مقدمة:

إن ازدياد دور مراكز الأبحاث هو تعبير عن انتقال البحث العلمي من مرحلة “الباحث الفرد” إلى مرحلة “الباحث – المؤسسة” فالتاريخ الفكري الإنساني مر بهاتين المركزيتين، إذ كان البحث والفكر يتمحور في مرحلة من المراحل حول الفرد، ثم انتقل العالم إلى مركزية المؤسسة أو بمعنى آخر التفكير الجماعي أو العمل الجماعي في الفكر، والذي يستعين فيها الباحث بالخبرات التي تقدمها له المؤسسة، بما في ذلك تنوع التخصصات التي تشملها، دون أن تلغى رأيه الفردي أو اجتهاده الشخصي.

ليس من الأهمية في شيء الوقوف عند السياق التاريخي العام الذي أفرز هذه المراكز بالغرب. فهذا أمر يخرج عن إطار هذه الدراسة. لكن المؤكد أنها عرفت انتشاراً واسعاً منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، جراء التحولات التي طرأت على العلاقات الدولية، بانهيار القطبية الثنائية، وتزايد مد العولمة الكاسح للاقتصادات وللثقافات، والطفرة الكبيرة التي طاولت تكنولوجيا الإعلام والاتصال والمعلومات، وانتقال معظم المجتمعات إلى مجتمعات إعلامية ومعلوماتية ومعرفية، مرتكزة على العمل الشبكي والأفقي وذي المضامين المعلوماتية والمعرفية العالية.

مراكز الأبحاث والدراسات أو صناديق الفكر أو مراكز أو بنوك التفكير أو حتى مصطلح خزان الأفكار كما توحي بذلك الترجمة الحرفية لعبارتي think – tanks ، هي مصطلحات تشير إلى شيء واحد، وهذه المصطلحات على تعددها وتنوع مضامينها أحيانا، ما زالت تستخدم كلها للدلالة على هيئات أو مؤسسات البحث العلمي، بأصنافها وأنواعها المختلفة[1].

وقد عرفتها مؤسسة راند للأبحاث بأنها “تلك الجماعات أو المعاهد المنظمة بهدف إجراء بحوث مركزة ومكثفة. وهي تقدم الحلول والمقترحات للمشاكل بصورة عامة وبخاصة في المجالات السياسية والاستراتيجية والاجتماعية والتكنولوجية، أو ما يتعلق بالتسلح.

كما يعرفها هوارد ج وياردا[2] بأنها عبارة عن “مراكز للبحث والتعليم، ولا تشبه الجامعات أو الكليات، كما أنها لا تقدم مساقات دراسية؛ بل هي مؤسسات غير ربحية وإن كانت تملك “منتجاً” وهو الأبحاث. هدفها الرئيسي البحث في السياسات العامة للدولة، ولها تأثير فعّال في مناقشة تلك السياسات. كما أنها تركز اهتمامها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والسياسة العامة، والدفاع، الامن والخارجية. كما لا تحاول تقديم معرفة سطحية لتلك المسائل؛ بقدر مناقشتها والبحث فيها بشكل عميق، ولفت انتباه الجمهور لها”.

إن مراكز الأبحاث ليست مثل المؤسسات العلمية المانحة لأنها لا تقدم أو تعطي تمويلاً للبحث العلمي، بدلاً من ذلك هي تبحث عن جذب التمويل لدراساتها من المؤسسات المانحة وغيرها من المصادر. ومراكز الأبحاث ليست شركات تجارية، بالرغم أن لديها منتوج وهي الأبحاث، وبالتالي هي ليست مؤسسات للربح المالي. أيضا هي ليست مشابهة لجماعات المصالح ، حيث إن هدفها الرئيسي هو البحث والدراسات، وليس الضغط والنفوذ، بالرغم أن بعض مراكز الأبحاث تمارس ذلك أحياناً.

إن مراكز الفكر هي منظمات بحثية هدفها الأساسي هو توفير دراسات وأبحاث تتعلق بالقضايا والسياسات العامة للدولة أو المجتمع، وتحاول أن تكون مشاركاً بفعالية ومؤثرة في قضايا ونقاشات القضايا العامة أو السياسات العامة[3].

في المغرب والمنطقة المغاربية عموماً، وقبل عقدين من اليوم، لم تكن مراكز الأبحاث معروفة. ولكن حين وصلت، مع تقاليد بحثية أخرى من الغرب، استطاعت في ظرف وجيز أن تفرض وجودها، وتوسع أنشطتها، وتتحول إلى أحد أبرز المحركات الفكرية والسياسية في المشهد المغاربي.

في المغرب يمكن القول إن مراكز البحث العلمي في مفهومها القانوني هي عبارة عن جمعيات أو هيئات مدنية ذات أهداف غير ربحية، بيد أن هذا التعريف القانوني يبقى غير كافٍ لتقديم كل الأبعاد الدلالية للمفهوم الشامل المعبر عن دور وطبيعة مراكز البحث العلمي، وبالتالي فهو لا يمكننا من قياس مدى تحقق أهم المضامين المعروفة لهذا المفهوم في تجربة مراكز البحث بالمغرب. وحتى نتمكن من ذلك يمكننا منهجياً مقاربة هذا الموضوع بالتركيز على إشكالية أي دور لمراكز البحث بالمغرب في إنتاج الدراسات وتطوير المعرفة.

واستنادا إلى فرضية أن تطور دور مراكز البحث بالمغرب منفصل عن عملية صنع القرار. يمكننا طرح التساؤلات التالية:

  • ما أهداف مراكز الأبحاث – المغرب نموذجاً -؟
  • إلى أي مدى تمكنت مراكز الأبحاث بالمغرب من إنتاج دراسات نوعية لأهم القضايا الراهنة؟
  • ما مدى قدرة مراكز الأبحاث بالمغرب على إيجاد حلول للازمات التي يعرفها المجتمع وصياغة سيناريوهات المستقبلية؟
  • هل استطاعت مراكز الأبحاث التأثير في عملية صنع القرار؟

 

أولاً: أهمية وتصنيف مراكز الابحاث بالمغرب

1- الوعي بأهمية إحداث مراكز للدراسات

في المغرب، شهدت السنوات الأخيرة تأسيس عدد من مراكز الابحاث والدراسات، لكن لا تزال أدوارها ووظائفها مشوشة في الأذهان. ويمكن تلمس أسباب وظروف تأسيس مراكز الأبحاث في المغرب، والتي تندرج في سياق السائد عالميا مع معالم وأسباب التأسيس، أي تقديم المتابعة البحثية لقضايا الساحة، بحسب طبيعة اهتمامات ومشاريع هذه المراكز (كأن تكون متابعة قضايا سياسية أو إستراتيجية أو أمنية أو دينية.. إلخ)؛

فضلا عن أن الوعي بأهمية إنشاء مراكز للبحث العلمي غالبا ما يكون وعيا مجتمعيا قبل كل شيء وهو ما لم تتحقق شروطه كاملة بعد، فإن الدوائر الرسمية والأمنية منها بشكل خاص ظلت تنظر بحساسية إلى دور هيئات ومراكز البحث العلمي الخاصة، بل إن إنشاء حزب سياسي كان يبدو أحياناً أسهل كثيراً من إنشاء جمعية علمية أو مركز للبحث العلمي.[4]

ولكن هذا الوضع ، وبخاصة على مستوى إنشاء المراكز البحثية  بالمغرب سيعرف تغيراً كبيراً خلال العقدين الماضيين وخاصة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبرر 2001 ، حيث إن عدد المراكز البحثية الوازنة كان يعد على رؤوس الأصابع إلى غاية منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن، إلا أنه مباشرة بعد هذه الاعتداءات في مرحلة أولى، وبعد منعطف أحداث “الربيع العربي” في مرحلة ثانية، سنعاين ما يشبه فورة في تأسيس هذه المراكز.

لقد تزايد الاهتمام في المغرب بهذه المراكز، ولا سيَّما في ظل انفتاح الاقتصاد الوطني، وتزايد تيارات تبادل السلع والخدمات، وعولمة أنماط الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وتزايد دور المعلومة والمعرفة، إذا لم يكن في صناعة القرار، فعلى الأقل في التأثير في صاحبه.

وصحيح أيضاً أن العديد من المراكز المحدثة بالمغرب لم تستطع حتى الآن، النفاذ مباشرة إلى صانع القرار كما الحال بالولايات المتحدة، صاحبة السبق في هذا الميدان، لكنها مع ذلك قد نجحت وإلى حد بعيد، في تأثيث المشهد السياسي والثقافي وفسحت في المجال واسعاً لطرح القضايا الكبرى بالفضاء العام للنقاش والتداول، والإسهام في رفع اللبس عن بعض الإشكاليات التي كانت ولعهود طويلة مضت، مجال النخبة الصرفة، أو فضاء بحث محصور في أهل العلم والمعرفة[5].

إن مراكز الأبحاث والدراسات إنما تكتسب أهميتها وشروط وجودها من الحاجة إليها، ومن “مقتضيات الضرورات السياسية والاقتصادية والإعلامية والأكاديمية والاجتماعية والتنموية، وذلك باعتبارها الطريقة الأمثل لإيصال المعرفة المتخصصة، من خلال ما تقدمه من إصدارات علمية وندوات متخصصة من شأنها أن تضاعف مستوى الوعي لدى صانع القرار والمؤسسات والأفراد، وتساعدهم على الربط بين الوقائع الميدانية وإطارها العلمي النظري”[6].

والمقصود، مما سبق، إنما القول بأن لمراكز الابحاث والدراسات دوراً ريادياً في توجيه عالم باتت تتجاذبه الأزمات والأخطار، وتتداخل من بين أضلعه التعقيدات من كل الأنواع، وتتقاذفه المنافسات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، ناهيك عن بروز مظاهر التوترات جراء بروز مشاكل ذات طبيعة كونية، وتهم الإنسانية برمتها.

والمقصود، مما سبق أيضاً، أن هذا الدور الريادي قد تأتّى لها بحكم أنها أصبحت “أداة مهمة لإنتاج العديد من المشاريع الحيوية التي تتصل بالدولة والمجتمع والفرد، ووسيلة لدراسة كل ما يتصل بتلك المشاريع وفق منهج علمي معرفي. كما تعد مراكز الأبحاث من القضايا الوطنية المهمة والحيوية، التي تعكس اهتمام الشعوب بالعلم والمعرفة والتقدم الحضاري واستشراف آفاق المستقبل”.

2- تصنيف مراكز الأبحاث بالمغرب

تجدر الإشارة إلى أن تصنيف مراكز الأبحاث في العالم يتحدد وفق “المؤشر العالمي لتصنيف مراكز الفكر والمجتمع المدني”، إذ يعتبر مؤشر جامعة بنسلفانيا الأمريكية لتصنيف وترتيب مراكز الأبحاث العالمية، أحد أهم المؤشرات العلمية وأكثرها صرامة. حيث يصدر التقرير السنوي عن برنامج مراكز الأبحاث وجمعيات المجتمع المدني في معهد لودر في جامعة بنسلفانيا، أحد أعرق الجامعات في الولايات المتحدة ويسعى البرنامج إلى الربط بين المعرفة ونتائج البحوث وعمليات وضع السياسات، بما يتيح ترجمة النتائج إلى برامج سياسية قابلة للتطبيق. وتتوافر لدى معهد لودر قاعدة بيانات مفصلة عن أكثر من 6500 مركز بحثي في أنحاء العالم[7].

وينظر إلى هذا المؤشر على أنه دليل التميز بالنسبة لمراكز الأبحاث في أنحاء العالم ويعتمد عليه صنّاع السياسات في مختلف الدول لمتابعة نتائج الدراسات المرموقة في العالم.  وإلى جانب إصداره تقرير المؤشر السنوي، يهتم برنامج مراكز الذي انطلق قبل 26 عاماً، بالبحث في الدور الذي تؤديه معاهد أبحاث السياسات في دعم الحكومات والجمعيات المجتمع المدني في أنحاء العالم.

وفي هذا السياق، لو تسنى لنا أن نلقي نظرة سريعة على خريطة مراكز الأبحاث والدراسات بالمغرب والذي يزيد عددها على 34 مركزاً بحثياً، فإنه لا يمكننا إلا أن نلاحظ حداثتها وهشاشة الغالبية العظمى ضمنها، على الرغم من تميز بعضها، فضلاً عن غياب صفحة إلكترونية أو موقع تتوافر فيه جل معطيات مراكز الدراسات والأبحاث بالمغرب.

كما وتجدر الإشارة إلى وجود مفارقة ما بين العدد الحقيقي لمراكز الأبحاث المحدثة بالمغرب والذي يقارب 34 مركزا[8]، وعدد المراكز المحددة وفق برنامج جامعة بنسلفانيا والخاص بـ”المؤشر العالمي لتصنيف مراكز الفكر والمجتمع” والذي حدد عددها في 15 مركزاً بحثياً بالمغرب، إذ يتم تقييم مراكز البحث على المستوى العالمي حسب المناطق وفئات الاختصاص ومجالات العمل، معتمداً في ذلك على أربعة مؤشرات رئيسية تضم أكثر من 28 مؤشراً فرعياً، لتصنيف وتحديد مراكز الأبحاث في العالم والتي تستجيب لمجموعة من المعايير (جودة عدد وغنى منشورات المركز؛ أثر بحوث المركز وبرامجه في صناع القرار وغيرهم من الفواعل السياسية؛ الالتزام الواضح بإنتاج بحوث وتحليلات مستقلة؛ قدرة المركز على إنتاج معرفة جديدة؛ ابتكار مقترحات سياسية أو أفكار بديلة من سياسات ما؛ التأثير في المجتمع، وغيرها من المعايير … المحددة في التقرير السنوي للبرنامج)[9].

وفي محاولة لتصنيف مراكز الأبحاث والدراسات بالمغرب،  يعتمد تصنيف مراكز البحث العلمي على عدة معايير، منها ما هو مبني على الأساس الأيديولوجي أو على أساس التخصص، ويبقى تصنيفها بالنظر إلى طبيعة العلاقة مع الأجهزة الحكومية من عدمها هو الأكثر شيوعاً. والمراكز بحسب التصنيف الأخير إما مراكز حكومية ورسمية أو مراكز مستقلة غير رسمية، أما من حيث التخصص أو مجالات الاهتمام فهي إما مراكز متخصصة في مجال معين، أو مراكز ذات اهتمامات واختصاصات متنوعة ومتعددة، ولعله من الممكن عند محاولات التصنيف الأولي لمراكز البحث العلمي الموجودة اليوم بالمغرب وبصرف النظر عن مجال اهتماماتها – إلى الأصناف التالية:

  • مراكز أو معاهد حكومية؛ كالمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، لأكاديمية المغربية للدراسات الدبلوماسية والتي تم تأسيسها سنة 2011 بالرباط بمقر وزارة الشؤون الخارجية والتعاون، مركز المغرب الشريف للفوسفاط للدراسات والابحاث OCP، وهو أحد أفضل مراكز التفكير الجديدة وأحد افضلها على الصعيد العالمي فيما يخص السياسة الطاقية حسب مؤشر غلوبل غو الخاص بمراكز التفكير والصادر في سنة 2016 .[10]

 

  • مراكز ذات طابع أكاديمي؛ بحكم نشأتها الأكاديمية في كنف الجامعة وهي رسمية أيضاً ولكنها ذات صلة بالجامعات فقط، مثل معهد الدراسات الأفريقية بالرباط والذي أُسس سنة 1990، ومعهد الدراسات والأبحاث للتعريب وكلاهما تابع لجامعة محمد الخامس بالرباط… وغيرها.

 

  • مراكز خاصة أو مستقلة؛ هي اليوم في تزايد كبير، بحيث ورغم قصر عمرها يبلغ عددها 18 مركزاً حسب تقديرات (برنامج مراكز الأبحاث وجمعيات المجتمع المدني في معهد لودر في جامعة بنسلفانيا)، ونذكر منها على سبيل المثال: المركز المغربي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية؛ مركز الدراسات الاستراتيجية المغرب؛ مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، وللإشارة فهو يتصدر مراكز الأبحاث المغاربية، حيث صنف من قبل برنامج جامعة بنسلفانيا والخاص بـ”المؤشر العالمي لتصنيف مراكز الفكر والمجتمع” في المركز الأول على المستوى المغاربي واحتل الموقع 12 على مستوى منطقة مينا سنة 2016[11].

 

وما يمكن إثارته في هذا السياق، أن أغلب هذه المراكز ذات توجه ليبرالي أو وطني أو إقليمي، وهي تمثل السمة الغالبة لمعظم المراكز الموجودة بالمغرب. كما أن تمويلها عادة يأتي بعضه من مؤسسات تمويل دولية، أو من مؤسسات مانحة للبحث العلمي أو مشاريع بحثية حكومية.

فضلاً عن ذلك، تتمتع مراكز الدراسات بميزات لا نجدها في المراكز الجامعية، وإن كانت العلاقة بين النوعين من المراكز تكاملية وتلازمية، أهمها قدرة مراكز الأبحاث على إنجاز المطلوب منها، أي الاستشارة والإرشادات والتحليلات بسرعة أكثر مما تقوم به مراكز ومختبرات البحث الجامعية؛ التي تتطلب إجراءات ومساطر أعقد وأطول مما تستلزمه مراكز الفكر، ولا سيما أن صنّاع القرار يعيشون تحت ضغط الوقت وإكراهاته، ويحتاجون إلى حلول سريعة وفورية.

ثانياً: واقع وأدوار مراكز الابحاث بالمغرب

1- واقع مراكز الأبحاث

إن تقييم دور مراكز الأبحاث في الدولة لا يكون بعدد مراكز الأبحاث الذي قد يكون مؤشراً إلى الاهتمام بمخرجات البحث العلمي، إنما يكون التقييم بناء على تحقيق الأهداف التي أًنشئت من أجلها هذه المراكز ودورها في تحقيق مصالح الدولة والمجتمع، وهل هي بالفعل لها مساهمة فاعلة في تبوء الدولة مكانة إقليمية أو دولية في مجال معين.

إن ملامسة واقع مراكز الدراسات والابحاث بالمغرب يثير إشكال مدى توافر مراكز الابحاث بالمغرب على الشروط المحددة عالمياً للقول بإمكان وجود مراكز بحثية حقيقية، حيث دأب برنامج جامعة بنسلفانيا منذ العام 2006؛ على إصدار تقرير خاص عن “المؤشر العالمي لتصنيف مراكز الفكر والمجتمع المدني”، معتمداً منهجية واضحة في الترشيح والتصنيف والترتيب، ومجنداً أكثر من 25 ألف خبير منتسب لجهات بحثية وإعلامية وحكومية؛ لفحص مخرجات مراكز الفكر ومنظمات المجتمع المدني المسجلة في قاعدة بياناته، ووفق معايير وشروط محددة وواضحة.

والملاحظ في هذا الصدد أن عدداً من مراكز البحث بالمغرب قليل القياس إلى التصانيف والفروع ومجالات البحث التي يتطرق إليها تقرير بنسلفانيا، فلو تمعَّنا في التقرير الأخير لعام 2017، المعلن عن إطلاقه في العاصمة القطرية الدوحة، للاحظنا حجم المراكز المحدثة في منطقة “المينا   MENA(الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، والمكانة التي حظيت بها في المؤشر العالمي لمراكز الفكر والمجتمع المدني. فمن أصل 6486 مركز فكر في العالم، تستحوذ الولايات المتحدة على 4614 منها، ويتوزع الباقي على كل بلاد المعمور. أما نصيب منطقة ” المينا” فيبلغ 479 مركزاً، تتصدر إسرائيل القائمة بـ67 مركز فكر، تليها تركيا بـ46، ودول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة بـ61 ، نصيب قطر منها 14، والباقي موزع على البلدان الأخرى الأعضاء في “المينا”. أما من حيث التصنيف، فقد تصدر “مركز الدراسات الاستراتيجية” الأردني قائمة أفضل عشرة مراكز فكر أولى في منطقة “المينا”، يليه “مركز الدراسات الأمنية” في إسرائيل، و”مركز كارنيغي الشرق الأوسط” في لبنان في المرتبة الثالثة، ومركز الأهرام المصري في الصف الرابع، وبعده “مركز الجزيرة للدراسات” في الدوحة. ومن البلدان المغاربية لم يكن حظها في هذا التصنيف الأولى سوى مركز واحد هو “مركز المغرب الشريف للفوسفاط” في المغرب[12].

2- أدور مراكز الأبحاث في إنتاج المعرفة

ولمعرفة مدى مساهمة مراكز الأبحاث بالمغرب في انتاج المعرفة، فإنه يمكن القول مبدئياً إأن واقع مراكز البحث بالمغرب هو صورة طبق الأصل لواقع البحث العلمي والمعرفي بالمغرب، وتدنّي الاعتبار الذي يولى له في مسلسل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك بالبيئة الطاردة لكل أشكال البحث العلمي والإبداع التكنولوجي، فضلاً عن المناخ العام الذي يشكو خصاصاً واضحاً في الحرية والاستقلالية واستمرار ثقافة الرقابة على تفكير الأفراد والجماعات وممارساتهم.

إن دور مراكز الدراسات والأبحاث في المغرب رغم قلّتها وحداثة نشأتها، تتقاطع في أجزاء منها مع بعض الأدوار المتعارف عليها لمراكز الأبحاث في البلدان العربية والغربية على وجه التحديد، وتختلف كلياً في أدوار أخرى. فمراكز الأبحاث بالمغرب لا تملك بوجه عام التأثير والدور الذي تؤديه مراكز الأبحاث الخاصة الغربية في إعداد السياسات العامة أو لدى صناع القرار وفي خدمة البحث العلمي. ولكن مراكز الأبحاث بالمغرب تعيش حالة من التطور والنمو سواء من حيث الانتشار أو من حيث التأثير والفعالية، ولكن ما زال الأمر في مراحل غير متقدمة[13].

إن طبيعة المهام المفترضة في مراكز الدراسات والأبحاث تعكس مدى أهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه في التأثير في عملية اتخاذ القرار أو على صناع القرار، وكذلك في رسم السياسات العامة، وذلك باعتبارها إحدى مؤسسات البحث العلمي وإنتاج المعرفة.

غير أن الواقع، يظهر عدم وجود ارتباط واضح بين عملية التنمية والدراسات المنجزة من طرف أغلب مراكز الأبحاث بالمغرب، علماً أن هذا الارتباط ضروري بالنسبة إلى المغرب وذلك من أجل  الكشف عن أولويات التنمية في المجتمع، وما هي أسهل السبل وأسرعها لتحقيقها من خلال استخدام الموارد المحلية.

وباستحضارنا لكيفية معالجة المراكز البحثية بالمغرب لموضوع مثل الربيع العربي، ففي أغلبها كانت ردة فعل على اندلاع الربيع العربي، وإن كانت المراكز قدمت دراسات حول الحركات الاحتجاجية ومطالب المواطنين قبل وأثناء اندلاع الثورات، فإنها في مقابل ذلك لم تتنبأ بشكل هذا الربيع بالسرعة الكافية، وهذا يقودنا إلى عنصر مهم في تقديم السيناريوهات المتوقعة في الوقت المناسب.

وعلى الرغم من ذلك، فإن العديد من هذه المراكز قد استطاع مراكمة العديد من الميزات الإيجابية، إذا لم يكن مباشرة لدى صاحب القرار الذي لا يوليها كبير لاعتبار، فعلى الأقل لدى الجمهور المتلقي:

  • فقد استطاعت أن تمد المجال العام بالعديد من الدراسات الأكاديمية والكتب والتقارير والمجلات المحكمة والدوريات الجادة، والتي تطرح عبرها أو من خلالها القضايا الكبرى التي تهم الرأي العام المغربي والعربي على حد سواء.
  • استطاعت القيام بالعديد من الاستبيانات واستطلاعات الرأي إما بطلب من جهات محددة، حكومية أو غير حكومية، أو لضرورة رصد وتفسير رجع الصدى حول هذه القضية المركزية أو تلك.
  • استطاعت أن تجمع، بالمؤتمرات والندوات والملتقيات العلمية، بين خبرائها وبعضاً من أصحاب القرار المتنورين، في ما يشبه تبادل الرأي والأفكار حول قضية من قضايا الشأن العام.
  • استطاع بعض من خبرائها أن يؤسسوا لقوة ضغط حقيقية، ولا سيَّما من خلال حضورهم المستمر بالإعلام، أو بالكتابات المنتظمة بالصحافة، أو بإبداء الرأي مباشرة في قضية من القضايا.

بالتالي، فإن هذه المراكز، وبصرف النظر عن التسميات اللصيقة بها، وإن لم تستطع اختراق مستوى ومجال صنع القرار، فإنها قد استطاعت الإسهام في إشاعة المعلومة والمعرفة وتوفير مادة بحثية جيدة لا يستهان بها.

خلاصة

إن مراكز الأبحاث والدراسات بالمغرب كي تكون فعّالة ومجدية، وقادرة على التأثير الإيجابي في السياسات وتطور المجتمعات، تحتاج إلى متطلبات وشروط، بدونها يتعذر عليها النجاح في مهامها. فأولى هذه المتطلبات:

  • ترسيخ الوعي بأهمية البحث العلمي، ومراكز المعلومات لدى أفراد المجتمع كافة، وبيان دورها الكبير في دعم التنمية الشاملة في جميع المجالات: الاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمة، والثقافية.
  • توفير الميزانيات اللازمة لهذه المراكز العلمية، والإنفاق عليها بسخاء أسوة بما تنفقه الدول المتقدمة في هذا المجال.
  • أهمية استقلال مراكز الابحاث في قراراتها ونتائجها، أي قدرتها على الاستقلال بذاتها، وممارسة عملها واجتهاداتها دون ضغط، أو وصاية وتوجيه[14].
  • التزام مراكز الدراسات بقدر عال من الجودة في منجزاتها. ولن يتحقق هذا الأمر بدون امتلاك المراكز رؤية وأهدافاً واستراتيجية واضحة مؤسسة على العقل والعلم. كما لن يتأتى لها ذلك دون الانفتاح على الكفاءات البشرية ذات الجدارة والاستحقاق.
  • أهمية إلزام القطاع الخاص بالمشاركة بفاعلية في إنشاء ودعم مراكز الابحاث والدراسات.
  • ضرورة خلق جسور تواصل موضوعي بينها وبين مؤسسات الإعلام، وتحديداً الإعلام المستقل، لإمداده باجتهاداتها وتحليلاتها، وكل ما تنجز من إنتاجات جيدة. فضلاً عن ضرورة وجود قنوات اتصال واضحة بين مراكز الأبحاث وصانعي القرار؛ فقد لا يدرك صنّاع القرار فى موضوع ما وجود نتائج مهمة لدراسات جادة في هذا الموضوع. وبالعكس، فإن المسؤولين عن مراكز الابحاث قد لا تكون لديهم الآليات لتوصيل نتائج هذه الدراسات إلى من يهمهم الأمر.

إن مراكز فكر بهذه المواصفات تستطيع أن تكون روافع لصياغة السياسات الرشيدة والقرارات المؤثرة في المغرب وباقي البلدان المغاربية والعربية على حد سواء.

 

قد يهمكم الاطلاع ايضاً على  التربية الإعلامية والرقمية وتحقيق المجتمع المعرفي