قطاعات حيوية، لتتحول المنطقة تدريجياً إلى مصدّر صافٍ للمواد الأولية ومستورد للسلع النهائية المصنعة.

وفي لبنان عرقل نمو صناعتي التبغ والنسيج، خلال المدة المذكورة الأنشطة الاقتصادية الأخرى ولا سيما الزراعة والصناعات اليدوية. فإلى جانب معامل لف خيوط الحرير، أقيمت مئات معامل التبغ، التي شغلت ما يتراوح بين 2000 و4000 عامل مأجور، وكذلك قام 30 رأسمالياً بتشغيل ما يقارب 4200 عامل مأجور في مراحل صناعة النسيج المختلفة (أنشئ أول مصنع للنسيج في لبنان عام 1840). وعلى الرغم من أن إدارة التبغ الفرنسية سيطرت على تشغيل وتمويل قطاع التبغ، فإن رؤوس الأموال المحلية حلّت تدريجياً محل الأجنبية، وبحلول عام 1862، صار اللبنانيون يملكون ثلاثة أرباع شركات لف الحرير وأكثر من ستين بالمئة من الشركات التجارية التي تتعامل مع أوروبا‏[2]. وهذا ما يعد البذرة الأولى لنشأة الرأسمالية اللبنانية التي اكتسبت خصائص الرأسماليات الطرفية كما سنبين لاحقاً. وفي هذه الأثناء حصل تراجع في دور خدمات المرور (الترانزيت) التي كان يؤديها مرفأ بيروت الملاصق لجبل لبنان، إذ انخفضت حصته من حركة التجارة الخارجية لبر الشام من 57 بالمئة عام 1833 إلى 30 بالمئة عام 1915، لصالح خط طرابلس حمص‏[3].

كانت تبعية اقتصاد جبل لبنان لصادرات السلع الأولية، سبباً في حدوث عجز طويل الأمد في التجارة الخارجية (عبر مرفأ بيروت). تضاعفت قيمة هذا العجز ست مرات ما بين عامي 1912و1941، بالتزامن مع التبدلات التي أدخلتها الصناعة على بنية الأسعار، كما يظهر من تراجع قيمة السلع الأولية قياساً إلى السلع المصنعة في التجارة العالمية من 147 بالمئة في 1876 – 1880 إلى 118 بالمئة، 1926 – 1930‏[4].

وخلال هذه المدة، شهدت تركيا ومصر وبر الشام بما فيها لبنان، تدميراً لصناعاتها ومحترفاتها تحت تأثير التقدم الصناعي الأوروبي، وزيادة تخصص هذه البلدان بإنتاج المواد الأولية (خصوصاً الحبوب وخيوط النسيج)، وبينما بلغت نسبة المنتجات الصناعية من مجموع الصادرات العثمانية عام 1914، 13 بالمئة (والباقي مواد أولية بما فيها التبغ وحبوب)، كان 59,4 بالمئة من واردات الدولة العثمانية سلعاً مصنعة‏[5].

وبمرور الوقت تمركزت تجارة الحرير في أيدي التجار الأوروبيين وخصوصاً الفرنسيين منهم، وصار لهؤلاء حصص في قطاع إنتاج الحرير اللبناني، ما منحهم القدرة على توجيه السياسة الفرنسية في المنطقة والتأثير فيها قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها ‏[6].

لم تنحصر نتائج الاعتماد على إنتاج خيوط الحرير وتجارته في تكريس الهيمنة الاقتصادية على اقتصاد جبل لبنان، بل أسس ذلك لنمط مستدام من عدم المساواة في الإنتاجية بين القطاعات، ولاختلال مماثل في التوزيع الاجتماعي للمداخيل. في ذلك الوقت كان قطاع الحرير والنسيج مسؤولاً عن إنتاج 62 بالمئة من السلع المنتجة في جبل لبنان، ومصدر رزق 50 بالمئة من السكان. في مقابل توفير القطاعات الأخرى حوالى ثلث السلع المنتجة وتشغيل 50 بالمئة الأخرى من السكان، أي أن إنتاجية ودخل العاملين في قطاع الحريري بكل تفرعاته تساوي 1.6 تقريباً من إنتاجية ومداخيل الأفراد في باقي القطاعات.

ويبرز التباين الاجتماعي على نحو أوضح في توزيع عوائد بيع الحرير، إذ إنّ أرباب العمل استحوذوا على 37 بالمئة تقريباً من مجموع القيم المضافة مقابل 63 بالمئة للعمال. مع العلم أن مجموع المغازل عام 1914 وعددها 195 مغزلاً كانت تشغل 14000 عامل (بمعدل 72 عامـلاً للغزل الواحد)، ما يعني أن دخل صاحب المغزل يساوي 44.5 ضعفاً من دخل العامل الواحد‏[7] .

وقد حدث أمر مماثل بدءاً من أواسط القرن العشرين، حينما تحكمت الروابط الخارجية للاقتصاد اللبناني في دوره ووظيفته، فزادت تبعيته للخارج وتأثرت بذلك سلباً عمليات إعادة التوزيع. ومنذ ستينيات القرن المذكور، اعتمدت الدول الغربية سياسة مقصودة لاجتذاب الفوائض النفطية، فإلى جانب الضغوط التي مارستها على الدول النفطية في الخليج لتوظيف أموالها في أوروبا، عمدت إلى رفع الفوائد‏[8]. وتحول لبنان إثر ذلك إلى معبر للبترو دولارات النفطية، ولم تعد المصارف اللبنانية وسيطاً يخدم حاجات السوق المحلية ولا سيما في المجال الاستثماري، بل جزءاً من آلية تحويل الأموال من الخليج إلى أوروبا. وعشية الحرب الأهلية اللبنانية، سيطرت المصارف غير اللبنانية على حوالى ثلثي الودائع، كما إن ما يوازي 48 بالمئة من الودائع كان عام 1970 موظفاً في الخارج‏[9].

لقد ترافق صعود النموذج اللبناني في القرنين التاسع عشر والعشرين مع التغلغل الغربي في المنطقة. وفي الوقت الذي كانت النخبة النافذة والمثقفة في لبنان تصر على وصفه بـ سويسرا الشرق، بني النظام على أسس ضعيفة سرعان ما بدت هشاشتها أثناء الحرب الأهلية. وتحت وطأة التوسع الأوروبي، وصعود طبقة الأعمال اللبنانية المرتبطة بالغرب، قام نمط التنمية في لبنان على ثلاثة أسس مقوضة للمساواة: 1 – إعادة توجيه الزراعة باتجاه التصدير إلى السوق الدولية. 2 – تدمير الحرف التقليدية من دون أن تحل محلها صناعة قوية. 3 – خلق بنى تحتية مالية، وتجارية وخدماتية، لم يكن هدفها خدمة الاقتصاد المحلي بل الاقتصاد الأوروبي‏[10] ومن ثم الأمريكي‏[11]. والنتيجة هي تمركز ثمار النمو لدى طبقة مالية – تجارية محدودة وفي أيدي البيروقراطية السياسية المتحالفة مع الغرب من جهة، والمستفيدة من ضعف السلطة وهشاشة تركيب النظام من جهة ثانية. أما المتضررون من هذا النمط والمهمشون فيه، فكانوا العمال الزراعيين، وصغار الملّاكين الزراعيين الذين شكلوا نصف المقيمين حتى ستينيات القرن الماضي، ولحق الضرر أيضاً وللسبب نفسه، بالحرفيين والعمال في المدن، وصغار الصناعيين وغيرهم من العناصر المهمشة. أي باختصار الغالبية العظمى من السكان.

وتذكر كارولين غايتس في كتابها عن الدور التاريخي للاقتصاد السياسي في تنمية لبنان الحديث، أن الرأسمالية اللبنانية الممهورة بتمركز الثروة والتبعية تعكس أمرين: بنية رأسمالية طرفية (Peripheral Capitalism)، تأسست في القرن التاسع عشر، واتسع نطاقها بعد عام 1945. وقيام نموذج للتنمية فيه أقلية من المستفيدين وغالبية من المتضررين‏[12].

وهناك وجهان رئيسيان يميزان الرأسمالية الطرفية عن رأسمالية المركز: الأول، بقاء أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالي متعايشة مع النمط الرأسمالي. والثاني، تبعية أنظمة الإنتاج الرأسمالية المنتشرة في الأطراف لاقتصادات المركز. والمظهر الرئيس لذلك وفق ما يشرحه سمير أمين، هو أن المجتمعات التابعة تعاني ضعف الروابط بين إنتاج سلع الاستهلاك من جهة، وسلع الإنتاج (الترسملية) من جهة ثانية. وهذا هو الجزء الأكثر وضوحاً من متلازمة التبعية القائمة على ضعف الروابط الداخلية في الاقتصاد لمصلحة الروابط الخارجية‏[13].

يصعب الركون إلى هذين الأمرين وحدهما في وصف رأسمالية الدول الأقل نمواً، إذ إنها تتأثر أيضاً بسيرورات سياسية واجتماعية ذاتية المنشأ، مثل انخراط النخبة اللبنانية في علاقات تبعية طويلة الأمد مع الخارج لتقوية نفوذها الخاص أو نفوذ الجماعة التي تمثلها في ميزان الصراع الداخلي. إن النمو غير المتوازن في لبنان الذي عرّض الزراعة للركود، والصناعة للتقلبات، ورفع من حصة بعض فروع القطاع الثالث، لا يمكن فصله عن تصور الفئات المسيطرة لمصالحها المباشرة، المتمثلة في تقوية قبضتها على السلطة، وعرقلة صعود الفئات المهمشة، والتكيف مع متطلبات الموقع السياسي الذي أريد لهذا البلد التقوقع فيه داخل المنطقة.

ومع ذلك لم يخلُ الاقتصاد اللبناني من ملامح الرأسماليات الطرفية، التي عبرت عن نفسها خصوصاً في الترابط القطاعي الضعيف داخلياً والقوي مع الخارج، على نحو انعكس سلباً على النمو الفعلي الذي سجل معدلات أدنى من معدلاته الممكنة، وتسبب في نشوء بطالة طويلة الأمد مترافقة مع تشغيل ناقص وتفاقم ظاهرة اللامساواة، ممهداً بذلك للاضطرابات والحروب الداخلية التي ضربت لبنان ولا سيما في الربع الأخير من القرن العشرين.

لا يبدو النموذج اللبناني أيضاً، وبتأويلٍ ما، بعيداً من منطق نظرية التبعية؛ فسّرت هذه النظرية ديمومة التخلف بالتبادل غير المتكافئ الذي يتولى نقل الفائض الاقتصادي من الدول المتأخرة إلى الدول المتقدمة، وهذا ما أورده على نحو خاص كل من أرغيري إيمانويل وبول باران وراؤول بريبش‏[14] وظهر في أعمال مدرسة التحليل البنيوي لمعوقات التنمية. لكن نقل الفائض يأخذ في لبنان منحىً مختلفاً، لاعتماد اقتصاده على الحقن المبالغ به والمتكرر بالأموال الآتية من الخارج والتي تتدفق إلى قطاعات لا تولد الكثير من فرص العمل، أو تتحول فوراً إلى ريوع مالية وعقارية. وعوضاً من أن يتسرب الفائض الاقتصادي من قناة التبادل التجاري وحدها، يتسرب أيضاً من قناة الهجرة التي يمر من خلالها تيار متواصل من الكفاءات والمهارات المغادرة. أي أن لبنان يقايض رساميله البشرية بأموال ضعيفة الإنتاجية وقليلة التأثير في الإنتاج والتشغيل والعمالة.

ثانياً: الدينامية الطائفية للتباين المناطقي والطبقي

كان الفرنسيون خلال حكمهم للبنان يميلون إلى التعامل مع التجار المسيحيين لأسباب عديدة قد يكون بعضها ثقافياً‏[15]، لكن نفوذ هؤلاء التجار كان قد تعاظم قبل ذلك أثناء الحكم العثماني، عندما صارت تجارة الاستيراد الدولية مع أوروبا في أيديهم، في حين انحصر دور التجار المسلمين بالتجارة الداخلية بين مرافئ السلطنة. وعشية الحرب العالمية الأولى كان حوالى عشرة بالمئة فقط من البيوتات المصدرة للحرير تعود إلى مسلمين، مع أقلية ضئيلة منهم كانت تعمل في المهن الحرة‏[16]، وما بين الحربين العالميتين أحكم المسيحيون قبضتهم على استيراد وتصدير الأصناف الرئيسة، وآل إليهم تمثيل شركات التأمين والمال والنقل البحري الأوروبية. ويكشف تحليل بنية صناعة الحرير في السنوات 1913 – 1915، عن بذور التمركز المناطقي والطائفي الذي طبع الاقتصاد اللبناني بطابعه في ما بعد، إذ امتلك المسيحيون قرابة 97,3 بالمئة من المغازل التي كانت تصدّر منتجاتها إلى الخارج، وشكل المسيحيون أيضاً قرابة 92 بالمئة من مجموع العاملين في هذا القطاع.

وكان التعليم مادة خصبة أيضاً للتباين الطائفي والمناطقي؛ ففي الخمسينيات من القرن الماضي مثـلاً بلغت نسب الأمية عند الطوائف الإسلامية ما بين 51 بالمئة و79 بالمئة، وتراوح المعدل نفسه ما بين 31 بالمئة و50 بالمئة عند الطوائف المسيحية. وبرز تفاوت حاد أيضاً في هذه المعدلات بين الأرياف من جهة، ومنطقتي بيروت وجبل لبنان من جهة ثانية‏[17]؛ وفي عام 1959 عدّ 49 بالمئة من السكان في خانة الفقر والفقر الشديد، في مقابل 14 بالمئة من الميسورين والأغنياء. وظل التفاوت على حاله، فبعد عقد من ذلك التاريخ كان 4 بالمئة من السكان يستحوذون على حوالى ثلث الناتج في مقابل 18 بالمئة لنصف السكان الأفقر‏[18].

ساهم هذا التفاوت في زيادة حدة النزاع الطائفي‏[19]، الذي أدى بدوره إلى توسيع الهوة بين الفئات الاجتماعية، أي أن العلاقة متبادلة وجدلية بين الأمرين. وأوجد التوزيع الطائفي للأنشطة الاقتصادية الرئيسة، لأسباب تاريخية وسياسية، تطابقاً نسبياً بين التباين الطبقي والطائفي، فمثـلاً كان مسيحيو بيروت يهيمنون على القطاعات المالية/التجارية الأكثر ربحية في وقت كان فيه المسلمون يسجلون حضوراً ملموساً في القطاعات الصناعية الواقعة في أدنى سلم القيم المضافة‏[20]. وشكل المسلمون عموماً الجزء الأكبر من الطبقة العاملة وكان المسيحيون هم غالبية الطبقتين الوسطى والعليا الذين امتلكوا أيضاً معظم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

احتسب يوسف صايغ، توزع الأعمال والمنشآت الاقتصادية في لبنان نهاية الخمسينيات طائفياً فوجد أن حصة المسلمين كانت 16.7 بالمئة في الصناعة 15.3 بالمئة في قطاع المال، 11.1 بالمئة في الخدمات، والباقي للمسيحيين. لكن النمو المتراكم ساهم في تحسين هذه المعدلات على نحو ملحوظ لمصلحة المسلمين، الذين استفادوا من حركة التبادل مع البلدان العربية، وحظي هؤلاء في أوقات لاحقة بما يتراوح بين ربع وثلث المؤسسات التجارية والصناعية والمصرفية عام 1973. ومع ذلك بقي التفاوت الطائفي قائماً حتى بداية الحرب الأهلية؛ ففي عام 1976، قدرت نسب شاغلي الوظائف العليا في القطاعات الرئيسة على النحو الآتي: 105 للمسيحيين مقابل 21 للمسلمين في الصناعة، 11 إلى 2 في القطاع المصرفي، و40 إلى 5 في الخدمات. ولاحظ ديفيد غوردون، أن دخل المسيحيين كان عام 1980 أعلى بـ 16 بالمئة من الدروز وبـ ـ58 بالمئة من الشيعة‏[21].

وقد عالجت دراسة صدرت مؤخراً‏[22] الترابط في حقل الاقتصاد الكلي بين الديانة ومستوى التنمية الاقتصادية، فوجدت أن الانتماء الديني يؤدي في لبنان دوراً محفزاً أو محبطاً للتنمية. وفي التحليل القياسي ظهرت علاقة سببية مقبولة إحصائياً بين هذا الانتماء وكل من: مستوى الرأسمال البشري (معبراً عنه بمؤشر التعليم) والحركية الاجتماعية في لبنان. وقد اعتمدت هذه الدراسة على عمل بانيزا وخوري (Panizza and Khoury) اللذين قاسا الحركية الاجتماعية‏[23] على مستوى المجموعات الدينية في لبنان، وتبين لهما أن هذا البلد يتسم بمستوى شديد الانخفاض من الحركية مقارنة بالدول الأقل تقدماً في أمريكا اللاتينية. لكن المسيحيين الموارنة والمسلمين الشيعة هم بحسب الدراسة المجموعتان الأكثر حركية، وتوصل الباحثان أيضاً إلى أن الفقراء هم أعلى حركية من الناحية الاجتماعية مقارنة بغير الفقراء.

ويثبت القسم التطبيقي من الدراسة‏[24] التي شملت عيّنة من الطلاب في بيروت موزعين على كل المذاهب، أن القرارات الاقتصادية للأفراد والوحدات الاقتصادية تتأثر بالانتماء الديني. وإذا كان متغير الدين لا يمكن تجاهله في دراسة السلوك الاجتماعي والاقتصادي للبنانيين، فإن هناك عناصر أخرى ذات تأثير على هذا الصعيد، مثل حب اللبنانيين للمخاطرة، والتفاعل بين الانتماء الاجتماعي والنظرة إلى متغيرات ذات صلة بدور الدولة مثل احترام القانون والموقف من مسألة العدالة الاجتماعية.

ومن ناحيته، قدر البنك الدولي الكلفة السنوية للحكم الطائفي في لبنان بـ 9 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وعلى ما تلاحظ دراسة صادرة عنه‏[25]، فإن الهيكلية القائمة تصعّب إمكانية مساءلة ومحاسبة المقربين من النخبتين الطائفية والثرية النافذتين على مخالفاتهم القانونية، وهذا ما يعزز برأي الدراسة نفسها سلطة الأقلية المسيطرة ويغذي نظام المحسوبية.

لكن التوازنات الاجتماعية/الطائفية المؤثرة في النمو والمتأثرة به لم تبقَ على حالها، بل إنها تفاعلت مع التحولات الديمغرافية التي عرفها لبنان لتخلف آثاراً سياسية واقتصادية في آن معاً. صارت الأفضلية العددية للمسلمين مقارنة بالمسيحيين، وحصل تغير مواز في التوزيع السكاني مع حدوث موجات هجرة داخلية نحو العاصمة حملت مئات ألوف من اللبنانيين، المسلمين منهم خصوصاً، إلى تخوم العاصمة وأحيائها. وبحسب ما تذكر إليزابيث بيكار، فإن المسلمين الشيعة القادمين من الجنوب والبقاع، كانت لديهم حوافز أقوى من المجموعات اللبنانية الأخرى للانخراط في أيديولوجيات وعقائد تنادي بالتغيير الجذري. ومن بين أسباب التعبئة السكانية على ما تذكره الباحثة، الأسباب الاقتصادية التاريخية المتمثلة خصوصاً بالهيمنة الإقطاعية (والتوزيع غير العادل للسلطة بين المجموعات)، فقد كان الإقطاع قبل الحرب الأهلية يحتكر التمثيل النيابي لمناطق الجنوب (جبل عامل)، ويدير شبكات إعادة توزيع المال العام على نحو مجحف ويكرس في آن معاً الزبائنية ذراعاً للتفاوت الاقتصادي المتحَكّم به سياسياً. وبحسب بيكار، كان الاقتصاد الرأسمالي يخترق بفظاظة البلد من خلال قنوات الريع الزراعي وتدفق أموال المهاجرين، الأمر الذي صاحبه ظهور بروليتاريا عمالية في ضواحي بيروت تشكلت من النازحين. وقد تفاعل كل ذلك على نحو أجبر الطبقات المهيمنة على تقوية شبكات الزبائنية للحفاظ على قوتها وكبح مسارات التعبئة الشعبية الجارية‏[26].

ويؤدي العامل الطائفي دوراً حاسماً في توزيع الأموال العامة، كما يتبين من دراسة السلطي وشعبان، عن دور الطائفية في تخصيص الموارد الحكومية في لبنان‏[27]. خلصت الدراسة إلى وجود تطابق لافت جداً بين نسبة الأموال المخصصة للمحافظات ذات غالبية طائفية ومذهبية معينة وحجم الطائفة والمذهب في لبنان، أي أن هناك تقارباً كبيراً بين نسب الأموال المنفقة وبين أحجام الطوائف وتوزعها على المحافظات، فنجد أن النسبة متماثلة كلياً عند الشيعة (27 بالمئة من الناخبين و27 بالمئة من الإنفاق)، وعند الدروز (6 بالمئة للنسبتين)، فيما تفوق نسبة هذه الأموال حجم الطائفة أو المذهب قليلاً عند السنة (27 بالمئة من الناخبين و30 بالمئة من الإنفاق) وتنقص قليـلاً عند الموارنة عموماً (19 بالمئة من الإنفاق و21 بالمئة من الناخبين)‏[28]. وهذه النتيجة تناقض مبادئ الإنماء المتوازن الذي يجب أن يراعي الاحتياجات الفعلية.

نستنتج هنا أن العامل الطائفي متقاطعاً مع الزبائنية السياسية ذات الطابع المناطقي، يتحكم أكثر من غيره من العوامل، بقنوات إعادة التوزيع الرسمية، ويعطي التفاوت الاجتماعي طابعاً مستداماً، مقلـلاً بالوقت نفسه من أثر السياسات المالية الهادفة إلى تحسين ميزان تقاسم الدخل والثروة.

وللانتماء الطائفي دور قوي أيضاً في رسم خطوط إعادة التوزيع التي تتم على الصعيد الأهلي وخارج النطاق الحكومي. وفي لبنان لا يمكن التهوين أبداً من شأن اقتصاد الإحسان؛ فالشريحة السكانية الأدنى دخـلاً (أقل من 200 دولار أمريكي شهرياً بحسابات عام 2004)، تتلقى 51 بالمئة من مواردها بالاعتماد على العمل وما تبقى تحصل عليه من مؤسسات التضامن الأهلي. أمّا الفئتان اللاحقتان في سلم الدخل، أي ما بين 200 دولار و333 دولاراً وما بين 333 دولاراً و533 دولاراً، فتعتمدان على الإحسان لتأمين 27 بالمئة و18.1 بالمئة على التوالي من مواردها. وهذا يعني أن الفئات الثلاث المذكورة وتمثل 41 بالمئة من المجموع الإجمالي للأسر، تعتمد في معيشتها على المساعدات. ويأتي الدعم الأسري عادة من أفراد وعائلات مقيمة في البلدان المجاورة بمبالغ يصل متوسطها إلى 30 بالمئة تقريباً من مداخيل العمل. لكن النسبة الكلية لمتوسط التحويلات قياساً إلى عائد العمل تصل إلى 40 بالمئة بالنسبة إلى مجموع الأسر المتلقية، إذ يبدي 40 بالمئة من المهاجرين اهتماماً بتحويل أموال لعائلاتهم في الوطن‏[29].

وتعد المؤسسات الخيرية ذات اللون الطائفي المصدر الثاني للمساعدات بعد تحويلات المغتربين، والتي تساعد على نحو شبه حصري أفراد وعائلات من لونها الطائفي؛ ففي الحقل الصحي أفاد 8,5 بالمئة من الأسر اللبنانية أنها تتلقى مساعدات مالية، و7.1 بالمئة مساعدات طبابة و4.9 بالمئة دعم استشفائي بحسب إدارة الإحصاء المركزي‏[30].

ويظهر استطلاع للرأي أجري عام 1987، أن 67 بالمئة من المستفتين أظهروا ثقة بالأقارب مقابل 20 بالمئة و15 بالمئة على التوالي بالزملاء والجيران، ما يدل على قوة الروابط العائلية – الأهلية مقارنة بالروابط الفردية – المدنية. وينعكس ذلك على اقتصاد الإحسان وشبكات التوزيع الخاصة به؛ ففي الاستطلاع نفسه، صرح 65 بالمئة من المستطلعين أن الانتماء الطائفي هو عامل مهم في التضامن والمساعدة، وعبر 57 بالمئة من أفراد العينة عام 1987 عن قربهم من أبناء طائفتهم سواء كانوا أغنياء أو فقراء، وقد ارتفعت هذه النسبة إلى 87 بالمئة عام 2000‏[31].

وإلى جانب مصدرَي الدعم هذين (التحويلات والمؤسسات الخيرية الطائفية)، هناك الزبائنية السياسية المشار إليها أعلاه، فالسياسيون يبدون حرصاً مدروساً على مساعدة المواطنين القاطنين في مناطق نفوذهم السياسي طمعاً بنيل أصواتهم، ما يحولهم من مقترعين إلى زبائن.

1 – استنتاج: الدينامية الطائفية بصفتها فعـلاً سياسياً

الدلالة المعبرة لكل ما تقدم، هي أنّ الانتماء الطائفي أكثر قوة من الانتماء الطبقي في تحديد العلاقات الاقتصادية داخل المجتمع. لكن العامل الطائفي ليس مستقـلاً ولا مكتفياً بنفسه، بل يعمل على نحو متفاعل مع العوامل الاقتصادية والاجتماعية، التي تضخم الفروقات في ما بين الجماعات، كما إنه أرض خصبة للاستغلال السياسي. ويرى الاقتصادي الأمريكي ديفيد مادلاند، المهتم بقضايا عدم المساواة الاقتصادية والسياسات الاجتماعية في كتاب له عن الطبقة الوسطى‏[32]، أن ازدياد حدة التباين في توزيع المداخيل يؤدي إلى تراجع الثقة الاجتماعية، التي تتسبب بدورها بعزلة جغرافية بين الفئات ذات الدخول المختلفة، وبروز أنماط حياة وعيش منفصلة. ويعزز انخفاض التفاعل بين الطبقات الانقسامات الفئوية العرقية والإثنية والطائفية.

وعلى ما يقوله ميخائيل هدسون في هذا السياق، فإن الطائفية الممأسسة (ذات الطابع المؤسساتي)، أكسبت الأفراد مزيداً من الكفاءة السياسية، لكنها جعلت النظام الاقتصادي – السياسي اللبناني برمته يصرف طاقته الأساسية في التصحيح بدلاً من الفعل‏[33]، أي في استدراك الأخطاء وجوانب الخلل التي تضعف النفوذ السياسي بدلاً من القيام بمبادرات تعزز التقدم والتنمية؛ ففي عهد الرئيس الأول بعد الاستقلال بشارة الخوري، كان الهم الأول هو تكوين السلطة والمحافظة عليها، لكن في العهود اللاحقة انصب الاهتمام على حل المشاكل الكبيرة الناشئة عن اهتزاز التوازن الطائفي الحرج تارة، وتضارب المصالح بين الجماعات طوراً، أما الفساد والمحسوبية والمحاصصة والهدر، فكانت الآليات التي اعتمدها النظام الطائفي للتصحيح والمحافظة على استمراريته خدمة للمستفيدين منه. ولم يصب ذلك في مصلحة القاعدة الاجتماعية العريضة للطوائف، بل لحساب فئة قليلة جداً منهم. وكان السياسيون ممثلو الطوائف في مرحلة ما بعد الاستقلال هم الرابح الأكبر غالباً. لقد استفاد هؤلاء من الشراكة مع المصالح الأجنبية، واستخدموا السلطة المتاحة لهم من أجل إضفاء الشرعية على احتكاراتهم الممولة بالرساميل العربية والأجنبية‏[34]. ويتقاطع هذا الاستنتاج مع عدة أبحاث وجدت أن النخب المسيطرة من ناحية، وقادة الدول من ناحية ثانية، يعملون على إثارة الذعر وبعث المشاعر الطائفية وافتعال نزاعات جانبية وتضليلية لمنع التغيير المهدد لمصالحهم‏[35]، أو لجعل الناس يتقبلون ما يظنون أنه مصلحة عامة‏[36].

ولا تتورع الزعامات المحلية عن ارتكاب العنف في حالات السلم والاستقرار، لفرض سلطتها وتكريس هيبتها ومنع ظهور منافسين أقوياء لها، في إطار تقنيات قمع أهلي وغير نظامي مدموجة بالحياة السياسية والاجتماعية. يعرض ميخائيل جونسون، في هذا السياق، أوضاع العائلات السياسية في بيروت والزعامات المنبثقة منها، مركزاً على خمس شخصيات بيروتية شاركت في 34 استحقاقاً ما بين الاستقلال ونشوب والحرب الأهلية‏[37]. يشير جونسون إلى أن العائلات السياسية، بما في ذلك الليبراليون من أبنائها، كانوا يلجأون إلى العنف للدفاع عن مصالحهم ومصالح الجماعات المرتبطة بهم. لقد شاع استعمال ما يعرف بـ «القبضايات» وسيطاً لتحقيق أغراض سياسية محلية مثل تفتيت الكتل الانتخابية للخصوم ومنع نشوء جماعات مستقلة عن نفوذ الزعامات.

يتحدث جونسون عما أسماه بـ حزب الزبائنية، الذي يتمتع ببنية خاصة غير معلنة. رئيس الجمهورية (قبل الاستقلال) يتربع على قمة الهرم، فارضاً نفوذه على بقية الزعماء، فيما يبسط هؤلاء نفوذهم على حلفائهم البرلمانيين ومفاتيحهم الأساسيين، الذين يتولون بدورهم ضبط أتباعهم المحليين المعدودين بالآلاف‏[38].

لا يتمتع هؤلاء الزعماء كما يُزعم بإنكار الذات، بل كانوا يمتلكون صلات شخصية وثيقة بزبائن في وضع متدن يقدمون لهم المنافع والخدمات بطرق ووسائل متعددة، وهذا أسّس لعلاقات الزبائنية السياسية التي زادت متانة مع مرور الوقت، وما زالت قائمة حتى الآن. وكما يقول جونسون، بنى أولئك الزعماء مواقفهم وآراءهم بالدرجة الأولى على قاعدة الأرباح والخسائر، وحتى عندما اعترض بعضهم مثـلاً على الصلات التي نسجها آخرون مع الحركة الصهيونية، فقد برروا رفضهم لها بانعكاساتها السلبية على المصالح الاقتصادية والتجارية للبلد‏[39]. وفي أوقات لاحقة، طور بعض الزعماء نظام الزبائنية هذا، في محاولة منهم لإسباغ بعد سياسي وطني أو حتى قومي عليه، وهو ما ظهر على نحو خاص في نسجها علاقات متينة مع الحركة الناصرية في خمسينيات وستينيات القرن الفائت.

2 – هل ظهرت طبقة وسطى متعددة الانتماءات قبل الحرب؟

تتبع نصر ودوبار، أوضاع 26 شخصاً عرضوا ببليوغرافيتهم الاجتماعية. روى هؤلاء ما يعرفونه عن آبائهم وجدودهم وما يرغبونه لأطفالهم، وظهر من خلال ذلك الخيط الذي تترابط به عبر الزمن المشاكل والانتماءات الاقتصادية والعائلية والسياسية والثقافية والدينية. وقد رصد الباحثان في كتابهما، بروز تضامنات جديدة حلت محل الولاء الزبائني، وجرى تمثيلها بوضوح من خلال الدراسة المقارنة للأجيال الثلاثة المذكورة، وهذه التضامنات أفضت إلى نشوء طبقة وسطى – عشية الحرب – متغايرة الخواص (Heterogeneity) ومتنوعة الانتماء الديني والنشاط الاقتصادي، المتمركز عموماً حول الخدمات العامة والتجارة.

وكما يشرح الكاتبان‏[40]، فإنَّ أعضاء هذه الطبقة يعبِّرون في كلامهم، عن التناقض بين عالمين: عالم أسلافهم ذي الطابع المحلي والمهني المرتبط بالأرض، وعالمهم الآخر المتأثر بعمق بالحياة الغربية وقيمها التي تقطّع مع الماضي. واللافت في الأمر هو أن المتغير الثقافي يؤدي دوراً رئيساً في فهم الأفراد لانتمائهم الطبقي، فبعض هؤلاء يفكرون كما لو إنهم جزء من طبقة اجتماعية وسطى مع أنهم لا يملكون دخـلاً يسمح لهم بمراكمة الادخار.

وبالإجمال، فإن المشهد اللبناني عشية الحرب الأهلية، بدأ يعكس التفاعل الاجتماعي مع مسار النمو والتنمية المرتبط خصوصاً بتعزيز موقع بيروت في المنطقة وتدفق الدولارات النفطية، وانفتاح النظام الاقتصادي والسياسي، وبحسب المعاينة التي أعدها نصر ودوبار، فإن الهجرة الريفية والحياة المدينية أعادت تشكيل العائلات على نحو اتسم بالانفتاح الاجتماعي الذي تعبر عنه أفضل تعبير الزيجات المختلطة.

تسمح هذه التغيرات الاجتماعية بالقول إن لبنان كان لديه طبقة وسطى قيد التشكل في ظل نمو مرتفع، لكنها ظلت طبقة مفتتة ومتأثرة على نحو مضمر بانتماءاتها الطائفية، وهي اكتسبت طابعاً خاصاً متعلقاً بالتركيبة الاقتصادية للمجتمع وبالموقع الجغرافي والأزمات والتحديات السياسية والأمنية‏[41]، ما ألحق الضرر بصورة هذه الطبقة ودورها الاقتصادي والسوسيولوجي. ثم أتت الحرب الأهلية لتدفع الانتماءات الطائفية مجدداً وبقوة إلى السطح، والتي أظهرت بوضوح انفصال العناصر الاقتصادية والاجتماعية بعضها عن بعض في تحديد معالم الطبقة الوسطى .

كان ضعف تعبئة هذه الطبقة سبباً في الحد من تأثيرها على النسق الاقتصادي – السياسي السائد، فبقيت القوى التقليدية حاضرة بقوة داخل المشهد العام مع خروق ذات دلالة رمزية لبعض العقائد الثورية، والنتيجة، هي بقاء نمط النمو وإعادة التوزيع على حاليهما، واستمرار التمايزات المناطقية والطبقية بل وحتى الطائفية من دون تغيير كبير‏[42].

لقد ساهم تعميم التعليم، وهو من إنجازات المرحلة الشهابية، في كسر الاحتكار الطائفي، وفتح الباب أمام انضمام أفراد من طوائف ومناطق محرومة إلى طبقات أرقى مستفيدين من الرأسمال البشري وليس المادي، فنجحت نسبياً في الإفلات من قبضة الفقر المدقع. لكن تعميم التعليم لم يخلُ من تمايزات لها علاقة باللغات الأجنبية (الفرنسية تحديداً)، وبتركز مؤسسات التعليم حتى عشية الحرب في بيروت والمناطق المحيطة بها، وبالفجوة التي تفصل بين التعليم العام والتعليم الخاص. وقد انعكس هذا التفاوت على بنية المداخيل، حيث إن دخل خريجي الجامعات الخاصة (مثل اليسوعية والأمريكية)، يساوي لحظة دخولهم سوق العمل حوالى ثلاثة أضعاف ما هو متوقع لخريج الجامعة اللبنانية. هذا ساهم أيضاً في تمكين الكتلة المهيمنة داخل الإدارة العامة، من الإمساك بمفاتيح القرار، حيث إنها راعت في توزيع الموارد العامة، وإلى أقصى حد المنابت الطائفية والاجتماعية والمناطقية التي وفدت منها.

لكن يمكن القول إن تضخم الطبقات الوسطى بوصفه سمة بارزة لمرحلة ما قبل العام 1975، يعود بالدرجة الأولى إلى تحسن مستوى التعليم وزيادة معدلات الهجرة وتضخم الجهاز الإداري المدني والعسكري الذي كان يحظى بمزايا مالية مهمة، لكن نشوب الحرب الأهلية وما أعقبها من تحولات، غلَّب من جديد عوامل الانتماء الطائفي والمذهبي على غيره من العوامل.

3 – الاختلالات المناطقية والقطاعية

ارتبط النمو في لبنان بظاهرتين ملازمتين لاقتصاده: عدم المساواة القطاعية والمناطقية، والتخلع الماكرو – اقتصادي. وكلا الأمرين خلّفا أزمات اقتصادية وسياسية للبنان مرة تلو أخرى.

لكن المناطق المستفيدة أكثر من غيرها من الخصائص التوزيعية للاقتصاد الوطني، أبدت قدرة مقبولة على التكيف مع تلك الأزمات. ومثالاً على ذلك، أدى إعطاء الأفضلية للقطاع الخدماتي والقطاعات الاقتصادية المرتبطة بالخارج، إلى نمو مفرط للأنشطة المتمركزة في بيروت ومحيطها على حساب تنمية المناطق اللبنانية الأخرى، ولذلك استطاعت هذه المدينة التكيف مع تباطؤ حركة الإنتاج السلعي بخلاف باقي المناطق التي عانت جراء ذلك من انخفاض حاد في نمو مداخيل الأسر؛ فاستفادت بيروت من التوسع الصناعي شأنها في ذلك شأن مناطق لبنانية أخرى منها طرابلس، لكن وبعد ركود الصناعة في لبنان، عوضت العاصمة عما خسرته من خلال الفورة التجارية والخدماتية، في حين ألحق ذلك ضرراً كبيراً برفاهية طرابلس ومداخيل أبنائها ووظائفهم‏[43]، وهي التي لم تحظَ بما حظيت به بيروت من استثمارات وافرة في القطاع الثالث.

كان سكان بيروت وجبل لبنان هم المستفيدون أيضاً وعلى نحو غير متوازن، من نمو الفرص الاقتصادية في قطاعات الصحة والتعليم وخدمات السياحة والترفيه، الأمر الذي انعكس على متوسطات الدخل في المناطق؛ ففي عام 1954، كان متوسط الدخل السنوي لعائلة زراعية هو حوالى 975 ل.ل. وبالمقابل كانت حصة الفرد السنوية تصل إلى 1065 ل.ل. في بيروت. لكن الأكثر دلالة هو أن 35 بالمئة من الأسر في بيروت كانت تحصل على دخل مقداره خمسة آلاف ليرة لبنانية شهرياً أو أكثر ما يعد الحد الأدنى للعيش اللائق، في حين تمكن 10 بالمئة فقط من سكان المناطق خارج العاصمة ومحيطها من إحراز هذا الدخل.

وأظهرت دراسة بعثة إيرفد، أن مداخيل معظم الأسر الريفية والمزارعين وصغار الكسبة والعاملين بأجر، كانت في نهايات خمسينيات القرن الماضي شديدة الانخفاض، حيث إن 56 بالمئة منهم يكسبون أقل من 2500 ل.ل. سنوياً. ويبلغ متوسط دخل العمال الصناعيين في بيروت 160 ل.ل. شهرياً؛ في حين أنّ ثلثي المقيمين في بيروت يزيد دخلهم السنوي على 5000 ل.ل، ويجني أكثر من نصف المقيمين ما يزيد على 15000 ل.ل. سنوياً. والى جانب التفاوت المناطقي والقطاعي، تبين الدراسة وجود أنماط أخرى من اللامساواة، فمداخيل الإناث هي عموماً أقل من مداخيل الذكور، وينال الفتيان أجوراً شديدة الانخفاض مقارنة بالراشدين. تتباين المداخيل أيضاً بحسب نوع العمل، فينال العاملون في وظائف مكتبية ما متوسطه 275 ل.ل. شهرياً فقط، مقارنة بمداخيل أعلى بكثير يحصل عليها العاملون في التجارة والبنوك والشركات الكبيرة‏[44].

الجدول الرقم (1)

توزيع الأسر بحسب فئات الدخل السنوي في بيروت، المناطق والأقطاب المدينية 1959 – 1960

(الأرقام بالنسبة المئوية)

الدخل الأعلى للفئة (ليرة لبنانية)تقديرات بعثة إيرفدتقديرات تشرشل
المناطقالأقطاببيروتالمتوسط العام المثقل
12008.95.48.48.8
250046.843.326.341.2
500035.533.730.632.3
150007.513.224.714
أكثر من 150001.34.4104

المصدر: Mission IRFED, Besoins et possibilités de développement: Etude Préliminaire, 2 tomes (Beyrouth: République Libanaise, Ministère du Plan, 1960- 1961), p. 94.

وبحسب أرقام الجدول الرقم (1)، كان دخل 55.7 بالمئة من الأسر المقيمة في المحافظات وخارج المدن أقل من متوسط دخل الأسرة في عموم المناطق اللبنانية، وتنخفض النسبة إلى 48.7 بالمئة في الأقطاب المدينية، وتصل إلى 34,7 بالمئة فقط في العاصمة بيروت (بحسب دراسة تشرشل)، التي تبلغ فيها نسبة الأثرياء 10 بالمئة تقريباً في مقابل 1.3 بالمئة في المناطق الأخرى و4 بالمئة في عموم لبنان.

وعلى العموم كان العاملون في الزراعة في جنوب لبنان مثـلاً يواجهون ظروف حياة صعبة مماثلة لظروف الفئات الأفقر في العالم الثالث، في وقت كانت الطبقة الوسطى في بيروت تتمتع بمستوى حياة رفيع لا يختلف كثيراً عن مستوى المعيشة في بلدان جنوب أوروبا.

ارتبطت اللامساواة في توزيع الناتج المحلي القائم بتفاوت الإنتاجية والمردود بين القطاعات الاقتصادية من جهة، وباختلاف أنماط التوزيع داخل كل قطاع من القطاعات من جهة ثانية؛ ففي عام 1948، شكّلت الزراعة 18 بالمئة من الناتج الوطني لكنها كانت تؤمن معيشة ما يقارب 50 بالمئة من السكان. بالمقابل كانت الصناعة تساهم بـ 15 بالمئة من الناتج وتؤمن المعيشة لما يتراوح بين 10 بالمئة و15 بالمئة من السكان. أما ناتج القطاع التجاري والخدماتي،، فكان يساوي ثلثي الناتج الإجمالي ويؤمن دخل 40 بالمئة من الأسر‏[45]. وهذا يعني أن الناتج للفرد كان يساوي 37 بالمئة من المتوسط العام في الزراعة و150 بالمئة – 200 بالمئة في الصناعة، وما يوازي 170 بالمئة في قطاع الخدمات.

وفي السنة نفسها كان العمال الزراعيون يحصّلون دخـلاً يقل عن 250 ل.ل. للفرد سنوياً، في مقابل ما يساوي عشرة أضعاف ذلك للملّاك الزراعيين. وكان دخل الصناعيين (أرباب العمل) في الوقت نفسه يساوي 23 مرة من متوسط ما يناله العمال الصناعيون، ودخل التجار يساوي سبعة أضعاف دخل العمال في القطاع التجاري. أي أن التفاوت كان متقارباً بين القطاعين الأدنى نمواً (الزراعة) والأعلى نمواً (التجارة)، لكنه كان أكثر حدة في القطاع الصناعي الذي يعدّ متوسط الدخل فيه الأقرب إلى متوسط الدخل العام.

ثالثاً: كتلة السلطة والنفوذ

أظهر التحليل السابق أن المستفيد الأكبر من مسار النمو والتحديث في لبنان كان مجموعة صغيرة من رجال الأعمال ومن العائلات المرتبطة بالغرب‏[46]، التي أحاطت بمراكز النفوذ داخل الدولة. وينطبق على هذه المجموعة مفهوم كتلة السلطة أو النفوذ (Power Bloc) ‏[47] التي كانت الرابح الوحيد تقريباً من النشاط الاقتصادي حتى اندلاع الحرب الأهلية. وقد تكونت هذه المجموعة من عدد من العائلات‏[48]، تضم برجوازيات سياسية – مالية ونخباً بيروقراطية سياسية مدينية وشبه إقطاعية‏[49]، وانصبّ اهتمامها على الأنشطة المالية – التجارية، من دون أن تهمل الأنشطة الأخرى ذات الربحية العالية. كان النفوذ القوي لهذه العائلات ذي الطابع التجاري الغالب سبباً رئيساً في إحباط تطور الصناعة، إذ إنه ساهم في تفكيك نظم الحماية من خلال تشريعات أغرقت الأسواق المحلية بالسلع المستوردة.

تعززت قوة هذه العائلات خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من تغيرات في المنطقة والعالم، فسيطرت على حصص كبرى في تجارة المنتجات الأساسية، ولدى بعضها حتى الآن وكالات حصرية محمية من قبل السلطات، وامتلكت بالشراكة مع الرأسمال الأجنبي امتيازات حيوية، مثل شركة مرفأ بيروت، الريجي، وبعض شركات المياه والكهرباء والنقل البحري والجوي. وقد استفادت في تحقيق ذلك من النمط الاقتصادي المعتمد على التبادل وعلى الأموال الوافدة من الخارج، ومن الترابط القوي بين الطبقتين السياسية والاقتصادية؛ فالسياسيون من ناحيتهم يقدمون الحماية والدعم لمجتمع التجار والمقاولين والمضاربين الماليين، وهؤلاء من ناحية ثانية يعيدون إنتاج الطبقة السياسية ويجددون شبابها، فهم ممولو اللوائح الانتخابية، وكثير من الفائزين يملكون حصصاً راجحة في شركات البلاد الكبرى.

حافظت هذه الكتلة على حصتها المرتفعة من النشاط الاقتصادي، ومع أن الاقتصاد حقق نمواً معتداً به في السنوات الممتدة من الاستقلال حتى الحرب الأهلية، فإن عوائد النمو لم تتسرب بما فيه الكفاية إلى الفئات الموجودة خارج هذه الكتلة. ويتبين من مسح أجري عام 1973، أن 5 بالمئة من مجموع الأسر المساهمة في شركات الأموال وعددها 800 شركة، سيطرت على 70 بالمئة من العمليات المالية للشركات العاملة في التجارة والخدمات؛ وخمس أسر من أصل 41 أسرة سيطرت على نصف تجارة الاستيراد والتصدير؛ وخمس وكلاء للشركات الأوروبية والأمريكية استأثروا بـ 22 بالمئة من المستوردات من تلك البلدان؛ في حين أن 20 تاجراً احتكروا 85 بالمئة من إجمالي المستوردات. أما في القطاع المالي فإن أقل من 60 أسرة سيطرت على ثلاثة أرباع المصارف، وعلى ما يزيد على 70 بالمئة من رساميل الشركات الصناعية المساهمة في التجارة والزراعة والخدمات، و64 بالمئة من رؤوس أموال شركات التأمين والنقل و92 بالمئة من الشركات المالية المساهمة و37 بالمئة من رؤوس أموال الشركات العقارية‏[50].

قدرت كارولين غايتس، عدد العائلات المكونة لكتلة السلطة في لبنان بحوالى 100 عائلة، وهي عبارة عن برجوازيات مالية – تجارية وبيروقراطية سياسية/مدنية شبه إقطاعية في خمسينيات القرن الماضي‏[51]. ويرتفع عدد أعضاء الطبقة التجارية النافذة عند أيرين جندزاير، إلى ما بين 150 و200 شخص، ومع أنّ هؤلاء لم يكونوا جميعاً منخرطين في الحكم، فإنهم امتلكوا نفوذاً كافياً لجعل سياسات الحكومة وقراراتها تلبي مصالحهم، وهو ما أطلق عليه د. كمال الصليبي، تعبير «حكم الكونسورسيوم». والصورة التي رسمتها جندزاير عن أحوال النخبة تبين أن الشريحة المدينية منها توزعت على دوائر ثلاث محيطة بالرئيس، معظم أعضائها مصرفيون أو مستوردو بضائع، بمن فيهم أفراد من أسرة الرئيس نفسه، إلى جانب آخرين ينتمون إلى عدد محدود من العائلات شبه الإقطاعية‏[52]. ويظهر تشابك المصالح بين الكتلتين الاقتصادية والسياسية النافذتين داخل البلاد، في تواطئهما على سن تشريعات تكرس التباين في توزيع المداخيل، والمثال الأبرز على ذلك هو المرسوم الاشتراعي رقم 134/1967، الذي يؤمن حماية غير مبررة للوكالات الحصرية.

هيمنت هذه الكتلة على الحكومات في مرحلة الاستقلال وما بعده وحددت اتجاه الاقتصاد، وعرقلت بما امتلكته من نفوذ إدخال إصلاحات ولو متواضعة على النظام الاقتصادي. بل إن الرئيس بشارة الخوري، الذي كان جزءاً لا يتجزأ من هذه الطبقة ومظلة قوية لمصالحها، وجه انتقادات حادة لأعضائها بقوله: إنهم أنانيون بطبعهم يطلبون الكثير من دون أن يملكوا أي حس اجتماعي‏[53]. وقد كرس سلوك هؤلاء منطق الزبائنية في الاقتصاد والسياسة، وهي الظاهرة التي تقع وفق ما يذكره جونسون في قلب النموذج اللبناني وتتحكم بأداء طبقته السياسية، مستنتجاً أن السياسة في لبنان هي من قبيل «ممارسة الأعمال» التي قلما تكترث لمفهوم المصلحة العامة. والأمر نفسه خلصت إليه إليزابيث بيكار، التي رأت في الظاهرة نفسها محور العلاقات السياسية والاجتماعية في لبنان‏[54].

لم تكتسب هذه الكتلة نفوذها من حضورها القوي داخل مراكز النفوذ في الدولة فحسب، بل من اندماجها التام بمصالح الدول الغربية، التي راهنت على تطرف الليبرالية اللبنانية لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية في آن معاً. ويمكن القول إن دفّة الاقتصاد اللبناني حتى الحرب الأهلية كانت في أيدي الرأسمال الأجنبي، الذي استثمر في كل القطاعات ولا سيما في القطاع الثالث، موطداً صلاته بقسم من طبقة الأعمال اللبنانية. وهذا التعاون بين «البرجوازية المحلية» والرأسمال الأجنبي، أعطى الأخير، حسب كاثرين بيه‏[55]، القدرة على توجيه الاقتصاد لمصلحته، في سياق تكريسه هيمنة عدد محدود من الأشخاص والعائلات على الأنشطة الخدماتية والوكالات التجارية الأكثر أهمية. وقد منحهم ذلك أرباحاً ضخمة على حساب الفئات الأخرى، وعمّق من ثمّ التفاوت الاجتماعي على المستوى الوطني. ومن الأمثلة الدالة على تغلغل النفوذ الأجنبي، الدور الذي أداه المدير الفرنسي لمصرف تجاري كان في الوقت نفسه المصرف المركزي للبنان وسوريا، فهو استغل موقعه المزدوج هذا للحصول على عقود حكومية ضخمة، وتوزيع القروض أو حجبها، وفق معايير تراعي قبل أي شيء آخر المصالح الفرنسية.

ولم يقتصر الأمر على الأوروبيين أو الفرنسيين وحدهم فحسب، بل شمل وفي مراحل مبكرة الأمريكيين الذين دعموا لأسباب سياسية قيام اقتصاد ليبرالي في لبنان معتمد على الخدمات. وتورد جندزاير في دراستها عن التدخل الأمريكي في لبنان والشرق الأوسط والتي تصفحت فيها أوراق الدبلوماسية الأمريكية لتلك الحقبة، أن الأمريكيين ومن بداية الخمسينيات رأوا في لبنان رأس جسر لنفوذهم في الشرق، ولا ينبغي تعريضه للخطر من خلال تغيير النظام الطائفي. وهذه القناعة انعكست إيجاباً على أحوال الكونسورسيوم اللبناني المستفيد الأكبر من النظام القائم على المحاصصة. وفي السياق نفسه، تضمنت مذكرة لأحد الدبلوماسيين الأمريكيين تنبيهاً من خطر تشجيع الصناعة لأن العاملين فيها يسهل تأطيرهم في النقابات وقد تجذبهم الأفكار الشيوعية‏[56]. وقد أظهر جونسون بمهارة كبيرة، كيف أن النخبة «الأوليغارشية» نفسها، حافظت على هيمنتها باعتماد وسائل غير مشروعة أحياناً مثل قبضايات الشوارع، وكيف تعاونت في ما بينها للحفاظ على السلطة، كي تبقى مواردها ومقدراتها في خدمة الطبقة العليا التي تنتمي إليها. وقد ساهمت ممارسات هذه النخبة المتحكمة بحسب جونسون، في الانهيار الذي حصل بعد ذلك في الحرب الأهلية (1975)، إذ إنها حالت دون اكتمال إرهاصات الثورة البورجوازية المرتبطة بزيادة نسبة المصنفين ضمن الطبقة الوسطى‏[57]، فإدراك هذه الغاية برأيه، كان يتطلب تحولاً شامـلاً في نمط الإنتاج من شأنه إحداث تغير نوعي في العلاقات الاجتماعية التي ظلت محكومة على الرغم من الازدهار الاقتصادي للجذور الطائفية. وعلى حد تعبير يوسف الصايغ في دراسته الرائدة عن طبقة قادة الأعمال (Entrepreneur) في لبنان‏[58]، فإن الليبرالية اللبنانية هي مزيج من الحريات الاقتصادية والإقطاعية السياسية، ومع أنّ هناك درجة عالية من التعاون داخل تلك الطبقة مقارنة بغيرها، إلا أن أعضاءها شأنهم شأن أقرانهم في الوطن العربي يمركزون الجزء الأكبر من سلطة اتخاذ القرار في أيديهم، ويولون من ناحية ثانية اهتماماً كبيراً للبعد الطائفي أثناء قيامهم بأعمالهم‏[59]. ولهذه الأسباب وغيرها، لم يكن نجاح قادة الأعمال برأي الصايغ عامـلاً مساعداً على تطوير الاقتصاد اللبناني وتحديثه.

وبالمحصلة، عرف لبنان في الربع الثالث من القرن الماضي نمواً جيداً، لكن المشكلة كانت في الاقتصاد السياسي الذي جعل كتلة صغيرة متسلطة تتحكم بعمليات التوزيع ما جعل النمو والتباين في توزيع الثروة والدخل أمران متلازمان.

خاتمة

عرف لبنان في فترات مختلفة من تاريخه المعاصر، معدلات نمو أعلى من معدل نمو البلدان المماثلة، أو مساوية له في أقل التقديرات، ما وضعه في مصاف الدول ذات الدخل المتوسط والتنمية البشرية المرتفعة. ومع ذلك كان التفاوت الحاد في توزيع المداخيل بين المناطق والطبقات والقطاعات، هو السمة البارزة منذ نهاية القرن الماضي حتى اليوم؛ فمنذ الاستقلال وحتى نشوب الحرب الأهلية حقق لبنان نمواً متراكماً لامس متوسطه 6.9 السنوي بالمئة تقريباً، ما ضاعف ناتجه المحلي بالأسعار الثابتة حوالى سبع مرات، لكن معامل جيني لقياس اللامساواة بقي مرتفعاً، مدلـلاً بذلك على وجود تباينات عالية في توزيع المداخيل. ومع أن الطبقة الوسطى توسعت في الآونة نفسها، فإن معدلات الفقر كانت ترتفع بسرعة في أثناء التقلبات الاقتصادية والاضطرابات السياسية، وهو ما يدل على هشاشة النتائج الاجتماعية للنمو.

وعلى العموم، اتسم الاقتصاد السياسي للبنان، بخصائص أهمها: هيمنة أقلية على أنشطته، الارتباط بالخارج، والتداخل ما بين الطبقة المالية/التجارية من جهة والطبقة السياسية من جهة ثانية. وهذه الخصائص رسمت خطوطاً متداخلة من عدم المساواة القطاعية والمناطقية؛ فمثـلاً استفادت كل من بيروت وطرابلس من نمو الصناعة، لكن التشريعات المحابية للقطاع الثالث على حساب الصناعة أثرت سلباً في سكان طرابلس أكثر كثيراً من تأثيرها في سكان العاصمة. وكان سكان بيروت وجبل لبنان أكبر المستفيدين من الفرص الاقتصادية الناتجة من الاستثمار في البنيتين الأساسية والاجتماعية.

ويدل تزامن النمو المطرد مع تدهور مؤشرات العدالة التوزيعية على وجود موانع بنيوية راسخة منذ اتخذ اقتصاد جبل لبنان مساراً متمايزاً عن سائر اقتصادات السلطنة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر، وقد حال ذلك في السابق – وما زال يمنع حتى الآن – دون تسرب فوائض النمو وتدفقات الأرصدة المالية والثروة إلى قطاعات وشرائح اجتماعية أوسع. ومع أن خطط الإنماء التي أطلقها فؤاد شهاب أثناء ولايته الرئاسية (1958 – 1964)، مستعيناً بالنتائج التي توصلت إليها دراسة بعثة إيرفد والسيناريوهات التي وضعتها، نجحت في التقليل من معدلات الحرمان المناطقي، إلّا أنها لم تفلح في إدارة دفّة الاقتصاد اللبناني ليكون أكثر توازناً وأقل تفاوتاً.

وتعزى هذه الموانع البنيوية التي تعترض سبيل تدفق النمو على نحو متناسب إلى جميع الأطراف المساهمة فيه، إلى وجود دوائر مغلقة للتوزيع، لكل واحدة منها آلياتها الخاصة والمتمايزة عن غيرها في تقاسم الموارد والمداخيل والثروات، الأمر الذي ضيّق نطاق المستفيدين من مكاسب النمو بل خفّض معدلاته، كما يظهر في الآتي:

1 – الدائرة المناطقية، وتتأثر آليات التوزيع في هذه الدائرة إلى حد كبير بمستوى النفوذ السياسي في الإدارة الحكومية وانعكاسه على بنود الموازنة العامة واعتماداتها وأرقامها، وبتقاسم الفئات والجماعات للمرافق العامة، وبالأعراف الراسخة التي باتت تتفوق على القوانين والأنظمة المتصلة بالشأن الاقتصادي والإنمائي. ما أدى في نهاية المطاف إلى منح المناطق المركزية من لبنان حصصاً مضاعفة من الموارد الحكومية مقارنة بغيرها.

2 – الدائرة القطاعية، المرتبطة بإعطاء الخدمات أولوية على قطاعي الصناعة والزراعة الواقعة في أسفل سلم الاهتمام الحكومي. آليات التوزيع في هذه الدائرة تتفاعل مع النموذج الاقتصادي والنزعات الأيديولوجية طويلة الأمد للقائمين عليه، وقوة جماعات الضغط القطاعية، وحصر مفهوم التنمية المتوازنة بالمناطق (والطوائف ضمناً) من دون أن يشمل التوازن بين القطاعات.

3 – الدائرة الطائفية والطبقية، التي ضبطت الدورة المالية للنشاط الاقتصادي على إيقاعها، وهذا يشمل عمليات التوزيع وإعادة التوزيع، وإمكانية النفاذ إلى أسواق الائتمان، مع وجود احتكار عائلي وفئوي للقطاع المالي والمصرفي. مع العلم أن عمليات التسليف تعتمد في كثير من الأحيان على عناصر القرابة والانتماء المشترك. كل ذلك جعل شبكات النفوذ والسلطة (Power Bloc) التي تضم أعداداً قليلة من المستفيدين، العنصر المركزي في وضع السياسات وتسيير الاقتصاد وتوزيع عوائد النمو وثماره.

4 – الدائرة الخارجية، إذ إن القطاعات القائمة على تصدير السلع والخدمات واستيرادها، أو على تلقي الأموال من الخارج، كانت تحظى أكثر من غيرها بوفرة في النمو. ولهذا صلة وثيقة بالسياسات العامة للدولة، والتكوين التاريخي للاقتصاد اللبناني الذي أوقعه في مصيدة نمو، فمن ناحية زاد اعتماده على الموارد الخارجية في تمويل الاستهلاك والاستثمار، ومن ناحية ثانية تحول هذا الدفق المالي المتواصل إلى عامل طرد للطاقات البشرية إلى الخارج، لتركزه في القطاعات غير المولدة لفرص العمل، وتسببه من ثمّ في خفض كفاءة الاقتصاد وإنتاجيته ومرونته وقدرته على استيعاب الزيادة المطردة في عرض العمل. وبالنتيجة، بدلاً من نقل الفائض الاقتصادي في شكله المادي إلى الخارج – كما تفيد مدرسة التبعية – فإنه ينقل في لبنان على شكل تسرب متواصل لليد العاملة الكفوءة من خلال الهجرة.

إن تفاعل هذه الدوائر الأربع، في ما بينها، وتأثرها بطبيعة النظام السياسي/الاقتصادي، تسبب تاريخياً في تقليل جدوى سياسات إعادة التوزيع، وأوجد بيئة مناسبة لنمو غير منصف، فمعدلات النمو المرتفعة في مراحل الازدهار ولا سيما في الربع الثالث من القرن الماضي، لم تنعم بها الفئات الدنيا، وبقيت الهوة واسعة بين الفئات المختلفة، بل ربما زادت اتساعاً، فيما كان الفقراء والفئات الهشة الأكثر تأثراً بالأزمات.

وقد قلل هذا التداخل من إمكانية إجراء إصلاحات عميقة على النظام الاقتصادي، وعطّل الفوائد المرجوة من تدخل الدولة التي وضعت بيروقراطيتها في خدمة مصالح فئوية ومناطقية وقطاعية ضيقة. وعلى وقع ذلك جرى الانتقال من الزبائنية السياسية بمعناها التقليدي الشائع في الدول النامية، إلى نوع آخر من الزبائنية له بعدان: واحد يتصل بشراء الولاءات الفردية، وآخر مشبع بمحاصصة جماعية غرضها تثبيت حصص المجموعات الطائفية من الثروة الوطنية، ونقل أوليات إعادة التوزيع من المستوى الوطني المحكوم إلى الحد الأدنى من السياسات العامة المتفق عليها وإلى قدر من الديمقراطية في اتخاذ القرار، إلى مستوى المجموعات الأدنى، ولا سيما الطائفية منها التي تطبق في عمليات التوزيع معاييرها الخاصة المنحصرة تقريباً بتوطيد المكانة السياسية للنخب محدودة العدد المسيطرة على قرارها السياسي والاقتصادي.

إن ضعف قنوات إعادة التوزيع قبل الحرب الأهلية، وتفككها أثناءها وبعدها، لم يكن ليتم بالصورة التي حصل فيها، لولا الطابع الاحتكاري للرأسمالية اللبنانية وتبعيتها العميقة للخارج. وقد استفادت الأقلية النافذة المذكورة من وهن النظام الاقتصادي والسياسي لوضع القطاعات الحيوية للاقتصاد في قبضتها، وهي ما زالت حتى اليوم تقطع الطريق على إدخال إصلاحات تخفف من غلواء الليبرالية الجديدة التي زادت تطرفاً وحدّة في العقدين الأخيرين.

 

قد يهمكم أيضاً  الانتقال الديمقراطي وتحديات بناء المجتمع والدولة

للمزيد حول لبنان اليكم  تساؤلات حول الرواية التاريخية المؤسسة للكيان اللبناني: هل وجد أمير اسمه فخر الدين المعني الأول؟