مقدمـة:

العمارة ظاهرة حضارية أصابها داء التجديد (التغيير)، كما أصاب باقي الظواهر الحضارية كالفنون والآداب. ولقد صاحب هذا التجديد تغيير شامل في البنى النظرية، والمفاهيم، ومناهج التفكير، وطرائق النظر، وأدوات البحث، وأساليب التفسير. وكان داء التجديد، وما زال في العمارة أشد وطأة منه في باقي الظواهر الحضارية. فاستؤصلت العمارة العربية الإسلامية من محيطها الحضاري، وبُوعد بينها وبين جذورها التاريخية، وأُفرغت من قيمها الاجتماعية، وشُكِّك في أصالتها، ووُصمت بالتقليد تارة، وبالتبعية تارة أخرى، وغُيِّب فكرها، واستُبدلت أطرها النظرية، واختُصرت منهجيات ممارستها من أرقى منهجيات التصميم، وهي منهجية الأحكام، إلى أدنى منهجيات التصميم وأكثرها بدائية، وهي منهجية التجربة والخطأ، ثم منهجية التكرار.

ولقد أسفر هذا التغيير عن خلق أجيال من أساتذة الجامعات، والمعماريين الممارسين العرب والمسلمين، تنكروا لأنفسهم ولحضارتهم، أُخذوا بظواهر الحضارة الغربية فجهلوا فكرهم المعماري، «وعطلوه واتخذوا من جهله وكراهته مذهباً يقرّون به ويدعون إليه»‏[1].

وكان أخطر ما أقدمت عليه الحضارة الغربية، منذ القرن الثامن عشر، هو تفسيرها لظواهر الحضارة الإسلامية، ومنها العمارة الإسلامية، مستغلة وعْيَنا المستلب، وافتقارنا إلى المؤسسات العلمية، وضعف ما كان قائماً منها، كالأزهر الشريف، وانبهارنا بتقدمها العلمي والتقاني. فطرحت تفسيرها، القاصر علمياً وأخلاقياً لهذه الظواهر. وسأقصر كلامي في هذه الدراسة على التفسير التاريخي للظاهرة المعمارية، ولكن بعد أن أبيِّن طبيعة العلاقة بين الحضارتين: الإسلامية القائمة والمنتشرة في المكان والمستمرة في الزمان؛ والغربية الناشئة (في حينه) التي تحاول أن تجد لها موقعاً في المكان لتفرض حضورها في الزمان.

من المعروف أن أوروبا عاشت عصور الظلام حتى نهاية «القرون الوسطى الأوروبية» (5 – 15)، حسب تصنيفهم التاريخي، فلم يكن لها حضور في التاريخ، ولا حتى في الجغرافيا. ولم تتلمس الحضارة الأوروبية طريقها إلا بعد احتكاكها بالحضارة الإسلامية. وقد تم هذا الاحتكاك في منطقتين: الأولى الأندلس، والثانية صقلية وجنوب إيطاليا؛ أما الاحتكاك عن طريق الحروب الصليبية (1096 – 1291م)، فلم يكن ذا قيمة علمية تذكر، لأن الصليبيين كانوا يعيشون عصور الظلام الأوروبية، ولا يعرفون إلا التعصب الديني الأعمى والحقد والكراهية، ولم يكن للثقافة حضور في وعيهم على الإطلاق. نتج من هذا الاحتكاك عملية إخصاب حضاري «بين الفكر العربي – الإسلامي البالغ كمال تطوره، وبين العقل الأوروبي وهو بسبيل يقظته وتلمُّس طريقه»‏[2]، التي لم يتلمسها إلا في منتصف القرن السادس عشر، أو ما يعرف ببداية «عصر النهضة» في أوروبا، حيث بدأ العقل الأوروبي ينحى منحاً استقلالياً عن الحضارة العربية الإسلامية، التي فرضت حضورها على المشهد الأوروبي منذ القرن الثامن وحتى منتصف القرن السادس عشر الميلاديين بصورة مباشرة ومطلقة، وحتى منتصف القرن الثامن عشر بصورة جزئية. وبهذا تكون الحضارة الإسلامية قد انتشلت أوروبا من عصور الظلام (التي امتدت حتى نهاية «القرون الوسطى»)، وشكلت الوعي الأوروبي حتى منتصف القرن الخامس عشر. ولم ينحسر حضور الحضارة الإسلامية المباشر عن المشهد الأوروبي إلا في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، حيث توقف‏[3] تدريس العلوم الطبية من المصادر العربية في الجامعات الأوروبية، وبدأت حملة شعواء في أوروبا للقضاء على كل حضور عربي – إسلامي علمي أو ثقافي في الثقافة الأوروبية. توجت بحملة نابليون على مصر (1798 – 1801م)، التي قادت عملية استبدال ثقافي غربي أوروبي للثقافة العربية – الإسلامية. ومع بداية القرن الثامن عشر أصبحت الثقافة العربية – الإسلامية موضوع دراسة في الثقافة الغربية عرفت بالاستشراق، حيث فسرت جميع الظواهر العلمية والثقافية للحضارة العربية – الإسلامية بعقلية الحاسد والحاقد والمنتقم؛ وطبقاً لفلسفة التاريخ الغربي القائمة على التحقيب التاريخي. فسطّحت جميع المنتج الثقافي العربي – الإسلامي وغيبته، وعملت على استبداله بالمنتج الثقافي الغربي في نظم التعليم، والتداول المعرفي، وقد ساعدها على ذلك استعمارها للدول العربية.

وأزعم صادقاً أن فترة التشكل التي عاشها العقل الأوروبي (من القرن الخامس عشر وحتى بداية الثامن عشر، حيث بلغ أوج تطوره بتصنيف المنظومات العلمية والفكرية والفلسفية والأدبية والفنية، تحت مصطلحات ومسميات: كعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الآثار، والتاريخ، والعمارة… إلخ، ضمن بنىً نظرية، وأطر فكرية، وطرائق تفكير، ومناهج استدلال، وأدوات بحث)، كان معظم عناصرها من إنجازات الحضارة العربية الإسلامية؛ وأن دور الحضارة الغربية اقتصر على وضع المصطلحات لأسماء هذه العلوم، والإضافات والتطوير. أما البدايات، والبنى النظرية، ومناهج التفكير، وطرائق النظر، وأدوات البحث، وأساليب الاستدلال والتفسير، فهي عربية – إسلامية خالصة.

تهدف هذه الدراسة إلى التعريف بفلسفة التاريخ الإسلامي، وبيان مفاهيمها، وآليات تفسيرها العقلية والفكرية للظواهر الحضارية، وتحديداً للظاهرة المعمارية؛ وبيان مدى ارتباطها وتحكمها نظرياً وفكرياً بمنهجيات ممارستها وإنتاجها العلمي. كما تهدف إلى إثبات أن العمارة الإسلامية مورست في حيِّز الوعي، وضمن إطار نظري عماده التفكر والتأمل، وذلك في محاولة للتخلص من حضور فلسفة التاريخ الغربي للعمارة الإسلامية وتفسيرها، الذي استنَّه المستشرقون وتبنّاه أتباعهم من العرب والمسلمين، والذي جرَّدوا فيه العمارة الإسلامية من جسمها النظري، وأخضعوها للممارسات العملية التي تتم بمنهجية التجربة والخطأ.

ولتحقيق ذلك سأبيِّن الصلة والروابط بين فلسفة التاريخ في الجاهلية والإسلام وأوضح مدى تكاملهما. ثم أعرض لفلسفة التاريخ العربي – الإسلامي، وأبيّن مفاهيمها ومدى ارتباطها بمنهجيات تفسير العمارة وممارستها؛ مع مقابلة ذلك بما هو سائد في الغرب من آليات تفسير مختلفة عن آليات التفسير العربية – الإسلامية. وذلك في محاولة للتخلص من فرضهم لفلسفة تاريخهم في تفسير العمارة الإسلامية، وإحلال فلسفة تاريخنا ومفاهيمها لتفسير عمارتنا الإسلامية.

وهذا يقتضي ابتداءً أن نعرِّف بالبداية الزمنية للتاريخ العربي، وسأفنِّد من خلالها الرواية الكتابية اليهودية لبداية التاريخ، التي للأسف اعتُمدت وتُدُوولت عند المؤرخين قديماً وحديثاً، وذلك بمقابلتها بالرواية القرآنية ذات الصدقية المطلقة، ثم أبيِّن صلة هذه البداية التاريخية العربية، ومدى حضورها وتواصلها مع التاريخ العربي – الإسلامي. وهذا بدوره أيضاً يتطلب معرفة البيئة الجغرافية، وطبيعة الروابط والصلات التاريخية، والعلاقات الاجتماعية، التي كانت سائدة قبل الإسلام. وسأعرض في ما يلي من دراسة وتحليل للبداية الزمنية.

أولاً: البداية الزمنية

الهدف من تحديد البداية الزمنية للجنس العربي، هو تتبع التطور الحضاري، وبالذات المعماري للعرب. حيث تباينت آراء المؤرخين العرب في تحديد البداية الزمنية لوجود الجنس العربي على الأرض العربية. ومردّ ذلك هو عدم اتفاق المؤرخين على تحديد من هم العرب؛ هل هم مجموعة الشعوب التي انحدرت من سلالة نوح (المتعارف عليها خطأً «بالساميين») كما سأبيِّن تالياً، أم من عُرفوا باسم العرب صراحة عند رواة الجاهلية والمؤرخين؟ هذا التباين في تحديد الجنس العربي أسفر في رأيي عن اتجاهين تاريخيين:

الاتجاه الأول

تبنّى هذا الاتجاه محمد عزة دروزة‏[4] ويعتبر فيه جميع الشعوب، المتعارف عليها خطأً بـ «السامية»، التي عاشت في الجزيرة العربية عرباً، ويبني رأيه أساساً على الوحدة الجغرافية لتلك الشعوب، وكذلك على تشارُك هذه الشعوب في «اللغة والأفكار والتقاليد». كما يوضح أن لفظ «السامية» هو لفظ مستحدث‏[5]، استحدثه المستشرق النمساوي أيشهورن سنة (1781م)، بينما يرى جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام‏[6]، أن المستشرق النمساوي سلوتشر، هو الذي أطلق التسمية، في السنة نفسها، نسبة إلى سام بن نوح.

و«سام» هذا، في رأيي، شخصية وهمية خيالية لا وجود لها في التاريخ، ابتدعها واختلقها كاتب، أو كتبة، التوراة (التكوين: 6/9 – 10)، كما سأبيِّن لاحقاً. ويرى دروزة أن لفظ «السامية» يفتقر إلى السند التاريخي والعلمي والأثري، ذاع وانتشر بين علماء الغرب، وانتقل إلى مؤرخي العرب وكتبهم بطريقة العدوى الاقتباسية المعتادة، مع أن تسمية الجنس العربي واللغات العربية أصح منها‏[7]. وفي رأيي، أن دروزة محق في ما ذهب إليه، مع أنه لم يُقم الدليل على صحة رأيه.

وسأبين في ما يلي من عرض وتحليل أن المدعو «سام» وأشقاءه حام ويافت، لا وجود لهم في التاريخ، وذلك من خلال مقابلة ما ورد في سفر التكوين من التوراة من اختلاقات، بما ورد في الرواية القرآنية من حقائق مطلقة، التي تنفي نفياً قاطعاً أن يكون نوح قد حمل ابنه معه في السفينة أثناء حدوث الطوفان؛ الأمر الذي يترتب عليه نفي الأسس التي استند إليها المؤرخون وعلماء اللغات والأجناس البشرية الغربيون في تصنيف الأجناس البشرية وما نسبوا إليها، أو نحتوا لها، من مصطلحات وتسميات، كـ «السامية»، لحضارات ما بين النهرين ومصطلحات وأسماء لباقي حضارات العالم. فالرواية القرآنية، ذات الصدقية المطلقة، تنفي بُنيتي التاريخ وعلم الأجناس البشرية الغربية السائدة والمتداولة في الأوساط الأكاديمية والعلمية.

تزعم الرواية الكتابية اليهودية أن لنوح ثلاثة أبناء هم: سام وحام ويافت، أنجبهم قبل الطوفان ورافقوه في الفلك (السفينة) وأنجبوا السلالات البشرية بعد الطوفان، ونُسب بعض هذه السلالات إلى سام، وبعضها إلى حام، وبعضها إلى يافت. بينما الرواية القرآنية تنفي هذه الرواية وتوضح أنه كان لنوح ولد واحد قبل الطوفان ولم تسمه، ولم يرافقه في الفلك وهلك مع المشركين.

ولتوضيح هذا الأمر سأقتبس ما جاء في الرواية الكتابية اليهودية (التوراة) وفي القرآن الكريم. فالأولى تذكر:

«… وأنجب نوح ثلاثة أبناء هم سام وحام ويافت… وتدخل أنت مع بنيك وامرأتك ونساء بنيك إلى الفلك» (التكوين: 6/9 – 10 و18).

ثم تتابع فتذكر:

«… فدخل نوح مع زوجته وأبنائه وزوجاتهم لينجوا من مياه الطوفان… وفي ذلك اليوم الذي بدأ فيه الطوفان دخل نوح وزوجته وأبناؤه سام وحام ويافت وزوجاتهم الثلاث إلى الفلك …» (التكوين: 7/7 و13).

ثُم تتابع فتذكر:

«… أما أبناء نوح الذين خرجوا معه من الفلك فكانوا ساماً وحاماً ويافتاً. وحام هو أبو الكنعانيين. هؤلاء كانوا أبناء نوح الثلاثة الذين تفرعت منهم شعوب الأرض كلها…» (التكوين: 9/18 – 19).

ثم تتوالى الرواية الكتابية اليهودية لتسجل نسل أولاد نوح المزعومين والأقوام التي شكلوها ونُسبت إليهم، ولا أرى ضرورة لذكرها هنا.

هذه إذاً الرواية التي استند إليها المؤرخون وعلماء الأجناس البشرية الغربيون في تصنيفاتهم التاريخية، وفي علم اللغات، وعلم الأجناس البشرية، ونسبوا لها حضارات الشرق القديم، وبداية علم اللغات والأجناس البشرية. ومنها حضارات ما بين النهرين وأسموها «السامية». وللأسف نقل عنهم المؤرخون، والمشتغلون بعلم الأجناس البشرية العرب، من دون تثبت وتمحيص، ومن دون اعتماد الرواية القرآنية التي تدحض، بل تنفي، الرواية الكتابية اليهودية شكـلاً وموضوعاً، كما سأبين فيما يلي من عرض وتحليل.

فالرواية القرآنية أقرّت بأن نوحاً اصطحب معه ذريته، لكنها نفت أن يكون قد اصطحب معه ابنه، لا أبناءه كما ذكرت الرواية الكتابية اليهودية، وهذا ثابت في قوله تعالى:

﴿وَأُوحِيَ إلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُغْرَقُونَ﴾ (هود: 36 – 37).

وكذلك في قوله تعالى:

﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ. وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّـهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَعَنَا وَلَا تَكُن مَعَ الْكَافِرِينَ. قَالَ سَآوِي إلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّـهِ إلَّا مَن رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ. وَقِيلَ يَا أرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِنَ الْخَاسِرِينَ. قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِمّن مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (هود: 40 – 48).

هذه الآيات تنفي نفياً قاطعاً أن يكون لنوح ثلاثة أبناء، قبل الطوفان، رافقوه في السفينة، كما تزعم الرواية الكتابية اليهودية؛ وتؤكد في الوقت نفسه أن لنوح ابناً واحداً قبل الطوفان، لم يرافقه في السفينة وغرق مع الكافرين. إذاً فـ «سام وحام ويافت» شخصيات وهمية خيالية لا وجود لهم في التاريخ.

وعليه، يمكننا التقرير أن تصنيفات التاريخ الغربي، ونسبة ذرية نوح إلى هؤلاء الأبناء الوهميين لا تمتّ الى الحقيقة بصلة، وهي خطأ تاريخي فادح. وكذلك تصنيفات علم اللغات والأجناس البشرية، كلها خطأ يتوجب تصحيحها.

فمصطلح «السامية» إذاً مصطلح وهمي لا وجود له في التاريخ. وهو أكذوبة كما يسميها الباحث أحمد الدبش، في مقاله الموسوم «أكذوبة السامية» المنشور على الشابكة؛ فيجب التخلص منه، والامتناع عن استعماله.

وعلينا كعرب ومسلمين أن نصحح جميع الأدبيات العربية والإسلامية، وبخاصة تفسير القرآن الكريم والتاريخ العربي: قديمها وحديثها، وتجنب هذه الأكذوبة في أدبياتنا المعاصرة والمستقبلية.

يقسم دروزة التاريخ العربي – الذي هو من صلب ذرية نوح – إلى ثلاثة أطوار‏[8]:

1 – طور ما قبل العروبة الصريحة: وهو الطور الذي لم تكن فيه اللغة العربية الفصحى مستعملة، واسم العرب لم يكن مطلقاً عليه. ويُعتبر الكلدانيون‏[9] أقدم موجة هاجرت من جنوب جزيرة العرب إلى شمالها في القرن 45 ق. م.

2 – طور العروبة الصريحة قبل الإسلام: وذلك لأن اللغة العربية الصريحة (الفصحى) غدت لغة شعوب هذا الطور، سواء من بقي منهم في جنوب الجزيرة العربية أو من هاجر إلى شمالها.

3 – طور العروبة الصريحة في الإسلام.

الاتجاه الثاني

تبنّى هذا الاتجاه جواد علي، وهو يُعد البداية الزمنية الحقيقية للتاريخ العربي بعد الميلاد: «واللفظ (العرب) بهذا المعنى وبهذا الشكل، مصطلح يرجع إلى ما قبل الإسلام، ولكنه لا يرتقي تاريخياً إلى قبل الميلاد، بل لا يرتقي عن الإسلام إلى عهد جد بعيد»‏[10] . ويعول جواد علي في رأيه على «تصنيفات العلماء الإسلاميين»‏[11] ومن دون تحديد أحد من هؤلاء العلماء حتى تتمكن من الرجوع إليه. ومن واقع اطلاعنا على كثير من كتب التاريخ الإسلامي: مروج الذهب والإشراف والتنبيه للمسعودي، وتاريخ الطبري، وتاريخ اليعقوبي، وتاريخ ابن خلدون (العبر وديوان المبتدأ والخبر)، والأخبار الطوال للدينوري، وفتوح البلدان للبلاذري، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي، والعبر في أخبار من غبر للحافظ الذهبي وغيرها من كتب الأدب، لم نجد أحد من هؤلاء قد حدد بداية التاريخ العربي ببعد الميلاد.

وحقيقة الأمر أن جمهور المؤرخين المسلمين يبدأون التاريخ العربي بالعرب البائدة‏[12]: (عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم والعمالقة ولقمان وأميم وعبيل)، وقوم عاد هم من ذرية نوح‏[13] وكانوا خلفاء لقوم نوح. كما ورد في القرآن الكريم‏[14]: ﴿… واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح…﴾. وبذلك تكون البداية الزمنية للتاريخ العربي قبل الميلاد بمدة طويلة ربما تصل إلى آلاف السنين. ويؤكد ابن خلدون لنا عمق البداية الزمنية للتاريخ العربي فيقول‏[15]:

«ولما استفحل الملك للعرب في الطبقة الأولى للعمالقة، وفي الثانية للتبابعة وكان ذلك عن كثرتهم، فكانوا منتشرين لذلك العهد باليمن والحجاز ثم بالعراق والشام. فلما تقلص ملكهم وكان بالعراق منهم بقية أقاموا ضاحين من ظل الملك…».

اللافت للنظر أن جواد علي قد أرّخ للعرب البائدة، والعاربة، والمستعربة بإسهاب، كما أكد أن «العدنانيين هم أصل العرب ولبها والعرب العاربة الأولى»‏[16]. في ظل هذا التناقض لا نجد سبباً مقنعاً لتقليص بداية التاريخ العربي لبعد الميلاد، إلا إذا افترضنا أن الأمر ربما التبس على جواد علي فاعتبر تحديد العلماء الإسلاميين‏[17] لتاريخ الشعر العربي ببعد الميلاد أو 200 سنة قبل الإسلام. وذلك لأن جواد علي عوَّل كثيراً على عامل اللغة العربية‏[18] (لغة القرآن) ووحدتها كأساس مشترك لوحدة التاريخ العربي. لم يقف التناقض عند هذا الحد، فهو يطالب بإطلاق لفظ الشعوب العربية على الشعوب «السامية» (ذرية نوح)، ويطالب باستبدال مصطلح «سامي وساميّة بعربي وعربية»، ثم ينفي أن «الساميين» (ذرية نوح) عرباً، ويقول: «فالسامية [ذرية نوح] وحدة ثقافية، اصطلح عليها اصطلاحاً، والعروبة وحدة ثقافية وجنسية وروابط دموية وتاريخية وبين المفهومين فرق كبير»‏[19]. ويستمر جواد علي في تحديد مفهوم العروبة فيقرر‏[20]:

«ونحن [جواد علي] إذ نُطلق لفظ (عرب) و[العرب] على سكان البلاد العربية فإنما نطلقها إطلاقاً عاماً على البدو والحضر، لا نفرّق بين طائفة من الطائفتين، ولا بين بلد وبلدة نطلقها بمعنى جنسية وقومية وَعَلَمٍ على رِسٍ له خصائص وسمات وعلامات وتفكير يربط الحاضرين بالماضيين كما يربط الماضي بالحاضر».

يتناقض المفهوم السابق مع تحديد بداية استعمال لفظ عرب وبداية التاريخ العربي ببعد الميلاد وقبل الإسلام. فشمولية اللفظ في حد ذاتها تفرض عمقاً تاريخياً، إضافة إلى أن جواد علي ذكر نقـلاً عن الطبري أن بختنصر ملك الكلدانيين غزا «العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم»‏[21]، وكذلك أرّخ للدولة المعينية‏[22] في اليمن، بأنها «أقدم الدول العربية التي بلغنا خبرها»، وقد عاشت وازدهرت بين 1300 – 630 ق. م. هذا إضافة إلى تأريخه لطبقات العرب كما ذكرنا سابقاً.

وإذا تابعنا المفهوم السابق للعروبة فإننا نجد أن جواد علي لم يذكر دليـلاً واحداً على أن خصائص العرب وسماتهم وعلاماتهم كجنس بشري كانت معدومة قبل الميلاد، كما أنه لم يذكر أي دليل على أن مثل هذه الخصائص والسمات والعلامات تشكلت بعد الميلاد وقبل الإسلام. ولكن إذا افترضنا جدلاً بأن جواد علي قصد بتحديده للبداية الزمنية أنها بداية التاريخ المشترك للشعوب العربية، بدواً وحضراً، في صورة وحدة جغرافية ولغوية واجتماعية وسياسية، وأن ما قبل البداية التي حددها، كان للعرب تاريخ غير مشترك لانعدام الوحدة السياسية، فإننا لا نعتقد بصحة هذا الرأي ولا نأخذ فيه، لأن الوحدة السياسية ليست عامـلاً أساسياً في تحديد تاريخ مشترك لأي أمة من الأمم، بدليل أن الشعوب العربية حالياً تشترك في التاريخ وتفتقر إلى الوحدة السياسية، كما أنه لم يكن للعرب وحدة سياسية (حكومة مركزية تخضع لها كل بلاد العرب) إلا في الإسلام. وحقيقة الأمر أن العرب منذ وجودهم حتى اليوم يشتركون في وحدة جغرافية واجتماعية وهما أساس الوحدة السياسية والتاريخ المشترك.

لهذا نرى أن تحديد بداية التاريخ العربي ببعد الميلاد أمر يترتب عليه تقليص الدور الحضاري للعرب، وبهذا نرى أن بداية التاريخ، كما حددها ابن خلدون، هي في الطبقة الأولى من العرب «العاربة» (البائدة) وهم «العمالقة» وعاد وثمود.

استناداً إلى ما سبق تكون الإنجازات الحضارية، والمعمارية منها بصفة خاصة، لجميع الأقوام التي عاشت على الأرض العربية، إنجازاً شارك فيه العرب، فالعرب، إذاً، ابتدعوا أو شاركوا في خلق قواعد وتقانات الفكر، والعمل المعماريين، حيث إن قواعد الفكر وتقانات العمل، تخضع للعوامل البيئية، الجغرافية منها والاجتماعية.

بيَّنا في ما سبق من دراسة بداية وجود الجنس العربي على الأرض العربية، ودحضنا محاولة تحديد بداية التاريخ العربي ببعد الميلاد وعلى وجه التحديد بـ200 سنة قبل الإسلام. وذلك بقصر لفظ عرب على التجمعات البشرية في وسط الجزيرة العربية (الحجاز ونجد) وإهمال تاريخ عرب الشمال والجنوب.

الهدف من هذا التشويه التاريخي هو عزل الإنجازات الحضارية لعرب الشمال والجنوب عن عرب الوسط. ثم إهمال تاريخ الجنوب (اليمن) شكـلاً وموضوعاً، وإنكار وجود أي روابط تاريخية أو تواصل حضاري بين عرب الوسط ومن سبقهم من الأجداد، كعاد، وثمود، والعمالقة… إلخ. وكذلك بين عرب الشمال ومن سبقهم من الأجداد أو من هم بمرتبة الأجداد من الأقوام التي انبثقت من ذرية نوح، كالآراميين، والأموريين، والكنعانيين، والسومريين، والكلدانيين، والأكاديين، والأشوريين، والبابليين، ثم وصم حضارة الشمال بالتبعية (بعد قطع جذورها التاريخية) للحضارات اليونانية والبيزنطية والساسانية.

رسم هذه الاستراتيجية وخطط لها ونفذها المستشرقون، ودافع عنها وتبنّاها المقلدون والمستغربون من مفكري العرب ومؤرخيهم. لكن المتتبع للعلاقات التجارية والاجتماعية والسياسية للتجمعات البشرية العربية في جزيرة العرب، يخلص إلى وجود تاريخ مشترك، وحضارة عربية مستقلة ومؤثرة ذات فكر معماري نشأ وتطور في محيط عربي جغرافي وتاريخي وبشري متكامل.

على أن أرقى وأهم ما تضمنه مفهوم التاريخ عند العرب قبل الإسلام، أو ما اصطلح على تسميته الجاهلية، هو مفاهيم فلسفة التاريخ التي عبر عنها حكيم العرب قس بن ساعدة الأيادي في خطبته وقصيدته المشهورتين‏[23]، وهي: الدروس والعبر، والتواصل التاريخي، والتفكر والتأمل.

هذه المفاهيم هي نفسها ركائز فلسفة التاريخ الإسلامي التي أرساها القرآن الكريم، والمؤرخون المسلمون، وأضافوا إليها مفهوماً رابعاً هو التنوع داخل الوحدة، وسأعرض لها تفصيـلاً لأبيِّن قِدم البداية الزمنية للتاريخ العربي.

كما أن المتتبع للتاريخ العربي يستطيع تبيُّن التواصل الاجتماعي في الجزيرة العربية من التحالفات والأحداث السياسية والحربية التي كانت تعقد وتحدث بين سكانها. كما نستطيع تبيُّن التواصل الاجتماعي من العلاقات التجارية بين شمال الجزيرة العربية ووسطها وجنوبها، والشعر الجاهلي أدق وأصدق المصادر للتواصل الاجتماعي بين سكان الجزيرة العربية.

كما يتضح للمتتبع أن التواصل الاجتماعي شأنه شأن فلسفة التاريخ، يؤكد لنا تواصل التاريخ العربي والحضارة العربية ووحدتهما. بناء على ذلك، فإننا نرفض تقليص التاريخ العربي والحضارة العربية من جانب المستشرقين وأتباعهم في الوطن العربي، وقصرهما على وسط الجزيرة العربية (الحجاز ونجد). ونرى أن تاريخ الشمال والوسط والجنوب تاريخ واحد شامل لا يتجزأ؛ وأن الإنجازات الحضارية للشمال والجنوب، وبالذات الظاهرة الفنية والمعمارية، قديمة قِدم التاريخ العربي نفسه؛ ابتدأت ونشأت ونمت وتطورت في بيئة عربية اجتماعياً وجغرافياً، وبعيداً من تأثير الحضارات المجاورة كالساسانية والبيزنطية.

وما يؤكد ما ذهبت إليه هو وحدة فلسفة التاريخ العربي، والعربي – الإسلامي، التي ستكون موضوعنا التالي.

ثانياً: فلسفة التاريخ الإسلامي

إن فلسفة التاريخ في رأيي، هي رؤية أو تصور الحضارة لكيانها وبنيتها ولمحيطها الكوني والعالمي. بتعبير آخر، هي خلاصة تفسيرها لظواهرها، وتفسيرها للكون وللعالم. وفلسفة التاريخ هي التي تحدد علاقة الحضارة المُفْرِزَةِ لها أو المُنْتِجَةِ لها، والمُعَبِّرَةِ عنها بالحضارات الأخرى. فهي إذاً: مجمل الأطر النظرية والثقافية والفكرية، التي تحكم تشكيل ظواهر الحضارة، وهي التي تُعَبِّرُ بها الحضارات الراقية عن بنيتها وظواهرها.

وفلسفة التاريخ هي التي توضح منهجيات تفسير الظواهر الحضارية، وتحدد منطلقاتها؛ فتحدد بذلك أطرها الفكرية، وتكسبها خصوصية في الطرح والشكل والمضمون، تُمَيزُها عن مثيلاتها من الظواهر والحضارات الأخرى. وفلسفة التاريخ هي التي تحدد وعي منتسبيها، وتبيِّن مدى التزامهم الحضاري من خلال تلقائية ردود فعلهم على ما يمكن أن يُقلق وعيَهم من أحداث وظواهر معرفية.

تأسيساً على ما سبق، فإن ردود أفعالنا على تفسير ظواهر حضارتنا العربية الإسلامية يجب أن تكون نابعة من حضارتنا وفلسفة تاريخها. لكن الواقع غير ذلك، فردود أفعالنا على تفسير الظاهرة المعمارية كان استجابة مطلقة لفلسفة التحقيب التاريخي للحضارة الغربية؛ التي قسمت عمارتنا إلى حقبٍ تاريخية، وجعلت لكل حقبة طرازاً خاصاً بها، له خصائصه الشكلية والجمالية، فأنكرت أصالتها ووصمتها بالتبعية للحضارتين البيزنطية والساسانية.

أخطر من هذا هو أن تحقيب الحضارة الغربية وتفسيرها للعمارة الإسلامية، جرّدها من أُطرها النظرية وغيبها تغييباً كامـلاً، ونفى عقلانية ممارستها، المتمثلة بأرقى منهجيات التصميم المعماري، وهي منهجية الأحكام، واختصرها في منهجيتي التكرار والاقتباس. وذلك كله يعود إلى وعينا المستلب، وتهميشنا لذاتنا، وتغييبنا لإنجازاتنا العلمية.

وسأعرض فيما يلي من دراسة وتحليل مفاهيم فلسفة التاريخ الإسلامي ومضامينها المنهجية، التي يجب أن توظف في تفسير ظواهر الحضارة العربية الإسلامية، وعلى وجه التحديد الظاهرة المعمارية. تتضمن هذه الفلسفة أربعة مفاهيم، وهي: الدروس والعبر، والتواصل التاريخي، والتفكر والتأمل، والتنوع داخل الوحدة. وكل مفهوم من هذه المفاهيم يتضمن منهجيته الخاصة في تفسير الظواهر الحضارية، وسأقصر عرضي هنا على تفسير الظاهرة المعمارية وممارستها، مبتدئاً بمفهوم الدروس والعبر.

1 – الدروس والعبر

هذا المفهوم، كما يتضح من ألفاظه ومعانيها، ومن تجربتنا التاريخية، ومعايشتنا الإنسانية الحسية، مفهوم فطري تربوي تدريبي وتعليمي، له دور معرفي تراكمي، أثرى التجربة الإنسانية وأسهم في ترشيدها. وهو كوسيلة أو كمنهج تربوي ما زال له حضوره الفاعل. أما تاريخياً فقد وظفه القرآن الكريم في تفسير ما آلت إليه الأقوام التي سبقت الإسلام، وما حل بحضاراتها كما في العقاب الجزئي لآل فرعون‏[24]، والإبادة الكلية لقوم نوح‏[25] وقوم هود‏[26] (عاد)، وقوم صالح‏[27] (ثمود) وقوم لوط‏[28] وقوم شعيب‏[29]. ولقد ذكر القرآن الكريم هذه الدروس تارة تلميحاً وتارة تصريحاً كما في سورة العنكبوت‏[30]:

﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾

ويُعطى مفهوم الدروس والعبر صورة أكثر وضوحاً وشمولاً في قوله تعالى‏[31]: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾. وكذلك في قوله تعالى‏[32]: ﴿‍‌أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾‏[33]. ما يعنيني من هذا المفهوم ليس الحدث التاريخي بل حضور مفهوم الدروس والعبر في تفسيره، وما يتضمن الحدث التاريخي من إنجازات حضارية، وبالذات عمرانية، فإرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، إنجاز حضاري ضخم يعجز الوصف عنه، ولا يحيط الخيال بأبعاده. ولقد تم هذا الإنجاز بأيد عربية، وعلى أرض عربية، فكانت دروس وجب الاستفادة منها، وعبر وجب الاتعاظ بها. فمفهوم الدروس والعبر استعمل تاريخياً في تفسير تاريخ الأمم السابقة للإسلام، كما استعمل كمنهج استدلالي تربوي للاتعاظ والاعتبار.

أما معمارياً فإننا إذا قارنا بين عظمة المنجزات المعمارية للحضارة الفرعونية، الماثلة إلى عصرنا الحاضر، بعمارة إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها بالبلاد، لتبين لنا أن الأولى على عظمتها، لا ترقى إلى عمارة الثانية؛ لأن وصف الله عز وجل للثانية بعبارة «لم يخلق مثلها في البلاد» يتضمن تفردها فخامة، وتميزها جمالاً. فالخيال الذي أطلقه المؤرخون والجغرافيون‏[34] العرب في وصف مدينة إرم ذات العماد وعمارتها على سبيل المثال، كانت وما زالت تؤسس دروساً في نظريات التخطيط العمراني، والتصميم المعماري، والعمران الشجري، والجمال، والفخامة، وروعة الزخارف، وتقانة البناء. واللافت للنظر أن كل ما نسمع عنه من فخامة في بعض قصور أغنياء هذا العصر لا يرقى إلى وصف قصور إرم ذات العماد، كما أن أرقى مدن العالم في عصرنا الحاضر، لا ترقى إلى وصف مدينة إرم ذات العماد، ولا إلى جمال حدائقها، وروعة أنهارها، وتنسيق أشجارها.

وبالجملة فإن مفهوم الدروس والعبر التاريخي إضافة إلى دعوته إلى التفكر والتأمل، وإطلاقه للخيال، فهو منهجياً يتضمن منهجية التجربة والخطأ في التصميم المعماري. فالدروس نتعلمها من أخطائنا، والعبر هو عدم تكرارها، فنصل إلى نموذج يتم تكراره، وهو ما يعرف بمنهجية التكرار.

إذاً، منهجياً يوجد جانبان لمفهوم الدروس والعبر: إيجابي ويتمثل بالتفكر والتأمل وإطلاق الخيال، وسلبي يتمثل بالتكرار، والعمارة العربية الإسلامية تتبنى الإيجابي منهما كما سأوضح في مفهوم التواصل التاريخي في ما يلي من دراسة وتحليل.

2 – التواصل التاريخي

إن مفهوم التواصل التاريخي يرتبط بمفهوم الدروس والعبر، كما يتضح في القرآن الكريم، وفي أعمال الجاحظ، وأبي العلاء، وابن خلدون. ففي سورة الأعراف يقول الله تبارك وتعالى مخاطباً قوم هود (عاد) ‏[35]: ﴿… وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّـهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (ثمود) ‏[36]: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّـهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِين﴾ . ويستمر مفهوم التواصل التاريخي في نفس السورة بذكر الأقوام التي تعاقبت بعد ثمود إلى الرسول الكريم (ﷺ): ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ﴾‏[37].

يتضح لنا التكامل بين مفهوم الدروس والعبر ومفهوم التواصل التاريخي في قوله تعالى‏[38]: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾».

وبهذا يتضح لنا أن التواصل الحضاري، والمعماري منه بصفة خاصة، كان نتيجة حتمية للتواصل التاريخي، استوعبته وحفظته الأجيال المتلاحقة، كما بينه الجاحظ‏[39]:

«ثم اعلم رحمك الله أن حاجة بعض الناس إلى بعض صفة لازمة في طبائعهم، وخلقة قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، ومشتملة على أدناهم وأقصاهم، وحاجتهم إلى ما غاب عنهم، مما يعينهم ويحييهم ويمسك بأرماقهم، ويصلح بالهم، ويجمع شملهم، وإلى التعاون في درك ذلك، والتوازر عليهم كحاجتهم إلى التعاون على معرفة ما يضجرهم، والتوازر على ما يحتاجون من الارتفاق بأمورهم التي لم تغب عنهم، فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى، معان متضمّنة، وأسباب متصلة، وحبال منعقدة، وجعل حاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا، كحاجة [من كان قبلنا إلى أخبار من كان قبلهم وحاجة]‏[40] من يكون بعدنا إلى أخبارنا… ثم تعبد الإنسان بالتفكير فيها [الحاجة] النظر في أمورها، والاعتبار بما يرى، ووصل ما بين عقولهم وبين معرفة تلك الحكم الشريفة، وتلك الحاجات اللازمة بالنظر والتفكير، وبالتنقيب والتنقير والتثبت والتوقف، ووصل معارفهم بمواقع حاجتهم إليها وتشاعرهم بمواضع الحكم فيها [و] البيان منها».

إن هذا التزاوج بين التواصل التاريخي والحضاري أكده ووضحه أبو العلاء المعري في رسالة الغفران‏[41]:

«والزمن كله على سجية واحدة، فالذي شاهده معد بن عدنان كالذي شاهده نضاضة ولد آدم».

كما وضحه ابن خلدون في المقدمة وذلك بملاحظة أوجه التشابه والتباين في الأمة الواحدة أو بين الأمم المختلفة فقال:

«إن الناس جميعهم متشابهون مهما تختلف أزمنتهم وأمكنتهم، وأن الناس جميعاً مختلفون مهما تشد بينهم وجوه الشبه»‏[42].

وبهذا يتضح لنا أن أوجه التشابه بين الحضارات المختلفة ناتج من تجانس بعض الرغبات الإنسانية عند البشر مهما اختلفت البيئة، وأن التباين بين الحضارات هو السمات المميزة لحضارة دون أخرى، وهذه السمات هي التي توضح مكانة الحضارات في التاريخ من عظمة أو ضعة، أصالة أو تكلف.

فمفهوم التواصل التاريخي في الحضارة الإسلامية، كما فسره القرآن الكريم، يشمل جانبين:

أولهما، أن كل حضارة متواصلة في ذاتها وتشكل حقبة في حضورها الزمني وفاعليتها التاريخية؛ وثانيهما، أن ثمة تواصل بين الحضارات مع ما تشكله من حقب تاريخية مستقلة على الرغم من تباعدها الزمني وتباينها الفكري واختلاف منتجها الحضاري.

استناداً إلى ما سبق فإن الحضارة الإسلامية هي آخر الحقبات التاريخية في التاريخ العربي، وحضارياً هي وحدة متماسكة ومتواصلة، في ذاتها وكينونتها، مهما امتد بها الزمان، لثبوت مكونها الرئيسي، وهو الدين الإسلامي، وما أفرزه من قواعد وأحكام ومعايير، تحكم منظوماتها الفكرية، ومنجزاتها الحضارية. وفي ذات الوقت هي امتداد لما سبقها من حضارات، متواصلة معها كما رأينا في استخلافها للحضارات السابقة لها، وحلولها بمساكن من سبقها من الحضارات. فمنتوجها المعماري متواصلٌ بحكم وحدة الفكر، ومتنوع بحكم تنوع البيئة الحاضنة، وتنوع مواد البناء وتقاناته. وليس أدل على ذلك من عمارة المساجد فهي متواصلة في جميع أنحاء العالم الإسلامي وتؤدي وظيفة رئيسية واحدة، وهي الصلاة (ووظائف اجتماعية متعددة)، ويخضع لمنظومة أحكام واحدة، وهي أحكام البنيان وأحكام الصلاة الثابتة التي لا تتغير، لكنها، أي المساجد، متباينة في الشكل وفي تقانة البناء.

فمفهوم التواصل التاريخي في الحضارة الإسلامية يتمثل معمارياً بوحدة الفكر وثبات الوظيفة، وأعني بالأولى منظومة أحكام‏[43] البنيان الإسلامية، التي تحكم العمل المعماري، أياً كان نوعه وفي أي بيئة أنتج. أعني بثبات الوظيفة وحدة النظام الاجتماعي وإفرازاته المختلفة من سلوكية وتربوية وتعليمية. أما التباين الشكلي فهو ناتج من مفهومَي التفكر والتأمل، والتنوع داخل الوحدة، فالتواصل التاريخي إذاً في الحضارة الإسلامية مرتبط بالتنوع والإبداع، وليس بالتكرار والجمود.

أما في الحضارات الأخرى فيرتبط مفهوم التواصل التاريخي بمنهجية التكرار في التصميم المعماري، التي تلي منهجية التجربة والخطأ، الناتجة من مفهوم الدروس والعبر، إذ بعد أن يتعلم الإنسان من أخطائه ويتداركها يصل إلى نموذج معماري يتم تكراره، وإعادة إنتاجه. فليس ثمة من تفكر وتأمل في هذه الحضارات كما هو الحال في الحضارة العربية الإسلامية، كما سأبيّن لاحقاً، وبعد أن أعرض لمفهوم الحقب التاريخية الذي تضمنه مفهوم التواصل التاريخي، في ما يلي من دراسة وتحليل.

الحقب التاريخية

يقودنا مفهوم التواصل التاريخي بدوره إلى مفهوم الحقب التاريخية. ويتضح لنا هذا المفهوم في آيات الاستخلاف السابقة الذكر: استخلاف قوم عاد لقوم نوح، وثمود لعاد. هذا الاستخلاف يوضح لنا أن كـلاً من الأقوام المذكورة شكل حقبة زمنية محدودة، بدأت ونمت وتطورت وانتهت خلالها حضارة معينة.

والقرآن الكريم يوضح لنا مفهومين للحقب التاريخية: أولهما، أن تاريخ الإنسانية كله حقبة واحدة، كما في خطاب الله تعالى لآدم‏[44]: ﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَىٰ حِين﴾؛ والثاني أن لكل أمة من الأمم حقبة تاريخية، تبدأ وتنشأ وتتطور وتنتهي خلالها حضارة معينة كما في قوله تعالى‏[45]: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُون﴾. وكذلك في قوله تعالى‏[46]: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ. مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُون﴾.

واللافت للنظر أن مفهوم الحقب التاريخية في الحضارة الغربية، أفرز معمارياً ظاهرة الطرز، ومن ثم منهجية الاقتباس. وكل حقبة تاريخية مرت بمرحلتي التجربة والخطأ، والتكرار، وتبنتهما كمنهجيتين للتصميم المعماري ولمنتجاتها الحرفية والعملية. ولقد وضحت كيف انتهت المنهجية الأولى إلى الوصول إلى نموذج ثابت العناصر والصفات، وكيف تبنت الثانية تكرار هذا النموذج؛ فتعددت النماذج تبعاً لتعدد الحقب التاريخية (الحضارات). ولقد أسفر هذا التكرار عن جمود فكري، أدى إلى ظهور ما يعرف بالطراز في كل الحضارات، باستثناء الحضارة العربية – الإسلامية، التي ترفّعت عن هذه المنهجيات، وتبنّت منذ نشأتها مفهوم التفكر والتأمل في تفسير التاريخ، وقراءة الحضارات وظواهرها الثقافية. وتبنت منهجية الأحكام في الممارسات المعمارية، والحرفية، والصناعية، وفي كل الظواهر الثقافية للحضارة العربية – الإسلامية، على النقيض من الحضارة الغربية التي تبنت منهجية التكرار والاقتباس من النماذج المكررة (الطرز). وهذا يثبت عجزَ وقصورَ، بل طفيليةَ، الحضارة الغربية، وعدم قدرتها على خلق طرز. أما محاولتها العقلانية‏[47] في القرن العشرين لخلق عمارة تمارس بمنهجية الأحكام، فقد قوضتها قوى لاعقلانية من داخل الحضارة الغربية نفسها، وأعادتها إلى منهجية الاقتباس كما في عمارة ما بعد الحداثة، ثم أغرقوها مرة أخرى في الفوضى التركيبية وعدمية لاعمارة نزعة التفكيك.

بهذا فإن مفهوم الحقب التاريخية في الحضارة العربية – الإسلامية بصفة عامة، وفي تاريخها بصفة خاصة، لا يمكن تبنيه ومن ثم تطبيقه كمنهج في دراسة الظواهر الثقافية والحضارية الإسلامية ومنها العمارة والفنون والآداب.

بناء على ما سبق، فإن كون التاريخ العربي، والعربي – الإسلامي، تاريخ شامـل ومتصـل ومستمر لا يتجزأ، ولا يمكن فصل بعضه عن بعض؛ ويصاحب هذا التاريخ حضارة مستمرة متزامنة في البداية والنشأة والتطور والأهداف مع التاريخ نفسه. والإسلام نقطة تحول في هذا التاريخ يزيد من زخمه ولا يوقفه، ويدفعه إلى التواصل والاستمرار ويحميه من التقوقع والجمود. ويكون الإنجاز الحضاري العربي، والعربي – الإسلامي، مميزاً عن غيره من الإنجازات الحضارية الأخرى بتواصله واستمراره؛ ولأنه مبني على أسس فكرية، لم تتوافر لأي حضارة سابقة، أو متزامنة، مع الحضارة العربية – الإسلامية. فكانت الظواهر الثقافية والحضارية العربية – الإسلامية، وبالذات الظاهرة المعمارية، تطبيقاً وتشكيلاً لمبادئ ومفاهيم وأفكار سابقة للإنجاز المادي للظاهرة الحضارية نفسها. أي أنها مبنية على التفكر والتأمل الذي يشكل المفهوم الثالث في فلسفة التاريخ الإسلامي كما سأبين في ما يلي من عرض وتحليل.

3 – التفكر والتأمل

هذا المفهوم يشكل في رأيي محور فلسفة التاريخ الإسلامي، فهو يجمع بين الإدراك الحسي والإدراك العقلي. فالأول يتم بالتفكر والنظر بالمحسوسات، الذي يؤدي بدوره إلى النظر التأملي، الذي يصل إلى كماله بالمعرفة العقلية، كما سأبيِّن لاحقاً. وبهذا المفهوم العقلاني أسست الحضارة الإسلامية بنيتها وفسرت ظواهرها، ودعمت كيانها، وفرضت حضورها، ورسمت شخصيتها، وحددت علاقاتها بغيرها من الحضارات.

وبهذا المفهوم خاطب الله (b) المسلمين وغيرهم، وبه فسر تاريخ الأمم السابقة وجعله أداة للتعرف والتبين، والاتعاظ والازدجار، فوصله بمفهوم الدروس والعبر من حيث قراءة الظواهر الحضارية السابقة للإسلام، والتفكر بما كانت عليه والاتعاظ بما آلت إليه. فجميع الآيات السابقة توضح ارتباط المفهومين بعضهما ببعض. تتجلى قيمة هذا المفهوم في أن الله سبحانه وتعالى جعله وسيلة النظر التأملي العقلي لتفسير الظواهر العلمية والكونية كما في قوله تعالى‏[48]: ﴿‍‌أَفَلَمْ يَنظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ. وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج. تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيب﴾ وفي قوله تعالى‏[49]: ﴿‍‌أَفَلَا يَنظُرُونَ إلَى الْإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ. فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾

والآيات‏[50] الكريمة الداعية إلى التفكر والتأمل، كثيرة وعظيمة الدلالة على عقلانية الحضارة الإسلامية، وفلسفة تاريخها. فهي تبدأ بالإدراك الحسي عبر المعايشة الحسية مع الظواهر الكونية، لتنتهي إلى التأمل العقلي ثم إلى التفسير العلمي المبني على الاستدلال العقلي.

تبنى هذا المفهوم المفكرون المسلمون ووظفوه في تشكيل بنية الحضارة الإسلامية وتفسير ظواهرها وتحديد علاقاتها بغيرها من الحضارات. فالجاحظ، كما بيَّنت في الاقتباس السابق، وظف هذا المفهوم في تفسير ظاهرة الاجتماع الإنساني، ثم وضحه في تفسير ظاهرة البيان العربي فقال‏[51]:

«… فالأجسام الخرس الصامتة، ناطقة من جهة الدلالة ومعربة من صحة الشهادة، على الذي فيها من التدبير والحكمة، مخبر لمن استخبره وناطق لمن استنطقه…».

ثم وظفه مرة أخرى في توضيح منهجية الفطرة عند الحيوانات وفسر به اجتماعها وكيفية تحصيل معاشها فقال‏[52]:

«والقسمة الأخرى ما أودع [الله عز وجل في] صدور صنوف سائر الحيوان من ضروب المعارف وفطرها عليه من غريب الهدايات … فلا الإنسان جعل نفسه كذلك، ولا شيء من الحيوان اختار ذلك، فأحسنت هذه الأجناس بلا تعلم، ما يمتنع عن الإنسان وإن تعلم … ثم جعل تعالى عز وجل هاتين الحكمتين إزاء أعين الناظرين، واتجاه أسماع المعتبرين، ثم حث على التفكير والاعتبار وعلى الاتعاظ الازدجار، وعلى التعرف والتبين، وعلى التوقف والتذكر، فجعلها مذكرة منبهة، وجعل الفكر منشئ الخواطر…».

مفهوم التفكر والتأمل إذاً هو منهج لتفسير الظواهر الحضارية، ومنها العمارة، كما وضح ابن قتيبة، فذكر أن قوماً من أصحاب الكلام سألوا محمد بن الجهم أن يذكر لهم مسألة من حد المنطق، فقال لهم ما معنى‏[53]:

«أول الفكرة آخر العمل، وأول العمل آخر الفكرة. فسألوه التأويل، فقال لهم: مثل هذا كمثل رجل قال إني صانع لنفسي كناً فوقعت فكرته على السقف ثم انحدر فعلم أن السقف لا يقوم إلا على حائط وان الحائط لا يقوم إلا على أس وأن الأس لا يقوم إلا على أصل ثم ابتدأ في العمل بالأصل ثم بالأس ثم بالحائط ثم بالسقف فكان ابتداء تفكره آخر عمله وآخر عمله بدأ تفكره».

فمفهوم التفكر والتأمل هنا ظاهر الحضور، وواضح الدلالة في تفسير الظاهرة المعمارية. فالتفكر هنا كان نتاج تأمل عقلي أسفر عن تقدير عملي لطريقة البناء قبل العمل، أي أن التقدير ناتج عن تفكير مسبق. فالتفكير إذاً أساسه التفكر والتأمل العقلي. ولهذا كانت دعوة الله (b) للمسلمين إلى التفكر والتأمل في مخلوقاته للتعرف إلى عمليات التقدير التي وظفها في إنتاجها وخلقها، كما في قوله تعالى‏[54]: ﴿… وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾». وكذلك في قوله تعالى‏[55]: ﴿… مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾. وفي قوله تعالى‏[56]: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾. فالتقدير هنا بمعنى التصميم وهو نتاج عمل تأملي عقلي عند البشر كما عبر عنه إخوان الصفا‏[57]، حيث بينوا أن إنتاج الأجسام يتم بالتقدير قبل العمل، أي بالتفكير المسبق، وتتم عبر مراحل: أولها تحديد المكان، أي في أي موضع يعملها؛ وثانياً تحديد الزمان أي في أي وقت يبتدئ فيها؛ وثالثاً، إمكانية عملها، أي هل يقدر على إنتاجها أم لا؛ ورابعاً، بأي أدوات وآلات يعملها، وخامساً، كيف يؤلف أجزاءها.

ولقد شارك إخوان الصفا في وضع منهجية التقدير أو التفكير المسبق على إنتاج العمل، الكثير من العلماء المسلمين، نخص منهم: البوزجاني‏[58] (328 – 388هـ)، والحسن بن الهيثم‏[59] (354 – 432هـ). نخلص من كل ما سبق إلى أن مفهوم التفكر والتأمل في فلسفة التاريخ الإسلامي أسفر، إضافة إلى تفسيره الظواهر الحضارية، عن وضع منهجية التقدير أو التفكير المسبق، التي وظفت في الممارسات المعمارية، والحرفية، والصناعية، فأضفت طابعاً عقلياً على التفسيرين النظري والعملي للظاهرة المعمارية، وأسفرت بدورها عن منظومة قواعد وأحكام وبيانات تصميم، عرفت بأحكام البنيان الإسلامية، حكمت بدورها ممارسة العمل المعماري ووحدته على الرغم من تنوع إنتاجه، وهذا يقودنا إلى المفهوم الأخير في فلسفة التاريخ الإسلامي وهو التنوع داخل الوحدة.

عرضت في ما سبق لثلاثة مفاهيم لفلسفة التاريخ الإسلامي، وبينت دور كل مفهوم منها في تفسير الظاهرة المعمارية ووضحت مدى ارتباطه بمنهجيات ممارستها. ونفيت من خلال هذه المفاهيم، وتحديداً من خلال مفهوم التواصل التاريخي، دور فلسفة التحقيب التاريخي الغربية التي تنفي وجود جسم نظري فكري يفسر العمارة العربية – الإسلامية، واستبدلته بجسم نظري فكري بديل، قائم على التحليل الشكلي للأعمال المعمارية العربية – الإسلامية، بعد أن صنفتها لحقب، وأضفت طرازاً لكل حقبة. فاختصرتها إلى عمارة مورست خارج حيز الوعي، وبمنهجية التجربة والخطأ، وليس بمنهجية الأحكام التي هي أرقى منهجيات التصميم المعماري قاطبة، والتي انفردت بها العمارة الإسلامية منذ نشأتها. كما سأبين في ما يلي من عرض وتحليل، والذي سيخصص للمفهوم الرابع والأخير لفلسفة التاريخ الإسلامي وهو التنوع داخل الوحدة.

4 – التنوع داخل الوحدة

بيَّنت في ما سبق أن الحضارة العربية حضارة ذات جذور عميقة موغلة في التاريخ، وخلصت إلى أن الإنجازات الحضارية، والمعمارية منها بصفة خاصة، لجميع الأقوام التي عاشت على الأرض العربية، سواء قبل الطوفان أو بعده، إما أن تكون إنجازاً عربياً خالصاً أو إنجازاً شارك فيه العرب. كما بيَّنت أن الحضارة العربية كانت قد تواصلت مع الحضارة الإسلامية، وشكلت مادتها الأولى. ونظراً إلى تعدد هذه الأقوام فقد تنوعت منجزاتها الحضارية، والمعمارية منها بصفة خاصة، تبعاً لتنوع البيئة جغرافياً وجيولوجياً، ولما يفرضه هذا التنوع من أساليب وطرائق وتقانات لمعالجة البيئة وتطويعها لتلبية حاجات القاطنين فيها.

ولقد زاد هذا التنوع ثراءً بتوسع انتشار الحضارة الإسلامية في آسيا وجنوب أوروبا، فضمت إليها الإسهام الحضاري لأقوام فارس والهند ودول وسط آسيا وتركيا (بيزنطة) والأندلس وجنوب إيطاليا وأجزاء من شرق أوروبا.

لكن هذا التنوع العرقي (وما تضمنه من إسهام حضاري، أخص منه المعماري) تم دمجه في وحدة فكرية واحدة هي العقيدة الإسلامية، التي أفرزت نظاماً اجتماعياً موحداً لجميع هذه الأعراق، أفرز بدوره منظومة قيم، تم ترجمتها إلى أحكام، وَحَّدَتْ بدورها المنجز الحضاري الإسلامي، فأحكام البنيان الإسلامية هي التي وَحَّدَتْ المنجز الحضاري المعماري على الرغم من تنوع أشكاله وتباين تفاصيلها المعمارية على امتداد العالم الإسلامي.

فأحكام البنيان التي دوِّنت في كتب المذاهب الفقهية الأربعة: المالكي، والشافعي، والحنبلي، والحنفي، كانت ملزمة لجميع المسلمين ومطبقة في جميع أنحاء العالم الإسلامي. ولقد تم جمعها في كتب مستقلة أهمها وأشملها هو كتاب‏[60] المعلم المعمار ابن الرامي، المتوفى نحو عام 750هـ – 1349م، الإعلان بأحكام البنيان، الذي عالج فيه مواضيع تخص التصميم وأخرى تخص التنفيذ، ومن هذه الأحكام: الخصوصية، وحقوق الارتفاق، ونفي الضرر على جميع أنواعه، وأخص منها المتطلبات الاجتماعية والنفسية للمستعملين: كنفي ضرر الرائحة، والدخان، والضوضاء؛ وأحكام الجدار والحيطان، والمجاري، والخرجات (البروزات)، وأحكام الطريق، والأسواق، وغير ذلك.

وإذا أخذنا في الحسبان قواعد التصميم البيئي‏[61] التي وضعها البلخي (235 – 322هـ/​849 – 943م) في كتابه، مصالح الأبدان والأنفس، على الرغم من كونها أحكاماً ملزمة في أحكام البنيان الإسلامية، إلا أنها شكلت نظريات مستقلة للتصميم البيئي، ما زالت فاعلة حتى يومنا الحاضر، لكنها منسوبة إلى الحضارة الغربية، التي لم تعرفها إلا في نهاية النصف الأول من القرن العشرين بصورة النقاط الخمس للمعماري الفرنسي لكوريوزية. وإذا أضفنا إلى كل ما سبق، البيانات الفنية للتصميم‏[62]، التي وضعها أحمد بن شادان (708هـ/1308 م) في كتابه: أدب الوزراء، المتمثلة بالأبعاد والمقاسات والمساحات، الخاصة ببعض المباني، كالأواوين والدور والبيوت، والبهو، والمعاصر، والإسطبلات، والمساجد، والحمامات، وارتفاع جلسات الكوى والشبابيك، ومقاسات الأبواب وغير ذلك، لوجدنا أن العمارة الإسلامية مورست بأرقى منهجيات التصميم المعماري وهي منهجية الأحكام. التي عملت كأداة لوحدة الظاهرة المعمارية في الحضارة الإسلامية، ومن ثم جاء مفهوم التنوع داخل الوحدة في فلسفة التاريخ الإسلامي، كآلية لتفسير ظواهر الحضارة الإسلامية المتعددة، والمتنوعة، والمتباينة، شكـلاً ومظهراً، والموحدة فكراً ومضموناً.

وبقيت أحكام البنيان سائدة كأداة لوحدة العمارة في الحضارة الإسلامية إلى أن تم تغييرها وتغييبها بنشأة البلديات في المدن الإسلامية، وما ترتب عليه من تغيير سلطة إدارة المدينة، من المحتسب والقاضي إلى سلطة رئيس البلدية ومجلسها والقضاء المدني. وتم استبدال أحكام البنيان الإسلامية بقانون البناء العثماني ثم بأنظمة البناء الأوروبية. حيث كان أول ظهور للبلديات في الوطن العربي هو بلدية القدس‏[63] سنة 1863م وذلك في إثر الضغوط التي مارستها القوى الصاعدة في أوروبا في حينه (وهي بريطانيا وفرنسا والنمسا) على الدولة العثمانية. التي أسفرت عما يعرف في تاريخ الدولة العثمانية بالتنظيمات‏[64]، حيث غيرت معظم قوانين الدولة العثمانية واستبدلت بعض أنظمتها بالأنظمة الأوروبية. وما يعنيني هنا هو التغييرات التي أصابت الظاهرة المعمارية التي أشرت إليها سابقاً. حيث سادت أنظمة البناء الأوروبية كبديل لأحكام البنيان الإسلامية، ولقانون البناء العثماني المنبثق من أحكام البنيان الإسلامية، في عهد الاستعمار وحتى وقتنا الحاضر.

واللافت للنظر أن أحكام البنيان الإسلامية كانت موحدة وتطبق على جميع التجمعات السكانية (الحضرية والريفية) في العالم الإسلامي. من هنا جاء مفهوم الوحدة. أما أنظمة البناء الأوروبية فهي لا تختلف من مدينة إلى أخرى فقط، بل تختلف داخل المدينة الواحدة. فقضت بذلك على العنصر الرئيسي لمفهوم وحدة الظاهرة المعمارية وعملت على اجتثاثه بالكامل. وكُرِّس هذا الأمر، أي القضاء على عنصر الوحدة، بإسقاط المستشرقين لفلسفة التاريخ الغربي القائمة على التحقيب التاريخي في تفسير ظاهرة العمارة الإسلامية، وذلك بتصنيفها إلى حقب تاريخية، فقضت على مفهوم التواصل التاريخي. ثم جعلت لكل حقبة من هذه الحقب طرازاً خاصاً بها: كالطراز الأموي، والعباسي، والطولوني، والفاطمي …إلخ!؟ فاختصروا بذلك العمارة الإسلامية، من عمارة مورست في حيز الوعي، وبالتفكر والتأمل، وبأرقى منهجيات التصميم المعماري، وهي منهجية الأحكام، إلى عمارة مورست خارج حيز الوعي، وبمنهجية التجربة والخطأ، ثم التكرار، على شكل طرز. ثم قاموا بعملية تغييب كامل للجسم النظري الذي حكم إنتاج الظاهرة المعمارية، واستبدلوه بجسم نظري مستحدث قائم على التحليل الشكلي، ونسبوا معظمه إلى تأثير العمارة البيزنطية والعمارة الساسانية.

علماً أن العمارة الساسانية هي التي تأثرت قديماً بالعمارة العربية لحضارات ما بين النهرين (العراق). وحديثاً فالعمارة الفارسية مكون من مكونات العمارة الإسلامية، لأن إيران دولة إسلامية، فعمارتها جزء من منظومة التنوع في الحضارة الإسلامية، فلا وجود للتأثير المزعوم. أما العمارة البيزنطية فهي التي تأثرت بالعمارة الإسلامية، وهذا يتضح في الزخارف الإسلامية التي استعملت في العمارة البيزنطية‏[65]، في الحقبة التي تزامنت فيها مع العمارة الإسلامية، وهذا واضح في كتاب المعماري البريطاني، أوين جونز (1856م) (Owen Jones)، قواعد الزخرفة (The Grammar of Ornament).

استناداً إلى كل ما سبق، فإن التفسير التاريخي للعمارة الإسلامية يجب أن يكون نابعاً من فهمنا لتاريخ الحضارة الإسلامية ولِبُناها الفكرية، وتوظيفنا لمناهج التفكير وطرائق النظر التي استنّتها في تفسيرها لظواهرها. وأخص من طرائق النظر هنا فلسفة التاريخ الإسلامي بعناصرها المرتبطة بمنهجيات التصميم، كما بينتها على مدار هذه الدراسة.

أما تفسير الحضارة الغربية، المتمثل بالاستشراق، والقائم على التحقيب التاريخي، الذي مُرِرَ في مرحلة استلاب وعينا وتزييفه، وتغييب فكرنا ومن ثم استبداله، فيجب نبذه والتنصل منه وإعادة استحضار وتوظيف فكرنا المغيب، ومناهج التفكير، وطرائق النظر، ومنهجيات التصميم التي أبدعتها حضارتنا العربية الإسلامية.

خـاتـمـة

تناولت هذه الدراسة موضوع التفسير التاريخي لظاهرة الثقافة المعمارية العربية – الإسلامية، فبيَّنت في مقدمة طويلة الواقع الحالي لتفسير العمارة العربية – الإسلامية، ضمن فلسفة التاريخ الغربي، القائمة على التحقيب التاريخي، والتحليل الشكلي، الذي تم من خلاله تغييب الجسم النظري والفكري الذي حكم ممارسة العمارة العربية – الإسلامية، واختصارها من عمارة مورست في حيز الوعي وبأرقى منهجيات التصميم المعماري، وهي منهجية الأحكام، إلى عمارة مورست خارج حيز الوعي، وبمنهجية التجربة والخطأ.

كما عرضت في هذه المقدمة لمفهوم فلسفه في الحضارة العربية – الإسلامية ونوهت به في الحضارة الأوروبية، وبينت تقدمهما زمنياً، وتفوقهما معرفياً، في الحضارة العربية – الإسلامية عنها في الأوروبية.

ثم عرضت الدراسة للبداية الزمنية للتاريخ العربي لأتتبع التطور الحضاري، وبالذات المعماري، للجنس العربي فبيّنت علاقة العرب بذرية نوح التي هاجرت من جنوب الجزيرة العربية واستقرت في العراق، وخلصت إلى أن الإنجاز المعماري للأقوام التي عاشت على الأرض العربية، سواء كانوا من ذرية نوح أم من غيرها، وسواء كانت ذرية نوح عرباً أم غير عرب، هو إنجاز عربي أو إنجاز شارك فيه العرب. وبذلك يكون العرب قد شاركوا في خلق قواعد وتقانات للفكر والعمل المعماريين.

ثم نوّهت الدراسة بالروابط والصلات التاريخية لسكان الجزيرة العربية، كما نوّهت بوحدة التجمعات البشرية العربية في شمال الجزيرة ووسطها وجنوبها. كما نوَّهت بالتواصل الحضاري بين هذه التجمعات وبالعلاقات التجارية والاجتماعية والسياسية، وذلك للتدليل على وجود تاريخ عربي مشترك وحضارة عربية مستقلة ومؤثرة، ذات فكر معماري، نشأ وتطور في محيط عربي جغرافي وبشري من ناحية، ولدحض محاولات الاستشراق في تفكيك أوصال التاريخ العربي وحضارته ووصمها بالتبعية للحضارات الأخرى.

ثم عرضت الدراسة لفلسفة التاريخ العربي في الجاهلية، وبيَّنت تواصلها مع فلسفة التاريخ الإسلامي. فوضحت ماهيتها وعرضت لدورها في رؤية الحضارة لكيانها، وتصورها لذاتها ومحيطها الكوني ولعلاقاتها بالحضارات الأخرى، وركزت على دورها في تفسير الظاهرة المعمارية، ووضحت ارتباط مفاهيم فلسفة التاريخ بمنهجيات التصميم المعماري، وبينت أن العمارة الإسلامية مورست في حيز الوعي وبأرقى منهجيات التصميم المعماري وهي منهجية الأحكام.

وخلصت الدراسة إلى أن التفسير التاريخي للعمارة الإسلامية يجب أن يكون نابعاً من فهمنا لفلسفة تاريخ الحضارة الإسلامية، ولبنيتها الفكرية، وتوظيفنا لمناهج التفكير وطرائق النظر التي استنَّتها كما بينتها على مدار هذه الدراسة. كما خلصت إلى وجوب نبذ الاستشراق ومناهجه وطرائق تفكيره، وإلى وجوب إعادة توظيف فكرنا المغيَّب واستعادة وعْيِنا المستلب.