عقدت هذه الحلقة النقاشية في مقر مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت يوم الاثنين بتاريخ 19 كانون الأول/ ديسمبر 2016. قدّم أوراق العمل كل من محمد خيري قيرباش أوغلو ومحمد نور الدين ومحمود علي الداود. أدار الحوار يوسف الصواني. شارك فيها (بحسب الترتيب الألفبائي):

العميد أمين حطيط                خبير ومحلل عسكري – لبنان.

العميد الياس فرحات             خبير عسكري واستراتيجي – لبنان.

العميد تركي الحسن              محلل عسكري استراتيجي – سورية.

د. حسام مطر                      باحث ومحلل السياسي – لبنان.

د. خير الدين حسيب
رئيس مجلس الأمناء ورئيس اللجنة التنفيذية لمركز دراسات الوحدة العربية.

د. عقيل محفوض                 باحث وخبير في الشؤون التركية والكردية – سورية.

أ. محمد خيري قيرباش أوغلو أستاذ في كلية الإلهيات، جامعة أنقرة – تركيا.

د. محمد نور الدين                أستاذ جامعي وباحث في الشؤون التركية.

د. محمود علي الداود
سفير سابق ورئيس قسم الدراسات السياسية والاستراتيجية، بيت الحكمة – العراق.

د. مسعود ضاهر                  أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية.

أ. منى سكرية                      صحافية لبنانية.

د. هدى رزق                       أستاذة علم الاجتماع السياسي في الجامعة اللبنانية.

د. هيثم الناهي                     المدير العام للمنظمة العربية للترجمة.

د. يوسف الصواني               المدير العام بالوكالة في مركز دراسات الوحدة العربية.

قدّم الحلقة وأدار الحوار
د. يوسف الصواني

 

تقديم

يوسف الصواني

المدير العام بالوكالة في مركز دراسات الوحدة العربية.

 

تتناول هذه الحلقة النقاشية موضوع «تركيا… إلى أين؟»، ويسعدنا أن نستضيف فيها باحثَين مرموقَين، هما د. محمد خيري قيرباش أوغلو، وهو أستاذ في كلية الإلهيات لعلوم الدين بجامعة أنقرة في تركيا، ومن المختصين البارزين الذين تنتشر تعليقاتهم وكتاباتهم في الصحف وفي وسائل الإعلام العربية بوجه خاص، وفي الإنتاج الفكري والجامعي عبر عدد من الكتب التي يعالج فيها ما يشهده المجتمع في تركيا من تحولات خلال العقود الأخيرة، منطلقاً في معالجتها من داخل المنظومة الفكرية التي يستند إليها النظام السياسي القائم في تركيا، وهي إعادة الاعتبار لتركيا ضمن دائرتها الإسلامية، وإن كان لا يُخفي بل يبادر إلى التعبير عن الاختلاف معها في أكثر من مناسبة، وبخاصة في العشرية الأخيرة وما شهدته السياسة الإقليمية لتركيا من تبدلات، وربما ما واجهته من نكسات أيضاً بسبب مجموعة من العوامل والعناصر التي يشير إليها بالتفصيل في ورقته.

الضيف الثاني الذي يشاركنا في هذه الحلقة بورقة أيضاً، هو د. محمد نور الدين، وهو بالنسبة إلى الإخوة العرب وفي لبنان بوجه خاص، غني عن التعريف. وهو علاوة على ممارسته التدريس الجامعي لفترة طويلة، فهو من أبرز المختصين بالشؤون التركية على المستوى العربي، الذي تعرف أيضاً كلٌ من الصحافة العربية ودور النشر العربية مساهماته وكتاباته، وآخرها كتاب انقلابات تركيا: من عدنان منديريس إلى رجب طيب أردوغان الذي صدر حديثاً. د. محمد نور الدين من الكتّاب العرب القلائل الذين يقاربون المسألة التركية، مقاربة تستند إلى حدٍّ كبير إلى فهم الواقع والتاريخ التركيين، ليس فقط في ارتباطه بالجوار الإقليمي وإنما أيضاً لما يستند إليه من مقومات ومكونات، سواء أكانت ثقافية أو حضارية أو سياسية أو اقتصادية أو جيوسياسية.

أما المحاضر الثالث، الذي لم يستطع حضور الحلقة فهو د. محمود علي الداوود، وهو سفير عراقي سابق، وهو أستاذ جامعي معروف، ورئيس قسم الدراسات السياسية والاستراتيجية في مؤسسة بيت الحكمة العراقية، وقد حالت ظروفه دون حضوره معنا هذه الحلقة النقاشية.

تتناول هذه الحلقة ما يمكن وصفه بـ «الظاهرة التركية»، وبخاصة بعد ما يمكن عدّه توظيفاً أو تشغيـلاً لكل المكونات التركية على المستويين الإقليمي والعربي، وبخاصة بعد انطلاق موجة الاحتجاجات العربية، أو ما سُمّي «الربيع العربي»، في العام 2010، الذي نقل الفعل التركي من دائرة «صفر مشكلات» إلى دوائر أكثر تشابكاً وأكثر تعقيداً، كانت لها ارتداداتها ليس على المستوى الإقليمي فقط وإنما على الساحة التركية الداخلية نفسها أيضاً، التي عبّرت في كثير من الأحيان أيضاً عما يعتمرها من صراع بين مكونات أساسية في الشخصية التركية، شخصية بالمعنى الكبير الذي عبّر عنها الاستراتيجي والجغرافي العربي جمال حمدان بهذا المعنى – أي تركيا في هذا المكون أو الفعل الاستراتيجي يعتمر فيها ومنذ مدة، صراع أعتقد أنه يستحق الاهتمام عند النظر في محاولة تحليل أو تفسير كل ما تقوم به تركيا المعاصرة على المستوى السياسي، سواء إقليمياً أو محلياً أو في علاقاتها بالدول الكبرى الفاعلة على مستوى النظام الدولي، وبخاصة أوروبا والولايات المتحدة وروسيا.

 

ورقة العمل (1)

تركيا إلى أين؟ محاولة لإخراج خريطة
طبوغرافية للسياسة التركية(*)

 

محمد خيري قيرباش أوغلو(**)

أستاذ في كلية الإلهيات، جامعة أنقره – تركيا.

 

هذا السؤال في العنوان ليس بوليد اليوم، وهو لم يُطرح هنا أول مرة أيضاً. ذلك بأن الجمهورية التركية كانت حائرة منذ تأسيسها في التوصل إلى جواب صحيح ومرضٍ للجميع عن هذا السؤال‏[1]. وهو في الحقيقة سؤال مرتبط بمسألة الهوية ارتباطاً وثيقاً، وهي من أخطر القضايا التي يتوقف عليها مستقبل البلد بسبب الانقسامات والنزاعات والمقاربات التي يعانيها في السنوات الأخيرة أكثر من الماضي. وما يدفع إلى نوع من التشاؤم هو أن تركيا بلغت ما بلغت من عدم الاستقرار سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بعد تجريب جميع المقاربات الممكنة بدءاً بالعلمانية الكمالية ومروراً بالعلمانية اليسارية والعلمانية اليمينية والليبرالية، وصولاً إلى العلمانية الإسلامية أو – على حد تعبير زعماء الحزب الحاكم – إلى الفكر المحافظ، وهو في الحقيقة ليس إلا خليطاً من العلمانية اليمينية والليبرالية مع صبغة مظاهر التدين الشكلي المكتفي بالخطاب والشعارات والطقوس الدينية والشعارات القومية والوطنية في الحقبة الأخيرة، التي يجري استخدامها وتوظيفها في تحقيق مصالح سياسية.

أولاً: السياسة التركية

تقديم صورة واضحة وموضوعية عن السياسة التركية دونه صعوبات كثيرة، أهمها ضرورة الاكتفاء بمعلومات تتعلق بما هو معلن، أما الأمور غير المعلنة فهي بحاجة إلى تحاليل عميقة ودقيقة ثم إلى استنباطات واسقاطات مستقبلية بالاعتماد على ما يعلو على السطح بالضرورة. كل ذلك من أجل التقليل من الآثار السلبية للتلوث المعلوماتي حول ما يجري في الساحة التركية وتجنب الخطابات النمطية الدعائية والدعاية المعاكسة، سعياً وراء نشر المعلومات الصحيحة وعلى أساس الموضوعية والموقف النقدي الذي هو من أساسيات أي نشاط علمي وبحثي.

1 – من أهم المشكلات حول مسألة الأهداف المعلنة وغير المعلنة والأجندات السرية ما يتجلى في مزاعم المعارضة حول محاولة السلطة الحاكمة تغيير الدستور من أجل تأسيس نظام الرجل الواحد أو نظام سلطوي، وتأثير شخصية أردوغان وزعماء الحزب الحاكم في تشكيك المعارضة في مصداقية هذه المحاولة، إذ لو كان مكان أردوغان شخص آخر ديمقراطي حقاً لما حصل هذا التوتر والنزاع والتصادم بين الأطراف حول تغيير الدستور.

٢ – مشكلة أخرى تعانيها السياسة التركية هي سياسة الهويات والاستقطاب والتوتر في الداخل ومشكلة الغطرسة والمغامرة في الخارج.

٣ – هناك تنبؤات للمعسكرين، معسكر المعارضة بجميع أطيافها، وهم المتشائمون، ومعسكر أنصار الحزب الحاكم وهم المتفائلون، بل يجوز وصفهم بأنهم المتغاضون عن السلبيات والأخطاء التي تورطت فيها الحكومة الحالية، خوفاً من أن تتفلّت السلطة وبركاتها من أيديهم. ولكن التطورات الأخيرة، الداخلية منها والخارجية، بدأت تدفع المتشائمين إلى رفع أصواتهم أكثر، محذرين السلطة من احتمال أن تحمل التطورات المقبلة عواصف أشد من تلك التي يشهدها المجتمع التركي في هذه الأيام نظراً إلى كبر حجم الجليد الذي تحت الماء.

ثانياً: طبيعة سياسة حزب العدالة والتنمية

يمكن تلخيص هذه السياسة بكلمة واحدة، هي أنها عبارة عن امتداد لسياسات الرئيس الراحل طورغوت أوزال‏[2]. إلا أنها تعتمد على مستوى الخطاب على العزف على وتر المشاعر الدينية على نحوٍ مكثّف ومنظم وفي جميع المناسبات، وعلى العزف على وتر المشاعر القومية والوطنية في الحقبة الأخيرة على نحو متزايد وملحوظ. أما السياسة العملية والممارسات فهي لا تختلف عن سياسات الأحزاب السابقة لها، مثل السياسة البراغماتية من دون مبالاة بالهوّة بين الوعود والإنجازات.

ومن أخطر وأشد الاتهامات الموجهة إلى الحزب الحاكم في الداخل والخارج هي مسألة اتهامه بالازدواجية في تحويل مشروع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى ذريعة للوصول إلى السلطة ثم إدارة الظهر له من جهة والحفاظ على عضوية الاتحاد الجمركي الأوروبي من جهة أخرى. وفي الواقع هناك تزايد ملحوظ في الأشهر الأخيرة في تصريحات أردوغان ووزير الخارجية وتصريحات المتحدثين باسم الحكومة ما يؤيد مصداقية مثل هذه الاتهامات.

ولعل من أكبر المشكلات التي يئن تحت وطأتها الحزب وأنصاره هي مشكلة نفسية، وهي هوس العظمة وجنون الشك والارتياب السائدان والمنتشران في صفوف السلطة الحاكمة من الرأس إلى أخمص القدمين، كما في كوادرها وإعلامها وأنصارها ﴿يحسبون كل صيحة عليهم﴾! [المنافقون: 4].

وكذلك من أخطر وأشد الاتهامات الموجّهة إلى الحزب الحاكم هي الاتهامات المتزايدة في الداخل والخارج حول مسألة التوجّه نحو تأسيس نظام سلطوي على أساس زعامة رجل واحد غير مسؤول (لا يُساءل على ما يفعل)، وذلك باستغلال الديمقراطية وتوظيف مؤسساتها لتأسيس نوع من «النظام السلطوي الديمقراطي» كمرحلة انتقالية للوصول إلى «نظام سلطوي شبه وراثي». ولعل الشائعات حول تبديل رئيس الوزراء بوزير الطاقة يعتبرها الكثيرون من المعارضين نوعاً ما من إرهاصات هذه الخطة‏[3] التي هي – عند هؤلاء – نتيجة طبيعية للثقافة السائدة في الحركات الإسلامية السياسية عموماً وامتداد لثقافة سياسية سلطوية متوارثة من العهد العثماني تحديداً‏[4].

هل حزب العدالة والتنمية، هو حصان طروادة لفتح حصن العلمانية الكمالية‏[5]؟ في ضوء هذه التطورات والتوترات ليس من المفاجئ أن تتساءل الجماهير الواسعة من المجتمع التركي وتسأل أسئلة كثيرة، على رأسها سؤال حول مصداقية أهداف الحزب الحاكم: هل هو حصان طروادة لفتح حصن العلمانية الكمالية؟ والأمر المقلق أن المؤشرات لا تبشر بالأمل بالنسبة إلى إزالة مثل هذه المخاوف والشكوك لتحقيق وحدة المجتمع والسلام الاجتماعي. الغريب أن كل هذه التطورات السلبية تقع في ظروف حساسة، حيث ينادي الحزب الحاكم بأعلى صوته بضرورة التوحد ويدعو الجميع إلى العمل المشترك لتحقيق الوحدة الوطنية، ولكن من دون اللجوء إلى المراجعة النفسية والنقد الذاتي لتدرك المفارقات والتناقضات بين الخطاب والممارسة، مع العلم أن الجو السياسي يتحول من السيئ إلى الأسوأ في وقت تغدو الحاجة فيه إلى تحسن الأوضاع حاجة حيوية بدلاً من تدهور الأوضاع السياسية.

ثالثاً: طبيعة الأحزاب السياسية التركية

أعلم أن المشكلات البنيوية والتطبيقية التي تطرّقنا إليها أعلاه ليست منحصرة بالحزب الحاكم، بل هي ظاهرة شاملة تشمل جميع الأحزاب السياسية بنسب متفاوتة، لذلك يمكن التحدث عن ظاهرة عامة تتمحور حول مفهوم (النزعات السلطوية)، وبالتالي يمكن التحدث عن المضمون السلطوي المستور بثوب الديمقراطية أو المظروف السلطوي في ظرف ديمقراطي (غياب الديمقراطية في الأنظمة الداخلية للأحزاب – مع فارق الديمقراطية النسبية في نظام داخلي لحزب الشعب الجمهوري – ونظام رجل واحد على درجات متفاوتة، في جميع الأحزاب وفي حزب العدالة والتنمية تحديداً)‏[6].

ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى تورط الحزب الحاكم في الأخطاء الخطيرة هو ضعف وعجز المعارضة السياسية والمدنية بسبب تبنيها العلمانية المعادية للإسلام والمسلمين وعجزها عن تقدير مركزية الدين في البنية الثقافية لمجتمع تركيا وعجزها أيضاً عن تقدير أن الدين بجميع مظاهره هو الورقة الأقوى بيد الحزب الحاكم وزعمائه.

مشكلة أخرى خطيرة هي تبني جميع الأحزاب – من دون استثناء – سياسة الاستقطاب على أساس القوميات والهويات (حزب العدالة والتنمية: القومية السنية والتركية، وحزب الشعب الجمهوري: القومية، العلمانية، العلوية، الكمالية، اليسارية، وحزب الحركة القومية: القومية التركية المتطرفة، وحزب ديمقراطية الشعوب: القومية، الكردية، العلمانية، اليسارية). ظاهرة أخرى هي امتداد للمشكلة السابقة، وهي تصعيد الخطاب القومي الوطني التركي والخطاب التمييزي بين اليساري واليميني أو التركي والكردي، أو بين السني والشيعي/العلوي، وانتشارها وسط جماهير المواطنين من دون تمييز بين أصحاب هذه الاتجاهات.

النتيجة الطبيعية لسياسات الاستقطاب على أساس القوميات والهويات هي غياب ثقافة التوافق والتعاون على أساس العقل الجماعي لمواجهة ظاهرة خطيرة، وهي تصاعد ثقافة التصادم والإقصاء والإبادة السياسية، السائدة في الأحزاب وفي الحزب الحاكم تحديداً.

ومن أضعف نقاط الأحزاب السياسية عموماً والحزب الحاكم تحديداً – من حيث أخلاقيات السياسة – هي ظاهرة ممارسة الحكم على أساس توزيع مصالح الدولة والحكومة والإدارات المحلية على أنصار الحزب الحاكم فقط، من دون المواطنين من الأحزاب المعارضة، وذلك بسبب التشوش الذهني الذي أدى إلى إدارة الحكومة بمنطق إدارة شركة قابضة، من دون استثناء بين الأحزاب السياسية.

ومن الظواهر الشاملة جميع الأحزاب هي ظاهرة سيادة ثقافة الطاعة والاستسلام للزعماء وانتشار ثقافة الزعيم الكارزمي وغياب ثقافة المعارضة داخل الأحزاب غياباً كامـلاً، وبالتالي ظاهرة الإطراء والتملق والتزلف وانتشار نموذج (الملكي أكثر من الملك) على نطاق واسع (مثال بسيط لهذه الثقافة هي انتشار ظاهرة (إعفاء الوزراء والنواب اللحى والشوارب). أخيراً يقال إنه لقول أردوغان: رجل بشارب يكون رجـلاً‏[7].

ومن الظواهر العالمية، لا الظواهر الخاصة بمنطقتنا فقط، هي سيادة الخطاب والوعود السياسية والانتهازية في المنافسة السياسية، والنفعية في ممارسة الحكم، وإثارة المشاعر الدينية والمذهبية والقومية من أجل توظيفها واستغلالها لأهداف سياسية وحزبية وغياب القيم والمبدئية، وبالتالي غياب رؤية واضحة في ما يتعلق بالتطورات المستقبلية وتعذر تقديرها مسبقاً.

من القضايا الساخنة في السياسة التركية هي المناقشات الشديدة حول مبدأ الفصل بين السلطات (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، والتصاعد الملحوظ في مزاعم المعارضة أن هناك نية سرية للتخلي عن هذ المبدأ ومحاولة ملتوية لجمع السلطات في يد رجل واحد وتشكيل سلطة مركزية موحدة.

وكنتيجة طبيعية لهذه الثقافة السياسية يلاحَظ تزايدٌ في شدة المناقشات حول مسألة التمييز بين المواطنين في التوظيف والتعصب على توظيف أنصار الحزب الحاكم من الشباب غير المؤهلين بخاصة، والاكتفاء بالولاء المطلق للحزب والزعيم من دون التفات إلى الخبرة والكفاءة وإقصاء «الآخر» من المناصب الحكومية إقصاء كامـلاً.

ومن الظواهر الشاملة على جميع الأحزاب السياسية – من دون استثناء – هي مسألة علة التناقض وخفة الازدواجية في السياسة التركية، ومن أفضل وآخر مثال على هذه السلبية هو ما يلاحظ في مختلف مراحل (تطبيع العلاقات التركية – الإسرائلية نموذجاً) من التراجعات والتناقضات.

ومن تجليات قاعدة مشهورة وهي قاعدة: «السلطة تفسد والسلطة المطلقة تفسد إفساداً مطلقاً» أن تعاني السياسة التركية في العقود الأخيرة مشكلة الفساد الإداري والاقتصادي (نزول تركيا إلى المرتبة 66 من بين 168 دولة بحسب تقرير الشفافية الدولية (Transparency International 2015)، ومحاباة الأقرباء والتمييز الحزبي في الممارسات الحكومية وممارسات الإدارات المحلية (ومن مزاعم المعارضة أن المثال الأخير لمثل هذه الأمور هو تعيين زوج ابنة أردوغان وزيراً للطاقة. وبمثل هذه الممارسات ستتحول السلطة إلى ما يشبه سلطة سلالة حاكمة أو إلى شركة عائلية)‏[8].

كجزء عضوي من الفساد الإداري والاقتصادي ظاهرة أخرى متعلقة بمجال الإعلام، وذلك بأن هناك اتهامات متواصلة وموجهة إلى السلطة الحاكمة بتوظيف الأقلام المأجورة للقيام بدعاية وغسل الأدمغة على طريقة Goebbels‏[9] لإضفاء الشرعية على الممارسات غير الشرعية في مختلف المجالات.

وبسبب الممارسات السياسية المذكورة واجه المجتمع التركي مشكلة أخرى هي مسألة زعزعة الثقة بنظام القضاء وجهاز الأمن بسبب تسييسهما (نسبة الثقة بنظام القضاء 30 بالمئة فقط)‏[10].

رابعاً: حقيقة وطبيعة السياسة الخارجية التركية

تمر السياسة الخارجية التركية بتغيرات وتحولات أدت ولا تزال تؤدي إلى المناقشات الساخنة والتوترات المتصاعدة، وذلك لإصرار السلطة الحاكمة على الانفراد في توجيه السياسة الخارجية من دون مشاركة الأحزاب السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني.

ومن محاور المناقشات الساخنة مزاعم المعارضة حول ظاهرة التناقضات والتراجعات في السياسة الخارجية التركية ووصفهم هذه التناقضات والتراجعات بالفشل الذريع، لأن اصحاب السلطات – بحسب تقدير المعاضة – قالوا شيئاً وعكسه، وفعلوا عكس ما قالوا، وتخلوا عن جميع مطالبهم ومزاعمهم وفشلوا في الوفاء بوعودهم، وبلغ بهم الأمر حد ارتفاع الأصوات في الوطن العربي بأن «تركيا باعت القضية الفلسطينية والمعارضة السورية»‏[11].

ومن المسائل المتنازع عليها هي دعوى عدم الاستقرار في السياسة الخارجية التركية، فهل هي سياسة الدولة أم سياسات الحكومات! ذلك بأن السياسة الخارجية التركية عاشت تحولات من عبد الله غول إلى أردوغان ومن أردوغان إلى أحمد داود أوغلو ومن داود أوغلو إلى بن علي يلديريم، وتحولت الأهداف والاستراتيجيات والتحالفات والأساليب، وحتى اللغة الدبلوماسية تحولت إلى اللغة السوقية أحياناً.

ومن أولى مراحل التحول كانت محاولة الخروج من الدور التقليدي إلى الدور التجديدي (من الانغلاق إلى دور الوسيط والميسر)، وهي محاولة يمكن اعتبارها ناجحة إلى حد كبير.

هناك خطوة أخرى هي التحول من السياسة السلبية الانفعالية إلى سياسة الاستباق؛ وقد مثّلت هذه المرحلة بداية السياسة التوسعية والسعي وراء الأحلام لإحياء أمجاد الدولة العثمانية.

وامتداداً لهذا التحول الأخير بدأ الانتقال من السياسة الواقعية السلمية إلى سياسة توسيع دائرة النفوذ العسكري والسياسي؛ من الطموحات إلى الأحلام وإلى الغطرسة والتعالي والتعاظم (حلم العثمانيين الجدد أو إحياء الخلافة العثمانية)‏[12].

والمرحلة الأخيرة والحالية هي مرحلة الانتقال من السياسة الاختيارية إلى السياسة الاضطرارية، بمعنى أن الواقع فرض نفسه على السياسات واعترف الحزب الحاكم بأنه أخطأ في تقدير التطورات الخارجية عموماً، وفي الأزمتين السورية والعراقية تحديداً، ويمكن تلخيص هذه المرحلة بتعبير نمطي: من شعار صفر مشكلة إلى واقع صفر جيران!. يتبين مما سبق أن السياسة الخارجية التركية في مراحلها الأخيرة كانت تعاني العجز عن تقدير التطورات في العالم عموماً وفي دول الجوار تحديداً‏[13].

ومن تداعيات هذا التحول محاولة تركيا تحديد مكانها في المعادلات والتوازنات الإقليمية بين معسكر السنة ومعسكر الشيعة، أو بين محور الاعتدال ومحور المقاومة، أو بين حلف الناتو ومنظمة شانغهاي، أو بين منظمة التعاون الإسلامي وبين إسرائيل، وبين التوجه نحو الخروج من الجو الديمقراطي (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية) إلى الجو السلطوي (روسيا والصين) للحصول على دعم دولي لنظام جديد سلطوي؟

مثال أخير للوضع النهائي في السياسة الخارجية التركية هو التخلي عن ادعاء رفع الحصار عن غزة: (إعمار غزة كسجن مفتوح من خلال إرسال المساعدات عبر السلطة الإسرائيلية الصهيونية).

ومن تداعيات التحولات والتراجعات في السياسة الخارجية التركية هو انتشار الأسلوب السوقي، على حساب الأسلوب الدبلوماسي، في صفوف الحزب الحاكم، من الأعلى إلى الأسفل أو من الرأس إلى أخمص القدمين، وانتشار السلوك المعادي والتهديدي الموجّه إلى «الآخر».

 

خامساً: حقيقة وطبيعة الاقتصاد التركي

منذ البداية، كان جل اهتمام الأحزاب السياسية منصباً على الأمور الاقتصادية أكثر من السياسة الاجتماعية. والحزب الحاكم هو آخر نموذج متطور لهذه المقاربة المادية، وبالتالي يمكن وصف النموذج الحالي بأنه «سياسة الهموم الاقتصادية». والدليل على ذلك هو تميز النموذج التركي عند الشارع العربي بالنهضة الاقتصادية. ولكن السؤال الأساسي المنسي هنا هو: النهضة الاقتصادية التركية: هل هي أسطورة أم إنها واقع ملموس؟ للإجابة عن هذا السؤال ينبغي النظر إلى مجال الاقتصاد من كثب وبنظرة فاحصة.

إن العمود الفقري للاقتصاد التركي هو قطاع البناء وتشجيع الاستهلاك، وبخاصة الكمالي منه، وأموال ساخنة من دول الخليج. أما المجالات الاقتصادية الأخرى فليس هناك أي تطور وتقدم ملحوظ، بل هناك مخاطر ومشكلات اقتصادية يجب التغلب عليها، من أهمها:

1 – الوقوع في فخ الدخل المتوسط أولاً، ثم تراجع معدل الدخل القومي والفردي السنوي من 11.277 دولاراً عام ٢٠١٤ إلى 9.286 دولاراً عام ٢٠١٥ وإلى 9.364 دولاراً عام ٢٠١٦.

2 – ارتفاع نسبة البطالة إلى 9.4 – 9.7 بالمئة (٢,٨٩٥,٠٠٠) عام ٢٠١٤، وهي نسبة مرتفعة؛ أما المساعدات المالية للعاطلين من العمل (٧ – ١٠ مليارات ليرة تركية) فهي ضئيلة جداً، لأنها تمثّل جزءاً صغيراً من المبلغ المتراكم في صندوق البطالة (٧٨ – ٩٢ مليار ليرة تركية). والسؤال هنا هو: أين ذهب المقدار المتبقي (٧٠ – ٨٠ مليار ليرة تركية) عام ٢٠١٤؟ هناك شكوك في احتمال استغلالها لتمويل عجز الميزانية. بل صرح وزير العمل فاروق جليك أن ٦٠ مليار ليرة تركية من رصيد صندوق البطالة (٧٩ مليار ليرة تركية) تم إنفاقها على سندات حكومية للديون الحكومية الداخلية عام ٢٠١٤ التي تتضخم بسبب إنفاق مبالغ ضخمة من الميزانية لبناء القصر الأبيض ولغير ذلك من النفقات غير الضرورية‏[14]. وهناك معلومات تقول إن ٩٠ – ٩٣ بالمئة من إجمالي صندوق البطالة (٨٠ – ٩٠ مليار ليرة تركية) تم تحويلها لتمويل عجز الميزانية، وبالتالي تم صرف ٨٠ – ٨٣ مليار ليرة تركية للخزانة العامة لا إلى العمال (٢٠١٤ – ٢٠١٥)‏[15].

3 – مشكلة الضعف في التصدير‏[16].

4 – مشكلة التدهور في التوزيع العادل للدخل القومي (نصيب الـ 20 بالمئة الأغنى هو 50 بالمئة من إجمالي الدخل القومي، أي عشرة أضعاف نصيب الفقراءـ مقابل 50 بالمئة هي نصيب الـ 20 بالمئة الأفقر)‏[17].

5 – مشكلة الفساد الاقتصادي (تحتل تركيا المرتبة ٦٦ من بين ١٦٨ دولة بحسب تقرير الشفافية الدولية لعام 2015)‏[18].

6 – النظام الضريبي غير العادل ومشكلة فرض الضرائب غير المباشرة (ضريبة استهلاك الوقود بنسبة 60 – 65 بالمئة نموذجاً وهي نسبة عالية جداً).

7 – الحد الأدنى للأجور وحّد الفقر والمجاعة (حد المجاعة لأسرة من أربعة أفراد 1405 ليرات تركية وحد الفقر 4578 ليرة تركية والحد الأدنى للأجور 1300 ليرة تركية وهو أقل من حد المجاعة‏[19].

8 – مشكلة الأنشطة الاقتصادية غير الشرعية وغير المسجلة رسمياً (تركيا في المرتبة الأولى بين 34 دولة من دول (OECD) بأعلى نسبة تبلغ ٢٨,٧٢ من الاقتصاد)‏[20].

9 – زيادة في نسبة ديون البطاقات الائتمانية للبنوك وتجاوز عدد العاجزين عن التسديد 2.700.000 نسمة‏[21].

10 – محاولات غسيل الأموال بإضفاء الشرعية عليها من خلال إصدار قانون خاص لهذا الغرض‏[22].

11 – استغلال الصناديق المختلفة (صندوق البطالة نموذجاً) لتمويل عجز الميزانية.

12 – الهروب من المراقبة المالية واللجوء إلى وسائل احتيالية لتهريب تقارير ديوان المراقبة من البرلمان هرباً من مناقشتها. من جهة أخرى، أُلغيت هيئة المراقبة المالية وأُسّست هيئات جديدة لتوظيف الموالين للحزب من المبتدئين عديمي الخبرة كمفتشين مساعدين للضرائب بنسبة 63 بالمئة من مجموع الموظفين، مقابل كبير المفتشين بنسبة 3 بالمئة فقط‏[23].

13 – كابد خمسة وأربعون مطاراً من مجموع أربعة وخمسين مطاراً خسائر قدرها ١٢٥,٠٠٠,٠0٠ ليرة تركية بحسب تقرير ديوان المراقبة المالية‏[24].

14 – مشكلة عمالة الأطفال – السوريين منهم تحديداً – هرباً من دفع قسط التأمين.

15 – بلغ إجمالي الديون الخارجية ٤١١,٥٠٠,٠٠٠,٠٠٠ دولار (3/6/2016) بعدما كانت الديون الخارجية عند وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام ٢٠٠٣ تبلغ ١٢٤,٠٠٠,٠٠٠,٠٠٠ دولار فقط. الأمر الذي يجعل كل مولود من أطفال المواطنين يولد وعلى عنقه دين بمبلغ ٥,١٣٧ دولاراً‏[25].

وفي ضوء هذه المعطيات ينبغي القول إن السياسة الاقتصادية في تركيا في عهد الحزب الحاكم منذ عام 2013 بحاجة إلى مراجعة وتصحيح. وآخر مؤشر لهذا الوضع الحساس اعتراف محمد شيمشك الوزير المسؤول عن الاقتصاد بأن الاقتصاد التركي في وضع حساس، أو بتعبير أدق «على حافة سكين»‏[26]. ولعل أوضح وآخر دليل على ذلك هو أن يضطر أردوغان اليوم إلى الاعتراف بالتعب الاقتصادي الذي يعانيه اقتصاد تركيا والتنبيه إلى ضرورة التدابير اللازمة للتخلص من وطأة هذا التعب‏[27].

سادساً: تطوّرات المجتمع التركي: هل الأمور تزداد سوءاً؟

هل التطورات تسير في اتجاه صحيح؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب النظر إلى التطورات في المجالات الاجتماعية أيضاً حتى تكتمل الصورة عند المهتمين بالشأن التركي. وللقيام بهذا التحليل لا بد من دراسة النقاط التالية:

١ – لعل أهم وأكبر قصور في السياسة التركية هو غياب منظور سوسيولوجي في الثقافة السياسية التركية عموماً وفي الحكومة الحالية خصوصاً، ومن أبرز العواقب الوخيمة لذلك هو مؤشر موضوعي وملموس: هيمنة «خبر أسود» و«التوتر المتصاعد» في شاشات القنوات التركية في البرامج الإخبارية والحلقات النقاشية يومياً!

٢ – ومن المؤشرات الخطيرة أيضاً التراجع الملحوظ في المستوى التعليمي – في الرياضيات والعلوم ومستوى فهم النصوص بلغة الأم – بحسب معطيات البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA) لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) لعام (٢٠١٥) وتراجع تركيا إلى المرتبة 50 من مجموع 68 دولة. هناك أمر آخر ملحوظ هو أن تركيا كدولة من دول منظمة التعاون الإسلامي، ولعلها هي الدولة الوحيدة التي تعجز عن تعليم اللغة العربية لأبنائها حتى في المدارس والكليات الدينية. ومن جانب آخر إن تركيا وفنلندا كانتا في نفس الوضع التعليمي تقريباً في السبعينيات، إلا أن فنلندا حققت تقدماً ملحوظاً غير قابل للقياس مع تركيا في عدة مجالات وفي مجال التعليم تحديداً.

٣ – من المؤشرات الخطيرة كذلك الانحطاط والانحلال والتآكل في القيم الأخلاقية والسلوك الاجتماعي. والأدلة على ذلك كثيرة جداً، ومن أبرزها:

أ – انتشار أخبار القتل والضرب والجرح والسرقة والغصب والتحرش الجنسي وأنواع من الوقاحة في وسائل الإعلام، وارتفاع نسبة الطلاق وحوادث المرور (العثور على أجزاء الجسم في معمل فرز القمامة، وارتكاب جريمة قتل لمجرد أن الضحية كان يحدّق في وجه القاتل)‏[28]! إضافة إلى ظاهرة الفساد الإداري والاقتصادي.

ب – انخفاض في معدل ثقة المواطنين بعضهم بعضاً. من كل مئة مواطن في تركيا يوجد ثمانية فقط يثقون بالآخر، أما في الصين فـ 55 بالمئة من المواطنين يثقون بالآخر، مقابل 63 بالمئة في سويسرا‏[29].

4 – من جهة أخرى ينبغي النظر إلى مستوى الأمن الاجتماعي. ومن اللافت للنظر التزايد في الانتقادات المتواصلة والموجهة إلى السلطة الحاكمة بسبب الضعف الملحوظ في أجهزة الأمن، بدليل وقوع أكثر من 360 قتيـلاً في سبعة عشر تفجيراً خلال السنة الفائتة فقط‏[30]. مع إضافة 39 قتيـلاً في الهجوم الأخير الذى حدث في اسطنبول في بداية العام الجديد.

5 – ومن المؤشرات أيضاً حول الحالة الاجتماعية هو تزايد مطرد في استهلاك الدخان والكحوليات (البيرة تشكل النصف من استهلاك الكحوليات) والمخدرات وبخاصة في أوساط الشباب.

6 – ومن السلبيات الحيوية في السياسة التركية هو قلة الاهتمام بالبيئة وإزالة الغابات بحجة بناء الطرق، مبررين هذا التخريب بأنهم يقومون بغرس الشجيرات مكان ما دُمر من الغابات، متناسين أمراً خطيراً هو أن زراعة الشجيرات بحاجة إلى عقود لتصبح غابة! وكذلك الأمر بالنسبة إلى ردم الشواطئ بالأنقاض والحطام للحصول على الأراضي لبناء مساكن فاخرة، من دون مبالاة بأضرار تعرضت لها البيئة وبتدهور واختلال السلاسل الغذائية في البحر.

7 – ومن القضايا الاجتماعية الساخنة هي تهميش المرأة ومحاولة حصر دورها في الأمومة وفي المنزل، وهو توجّه سائد في جميع الحركات الإسلامية تقريباً.

8 – أما غياب التفاهم والتسامح بين المسلمين أنفسهم من جهة وبين المسلمين و«الآخر» من الأقليات من حيث المعتقد والعرق والعادات والتقاليد، من جهة أخرى، فهو في تزايد خطير. والدليل على ذلك المناقشات الساخنة في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب وفي مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية في الأيام الأخيرة.

أمام كل ذلك تبدو السلطة الحاكمة مصرّة منذ البداية على عدم الاعتراف بأخطائها مع استثناء وحيد هو أكبر فشل ذاقته السلطة الحاكمة: فشل في مجال التعليم على جميع المستويات باعتراف الحزب الحاكم نفسه أمام التقارير الدولية المذكورة أعلاه.

سابعاً: العودة إلى البداية: تركيا إلى أين؟

في ضوء التحاليل المقدمة من الصعب جداً القول بنجاح التجربة السياسة التركية بكل المقاييس والمعايير، ولكنها تجربة ذات قيمة عالية وملهمة جداً لاستخراج الدروس والعبر لتركيا نفسها ولبعض دول المنطقة التي كانت تستعد لاستنساخ التجربة التركية، من دون النظر إلى السلبيات ومواضع الخلل. وهي أصلاً تجرية للمجتمع التركي بالدرجة الأولى، ولكن المؤشرات لا تبشّر بالأمل حول مدى انتشار الوعي في المجتمع التركي بالنسبة إلى أهمية وخطورة سلبيات هذه التجربة لتعلّم الدروس السياسية على أمل تصحيح مسارها وتقديمها خالية من هذه السلبيات التي أدت إلى خسائر مادية ومعنوية على النطاقين الشعبي والإقليمي.

إلا أن التطورات الأخيرة في السياسة التركية والمراجعات والتراجعات – ولو كانت ضعيفة وغير راغبة فيها، بل مكرهة – نتيجة التصادم مع الواقع، تدفعنا إلى أن نكون متفائلين نسبياً لحساب تركيا كجزء لا يتجزأ من المنظقة ولحساب المنطقة نفسها. والعصا السحرية للتخلص من أخطاء وأضرار السياسات الخاطئة هي عدم الاستسلام للواقع السياسي ومتابعة التطورات فيها ببصيرة من دون التخلي عن الفكر النقدي وثقافة المعارضة والمقاومة ضد جميع التطورات المهددة لمستقبل الإنسان والكوكب كما يردد روجيه غارودي في معظم كتاباته.

ورقة العمل (2)

تركيا بين تحولات الداخل وتقاطعات الخارج

محمد نور الدين(*)

أستاذ جامعي وباحث في الشؤون التركية.

 

شهدت تركيا في مرحلة ما بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة تحولات كثيرة داخلياً وخارجياً. لكن هذه التحولات عرفت انعطافةً حادة ومضادة بعد العام 2010 وبلغت ذروة غير مسبوقة في مرحلة لاحقة، بدءاً من النصف الثاني من العام 2016، وكان لها أو سيكون لها أثر جذري في طبيعة الدولة والتوازنات الاجتماعية والسياسية لتركيا فضـلاً عن موقعها ومكانتها في المعادلات الإقليمية وربما العالمية.

أولاً: على الصعيد الداخلي

اتسمت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بثبات في الصيغة السياسية للنظام وفي التوازنات الداخلية، بحيث إن الديمقراطية المراقبة من المؤسسة العسكرية كانت السائدة في ما عرف بهيمنة «الدولة العميقة». وعلى هذا كانت تتوازى هيمنة الأحزاب السياسية والمؤسسة العسكرية عبر التناوب على السلطة بين الجيش والأحزاب السياسية. لم يبق الجيش طويـلاً في السلطة ولم تكن العملية الانتخابية مغيبة طويـلاً. وبمعزل عن طبيعة وبنية الأحزاب التي كانت تصل إلى السلطة فإن النظام السياسي لم يكن يخرج من ثنائية «الطرح القومي – الإسلامي» الذي كان يحافظ على الهوية القومية للمجتمع من جهة، وهويته الدينية من جهة ثانية؛ وهي ثنائية لم تتغير، وكانت سمة مشتركة لمختلف تجارب الحكم منذ أواخر عهد الدولة العثمانية، ولا سيَّما مع حكم الاتحاد والترقي. مع أتاتورك أضيفت إلى هذه الثنائية النزعة العلمانية التي اعتمدت وشكلت رأس حربة لمواجهة حركات الإسلام السياسي (لا الهوية الدينية للمجتمع). كان قمع واضطهاد الحركات غير التركية (الأكراد) وغير الإسلامية – السنية (المسيحيون والعلويون) وغير العلمانية (أحزاب الإسلام السياسي والإسلام الراديكالي) سمة المرحلة الجمهورية من العام 1923 وحتى بداية مرحلة حزب العدالة والتنمية.

المتغيرات الأساسية التي بادر إليها حزب العدالة والتنمية كانت بداية في:

1 – ضرب نفوذ المؤسسة العسكرية التي كانت عقبة أساسية أمام تطبيق برامجه وخططه. وكان له ما أراد، بمعزل عن العوامل التي ساهمت في ذلك، عبر استفتاء 12 أيلول/سبتمبر 2010 الذي قلّم إلى حد بعيد أظافر المؤسسة العسكرية في الدستور وتلاها مرحلة قصّ ما تبقى من أظافر في القوانين.

كان كسْرُ نفوذ المؤسة العسكرية في الحياة السياسية شرطاً أساسياً لحزب العدالة والتنمية في محاولة ترجمة تطلعاته الداخلية.

وقد استفاد الحزب من فشل المحاولة الانقلابية في 15 تموز/يوليو 2016، لتطويع المؤسسة العسكرية إلى حد كبير من خلال تعديل بنية الجيش وهرمية الأوامر، وأخيراً من خلال تفريغه من كوادره البشرية عبر طرد واعتقال عشرات الآلاف من ضباطه المشتبه في معاداتهم لحزب العدالة والتنمية – سواء أكانوا من أنصار فتح الله غولن أم كانوا من العلمانيين – وأحل محلهم كوادر جديدة تدين بالولاء لحزب العدالة والتنمية.

2 – عمل حزب العدالة والتنمية على التغيير التدريجي للطبيعة العلمانية للنظام. وكان هذا هدفاً مركزياً له. ولم يحاول الحزب أن يمس القشور الخارجية للعلمانية، فأبقى عليها ضمن الدستور والقوانين ولكنه كان يمارس على الأرض وعبر القرارات الحكومية كل ما من شأنه تصفية الحضور العلماني في الدولة والمجتمع. من تغيير المناهج التعليمية وتعزيز دور معاهد إمام – خطيب إلى السلوكيات الاجتماعية المقيدة للحريات الشخصية، وصولاً إلى تغيير تسميات الأماكن العامة بما يعكس الهوية الإسلامية – العثمانية. وكانت الإشارة الكبرى من جانب رئيس البرلمان إسماعيل قهرمان في ربيع العام 2016، الذي دعا إلى حذف الإشارة إلى العلمانية من الدستور وإحلال دستور ديني.

3 – من سمات حكم حزب العدالة والتنمية، ولا سيَّما منذ العام 2011، التي زادت جرعتها بعد هزيمة الحزب في انتخابات 7 حزيران/يونيو 2015، والتي اكتملت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو 2016، هي التضييق على الحريات العامة، ولا سيَّما حرية التعبير وحريات الصحافة؛ فاعتُقل العشرات من كبار الكتّاب والصحافيين بتهم دعم الإرهاب، وأغلقت عشرات الوسائل الإعلامية المكتوبة والمرئية والمسموعة. كذلك جرى التضييق على الحريات السياسية عبر اعتقال قادة ونواب لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي في نهاية العام 2016. وكان أحد أخطر آليات تصفية الخصوم قانون حال الطوارئ الذي أقرَّه نواب حزب العدالة والتنمية والحركة القومية في البرلمان في 20 تموز/يوليو 2016 والذي فوّض الحكومة اتخاذ «قرارات ذات قوة القانون» تجاوزت تطبيقاتها كل حدود.

4 – لم يكتف نظام حزب العدالة والتنمية باستخدام القوة الناعمة القضائية لاضطهاد خصومه، بل تعامل في السنتين الأخيرتين (2015 و2016) مع القضية الكردية بأقصى قوة عسكرية مفرطة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الجمهورية، في مدن وأحياء المناطق الكردية التي تحول جزء منها إلى خراب. واستكملت سلطة العدالة والتنمية هذه الحملة بحملة أخرى سياسية أيضاً غير مسبوقة عبر اعتقال قادة الحركة الكردية الرئيسيين من نواب حزب الشعوب الديمقراطي ورؤساء البلديات المنتخبين أساساً من الشعب.

5 – في الواقع، إن السلوكيات القمعية المتمثلة بإسكات الصوت المعارض وتعزيز النزعة الدينية والقومية، وبتصفية الأصوات الوازنة حتى داخل حزب العدالة والتنمية (عبدالله غول، أحمد داود أوغلو، بولنت أرينتش)، كانت تهدف إلى إقامة نظام الفرد الواحد الذي كان معمولاً به في عهد أتاتورك: أمة واحدة، علم واحد، وزعيم واحد.

رفع رجب طيب أردوغان منذ انتخابه رئيساً للجمهورية من الشعب عام 2014، شعار تغيير النظام من برلماني إلى رئاسي. وهو ما يعني أن يكون رئيس الجمهورية هو الذي يمسك بالسلطة التنفيذية في الدولة، بخلاف ما هو عليه اليوم حيث مركز الثقل في السلطة التنفيذية لرئيس الحكومة.

ولا يبدو أن هناك ما يعيق الوصول إلى هذا الهدف في العام 2017 من خلال دستور جديد يتضمن إقامة نظام رئاسي يمر في استفتاء شعبي. ويكاد مشروع الدستور الجديد المقترح يعيد تركيا، بالصلاحيات المطلقة لرئيس لجمهورية، إلى مرحلة ما قبل أول دستور عثماني عام 1876، بل إلى ما قبل عهد التنظيمات العثمانية في العام 1839.

مع الإشارة هنا إلى أنه إضافة إلى النزعة الشخصية لتغيير النظام فإن إقامة نظام رئاسي في بلد متعدد عرقياً ودينياً ومذهبياً مثل تركيا، ولا تتوافر فيه سلطة قضائية قوية ومستقلة ولا حرية تعبير عن الهويات الثقافية للأقليات العرقية والدينية والمذهبية ولا نظام قانوني يحمي الحريات العامة الأساسية، كل ذلك سيكون مدخـلاً لتأبيد نظام عرقي (تركي) ومذهبي (سني) واستبدادي (قمع الحريات) على حساب المكونات الأخرى في المجتمع التي كانت تجد في النظام البرلماني بعض الفرص للشراكة في الحكم (قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002). بينما سيلغي النظام الرئاسي ضمن الشروط السالفة الذكر هذه الشراكة ويعمق بالتالي الشعور بالتهميش والمظلومية، مع ما يؤسسه ذلك من عوامل انفجار تهدد وحدة تركيا واستقرارها الهش.

وقد أفضى مجمل هذا النهج إلى النتائج التالية:

1 – استقطاب عرقي حاد.

2 – احتقان مذهبي عميق.

3 – استقطاب أيديولوجي علماني – إسلامي غير مسبوق.

4 – تعزيز النزعات المتشددة، ولا سيّما الدينية، في المجتمع التركي بتأثير من السياسات والأوضاع في المنطقة، وتوفير بيئة حاضنة للتيارات المتطرفة مثل داعش والنصرة.

5 – اضطراب سياسي وأمني واسع من تفجيرات وعمليات عسكرية واغتيالات كان آخرها اغتيال السفير الروسي في أنقرة أندري كارلوف.

6 – تراجع ما سمي «المعجزة» الاقتصادية بعد انتفاء أسباب ظهورها، وعلى رأسها نهج «صفر مشكلات» الذي اختفى وحلت محله سياسات أفضت إلى تراجع كل المؤشرات الاقتصادية لتركيا، وآخرها تراجع النمو إلى حدود 2.5 – 3.00 في المئة وتراجع الصادرات وتدهور سعر صرف الليرة وموت السياحة وتقلص حجم الناتج القومي وتزايد البطالة وارتفاع نسبة التضخم وهروب الاستثمارات الأجنبية.

تمر تركيا في الداخل بأسوأ وضع لها في منذ عقود، وهو أمر يضاعف من مخاطره الحرائق الكبيرة المشتعلة في جوار تركيا الإقليمي وانخراط تركيا المركزي طرفاً مباشراً فيها.

ثانياً: في السياسات الخارجية

إلى جانب التحولات الداخلية الحساسة، كانت المتغيرات على صعيد السياسات الخارجية لتركيا في عهد حزب العدالة والتنمية، ولا سيَّما في العام 2016، كثيرة ومؤشراً على مرحلة غير مسبوقة في طريقة التعاطي مع التحديات والتهديدات الخارجية.

حافظت تركيا في سياستها الخارجية على امتداد العهد الجمهوري على نوع من الحيادية السلبية في عهد أتاتورك، الذي رفع شعار «سلام في الوطن سلام في العالم» ثم ما لبث أن انخرط كطرف في الاستقطابات الدولية ضمن المعسكر الغربي وحلف شمال الأطلسي.

ومع أن سياسات حزب العدالة والتنمية الخارجية كانت على قاعدة صفر مشكلات في السنوات الأولى عهده، فإن أهداف الحزب وسلوكياته وأدواته انقلبت رأساً على عقب لتحل مكانها مجموعة من العناوين التي تضع تركيا في موقع مختلف عن كل ما سبقه من اصطفافات ولتعيد ترسيم الأهداف على النحو التالي:

1 – أعاد حزب العدالة والتنمية الاعتبار للأيديولوجيا كمحدد أساسي (وليس الأساسي) في السياسة الخارجية. وكان عنوان هذه الأيديولوجيا تحديداً قلب الأنظمة القائمة في المنطقة العربية بصورة خاصة وإقامة أنظمة ذات طابع إسلامي سني إخواني. وقد نجح ذلك في مصر وتونس والمغرب قبل أن تنقلب عليه الأمور في مصر وتونس.

2 – المحدد الأيديولوجي الثاني كان العثمانية الجديدة. وقد تكررت بالعشرات الإشارات إلى هذا التوجه حتى في فترة «صفر مشكلات»، ومن أبرزها ما ذكره أحمد داود أوغلو وزير الخارجية عام 2010 في حوار مع الواشنطن بوست من أن تركيا تسعى لكومنولث عثماني تتزعمه على غرار الكومنولث الإنكليزي. كذلك إعادة رئيس الحكومة حينها (تموز/يوليو 2012) رجب طيب أردوغان أسباب التدخل في الشأن الداخلي السوري إلى «مسؤوليات تاريخية» على تركيا كونها «حفيدة السلاجقة والعثمانيين». وقبل كل هذا كان داود أوغلو في مقالة له في صحيفة يني شفق في الأول من كانون الأول/ديسمبر 1996، يرى أنه «في أساس المشكلات الأهم في السياسة الخارجية التركية هو الفشل في الانسجام مع الإرث العثماني من أجل تشكيل أرضية سياسية خارجية ملائمة لرسم سياسات جديدة».

3 – الاستدارة العثمانية إلى الشرق لم تكن رد فعل على تعثر مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إذ إن تركيا، سواء في عهد العلمانيين أم في عهد إسلاميي حزب العدالة والتنمية، لم تكن جادة في عملية التقدم على طريق الاتحاد الأوروبي. بل كان كل طرف منهما يتوسل عملية الاتحاد الأوروبي ليوظفها ضد الآخر في الصراع التركي الداخلي. ذلك بأن أيديولوجية «الطرح القومي – الإسلامي» كانت في صلب سياسة الطرفين داخلياً، بينما الالتزام بشروط أوروبا كان سيعني ضرب هذا الطرح من أساسه بما يفضي إلى جعل الأكراد متساوين في المواطنة والهوية مع الأتراك وكذلك جعل العلويين على قدم المساوة في التعبير عن الهوية مع السنّة.

لذلك كانت عملية الابتعاد من أوروبا مقصودة، ولم يسعَ حزب العدالة والتنمية إلى التقدم على هذا الطريق، وخصوصاً بعدما نال مراده من بعض ما تحقق لسحب البساط الدستوري والقانوني من تحت أقدام نفوذ المؤسسة العسكرية عام 2010، في حين كان المسار الانحداري الكبير على الطريق الأوروبي واضحاً بعد العام 2011، وانتصار حزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية العامة، حيث لم يبذل الحزب أدنى جهد لتعزيز التقارب مع أوروبا، بل كان يعمل على المزيد من التضييق على الحريات العامة أكثر من أي وقت مضى، ويبادر لاحقاً إلى اتباع أقصى الحملات العسكرية على الأكراد، فضـلاً عن إضعاف مسيرة العلمنة بما يعنيه من مواصلة إنكار الهوية العلوية والفئات العلمانية. خيار الابتعاد من أوروبا كان جزءاً من استراتيجية إقناع الرأي العام التركي بالالتفاف حول خيار التطلع إلى الشرق، والوعد بأن تكون تركيا زعيمة لشرق أوسط جديد ترسم هي ملامحه وتقوده هي، كما تحدث داود أوغلو في 27 نيسان/أبريل عام 2012 أمام البرلمان التركي.

4 – إلى هذين الهدفين المستجدين فقد شهدت أواخر العام 2016 بروز خطاب تركي يظهّر الموروث التاريخي كحامل للأهداف العثمانية والمشرقية. وقد دشّن أردوغان في 29 أيلول/سبتمبر 2016 حفلة العودة إلى الموروث التاريخي حين تحدث عن تركية الجزر اليونانية الـ 12 قرب الساحل التركي في بحر إيجه، داعياً إلى إعادة النظر في معاهدة لوزان عام 1923 التي ثبتت النسبة الكبرى من حدود تركيا الحالية التي كانت رسمت جغرافياً قبل لوزان. تزامن ذلك مع الحديث عن بدء معركة تحرير الموصل التي بدأت بعد ذلك بأسبوعين. لكن قبل ذلك بشهر تقريباً، في 24 آب/أغسطس 2016، كانت القوات التركية تدخل سورية وتحتل مدينة جرابلس وصولاً إلى حدود عفرين غرباً وأبواب مدينة «الباب» جنوباً.

تكررت مواقف أردوغان يومياً في شأن معاهدة لوزان، واصفاً إياها بأنها «لم تكن انتصاراً بل هزيمة. وأن الخارج أراد أن يجعلنا نقبل بأنها نصر في حين هي عملياً هزيمة وهو مفهوم خاطئ نرفضه ويجب تصحيحه».

وصوّب أردوغان سهامه على الميثاق الملّي الذي وضعه البرلمان العثماني في العام 1920 بتوجيه من مصطفى كمال، مذكّراً بأن الموصل مثـلاً كانت تابعة لتركيا. ولم يغادر خطابات أردوغان الحديث عن العلاقة التاريخية مع كل هذه الأراضي والمدن التي كانت تقع ضمن حدود الميثاق الملّي، وهي تضم كامل شمال سورية وشمال العراق، أي ولاية الموصل حينها التي كانت تضم الموصل الحالية وكركوك فضـلاً عن إقليم كردستان العراق.

لم يكن الموروث التاريخي غائباً عن خطاب السلطات التركية عبر العقود الماضية. وقد كان الرئيس الراحل تورغوت أوزال أول من عمل على «استعادة» الموصل مثـلاً أثناء حرب تحرير الكويت، لكن معارضة رئيسَي الحكومة والأركان التركيَّين حالت دون أن يمضي في مغامرته تلك.

كذلك قبل الدخول العسكري التركي إلى سورية عام 2016، والتشبث بإقامة قاعدة بعشيقة في شمال العراق، والتذكير بأن الموصل كانت تركية، كان عبد الله غول، كوزير للخارجية عام 2004 وكرئيس للجمهورية عام 2009، يقول إن إقامة فدرالية في العراق يخلق لتركيا حقوقاً تاريخية، لأن تركيا سلَّمت الموصل عام 1926 إلى عراق موحد (بما يعني حقها في استعادتها في حال تقسيم العراق أو حتى فدرلته). ومع ذلك فإن الخطاب التركي، المتوسل الموروث التاريخي، لأردوغان ودوائره وإعلامه في عام 2016، لم يسبق له مثيل منذ إعلان الجمهورية عام 1923.

5 – لم يغب خطاب المؤامرة عن مواقف المسؤولين الأتراك منذ انهيار الدولة العثمانية. فالحساسية ضد الغرب تحديداً كانت غالبة في مواقفهم، بدءاً من مصطفى كمال نفسه، رغم ميله الحضاري نحو الغرب، وصولاً إلى كل الحكومات المتعاقبة. ولم يغير دخول تركيا إلى حلف شمال الأطلسي عام 1952، ولا كونها جزءاً من المنظومة الغربية في مواجهة الشيوعية، من جوهر هذا الخطاب.

لكن التعبير عن مؤامرة «خارجية» تقودها الولايات المتحدة كما الاتحاد الأوروبي كان طاغياً في خطابات أردوغان في السنوات الأخيرة، وبلغ ذروته في العام 2016، ولا سيَّما تجاه الولايات المتحدة، لسببين رئيسيين: الأول دعم واشنطن لقوات الحماية الكردية في سورية بل محاولة وصل كانتون عين العرب/كوباني بكانتون عفرين في سورية، والثاني اتهام أردوغان إدارة باراك أوباما بالضلوع بمحاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة في 15 تموز/يوليو 2016.

ويرى المسؤولون الأتراك أن الغرب تحديداً يسعى لمحاصرة تركيا بشريط كردي ممتد من الحدود الإيرانية عبر شمال العراق وشمال سورية وصولاً حتى إلى البحر المتوسط؛ مع ما يعنيه ذلك من تحول استراتيجي خطير داخل العالم الإسلامي يتمثل بقطع الفضاء الحضاري والجغرافي التركي عن الفضاء الحضاري والجغرافي العربي بفضاء جديد هو الفضاء الكردي. على أن يلي ذلك مرحلة تقسيم تركيا عبر أكراد الداخل. وهذه النظرية ليست مجرد فقاعات إعلامية بل إنها خطاب رسمي يتكرر على أعلى مستوى. وهو ما دفع القيادة التركية إلى تبرير خطوات التدخل المباشر في شمال سورية والعراق على أنها حرب استباقية لمنع وصول التهديدات إلى الداخل التركي.

 

ثالثاً: تغيير أدوات السياسات الخارجية وآلياتها

التزمت تركيا، على امتداد الحرب الباردة، بسياسة خارجية لها أدواتها وضوابطها. لكن مع حزب العدالة والتنمية، ولا سيَّما بعد ظهور حركات ما سمي «الربيع العربي»، شهدت السياسة الخارجية التركية تغييرات جذرية في الأدوات المستخدمة، في ما يشبه الانقلاب على كل مسارها منذ إعلان الجمهورية وليس بعد الحرب العالمية الأولى فقط.

1 – تغيير قاعدة التعامل من دولة إلى دولة

لم تخرج تركيا على امتداد الحرب الباردة في التعامل مع الدول الأخرى على قاعدة من دولة إلى دولة. وقد عكس هذا التعامل رغبة الحكومات العلمانية – العسكرية في أن تبقى بمنأى من التورط في مشكلات العالم الإسلامي والجوار العربي وعدم الغوص مجدداً في منطقة جاءت بالشرّ لتركيا العثمانية في الحرب العالمية الأولى ولا تنسجم مع الهوية العلمانية الجديدة لتركيا.

مثّلت القضية القبرصية الاستثناء الوحيد، حيث تدخلت تركيا عسكرياً هناك. لكن لقبرص تحديداً موقعاً خاصاً جداً، كونها تعدّ بالفعل قضيةً تركيةً داخلية، فضـلاً عن وجود اتفاقيات دولية تمنح تركيا مع اليونان وبريطانيا دور الضامن لاتفاقيات استقلال قبرص والحق بالتدخل لمنع تغيير الوضع القائم.

خلا الاستثناء القبرصي فإن تعامل تركيا مع الدول الأخرى، ولا سيَّما الوطن العربي، كانت تحكمه القوانين الدولية ومبدأ عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول الأخرى، كما ضوابط التحالفات التي كانت تركيا جزءاً منها وفي مقدمها حلف شمال الأطلسي.

وفي التاريخ القريب جداً، في العام 1998، حين كان في السلطة التركية صقور العسكر والعلمانيين بعد خلع نجم الدين أربكان، فإن مطالبة تركيا سورية بتسليم زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجالان، كانت نموذجاً على تعامل دولة لدولة، حيث كان عنوان التهديد التركي الدولة السورية واعتبارها المخاطب دون غيرها من أي طرف سوري. وبالتالي حين انتهت القضية بإخراج أوجالان من سورية، انتهت المشكلة عند هذا الحد بل تلاها تعاون أمني وسياسي واقتصادي كان القاعدة الفعلية، لكن على أسس واقعية ومتدرجة، لصفر مشكلات التي ظهرت لاحقاً والتي ذهبت بعيداً في «تسييلها» وبالتالي انفلاتها عن مسارها.

وفي أوقات لاحقة كانت تركيا تشارك في عمليات خارجية ضمن قرارات لحلف شمال الأطلسي وليس لحسابات تركية خالصة. أو كانت توفر للولايات المتحدة قواعدها لتنطلق منها لعمليات خارجية. كانت تركيا معادية لحركات التحرر العربية لكنها كانت تستخدم هذا العداء من خلال موقعها ودورها كدولة لها مؤسساتها وبالتحالف مع دول أخرى (إسرائيل مثـلاً) وضد دول أخرى كدول.

لكن في عهد حزب العدالة والتنمية تغير المشهد وانقلب جذرياً، ولا سيَّما بعد العام 2011، أي بعد بدء مرحلة «الربيع العربي».

بين عامي 2002 و2010 كانت تظهر ملامح الرغبة في التغلغل داخل المجتمعات العربية وإقامة علاقات مع مكوناتها الاجتماعية المتنوعة، العرقية والإثنية والثقافية. وبرز ذلك في زيارات متعددة لوزراء ومسؤولين أتراك لمكونات من أصل تركي في العراق ولبنان وحتى سورية.

بعد العام 2011 كانت الأدوات المستخدمة في التعامل مع الدول الأخرى تخرج من كونها من دولة إلى دولة ومدّت تركيا يدها إلى قوى وأحزاب وأطراف ومجموعات محلية خارج نطاق الدولة. وعلى هذا احتضنت تركيا على سبيل المثال تيارت إسلامية في تركيا تمثل فئة محددة، مثل نائب الرئيس العراقي السابق طارق الهاشمي ومن ثم أثيل النجيفي محافظ الموصل السابق، الذي سلّمت في عهده مدينة الموصل لتنظيم «داعش». كما احتضنت تركيا جماعة الإخوان المسلمين السورية على أراضيها. وعملت على التدخل في الشأن المصري الداخلي دعماً لجماعة الإخوان المسلمين على مختلف الصعد. وكذلك الأمر في اليمن وليبيا وتونس.

تحول حزب العدالة والتنمية إلى طرف في الصراعات الداخلية في الدول الأخرى وتصرف كما لو أنه حزب تركي وليس كسلطة تمثل الدولة وتعكس سياساتها الرسمية.

ولم تعد تركيا من هذه الزاوية تحترم سيادة الدول الأخرى وانتهكتها في أكثر من مجال، بل عملت على إضعاف وحدتها الجغرافية والسياسية خارج أي احترام للقوانين الدولية التي تحكم هذه العلاقة.

2 – سياسة القوة الخشنة ودعم الإرهاب

سعت تركيا مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى استخدام «القوة الناعمة» أداة للتغلغل في المنطقة. من ذلك الاتفاقات الاقتصادية وإلغاء تأشيرات الدخول والترويج لصورة تركيا عبر المسلسلات التلفزيونية وإظهار تركيا على أنها نموذج يحتذى في الجمع بين المعاصرة والهوية الإسلامية. ولم يغلق العرب الباب على الانفتاح التركي.

لكن بعد اندلاع أحداث ما سمّي «الربيع العربي» تغيّرت آليات التعامل التركي مع الدول التي حصلت فيها اضطرابات. شجعت أنقرة على ضرب الدولة المركزية في سورية والعراق بالعمل على شق الجيش السوري وإنشاء ما يسمى «الجيش الحر». وأنشات له قواعد في تركيا وأمدته بالسلاح والخبرات. وعملت على تسهيل ظهور تنظيمات مسلحة بأسماء مختلفة. وفتحت أراضيها لعشرات الآلاف من المسلحين القادمين من كل العالم للانضمام إلى تنظيمات مثل «داعش» و«النصرة» والحزب الإسلامي التركستاني. وفي العراق تحاول تركيا تكرار تجربة الجيش السوري الحر فأنشأت تحت ذريعة محاربة «داعش» ما يسمى «حرس نينوى»، وهي ليست سوى ميليشيا تابعة لرجل تركيا في العراق أثيل النجيفي.

3 – التدخل العسكري المباشر

بعد ذلك انتقلت تركيا إلى مرحلة أكثر تقدماً من استخدام وكلاء لحروبها العسكرية. فانتقلت إلى التدخل العسكري المباشر لأول مرة داخل أراضي دولة أخرى.

خلا الاستثناء القبرصي، الذي له ظروفه الخاصة، لم تكن القوات التركية تقوم بعمليات عسكرية خارج أراضيها إلا في ظروف محددة ومؤقتة. فهي كانت تطارد مثـلاً مسلحي حزب العمال الكردستاني في العراق لمسافات برية عميقة تصل أحياناً إلى خمسين كيلومتراً، ولكنها سرعان ما كانت تعود إلى قواعدها داخل الأراضي التركية. بينما العمليات المتكررة كانت غارات جوية لا برية.

في الواقع، يعد تاريخ 24 آب/أغسطس 2016 بداية استخدام أدوات ووسائل جديدة لتنفيذ أهداف في السياسة الخارجية التركية؛

فلأول مرة تستخدم تركيا جيشها في عمليات عسكرية خارج أراضيها، لكن ليس لعودة هذه القوات إلى بلادها بعد انتهاء العمليات بل لتقيم في الخارج على نحوٍ دائم من دون أفق زمني معين.

حصل ذلك مع دخول الجيش التركي إلى مدينة جرابلس السورية، ومن ثم احتلاله الشريط الحدودي الواقع بين جرابلس وأعزاز بطول نحو مئة كيلومتر وبعمق يصل إلى مسافة قريبة من حلب.

كذلك دخلت تركيا في العام 2015 إلى منطقة بعشيقة في شمال غرب الموصل وأقامت معسكراً لها هناك ورفضت مغادرته رغم مطالبة الحكومة العراقية لها بذلك. وهذا تحول جديد في الآليات المتبعة لتنفيذ سياساتها الخارجية.

4 – عقيدة عسكرية جديدة

استكمالاً لمبدأ التدخل العسكري المباشر والبقاء في أراضي دول أخرى، بدأت عقيدة عسكرية جديدة بالظهور لدى حزب العدالة والتنمية وتقول بمواجهة التهديدات الوطنية في عقر دارها بدلاً من انتظار وصولها إلى الداخل التركي لمواجهتها. لذا كان قرار أنقرة بإقامة قواعد عسكرية أول مرة خارج البلاد. وقد افتتحت تركيا أول قاعدة عسكرية لها في أيلول/سبتمبر 2016 في مقاديشو في الصومال. ووقعت اتفاقاً لإقامة قاعدة لها في قطر مع الحكومة القطرية وهي قيد الإنشاء. كذلك تجري تركيا محاثات مع كل من أذربيجان وجورجيا وألبانيا لإقامة قواعد عسكرية فيها.

رابعاً: فرص نجاح أو فشل أهداف السياسة الخارجية التركية وآلياتها

دخلت تركيا مع حزب العدالة والتنمية، ولا سيَّما في سنوات مرحلة «الربيع العربي»، وخصوصاً في الأشهر الأخيرة من العام 2016، مرحلة جديدة في إعادة ترسيم أهدافها في السياسة الخارجية ومرحلة مختلفة في اعتماد آليات جديدة لتحقيق هذه الأهداف.

تعتمد تركيا في ذلك على اعتدادها بفائض قوة تمتلكه، ولا سيَّما على الصعيد العسكري، كونها من أقوى جيوش المنطقة. كذلك على كونها في النهاية بلداً أطلسياً يشكل حاجة حيوية لمصالح الحلف في صراعه مع روسيا وإيران وحلفائهما يحول دون تخلي الحلف عنها. كذلك تشعر تركيا بأن الفرصة متاحة أكبر لترسيخ حضورها ونفوذها مع التفكك والانقسام والضعف الذي يعتري البلدان المجاورة لها، ولا سيَّما في سورية والعراق. وهو ما يغري أنقرة لممارسة أقصى قدر من الضغوط علّها تحقق لها بعض الأهداف وبعض المكاسب:

1 – إما عبر الاحتلال المباشر لبعض من شمال العراق وشمال سورية، وفقاً للميثاق الملّي.

2 – وإما عبر جعل بعض هذه المناطق مناطق خاضعة للنفوذ التركي المباشر عبر مجموعات محلية تشكلها مؤلفة من قوى محلية (تركمانية وسنّية) على غرار الشريط الحدودي الذي أسسته إسرائيل في جنوب لبنان.

3 – وإن لم يكن كذلك فعبر الحصول على امتيازات أمنية واقتصادية في شمال البلدين وسياسية في الحكومة المركزية فيهما عبر مجموعات موالية لها تفضي في النهاية إلى منحها نفوذاً سياسياً واقتصادياً.

4 – بذلك تضمن تركيا أيضاً منع تطويقها بحزام كردي معادٍ، أي موالٍ لحزب العمال الكردستاني، وبالتعاون مع فئات متعاونة معها وتحديداً جماعة مسعود البرزاني. أما إذا ذهبت التطورات في النهاية إلى تقسيم فعلي لسورية أو العراق فهذا يعني على الأقل خياراً تركياً مباشراً في ضم شمال سورية ومنطقة الموصل العراقية إلى تركيا تبعاً لمنطق تقاسم مناطق النفوذ كما حصل في سايكس بيكو.

ومن أجل نجاح هذه الأهداف يعتقد رجب طيب أردوغان أن تشديد قبضته على السلطة والانتقال إلى نظام رئاسي يبعد من تركيا مخاطر الانقسامات الداخلية ويجعلها أكثر استقراراً بتسليم قيادتها إلى مركز قرار واحد قوي يمثله هو ولا يشاركه فيه أي طرف سياسي داخلي أو مراكز قوة موازية كما كان الأمر مع جماعة فتح الله غولن.

أما إذا أخذنا الصورة المقابلة، فإن الأهداف التركية وطبيعة الآليات المستخدمة فيها هي أمام تحديات ومعوقات لا يستهان بها؛ فالعلاقات التركية بدول المنطقة والعالم شهدت ولا تزال أسوأ مرحلة في تاريخها القريب والبعيد. فمحيط تركيا المباشر والبعيد هو محيط معادٍ لها، إن كان على صعيد المكونات الإثنية من عرب وفرس وأكراد وروس وأرمن أو على صعيد الانتماءات الدينية والمذهبية. وإذا كانت العلاقات ببعض الدول مثل السعودية تشهد بعض التقاطعات، المتصلة تحديداً بالمسألة السورية، فإنها متعارضة ومتصادمة حتى في القضايا الأخرى، ولا سيَّما الموقف من دور جماعة الإخوان المسلمين والتنافس على زعامة العالم الإسلامي السني.

ومع أن الولايات المتحدة الحليف الأول لتركيا في العالم غير أن أردوغان لا يستطيع الاطمئنان إلى استمرار الدعم الأمريكي. فالتباينات متعددة تجاه عدد من القضايا، مثل إسرائيل والموقف من التنظيمات الإرهابية والموقف من دور المكون الكردي في سورية والأولويات في سورية. كما أن سعي أردوغان إلى بعث العثمانية الجديدة يثير انزعاج الولايات المتحدة التي تحرّضه بقدر ما يؤذي ذلك المصالح الإيرانية، لكنها لا تذهب معه إلى درجة تمكينه من تشكيل قوة إقليمية كبيرة خارجة عن السيطرة. وهذا كان من أهداف واشنطن في محاولة إطاحة أردوغان في 15 تموز/يوليو 2016.

كذلك روسيا، فهي لا تأمن لدور تركي وازن في ظل انخراط تركيا العميق في احتضان المجموعات المسلحة القادمة من روسيا والصين، التي يمكن أن تعود إلى بلادها لتشكل نقطة ارتكاز مستقبلية لنفوذ تركي. ولطالما استخدمت تركيا على مدى عقود ورقة الإثنيات ذات الأصول التركية في مواجهة الاتحاد السوفياتي والصين ومن ثم روسيا الاتحادية. وبعد خروج روسيا من ليبيا تعدّ تركيا أكبر تهديد لها في محاولة روسيا الإمساك بسورية كقاعدة أخيرة ووحيدة على ضفاف المتوسط. وهي لن تسمح لتركيا بعرقلة هذا الهدف الاستراتيجي بامتياز.

فضـلاً عن أن الداخل التركي ربما لا يسمح كثيراً في توفير درع حماية داخلية للأهداف التركية في الخارج، ولا في دعم التدخل العسكري المباشر أو إقامة قواعد عسكرية في الخارج.

ذلك بأن النظام الرئاسي المقترح يعني كما أسلفنا تهميش خمس فئات رئيسية من المجتمع: الأكراد والعلويون والعلمانيون والقوى الديمقراطية الليبرالية والمؤسسة العسكرية. وهذه الفئات لن تقبل بهذا الاستبداد بالسلطة، وهي إذا كانت تبدو اليوم عاجزة عن وقف المسار الاستئثاري لأردوغان بالسلطة فلا أحد يمكن أن يقدر طبيعة ردود الفعل في المستقبل التي قد تنعكس على الاستقرار وعلى وحدة المجتمع والأراضي التركية، تماماً كما لم يكن الانقلاب العسكري في 15 تموز/يوليو وارداً بصورة جدية في الحسابات السياسية.

لقد تراجع المشروع التركي من هدف السيطرة على المنطقة بكاملها، عبر إسقاط النظام في سورية وخلخلته في بغداد والإمساك به في القاهرة والتمركز في ليبيا والهيمنة عليه في تونس والمغرب ومقارعة السعودية والإمارات في الخليج، إلى حصر اهتمامه في شريط حدودي يمتد على كامل الشمال العراقي والسوري، وفي الوقت نفسه العمل على تفتيت الدولة المركزية والوطنية في سورية والعراق إلى كيانات صغيرة مذهبية وإثنية، لكن لا يشملها المكون الكردي الذي سيكون ضمن الشريط الحدودي الذي تضعه تركيا ضمن دائرة هيمنتها المخطط لها.

لقد أظهرت التطورات في السنوات الأخيرة، ولا سيَّما بعد اندلاع موجات «الربيع العربي»، أن تركيا في ظل سلطة إسلامية يمثلها حزب العدالة والتنمية لا ترعى حرمة سيادات الدول، وهي تهديد للأمن والاستقرار في المنطقة ولوحدة دولها ورخاء شعوبها، وأكثر خطراً عليها بكل المقاييس من سلطة ذات طابع علماني – عسكري تراعي الضوابط السيادية الدولية.

كذلك أظهرت التطورات أن الحديث عن استدارات تركية نحو الشرق ونحو التعاون لإنتاج حلول سلمية، يدخل في باب المراوغة التي لا تلبث أن تحاول الانقلاب على نفسها واستغلال الفرص عندما تتراءى من جديد.

بين كفتي الفرص المؤاتية وعوامل الفشل، تلعب تركيا على عوامل التناقض بين محوري المواجهة، أو بين أطراف كل محور، من أجل التغلغل نحو أهدافها عن طريق القضم. لكن في النهاية لن تجد تركيا، حين تحرج وتتراجع، سوى الغرب بأجنحته الأمريكية والأوروبية والأطلسية والإسرائيلية، ملاذاً آمناً يقيها، حتى إشعار آخر، ما دام استقرار تركيا وأمنها حاجة أوروبية وغربية، سوء العاقبة الكبرى والعودة إلى ما كانت عليه قبل العام 2002 عمـلاً بمقولة أردوغان وغول وداود أوغلو عام 2012 بأن «حدود تركيا هي حدود الأطلسي». ورغم هذه الحقيقة فإن تركيا بالنسبة إلى الغرب شيء والنظام شيء آخر. وأردوغان أصبح عبئاً على الغرب والشرق وعلى الداخل المتفجر. ولا بد من أن يدفع أحد الثمن: تركيا أو أردوغان ولا خيار ثالثاً يبدو حتى الآن في الأفق.

ورقة العمل (3)

التوجهات الإقليمية التركية
نحو بلدان الجوار العربية

محمود علي الداود(*)

سفير سابق ورئيس قسم الدراسات السياسية والاستراتيجية، بيت الحكمة – العراق.

 

مقدمة

في مسيرة التاريخ الدولي أدّت شعوب الشرق الأوسط دوراً مهماً ومتكامـلاً في بناء الحضارة الإنسانية، وكانت هذه المنطقة لعدة قرون قلب العالم، واحتضنت أولى الحضارات في التاريخ ووضعت بابل وأكد وأشور وحضارة وادي النيل اللبنة الأولى لتقدم البشرية. أما بالنسبة إلى الحضارة الإسلامية فقد أسهم العرب والفرس والأتراك وشعوب ما وراء النهر (آسيا الوسطى حالياً) في بناء مراكز حضارية عالمية شعّت بأنوارها على العالم الوسيط وكان لها فضل كبير في بناء وتقدم الحضارة الأوروبية. وقد كان لـ «بيت الحكمة» الذي أسسه الخليفة المأمون عام 800 دور رائد في تقدم العلوم والآداب والفلسفة، وكان جامعة عالمية حقيقية ضمت علماء وفلاسفة من مختلف الأقطار الإسلامية وما وراء ذلك من الهند وآسيا الوسطى، وكان أولئك العلماء الرواد يمثلون مختلف شعوب المنطقة والعالم يعكفون من خلال دراسات مشتركة وبحوث علمية رصينة تعكس الترابط العضوي بين الشعوب الإسلامية وتخدم التقدم العلمي للإنسانية.

إن القصة المدهشة لما حققه العلماء العرب وأقرانهم المسلمون من شعوب الشرق الأوسط في العصور الوسطى من إنجازات متقدمة في العلم والفلسفة قد وثقت في كثير من الدراسات، وقد كان أحسن من وثقه من الباحثين في الغرب جوناثان ليونز في كتابه بيت الحكمة: كيف أسس العرب لحضارة الغرب الذي نُشرت ترجمته في بيروت‏[31]. ورغم الصراعات السياسية الداخلية والتحديات الخارجية فإن مسيرة الحضارة الإسلامية ظلت هي العامل المشترك لهذه الشعوب التي أسهم كل منها في كتابة فصول تاريخ الإبداع الحضاري الإنساني.

لقد حمل العرب مشعل الإسلام ونقلوا رسالته السمحاء إلى مختلف أنحاء العالم، وساهم العلماء الفرس في نشر الإسلام وبناء حضارة متميزة في وسط آسيا والقارة الهندية. وفي بداية العصور الحديثة تمكن الأتراك العُثمانيون من فتح القسطنطينية بعد محاولات عربية كثيرة. ويعدّ تاريخ فتح القسطنطينية عام 1453 حدثاً مهماً في التاريخ الدولي. وبعد فترة قصيرة أصبح البحر المتوسط بحيرة عثمانية، ونجح الأتراك في تأسيس دولة إسلامية شاسعة تمتد من وسط آسيا إلى شمال أفريقيا ومن أسوار فينّا إلى عدن على المحيط الهندي.

وفي العصور الوسطى أدت مدن إسلامية رئيسية، مثل بغداد والبصرة والموصل وحلب ودمشق والقاهرة، دوراً مهماً في التجارة والثقافة العالمية وأسهمت الشعوب الإسلامية كافة في استرداد فلسطين من الاحتلال الأوروبي، وكان القائد الإسلامي الذي حقق النصر الأخير «صلاح الدين الأيوبي» كردياً ولكنه لا يزال يعتبر رمز القوة الذاتية العربية ويذكِّرنا يومياً بفشلنا في المحافظة على نصره العظيم في فلسطين.

أعتذر عن هذه المقدمة الطويلة، ولكني أراها ضرورية للمقارنة بين تلاحم الشعوب الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي وبين النجاح التاريخي الذي حققوه في بناء حضارة إسلامية مشتركة مقارنة بين الأوضاع المأسوية للمنطقة العربية والإسلامية التي تئنّ تحت نيران التدمير الشامل لأقطارها ومدنها وإنجازاتها الحضارية على مدى عدة قرون. ومن المؤسف أن الشعوب الإسلامية التي أسهمت في تأسيس حضارة إسلامية عظيمة تجد نفسها اليوم في أتون نيران حروب أهلية عربية – عربية وإسلامية – عربية وفوضى داخلية وتدخلات خارجية للسيطرة على المواقع الاستراتيجية والثروات الطبيعية. إن مسؤولية هذا التدمير الشامل للبلدان والشعوب العربية تقع على قادتها الذين فشلوا في إدارة الأزمات وحل القضايا الخلافية بينهم بالطرائق السلمية وفتحوا الباب على مصراعيه للتدخلات والصراعات والتقاطعات الأجنبية، التي وجدت الظروف الملائمة لتوسيع حدة الخلافات وساحات الحروب التي تصب في خدمة الأهداف الاستعمارية والصهيونية، التي رسمها وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو وتسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى، من أجل إعادة المنطقة إلى نقطة الصفر والقضاء على كل المنجزات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي حققها العرب في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. وقد استخدمت القوى الكبرى بالتعاون مع الصهيونية كل الوسائل المباشرة وغير المباشرة من أجل إعادة رسم خارطة المنطقة بصورة جذرية.

واليوم، وفي الوقت الذي يتصارع فيه العرب والأتراك والإيرانيون والأكراد وينشغلون في تدمير أنفسهم أو تدمير بعضهم بعضاً، فإن النتيجة ستكون كارثية بكل المقاييس عليهم جميعاً، ولن تسلم أي دولة عربية أو إسلامية في المنطقة من هول وفظاعة ما سيحدث. إن من يشاهد فظائع الحروب التي تجري في العراق وسورية ومعاناة ملايين النازحين والمهاجرين داخل أوطانهم وإلى وخارجها، لا بد من أن يشعر بخيبة الأمل؛ وإن صورة المهاجرين العرب عبر جبال طوروس وبحر إيجة وغرق الآلاف منهم في مياه البحر المتوسط وما يلاقونه في البلدان الأوروبية من مهانة ومذلة هي صورة أخرى لإفلاس الأنظمة العربية التي أسهمت في خلق هذه الصورة المأسوية.

وإذا بقيت الصورة كما هي فإن الأوضاع العربية الراهنة ستنفتح على كل الاحتمالات، التي قد تكون أكثر كارثية إذا لم تبادر القيادات السياسية للدول العربية ودول الجوار إلى إجراء معالجة سريعة وحقيقية لتدارس الأوضاع المأسوية ووضع حلول عملية أولاً لوقف هذا النزيف القائم، ومن ثم التعاون مع الأمم المتحدة في مؤتمرات دولية تؤكد احترام الأوضاع القانونية لدول الشرق الأوسط في إطار ميثاق الأمم المتحدة واحترام سيادة كل منها. إن النيران التي تشتعل في المنطقة العربية وفي قلب الشرق الأوسط يمكن أن تنتشر إلى دول الجوار التي تقع على قياداتها مسؤولية أخذ المبادرة السريعة للتعاون المشترك من أجل إطفاء هذه النيران وإفشال المخططات الاستعمارية والصهيونية التي تعمل ليلَ نهارَ من أجل تفتيت الدول القائمة ورسم خارطة جديدة للشرق الأوسط تصبح فيها إسرائيل هي الدولة المحورية المهيمنة والقائدة في المنطقة. من هنا فإن التعاون العربي – التركي – الإيراني – الكردي ضروري لمواجهة التوقعات الكارثية المستقبلية التي تواجه الجميع ولن يكون أي طرف بمنأى منها.

إن الأوضاع السياسية والعسكرية في منطقتنا أصبحت معقدة وخيوطها متشابكة ومتقاطعة، وخصوصاً بعد دخول موجة داعش المتوحشة إلى الساحة وتداعيات احتلالها مناطق شاسعة من العراق وسورية، ولا سيَّما سياسة حرق الأرض والبشر التي تمارسها هذه الجماعات الإرهابية التي تستهدف القضاء على الأسس الحضارية لشعوب المنطقة وتشويه الدين الإسلامي، الأمر الذي سيخلق بيئة طاردة ونابذة وكارهة لكل ما هو إسلامي.

الواقع أنه ليس هناك توجهات واضحة لدول الجوار الإقليمية حيال المشاكل السياسية والعسكرية القائمة؛ وبالنسبة إلى تركيا فقد دخلت أو أدخلت إلى ساحة الصراع ويتوسع يوماً بعد يوم هذا التدخل الذي لا يُعرف مداه ولا نتائجه على تركيا نفسها والمنطقة.

 

أولاً: تركيا إلى أين؟

تقتضي الإجابة عن هذا السؤال العودة إلى توضيح أهداف السياسة الخارجية التركية المعاصرة في عهد حزب العدالة والتنمية، قائد المسيرة التركية الحالية بزعامة رئيسها رجب طيب أردوغان. وحزب العدالة والتنمية هو سليل حزب الرفاه الذي أسسه نجم الدين أربكان في بداية السبعينيات من القرن الماضي والذي تمكن، بعد سلسلة من الصراعات مع الأحزاب التقليدية التركية ومع القيادات العسكرية، من الوصول إلى السلطة عام 2002 بعدما فاز حزب العدالة والتنمية في انتخابات نيابية وصفت بأنها تاريخية، لأنها وضعت أول مرة حزباً إسلامي النزعة في السلطة لقيادة دولة تركيا العلمانية.

حقق الحزب بقيادة رجب طيب أردوغان خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إنجازات كبيرة على مستوى السياسات الداخلية والخارجية، فعلى المستوى الداخلي شهدت تركيا قفزة نوعية في مجالات التقدم الزراعي والصناعي والعلمي وأصبحت تركيا دولة صناعية مرموقة ضمن مجموعة العشرين، إضافة إلى تقدم غير مسبوق في السياحة والتجارة الخارجية وانفتاح على دول العالمين العربي والإسلامي، إضافة إلى علاقات دولية وطيدة مع دول الاتحاد الأوروبي والتوصل إلى تفاهمات حول احتمالات أكيدة لدخول تركيا في الاتحاد الأوروبي؛ علماً أنها كانت عضواً في السوق الأوروبية المشتركة، وتمكنت من إرسال أكثر من 7 ملايين عامل إلى دول الاتحاد عادوا إلى تركيا بالكثير من الخبرات التي نقلوها إلى بلادهم من خلال اشتغالهم في المعامل والمؤسسات الاقتصادية والزراعية والعسكرية الأوروبية.

في حقل السياسة الخارجية أصبح أحمد داود أوغلو وزير الخارجية ورئيس الوزراء لاحقاً منظِّراً لهذه السياسة من خلال كتابه العمق الاستراتيجي… موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية‏[32]، وقد لخص أحمد داود أوغلو أهداف السياسة الخارجية التركية في ضوء متغيرات جذرية في هذه السياسة، وبصورة خاصة التحول الذي طرأ على علاقات تركيا بالأقطار العربية التي قال إنها باتت ترتكز على أرضية ثقافية ذات محور تعاوني بعدما كانت تخيم عليها أجواء الخلافات والنزاعات قبل ثماني سنوات فقط. وأكد أحمد داود أوغلو أن تركيا ترغب في تحويل هذا التضامن والتعاون في الشرق الأوسط إلى واقع راسخ ومؤثر على المدى البعيد، كما تسعى إلى تبني مقاربة متعددة الأبعاد حيوية ومستديمة تجاه كل الأقاليم الجغرافية المرتبطة بها، وتنظر تركيا إلى هذا التفاعل المتعدد الأطراف على أنه لوحة فسيفسائية متناسقة الأجزاء ومتكاملة. وأكد أن هذه الحيوية التركية تلقى قبولاً وتقديراً من الدول الأوروبية الحليفة وأن تركيا تتمتع – وعلى نحو غير مسبوق – بموقع مركزي على مسرح الحراك الدبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط، في حين تدفع القوة الناعمة والمصداقية التي تتمتع بها تركيا دول المنطقة إلى العمل بصفة مشتركة على حل المشكلات الإقليمية، وهو ما يسهم في تحقيق نتائج إيجابية على صعيدَي السياستين الداخلية والخارجية. وبيَّن أحمد داود أوغلو أن تركيا تعمل، بكل ما أوتيت من قوة وتأثير، على حل مشكلات المنطقة بوصفها مشكلاتها الخاصة. وتثمن تركيا دور الدول الفاعلة في المنطقة وقدرتها على تقديم إسهامات جادة في المبادرات التي تتعهدها وتأمل أن تتعاون دول المنطقة على حل مشكلاتها بجهد مشترك وكأفراد من أسرة واحدة. وأكد أنه من المتوقع أن يتمخض المستقبل القريب عن نتائج إيجابية لهذا التعاون ستظهر آثاره على صعيدَي أمم المنطقة والمجتمع الدولي. وفي موقع آخر من كتابه المذكور أوضح أحمد داود أوغلو «أن الحد الأدنى لشروط نجاح تركيا في سياستها الشرق أوسطية [هو] في نهج استراتيجية سليمة تحيط بالشرق الأوسط من الناحيتين الجيوثقافية والجيواقتصادية وتبني سياسة خارجية مرنة تحقق التنسيق بين التكتيكات الدبلوماسية والعسكرية والتحلي بمهارة مرحلية واعية وقادرة على تقييم تأثير المنطقة في السياسات العالمية».

وقد حدد أحمد داود أوغلو أسس السياسة الخارجية التركية بستة مبادئ حتى يتسنى لها تطبيق سياسة خارجية إيجابية وفعّالة وهي: 1 – التوازن السليم بين الحرية والأمن؛ 2 – تصفير المشكلات مع دول الجوار؛ 3 – التأثير في الأقاليم الداخلية والخارجية لدول الجوار؛ 4 – السياسة الخارجية متعددة الأبعاد؛ 5 – الدبلوماسية المتناغمة؛ 6 – أسلوب دبلوماسي جديد. وأكد أوغلو أن الشرق الأوسط الذي تتصوره تركيا يمثل منطقة تتمتع بالمزيد من الأمن والسلام من خلال توفير تنسيق سياسي مكثف إلى أعلى درجة، فلا يترك مجالاً لتصادم الخلافات والنزاعات، ويوطد الروابط الدينية والثقافية والعرقية بين المجتمعات على نحو يحقق الاستمرارية لحياة حرة لكل البشر ويؤدي إلى تفعيل العلاقات الاقتصادية والتجارية بين دوله. وبيَّن أوغلو أن من المبادئ المهمة التي توجِّه سياسات تركيا في الشرق الأوسط هو التعددية الثقافية، إذ ترى تركيا أن الحفاظ على التعددية العرقية والمذهبية شرط أولي لاستقرار المنطقة، وأن التاريخ شاهد على أن مدن الشرق الأوسط لم تعرف على امتداد تاريخها صدامات مذهبية أو عرقية. وتحاول تركيا استغلال موقفها من العالمين العربي والإسلامي كعامل مساعد في عملية انضمامها إلى الجماعة الأوروبية وكميزة إضافية لها تبرر هذا الانضمام كما تبيّن من وجهة النظر التركية التالية:

إن فهم وإدراك مبادئ السياسة الخارجية التركية الجديدة التي أوردها أحمد داود أوغلو هو أمر في غاية الأهمية لمتابعة مسيرة السياسة الخارجية التركية وإنجازاتها وإخفاقاتها في المجال العربي. ويمكن القول إن الكثير من هذه الإنجازات تحققت فعـلاً خلال الفترة 2002 – 2011، وكانت هذه الفترة هي الفترة الذهبية في تاريخ العلاقات العربية – التركية. لقد ظهرت التجربة التركية الداخلية والخارجية أنها انقلاب على السياسات التركية التقليدية العلمانية التي كانت من سمات الفترة التي تلت تأسيس الجمهورية التركية.

وقد كان إعطاء تركيا الأولوية للعلاقات العربية موضع ترحيب شعبي وحكومي في الأقطار العربية وحقق ذلك تحسناً كبيراً في العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية التركية – العربية ورفع حجم الاستثمار الخليجي في تركيا، كما رفع حجم التبادل التجاري العربي – التركي بصورة ملحوظة. لكن هذا الانتعاش أعقبه انكماش تدريجي في العلاقات مع بعض الأقطار العربية وسادت فترة من التوتر والقلق وعدم الاستقرار وعدم الثقة عقب اندلاع ما يعرف بثورات «الربيع العربي»، ويرجع ذلك إلى فشل الرؤى التركية في تحديد عوامل وأهداف هذه الثورات والتحديات الدولية وعدم استعداد صانع قرار السياسة الخارجية التركية لمواجهة تداعيات هذه الثورات، وهو ما ولّد الكثير من الارتباك في اتخاذ القرارات السليمة، وقد يرجع ذلك إلى سرعة المتغيرات على الساحة العربية ابتداءً من اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية مروراً باحتلال العراق للكويت وما يعرف بحربي الخليج الأولى والثانية، ثم تداعيات ثورات «الربيع العربي». ولعل من أبرز المتغيرات التي حدثت في الساحة العربية في العقد الأخير هو ظهور وتطور العامل الكردي بقوة، وهو يفتش عن دور محوري في المنطقة، إضافة إلى عامل آخر ولكنه ينفرد بخصوصية في التصرف والسلوك، وهو الإرهاب الذي ضرب المنطقة بقوة والذي يهدف إلى تقويض كل الأقطار العربية والإسلامية وتدمير البنية التحتية لمجتمعاتها بقوة ووحشية غير معهودة في التاريخ مع تجاوز القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات والاتفاقيات القانونية التي تنظم الأوضاع الحدودية والعلاقات الثنائية.

ثانياً: تركيا وجوارها العربي

1 – العلاقات التركية – العراقية: الثوابت

في ضوء عمق الصلات العراقية التاريخية بين تركيا والعراق سادت علاقات طيبة ومتميزة بين البلدين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتأسيس الدولة العراقية عام 1921 والجمهورية التركية عام 1923، وذلك بعد التوصل إلى حل نهائي لقضية الموصل بتدخل وتوسط عصبة الأمم واعتراف النظام التركي الجديد بقرار العصبة بأن لواء الموصل هو جزء لا يتجزأ من العراق، ومن ثم بتوثيق ذلك الاعتراف بالمعاهدة العراقية – التركية عام 1925 ثم بالمعاهدة التركية – العراقية – البريطانية عام 1926.

ومنذ ذلك التاريخ وحتى عام 1980 كانت التوجهات التركية حيال العراق هي سياسة وطنية ثابتة لا تخضع لتبدل الحكومات، وكذلك الحال بالنسبة إلى السياسة الخارجية العراقية التي رأت أن العلاقات مع بلدان الجوار – وخصوصاً تركيا – لها الأولوية. ولطالما صرح المسؤولون الأتراك أن العراق هو جسر العلاقات التركية مع الأقطار العربية والإسلامية.

وعلى الجانب العراقي أسس الملك فيصل الأول علاقات صداقة وحسن الجوار مع تركيا ووطدها منذ زيارته الناجحة لأنقرة عام 1930 واجتماعاته مع مصطفى كمال أتاتورك. وقد اتفق الزعيمان على ضرورة طيّ صفحة الخلافات التركية (العثمانية) مع الأقطار العربية وثورة الشريف حسين التي كان الملك فيصل قائدها من حيث الواقع.

ومن الجدير بالذكر أن التعاطف مع تركيا، وحتى الانحياز لها في الكثير من الأحيان، كان من طبيعة السياسة الخارجية التركية للعهد الملكي العراقي. وقد اضطر الملك فيصل الأول أحياناً إلى تنبيه المسؤولين العراقيين (وكانوا عادة من الضباط الذين رافقوه في الثورة العربية وتأسيس حكومة فيصل في سورية) إلى ضرورة أن يتصرفوا كمسؤولين عراقيين لا كضباط عثمانيين سابقين. وكان من أهم الاتفاقيات والمعاهدات المعقودة بين البلدين في تلك المرحلة هي انضمام البلدين إلى معاهدة سعد أباد عام 1937 التي ضمت تركيا والعراق وإيران وأفغانستان، ثم المعاهدة العراقية – التركية عام 1946، التي تعدّ من أهم المعاهدات في تاريخ العلاقات بين البلدين لأنها كانت معاهدة شاملة ضمت ثمانية بروتوكولات نظمت العلاقات الحدودية والتجارية والثقافية، مع بروتوكول خاص للتعاون في استخدام مياه نهر الفرات. وبتوجيهات أمريكية وبريطانية انضم العراق إلى حلف بغداد عام 1955 الذي كان جزءاً من التحالفات الغربية ضد ما يسمى حينئذ الخطر الشيوعي على منطقة الشرق الأوسط. وقد ضم ذلك الحلف كـلاً من العراق وتركيا وإيران وباكستان مع دعم لوجستي بريطاني وأمريكي. ورغم كل ما قيل يومئذ حول طبيعة الحلف فإن الحكومة العراقية يومئذ، وخصوصاً عرّاب الحلف (من الجانب العراقي نوري السعيد) بررت انضمام العراق إليه بأنه ضامن للأمن الوطني العراقي ونجح باحتواء أي أطماع إيرانية أو تركية في المستقبل. وقد توجت الصلات الحسنة التركية – العراقية في العهد الملكي بإعلان خطوبة الملك فيصل الثاني ملك العراق على الأميرة فاضلة إحدى حفيدات السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وبينما كان الملك يتهيأ لزيارة تركيا صباح اليوم الثاني واللقاء بخطيبته تم اغتياله في صبيحة الرابع عشر من تموز/يوليو 1958.

ولم يؤثر اندلاع الثورة العراقية عام 1958 في مسيرة العلاقات التركية – العراقية رغم محاولة رئيس الوزراء التركي عدنان مندرس وشاه إيران إقناع بريطانيا والولايات المتحدة بالتدخل لإجهاض الثورة. إلا أن بريطانيا نصحت الولايات المتحدة وإيران وتركيا بالتوقف عن أي مخططات للتدخل العسكري في العراق، كما نصحت بالاعتراف بحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم بعدما قدم ضمانات خاصة حول النفط والعلاقة بالجمهورية العربية المتحدة. وطوال الحقبة 1958 – 1980 كان هناك تعاون وثيق في مجال الأمن الحدودي؛ وتعد حقبة السبعينيات من القرن الماضي حقبة ذهبية في العلاقات التركية – العراقية في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية. وكان وزير الخارجية التركي خلوق بايولكان أول المؤيدين لقرار الحكومة العراقية بتأميم النفط عام 1972، وتم التوصل في العام نفسه إلى اتفاقية مد أنبوب النفط العراقي – التركي من كركوك في العراق إلى ميناء جيهان على البحر المتوسط. وفي اليوم الأول لحرب تشرين في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973 اتخذت الحكومة التركية خطوات عاجلة بالتجاوب مع المطالب العراقية لفتح الأجواء التركية لإمدادات عسكرية سوفياتية إلى العراق، وقد توسّط العراق أيضاً مع الحكومة التركية وبطلب من الحكومة السورية لمنح سورية الامتياز نفسه. من ناحية أخرى كان العراق الدولة الأولى والوحيدة التي تعلن تأييدها لتركيا في حرب قبرص. وقد كان لذلك التأييد وقع كبير لدى الشعب التركي الذي حاصرت تظاهراته السفارة العراقية في أنقرة شاكرة العراق على هذا الموقف. وفي تلك الحقبة ازدهرت العلاقات بين البلدين في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية، وزار الرئيس التركي جودت صوناي السفارة العراقية في الأيام الأولى التي تلت حرب قبرص وأعرب عن تقديره وتثمينه للعلاقات مع العراق، ورافق ذلك مواقف ودية جداً تجاه العراق من قبل الأحزاب التركية وأجهزة الإعلام.

من الجدير بالذكر أن حقبة السبعينيات من القرن الماضي شهدت حركة دبلوماسية واسعة؛ فقد تبادل أكثر من عشرين وزيراً عراقياً وتركياً الزيارات، وشارك العراق في كل المعارض الدولية التركية، كما احتضنت تركيا معارض فنية لجماعة الرواد من العراقيين، وحصل تبادل واسع بين البلدين للأساتذه والخبراء من مختلف المجالات. وفي تلك الحقبة أيضاً كانت العلاقات الثابتة بالعراق سياسة وطنية تركية؛ فزار الرئيسان جودت صوناي وفخري كوروتول العراق إضافة إلى رؤساء الوزارات سليمان دميريل وبولنت أجاويد. وصرح إحسان صبري جاغلينكل وزير الخارجية التركي المخضرم بأن العراق هو جسر العلاقات التركية مع الأقطار العربية. وقد اقترح العراق على تركيا الانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي فاستضافت تركيا أول مؤتمر قمة إسلامي عام 1976. ولكن تلك المرحلة لم تخلُ من بعض المشاكل المهمة، وخصوصاً بالنسبة إلى مشكلة توزيع مياه نهر الفرات بعد ملء سد كيبان ثم البدء بتنفيذ مشروع «الغاب» لتنمية المناطق الجنوبية الشرقية لتركيا. ومن الجدير بالذكر أن تلك المرحلة شهدت تنسيقاً جيداً بين العراق وتركيا حول الوضع القانوني للمياه المشتركة وحث الطرفان على تقسيم المياه وفق قواعد القانون الدولي. ولاحقاً تبنت الأمم المتحدة معظم مطالب العراق وسورية من خلال إقرار الاتفاقية الدولية التي أقرتها الجمعية العامة عام 1997 لكن الحكومة التركية رفضت الانضمام إلى هذه الاتفاقية.

 

2 – التوجهات التركية حيال العراق: المتغيرات

شهدت العلاقات التركية – العراقية جملة من التغيرات المهمة منذ عام 1980 وحتى الوقت الحاضر. وقد حدثت تلك التغيرات بصورة عامة نتيجة السياسات العراقية المتسرعة والخاطئة وغير الحكيمة أو بسبب الحروب والصراعات الناجمة عن السياسات الأمريكية وتداعياتها على المنطقة وبصورة خاصة على العراق. وقد استفادت تركيا من هذه التغيرات وفضلت الإفادة من الفرص المتاحة على سياسات تقليدية مع العراق لم تعد بذات فائدة من وجهة نظرها.

أ – الحرب العراقية – الإيرانية

طوال الحقبة السابقة كانت تركيا تتمتع بعلاقات طيبة مع كل من العراق وإيران، وفي ضوء معارضة الأحزاب التقدمية التركية للنظام الشاهنشاهي كان هناك تعاطف أكثر مع العراق، ولكن مع اندلاع الثورة الإيرانية عام 1978، ثم مع اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية عقب اندلاع الثورة، فوجئت تركيا بتلك الحرب وأولت أهمية كبيرة لاحتمالات تأثيرها في العلاقات بين البلدين، وفي مصالحها في المناطق الحدودية مع كل من إيران والعراق؛ فاتخذت تركيا موقف الحياد من ماجريات الحرب وعرضت وساطتها لوقف القتال بين الطرفين لكنها لم تفلح بذلك، بسبب إصرار إيران على استمرار الحرب. من ناحية أخرى عادت هذه الحرب بفوائد اقتصادية كبيرة على تركيا؛ فقد تضاعف حجم الصادرات إلى كلا البلدين وكانت تركيا جسراً لحاجات العراق وإيران مع أوروبا، كما أن تلك الحرب انعشت الاقتصاد التركي وخصوصاً مناطق شرق وجنوب شرق تركيا.

ب – الاحتلال العراقي للكويت وحربا الخليج الأولى والثانية

كان رد الفعل التركي من احتلال العراق الكويت في آب/أغسطس 1990 حاداً وصارماً، فمنذ البداية رفضت تركيا قبول سياسة الأمر الواقع التي أراد الرئيس العراقي السابق صدام حسين فرضها على المنطقة، وطالبت العراق بالانسحاب غير المشروط من الكويت وأعلنت انضمامها إلى التحالفات الغربية بزعامة الولايات المتحدة. ورغم قيام تظاهرات حاشدة في تركيا تعارض الحرب على العراق إلا أن الرئيس التركي تورغوت أوزال وجد الفرصة سانحه لتركيا للمبادرة بإعادة الادعاءات التركية حول الموصل وتقدم بطلب إلى القيادة الأمريكية بإعطاء تركيا الضوء الأخضر للتدخل في شمال العراق، كما وافق على استخدام الولايات المتحدة قاعدة أنجرليك القريبة من مدينة أضنة لإقلاع القاذفات الأمريكية المشاركة في العدوان على العراق. وفي الوقت الذي حذرت الولايات المتحدة تركيا من قيام قواتها المسلحة باختراق الحدود العراقية فإن الرئيس بوش الأب وعد تركيا بامتيازات كثيرة في منطقة الخليج، كما حصلت تركيا على هبات مالية كبيرة من الكويت والعربية السعودية والإمارات. وبعد انسحاب العراق من الكويت اندفعت الدبلوماسية والمؤسسات الاقتصادية والتجارية التركية لتأسيس مراكز نفوذ في كل المنطقة بما في ذلك العربية السعودية.

وبادر الرئيس أوزال إلى قطع أنبوب النفط العراقي – التركي، وصادرت الحكومة التركية النفط العراقي الموجود في الموانئ التركية. ومع فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات العامة عام 2002 تغيّرت الصورة بعض الشيء؛ فقد رفض البرلمان التركي الموافقة على مرور قوات أمريكية عبر الأراضي التركية إلى العراق مع بقاء الموافقة باستخدام قاعدة أنجرليك من جانب الطائرات العسكرية الأمريكية إبان العدوان الثاني من صفحة حرب الخليج عام 2003.

ومن أهم تداعيات حربي الخليج الأولى والثانية ظهور كيان كردي شبه مستقل في شمال العراق، بدأ يتشكل عقب حرب الخليج الأولى وفرض حظر الطيران وانسحاب القوات العراقية من قواعدها في شمال العراق. وقد تمكن الأكراد بقيادة مسعود البارزاني وجلال الطالباني من تأسيس كيان كردي بدعم ومساندة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. ولقيت القضية الكردية تعاطفاً كبيراً. وفي إطار سياسة حزب العدالة والتنمية بالاعتراف بالقومية الكردية واحتواء الأكراد ضمن خطة إصلاحية تضع حداً للصراع الكردي – التركي فقد اتخذ أردوغان (رئيس الحزب) قراراً حاسماً بقبول الوضع القائم الجديد في كردستان، ولكن مع الاتفاق مع أربيل حول ضرورة تقزيم دور حزب العمال الكردستاني الذي تعدّه أنقرة الخصم اللدود لتركيا.

ج – الإرهاب وأولويات المصالح بين تركيا والعراق والموقف من معركة تحرير الموصل

هناك اعتقاد راسخ لدى القادة الأتراك أن التحدي الأول لأمن تركيا وسلامتها واستقرارها يأتي من حزب العمال الكردستاني الذي أصبح يؤلف قوة محورية كبيرة في المنطقة وبإمكانه تهديد تركيا من الشرق والجنوب. ولم تولِ السلطات التركية أهمية كبيرة في البداية لموضوع الإرهاب وتدفق المتطوعين من أجناس مختلفة، بما فيها أوروبا، عبر الأراضي التركية.

أما العراق فهناك اعتقاد راسخ أن الإرهاب الذي تسلل عبر الحدود ألحق أفدح الأضرار بالعراق شعباً وبنية تحتية، وأنه يمثّل أكبر تحدٍّ لأمن واستقرار العراق الآن وفي المستقبل. وقد وضعت حكومة حيدر العبادي قضية تحرير العراق من الإرهاب في أولى أولويات مشروعها الوطني. وقد نجحت القوات المسلحة العراقية فعـلاً، رغم تعقيدات الوضع الداخلي، وبعد فترة تدريب وتجهيز وتسليح وبقيادات عراقية مهنية ناجحة، وبدعم من الولايات المتحدة، بتنفيذ عمليات تحرير واسعة بدأت في منتصف الفرات ثم صعوداً إلى الشمال، محررة عدداً من المدن والقرى ومنتزعة المبادرة من تنظيم داعش. وهي اليوم تواجه التنظيم داخل مدينة الموصل في آخر فصول معركة تحرير العراق. وتلقى معركة التحرير دعم ومساندة العراقيين جميعاً على اختلاف قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم، لأن هذه المعركة مصيرية للعراق لكي يكون أو لا يكون.

حاولت تركيا الدخول إلى ساحة المعركة، أولاً بحجة أن وجود قوات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل وقرب سنجار يهدد الأمن التركي، ثم إن تركيا احتفظت بقوات عسكرية داخل العراق.

تأزمت العلاقات بين البلدين بعض الشيء، إلا أن الحكومة العراقية أصرت على تحرير الموصل من دون أي تدخل من أي دولة أخرى، وطالبت بانسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية.

إن معركة تحرير الموصل تسير بكل ضراوتها وفق الخطة العسكرية المرسومة، وهناك قناعة أن أي تدخل أجنبي من جانب تركيا أو إيران أو غيرهما من الدول الإقليمية سيربك الوضع العسكري والسياسي والاجتماعي في الوقت الذي يسعى ملايين العراقيين في الموصل وخارجها إلى التحرير من نير التنظيم الظلامي الوحشي الذي لا يعرف أي رسالة غير القتل والتدمير والتشريد وسياسة الأرض المحروقة.

أعتقد أن من الضروري إعطاء فرصة للحوار الدبلوماسي الهادئ لحل الخلافات مع تركيا، وخصوصاً أن هناك دعماً للسياسات العراقية من جانب قوى دولية وإقليمية مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي وإيران وغيرها من دول العالم، كما أنه من الضروري الابتعاد من تصعيد المواقف في ظروف داخلية حساسة، والحاجة إلى تحسين العلاقات العراقية بجميع دول الجوار. كما أن في إمكان تركيا الإسهام في تقديم المساعدات إلى ملايين النازحين العراقيين وكذلك المشاركة في خطط إعمار المناطق المحررة.

3 – العلاقات التركية – السورية

أ – الثوابت

إن سورية دولة محورية في الشرق الأوسط، وتؤلف هي والعراق ومصر القواعد الأساسية للعمل العربي المشترك والركائز الطبيعية لأي اتحاد عربي في المستقبل. وسورية في الأساس كانت تؤلف في بداية النهضة العربية الحاضنة الرئيسية للفكر القومي العربي. هذا إضافة إلى دورها التاريخي وأهميتها الاقتصادية والتجارية في المنطقة. كما أن الشعب العربي السوري هو شعب مبدع وتكمن فيه كل صفات الشجاعة والكرم مع دور رائد في مجالات الفكر والمعرفة إضافة إلى التجارة والصناعة والسياحة.

وكانت دمشق أول عاصمة لدولة عربية مستقلة في التاريخ الحديث، وملكها فيصل الأول قائد الثورة العربية، ومنها ينتمي معظم قادة الفكر والتحرر العربي. وبحسب رأي الباحث السوري عقيل سعيد محفوض، سورية هي من الدول التي تتبع سياسة خارجية نشطة ولها أولوية على السياسة الداخلية، ويفسر ذلك أهمية وحساسية واعتمادية الدولة على تفاعلاتها الخارجية في وجودها وحفظ استقرارها وتحقيق أهدافها العامة. وتقف السياسات الخارجية السورية دائماً، بسبب التعقيد الكبير في قضايا المنطقة، على مفترق الطرق، ولكنها تراهن في كل مرة على الصمود وعلى عامل الوقت والذاكرة التاريخية.

رغم ما حققته تركيا من مكاسب إقليمية غير قانونية ومن تعديل لحدودها مع سورية في ما يتعلق بلواء الإسكندرونة عام 1939 فإن تركيا ظلت تتعامل مع سورية بحذر شديد. أما سورية فقد دفعتها التهديدات والتحشدات التركية على طول الحدود السورية، إلى الإسراع بإقامة الجمهورية العربية السورية عام 1958 بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، غير أن هذه الخطوة لم تكن تحظى بارتياح الجانب التركي الذي اتخذ الموقف نفسه من كل المشاريع الوحدوية الأخرى لسورية، سواءٌ مع العراق أو مع الأردن. ورغم إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية بين تركيا وسورية إلا أن هذه العلاقات ظلت شبه جامدة من الناحية السياسية رغم ازدهارها اقتصادياً وتجارياً. وقد انتعشت هذه العلاقات في بداية القرن الحادي والعشرين من خلال اتفاق أضنة في تشرين الأول/أكتوبر 1998، الذي شمل عدة اتفاقيات في مختلف المجالات الاقتصادية والصناعية والتجارية والثقافية وتسهيل التنقل عبر الحدود. وقد قام الرئيس بشار الأسد بزيارة ناجحة لتركيا عام 2004 أعقبها زيارة الرئيس التركي السابق أحمد نجدت سيزر الذي أعلن «أن زيارته لسورية مؤشر على أعلى مستوى للتطور السريع للعلاقات الثابتة في المرحلة الأخيرة على أساس الاحترام المتبادل والفهم والحوار المشترك، وأنها تتحقق في مرحلة حساسة بالنسبة إلى الشرق الأوسط وأن من المؤسف استمرار العداوة وانعدام الثقة والاستقرار في منطقتنا»، بينما أكد الرئيس السوري عزم بلاده على الاستمرار بتطوير العلاقات مع تركيا في مختلف المجالات. وقد عززت أحداث العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008 العلاقات بين تركيا وسورية.

ب – المتغيرات حتى اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2010

كانت العلاقات التركية – السورية تسير على ما يرام، وكان هناك شعور شعبي على الطرفين بالرضى والترحاب من التطور الإيجابي للعلاقات الحدودية والتجارية. إلا أن هذه الصورة الإيجابية تغيرت بعد فترة وجيزة عقب ثورات الربيع العربي، وعقب التظاهرات التي اندلعت في دمشق وعدد من المدن السورية الأخرى، التي تطالب الرئيس الأسد بإصلاحات جذرية أسوة بما يطالب به المتظاهرون في تونس ومصر وغيرها من الأقطار العربية.

وكان من الممكن جداً أن يحتوي الرئيس الأسد الموقف ويتجاوب مع مطالب الجماهير أسوة بما فعله الملك محمد السادس في المغرب والسلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان. إن استخدام القوة المسلحة ضد التظاهرات والتسرع في الحكم عليها وعدم إدراك نتائج استخدام القوة ألهبت الشارع السوري. ومع أجواء ثورات الربيع العربي ودعم الولايات المتحدة النظام المصري الجديد برئاسة محمد مرسي والإخوان المسلمين ودعوة واشنطن إلى إنهاء حكم الرئيس الأسد، والضغط على تركيا في هذا الاتجاه، تسرعت الحكومة التركية في إقحام نفسها في صراعات سورية الداخلية مع تداخل الصراعات الدولية للمنطقة، وانضم الرئيس أردوغان شخصياً وبقوة إلى الجبهة الإقليمية والعالمية التي وضعت قرار التخلص من الرئيس بشار الأسد في أولى أولوياتها.

 

4 – العلاقات التركية – المصرية: الثوابت والمتغيرات

العلاقات التركية – المصرية هي علاقات تاريخية منذ احتلال السلطان سليم الأول مصر في بداية القرن السادس عشر. ويمثّل تاريخ محمد علي باشا في مصر عصراً ذهبياً لأنه كان بداية العصور الحديثة والتقدم الاقتصادي والصناعي والعلمي، إضافة إلى أن عصر محمد علي باشا كان يمثل عصر القوة الذاتية المصرية في أوج عزتها؛ فقد كان محمد علي منافساً حقيقياً للسلطان محمود الثاني ووصلت قواته إلى مدينة نزيب داخل الأناضول، ولم يوقف تقدم محمد علي نحو إسطنبول سوى التحالف الأوروبي الذي قضى على أسطوله الضخم قرب كريت عام 1847. ومن المعروف أن أسرة محمد علي باشا ذات الأصول الألبانية والتركية حكمت مصر حتى عام 1952، إذ كان الملك فاروق آخر ملوك ملك الأسرة.

بعد الثورة المصرية عام 1952 ساد جو من التوتر بين تركيا ومصر بسبب إصرار رئيس الوزراء التركي عدنان مندرس على ضرورة انضمام مصر إلى حلف بغداد، وكذلك معارضة تركيا سياسة عبد الناصر الوحدوية مع سورية ومشاريعه القومية المختلفة. كما كانت تركيا داعمة للسياسات البريطانية في مصر، وخصوصاً في قضية تأميم قناة السويس، وكان موقفها إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1952 سلبياً؛ وأقل ما يقال عنه إنه غير ودي. كما أن تركيا كانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل عام 1950، وكانت تلك الخطوة مبادرة عدائية ضد العرب وضد رغبات أكثرية الشعب التركي المؤيدة للقضية الفلسطينية. طوال عهد جمال عبد الناصر وتوليه قيادة مصر والتيار الثوري العربي خلال الحقبة 1952 – 1970 كانت العلاقات التركية – المصرية متوترة ومشحونة بالأزمات، سواءٌ خلال حرب السويس والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 أو خلال التوترات الخطرة على الحدود التركية – السورية أو في مرحلة قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958. ويمكن القول إن تركيا التي كانت تعدّ حلف بغداد جسراً لامتداد نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً في المنطقة العربية؛ إذ إنها وجدت في زعامة جمال عبد الناصر التيار العربي التقدمي الثوري في المنطقة مزاحماً لنفوذها وبالتأكيد متغلباً عليه. كما أن تأكيد القادة الأتراك بأنهم يهيئون تركيا كجسر للعلاقات مع الغرب وأنها حصلت على تعهدات أمريكية وغربية لفرض هيمنتها على المنطقة، أو أن تكون رأس رمح للغرب فيها، قد ولد ردود فعل سلبية في الوطن العربي؛ علماً أن القيادة المصرية كانت دوماً تشعر بعدم الاطمئنان للسياسات التركية وبعدم الثقة بالتحالفات التركية – الأمريكية – الأطلسية وأهدافها سواء تجاه القضية الفلسطينية أو تجاه قضايا الأمة العربية بصورة عامة. من هنا فإن غياب جمال عبد الناصر عام 1970 وتولي الرئيس أنور السادات السلطة، ثم أحداث كامب دايفيد وتطبيع العلاقات المصرية – الإسرائيلية، كل ذلك فسح في المجال أمام الدبلوماسية التركية للعمل في اتجاه تطوير العلاقات مع مصر والعمل في الوقت نفسه على توسيع علاقاتها مع إسرائيل على حساب قضية الشعب الفلسطيني. ورغم العلاقات التاريخية التي ربطت مصر بتركيا ورغم الأجواء المصرية الجديدة المنفتحة على الغرب وإسرائيل في عهد الرئيس أنور السادات وعهد الرئيس محمد حسني مبارك، فإن التوجهات الشعبية المصرية ظلت تشعر بالكثير من عدم الثقة والاطمئنان تجاه تركيا.

إن التقارب الحقيقي في العلاقات التركية – المصرية حدث بعد النجاح الذي حققه الإخوان المسلمون في انتخابات الرئاسة المصرية عام 2012 ومجيء محمد مرسي كأول رئيس للجمهورية ينتمي إلى حركة الإخوان المسلمين أول مرة في تاريخ مصر. وفي ضوء العلاقات السابقة بين الحركة والقوى والتيارات الدينية في تركيا، وفي مقدمها حزب الرفاه، الذي تزعمه نجم الدين أربكان في سبعينيات القرن الماضي، فقد سارع حزب العدالة والتنمية التركي إلى تأييد الوضع الجديد في مصر كما أيّد وصول التيارات الإسلامية إلى الحكم في تونس والثورات العربية في سورية والمغرب وليبيا. هنا، وفي تقييم الأوضاع في مصر، التقت سياسة حزب العدالة والتنمية التركي مع الحركات الإسلامية كافة في العالم الإسلامي، بما في ذلك المغرب والأردن والجزائر واليمن والعراق. ونظرت هذه الحركات إلى النموذج التركي الجديد بوصفه يمثل تجربة رائدة يجب تقليدها والاحتذاء بها.

وعلى غير عادة السياسة التركية التقليدية، فقد تسرع الرئيس رجب طيب أردوغان بقراءة صورة الثورات العربية ولم ينتظر لمعرفة نتائج هذه الثورات وتداعياتها، ووضع كل ثقله لدعم حكم الإخوان المسلمين في مصر ومارس الضغوط على العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة للعمل في هذا الاتجاه. ولم يوفق أردوغان بقراءة المشهد المصري، فلم يدرك حقيقة الأوضاع المصرية الداخلية والدور المحوري لمصر في قيادة الفكر والثقافة العربية ورفض الشعب المصري فكرة الدولة الدينية، رغم أن مصر تحتضن الأزهر الشريف أهم مؤسسات الفكر الديني في العالمين العربي والإسلامي. وواجه الشعب المصري حكم الإخوان المسلمين من خلال تظاهرات عارمة أكدت رفض الحكومة الدينية. وكانت هذه المعارضة مدعومة من جانب الجيش المصري الذي سرعان ما انضم إلى المعارضة الشعبية للعمل وبسرعة على إقصاء الرئيس محمد مرسي من رئاسة الجمهورية ومن ثم إصدار قرارات وتشريعات بحل البرلمان وحل حزب الإخوان المسلمين وجميع المؤسسات الدينية والمدنية المرتبطة بها. وقد رحبت المنظمات الشعبية المصرية بالانقلاب الذي قاده مرشح الجيش عبد الفتاح السيسي بغض النظر عن الآراء الخاصة بمستقبل مصر في ظل المؤسسة العسكرية.

استمرت حالة التوتر بين تركيا ومصر وشنت أجهزة الإعلام التركية حملة إعلامية قوية ضد الانقلاب المصري، واتهمت قيادة الجيش بتقويض الحكومة الديمقراطية المنتخبة والرئيس المنتخب ديمقراطياً. ثم انضمت قطر بأموالها ونفوذها الاقتصادي إلى تركيا نكايةً بالتقارب السعودي – المصري.

والواقع أن السياسة الخارجية التركية تجاه مصر اتسمت بالتسرع وعدم الحكمة، ولم تقدِّر القيادة التركية أن مصر دولة محورية وهي تبقى رائدة لأي عمل عربي مشترك ولا يمكن تجاهل الدور المصري في أي ترتيبات عربية أو شرق أوسطية، وخصوصاً في ما يتعلق بالقضية السورية والقضية الفلسطينية أو القضية الليبية وكل القضايا الخاصة بالأمن القومي العربي، بما في ذلك أمن الخليج.

 

خاتمة

1 – إن بريق تجربة تركيا الجديدة في عهد حزب العدالة والتنمية بدأ يتضاءل وإن السياسة الخارجية التركية مع معظم جيرانها، وخصوصاً في المنطقة العربية، قد أصيب بشبه انتكاسة منذ عام 2012. ويرجع هذا الوضع إلى فشل دائرة صنع القرار في قراءة تعقيدات الأزمات العربية وفي قراءة سياسات الدول الكبرى في المنطقة، وخصوصاً الولايات المتحدة وروسيا الجديدة برئاسة بوتين. وهناك تراجع واضح في مبادئ السياسات الخارجية التركية التي رسمها الدبلوماسي وأستاذ الجامعة السابق ومنظِّر السياسات الخارجية لحزب العدالة والتنمية أحمد داود أوغلو؛ وبدلاً من أن تنجح تركيا في تصفير المشكلات مع جيرانها – وخصوصاً الأقطار العربية – فإن تدخلاتها في هذه المشكلات والأزمات كانت متسرّعة وغير ناجحة وأدخلت تركيا في دوامة لا أول لها ولا آخر.

2 – فقدت السياسة التركية الخارجية منذ عام 2012 روح المبادرة الإيجابية والشعارات التي طرحتها أول حكومة لحزب العدالة والتنمية عام 2002، والتي استمرت إنجازاتها وتداعياتها على الدول المجاورة حتى عام 2012، وتعاملت تركيا مع الأزمات العربية في سورية ومصر وليبيا من خلال التوجهات أو الضغوط الأمريكية أو أطروحات العربية السعودية وبلدان الخليج والموقف العربي من العراق، ولم تكن تحمل أي استقلالية وسياسات خاصة بها، وخصوصاً في القضية السورية.

3 – اتصفت السياسة التركية حيال القضية الكردية بالارتباك داخل تركيا وخارجها، وفي الوقت الذي تميز عهد حزب العدالة والتنمية بالمرونة والواقعية تجاه القضية الكردية وحقوق الأكراد داخل تركيا (وفعـلاً حصل الأكراد في الداخل على حقوق قومية ووطنية) فشلت سائر الحكومات التركية السابقة في تقديمها، وقد يكون هذا الارتباك عائداً إلى صعود المعارضة المسلحة لحزب العمال الكردستاني الذي يصر على سياسات حرق المراحل والاستعجال بالسعي لإقامة الدولة الكردية المستقلة.

4 – من ناحية أخرى، لم تقرأ السياسة الخارجية التركية جيداً تحركات السياسة الأمريكية التي ظلت مدةً طويلة تصف حزب العمال الكردستاني بأنه حركة إرهابية، فإذا بها اليوم تتحالف معه في معركة تحرير «الرقة» من تنظيم داعش الإرهابي. وهذا بحد ذاته يصبّ في مصلحة الرئيس الأسد. من ناحية أخرى بدت السياسة الخارجية التركية مرتبكة حيال روسيا التي تربطها بها علاقات تاريخية ومصالح اقتصادية مهمة، وقد تسرعت القيادة التركية بإعطاء الأوامر إلى المقاتلات التركية بإسقاط طائرة مقاتلة روسية خرقت الأجواء التركية بضع دقائق أو بضع ثوانٍ، وكان هذا التصرف خطأً استراتيجياً كبيراً. وقد سارع الرئيس أردوغان، بتلافي هذا الخطأ ومبادرته إلى زيارة موسكو، إلى إعادة الأمور إلى نصابها، وقد رحب الرئيس الروسي بوتين بهذه الخطوة وتم توقيع اتفاقية اقتصادية جديدة بين أنقرة وموسكو. وقد فسر المراقبون هذه المبادرة التركية بأنها تصحيح سريع للخطأ وأنها رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي فجرت المواقف في سورية ثم تراجعت عن هذه المواقف تاركة تركيا في أوضاع مرتبكة وغير مستقرة وغير متمكنة من معالجة قضاياها، وخصوصاً حيال الأمن الحدودي مع سورية والعلاقات مع المنطقة عموماً.

5 – بالنسبة إلى العراق، الدولة الأكثر قرباً من تركيا تاريخياً، لم تنجح السياسات الخارجية التركية في كسب ثقة العراقيين؛ وفي الوقت الذي تمكنت تركيا من مد الجسور مع حكومة إقليم كردستان فهي لم تتمكن حتى الآن من التعامل مباشرة مع الحكومة العراقية المركزية التي تصر على ضرورة احترام تركيا السيادة العراقية في ضوء المعاهدة والاتفاقيات المعقودة بين البلدين والقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وترفض الحكومة العراقية التدخلات التركية في الشؤون العراقية وتطالب بانسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية.

6 – أتفق تماماً مع استنتاجات أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية ورئيس الوزراء السابق، التي أوردها في ختام توصياته في كتابه الموسوم العمق الاستراتيجي … موقع تركيا ودورها في السياسات الدولية، عندما أكد أن تركيا مطالبة في الحقبة المقبلة بأن تعمق وتعزز من الديمقراطية داخلها وأن تولي أهمية لنسيجها الاجتماعي والعلاقات بين مؤسساتها وتقييمها على أسس وقواعد سليمة بحيث ينعكس التوازن الداخلي على السياسات الخارجية بوصفه قيمة إيجابية.

7 – في الإطار الدولي، وبسبب تداعيات الانقلاب التركي الفاشل الأخير، فقد بادر البرلمان الأوروبي إلى إصدار قرار، وبأغلبية كبيرة، بتجميد المحادثات الخاصة بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بسبب سياساتها الداخلية المناهضة لروح ومبادئ الاتحاد الأوروبي وخصوصاً في مجال حقوق الإنسان.

8 – إن من مصلحة كل الأطراف في الشرق الأوسط أن تعود تركيا إلى اتخاذ مواقف إيجابية من جميع جيرانها وأن تكون عامل توحيد وتعاون مع دول المنطقة على أساس احترام السيادة والمواثيق الدولية والتعاون لوضع حد للصراعات الإقليمية والدولية القائمة في الشرق الأوسط التي تهدد أمن وسيادة واستقرار كل دول المنطقة – بما فيها تركيا – والوقوف بصورة جدية ضد الإرهاب الذي يمثله تنظيم داعش الإرهابي.

9 – إن التسويات النهائية للحروب الأهلية في المنطقة العربية، وفي غياب قوة ذاتية عربية ضاغطة أو وساطة عربية فاعلة، وفي ضوء الشلل الذي أصاب قيادة الجامعة العربية… فإن مثل هذه التسويات لا يمكن وبصورة مطلقة أن تكون بمنأى من التدخلات والصفقات الإقليمية والدولية. إن التوصل إلى مبادئ تسوية باتفاق روسي – أمريكي وكذلك تفاهم تركي – إيراني هو احتمال قائم، وذلك بحكم المصالح الحقيقية لكل هذه الأطراف، وهي حالياً مصالح متقاطعة ولكنها قابلة للتغيير والتفاهم من خلال الدبلوماسية الهادئة.

10 – إن الإبقاء على الأوضاع الراهنة هو بالتأكيد ليس لمصلحة الأقطار العربية، كما أنه في المدى المتوسط والقريب ليس لمصلحة تركيا وإيران. إن انهيار بلدان الجوار العربية مؤشر خطير سوف يغير خارطة الشرق الأوسط ويصب بالدرجة الأولى في مصلحة إسرائيل. من هنا فإن التفاهم العربي – التركي – الإيراني تحرك مهم لضمان المحافظة على أمن وسيادة واستقرار كل أقطار المنطقة، وهذا يتطلب يقظة عربية رسمية وشعبية وتحركاً فاعـلاً من جانب قيادة الجامعة العربية للعمل سوية لإطفاء النيران التي تحدق بالمنطقة العربية عموماً والمحافظة على ما تبقى من سيادة العرب وكرامتهم، وإلا فإن المستقبل العربي سيكون كارثياً بكل المقاييس.

 

مصادر مختارة

أمين، سمير وفيصل ياشير. البحر المتوسط في العالم المعاصر: دراسة في التطور المقارن (الوطن العربي وتركيا وجنوب أوروبا). ترجمة ظريف عبد الله. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1988.

سعيد، عبد المنعم. العرب ودول الجوار الجغرافي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987. (مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي. محور «العرب والعالم»)

الطويل، كمال خلف. «في الأحوال السورية .. التغريبة والتصعيد.» المستقبل العربي: السنة 38، العدد 442، كانون الأول/ديسمبر 2015.

عبد الناصر، وليد محمود. «محددات السياسة التركية إزاء التحالف الدولي.» مجلة السياسة الدولية (القاهرة): العدد 199، كانون الثاني/يناير 2015.

الغريري، محمد ياس خضير. الدور الأمريكي في سياسة تركيا حيال الاتحاد الأوروبي (1993 – 2010). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010.

محفوض، عقيل سعيد. سورية وتركيا: الواقع الراهن واحتمالات المستقبل. بيروت: مركز الدراسات الوحدة العربية، 2009.

محيو، سعد. «آثار التفكيك في الجوار العربي.» ورقة قدمت إلى: مستقبل التغيير في الوطن العربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2016.

نهرا، فؤاد. «السياسة الإقليمية لتركيا واستراتيجية بناء العمق الاستراتيجي.» المستقبل العربي: السنة 39، العدد 447، أيار/مايو 2016.

نور الدين، محمد. الدور التركي تجاه المحيط العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012. (سلسلة أوراق عربية؛ 14)

المناقشات

 

1 – مسعود ضاهر

يعود مشروع أردوغان لإقامة كومنولث عثماني، عبر استعادة مناطق كانت خاضعة للسلطنة العثمانية، ومنها مدن حلب وكركوك والموصل وغيرها، إلى مشروعين أثبت التاريخ فشلهما: الأول هو مشروع الوحدة الإسلامية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، الذي دعا إلى وحدة الشعوب الإسلامية لدعم نظامه الاستبدادي ومنع انهيار سلطنة عثمانية كانت تلقّب برجل أوروبا المريض الذي لا أمل بشفائه منذ أواسط القرن التاسع عشر؛ والثاني هو مشروع الطورانية السياسية لاستمالة الأقليات العرقية التي تعود بجذورها إلى العنصر التركي في كثير من البلدان.

لكن المشروعين لم يلقيا الترحيب، لا من الدول الإسلامية، ولا من الجماعات العرقية التركية، نظراً إلى النظرة الاستعلائية لدى القيادة التركية ولتفضيل العنصر التركي على غيره في قيادة مشروع الكومنولث العثماني. وعمل أردوغان على حشد الجماعات الإسلامية، وبوجه خاص المتطرّفة منها؛ الأمر الذي عرّض مشروعه لفشل أكيد نظراً إلى صدامه المباشر مع جمهورية أتاتورك العلمانية، وإلى صدامه مع التيار الإسلامي الذي يقوده الداعية غولن بعدما انتسب أردوغان إليه لسنوات طويلة قبل الحديث عن انقلاب عسكري فاشل لإسقاطه وإعادة الحكم العسكري المباشر. فضعف موقع أردوغان كثيراً بعد التدابير الانتقامية القاسية وغير المبرّرة ضد فئات واسعة من الشعب التركي، وبلغ عدد المطرودين من مراكزهم قرابة المئة ألف من أفضل النخب التركية. وبعدما توترت علاقات أردوغان مع حلفائه القدامى في الغرب، قفز إلى تعاون مصلحي مع روسيا على أمل أن يكون له دور في تقرير مصير سورية والعراق. وتجري الآن مفاوضات على أعلى المستويات بين روسيا وتركيا وإيران لوقف الحرب في سورية والعراق على قاعدة الحفاظ على وحدة كل منهما. ونجاح هذا المنحى يعدّ إجهاضاً للمشروع الإسرائيلي والمشروع التركي معاً، ويفرض حـلاً عادلاً لكل من القضية الفلسطينية والقضية الكردية بوصفهما الأكثر تضرراً من اتفاقيات سايكس – بيكو التاريخية.

هكذا بدا مشروع «الكومنولث العثماني» فاشـلاً من الناحيتين النظرية والتطبيقية. لكنه أثار مشكلات بالغة الخطورة تصيب مستقبل تركيا ودورها، وعلاقاتها بالوطن العربي.

1 – فهو يهدد بقاء دول المشرق العربي التي رسمت حدودها بموجب اتفاقيات سايكس – بيكو.

2 – استخدم أردوغان شعاراً سياسياً يعزز سيطرة تركيا على المشرق العربي بغطاء أيديولوجي إسلامي، ولأهداف توسعية ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وثقافية وتربوية متعددة. وهي تنطلق من أحلام إمبراطورية تجاوزها الزمن، وبقيادة فردية مشبعة بجنون العظمة.

3 – لكن أردوغان، رغم فشله، ما زال يناور بانتهازية عالية، ويحاول إيهام خصومه، في الداخل والخارج، أنه ليس معزولاً. ويعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي لن تتخلى عنه في مخططها لتقزيم الدور الإيراني في المنطقة وإعطاء الصراع بعداً سنياً – شيعياً. وهو يقيم تحالفاً مرحلياً مع روسيا من جهة، ويوقع، من جهة أخرى، عقوداً بمليارات الدولارات مع دول الخليج النفطية.

4 – ختاماً، كان مشروع أردوغان فاشـلاً أصـلاً من حيث النظرية والتدابير المعتمدة لتنفيذه. ومن نافل القول أن مشاريع تفكيك المنطقة العربية، ومنها مشروع أردوغان، تم التخطيط لها في الدوائر الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية، مع من تحمس لها من جانب بعض الدول العربية. وبالتالي، فإفشال مشروع «الكومنولث العثماني»، وغيره من مشاريع التقسيم، يتطلب قيام مشروع نهضوي عربي جديد يحمي وحدة العرب، أرضاً وشعباً ودولاً، ويؤسس لنهضة عربية طال انتظارها. على أن يحترم قادته مبدأ التعددية السكانية، والتنوع الثقافي داخل المكونات الشعبية، وأن يعملوا على تحقيق التكامل الاقتصادي، والتفاعل الثقافي، وتوحيد القرار السياسي العربي الجامع بالطرائق الديمقراطية بعيداً من كل أشكال العنف والتسلط والهيمنة. فالعلاقات بين العرب والأتراك تتعزز على مختلف الصعد، من خلال ضمان المصالح المشتركة والمتبادلة، والتخلي عن أوهام السيطرة الإمبراطورية التي فات زمانها.

2 – خير الدين حسيب

أشكر الباحثين على الأوراق التي قدموها والتي ساعدتنا على فهم أكثر للوضع في تركيا. لكن لديّ ثلاثة أسئلة.

1 – هل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يمثّل ضمانة لعدم الانزلاق الكامل للنظام التركي الحالي نحو نظام رئاسي سلطوي غير ديمقراطي، وهل هناك تغيير لدى الرأي العام التركي حول هذا الموضوع إيجاباً أو سلباً؟ وهل المصلحة العربية هي في تشجيع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بدلاً من انزلاقها إلى نظام سلطوي إسلامي يمكن أن يؤثر سلباً في المنطقة العربية؟

2 – إلى أي مدى يمكن استعمال العلاقات الاقتصادية التركية – العربية، التي هي في حصيلتها النهائية لمصلحة تركيا، فإلى أي مدى يمكن استعمالها لممارسة ضغط لعقلنة السياسة الخارجية التركية؟

3 – إلى أي حد ترتبط توجهات حزب العدالة والتنمية بشخص أردوغان، وماذا يمكن أن يحصل لحزب العدالة والتنمية في حال غيابه لسبب ما؟

3 – هدى رزق

الاستقطاب الشديد الذي تشهده تركيا على الصعيد الداخلي بين مكوناتها السياسية والاجتماعية المذهبية والإثنية سيستمر في الفترة المقبلة، على الأقل حتى نهاية الاستفتاء على الدستور الرئاسي الذي يطمح إليه أردوغان، الذي يسعى إلى صلاحيات مطلقة، وهذا يعني أننا أمام مرحلة جديدة يسعى أردوغان من خلالها إلى تأسيس «تركيا الجديدة» على أنقاض الدولة الكمالية.

وقد شهدت تركيا بعد انقلاب 15 تموز/يوليو تغييرات جذرية في بنية الشرطة والجيش والاستخبارات حيث يتم استقطاب حزبيين منتمين إلى حزب العدالة والتنمية وآخرين من المدارس الدينية، إمام خطيب، بعد إبعاد وحدات من الجيش كانت تعمل مع حلف شمال الأطلسي بعد اتهام بعض ضباطها بالانتماء إلى الداعية محمد فتح الله غولن.

أما بالنسبة إلى القضاء فقد وضعت الحكومة التركية يدها عليه بعدما أبعدت الآلاف من القضاة بتهمة الانتماء إلى «جماعة الخدمة»، أي جماعة غولن، وتم عزل البعض الآخر وإحلال قضاة موالين للحكومة.

وسيستمر خنق حرية الرأي واعتقال الصحافة على الأقل إلى حين إقرار النظام الرئاسي. كذلك سيستمر تعيين رؤساء الجامعات التركية من جانب الرئيس عوضاً من مجالس الجامعات، حتى في الجامعات الخاصة. ولن يستقر الوضع الاقتصادي بسبب مجمل الأزمات السياسية والتفجيرات الإرهابية التي ضربت تركيا.

وعلى الصعيد الإقليمي، خسرت تركيا علاقتها بكثير من دول المنطقة، وحاول الرئيس التركي بعد إبعاد رئيس وزرائه داود أوغلو إعادة الزخم إلى العلاقة بإسرائيل، ويحاول فتح قنوات مع مصر بعدما تضرّرت تركيا اقتصادياً وسياسياً. وستعمل تركيا في الفترة المقبلة على ترميم العلاقة بالعراق بعد خلافات حول الموصل؛ كما تُجرى اليوم محادثات حول المسألة السورية.

وتعدّ تركيا اليوم حليفاً ومرجعاً سياسياً للإخوان المسلمين والحركات الإسلامية الأخرى في الوطن العربي. وهذا ما جعل أردوغان طامحاً إلى الزعامة السلطانية؛ فالعثمنة لم تأتِ معه بل إن كل الإسلام التركي، من أربكان إلى أوزال وغولن، عدوا العثمنة جزءاً مهماً من تاريخهم الإمبراطوري، حيث حكموا العالم الإسلامي ووصلوا إلى تخوم أوروبا. أما عثمانية أردوغان فتعني نشر النفوذ في المنطقة العربية عبر الإسلام السياسي.

وعلى الصعيد الدولي، بالرغم من السجال مع الاتحاد الأوروبي تبقى تركيا وأوروبا مرتبطتين بعلاقات اقتصادية وسياسية، وعسكرية عبر الحلف الأطلسي. ولا شك في أن هذه العلاقة التحالفية هي أحد مواطن قوة تركيا. أما الدخول إلى عضوية الاتحاد الأوروبي فهي مسألة لن تجد لها حـلاً لأسباب أهمها عدم رغبة الاتحاد الأوروبي في إدخال 79 مليون مسلم إلى عضويته؛ فضـلاً عن أن تركيا لم تأخذ حتى اليوم في المعايير الأوروبية. تعي الحكومة التركية هذه الحقيقة لكنها تبقي طلبها قيد الدراسة من أجل الحفاظ على العلاقة.

أما الخلاف مع الولايات المتحدة فهو استجد بعدما دعمت الولايات المتحدة الأمريكية وحدات الحماية الكردية في سورية؛ كذلك اعترضت الولايات المتحدة على تسليم محمد فتح الله غولن إلى الحكومة التركية التي تتهمة بانقلاب 15 تموز/يوليو 2016. تحاول تركيا ملء الفراغ الذي تركته سياسة الولايات المتحدة في المنطقة، لكنها تبقى دولة حليفة لواشنطن ودولة وظيفية بالنسبة إليها وإلى أوروبا.

أما استرداد تركيا لعلاقتها بروسيا والاعتذار عن إسقاط طائرة السوخوي الروسية العام الماضي، فقاد إلى تمتين العلاقة بموسكو، ولا سيّما بعد الانقلاب، ما أدى إلى تشعّب الحوارات التي ساهمت في تظهير استدارة تركيا في المسألة السورية. لا يعني الأمر التخلي عن الاتحاد الأوروبي بل هي محاولة الجمع بين علاقتها المصلحية بالروس وبالأمريكيين بعدما لمست تقارباً بينهما في المسألة السورية.

تركيا اليوم تعيش مخاضاً في الداخل، فحزب العدالة والتنمية أصبح حزباً أردوغانياً ولم يعد حزب النشأة الذي أسس شعبيته انطلاقاً من الاستقرار الأمني والاقتصادي. اليوم هو حزب الرجل الواحد. أما الحالة الأمنية فلا يعتَد بها وتعيش البلاد حالة اقتصادية متراجعة كثيراً. إضافة إلى تفتت اجتماعي سياسي.

هل مشكلة تركيا اليوم هي في وجود رجل كرجب طيب أردوغان على رأس الحكم، وهو الذي يقول خصومه إنه من المفترض أن يدفع ثمن فشله في المنطقة؟ أم أن رجل تركيا القوي سيقلب الطاولة على خصومه ويغير دور تركيا بحيث ينفذ طموحه بالانقلاب على الدولة الكمالية ويؤسس لتركيا الجديدة.

4 – يوسف الصواني

لديّ تعليق صغير فقط، أعتقد أنه في ما يتعلق بمسألة العثمنة، أردوغان يتحدث عن مشروع تركي، هذا المشروع التركي على المستوى التركي الداخلي يعيد الاعتبار لـ «المكون الإسلامي» الذي طالما تم تجاهله في الفترة الكمالية وما بعدها، بما في ذلك دور تركيا في الجانب الإسلامي في المنطقة. الجانب الآخر الذي يسعى لتوظيفه، فمثل أي قوة صاعدة أو ناشئة لديها طموحات، سواء كانت داخلية أو إقليمية، عليها أن تستفيد من المتغيرات التي تحدث في المنطقة، وفي مقدمها صعود الإسلام السياسي. أعتقد أن هذا يتوافق تماماً مع إعادة الاعتبار للمكون الإسلامي، وهناك قوة أخرى مستعدة لتمويل هذا المشروع الذي يمكن أن يستفيد أيضاً من مجموعة من الاعتبارات الأخرى، مثل تنافس القوى الممولة لهذا المشروع الإسلامي، التي هي قوى إقليمية سنيّة تتنافس مع قوى إسلامية شيعية لها علاقة تاريخية مضطربة مع تركيا، التي تصب بدورها في بحر الطموحات التركية. فأعتقد أنه لا يمكن توصيفها على أنها مشروع حزب العدالة والتنمية، بل هي مشروع تركي بالأساس.

 

5 – العميد تركي الحسن

في تقديري أن الحديث عن «تركيا إلى أين» يجب أن يبحث في المسائل التالية:

1 – بنية المجتمع التركي وما تعرض له من هزّات عنيفة أدت إلى شرخ كبير، وهو ما أشار إليه قرباش أوغلو في نسبة الثقة 8 بالمئة نتيجة السياسة التركية في تفجير الصراع المسلح مجدداً مع الأكراد وعودة التفجيرات والقتل إلى الشوارع التركية، وهو صراع مستمر منذ قرابة أربعة عقود وذهب ضحيته 45 ألف قتيل… ثم الخطاب الطائفي والمذهبي الذي يعتمده الرئيس أردوغان وحكومته عند كل محطة انتخابية لشد العصب المذهبي حيث يتحول إلى صناديق الاقتراع، وهذا ثبت نجاحه في كل المحطات كالحريرية السياسية في لبنان.

في الانتخابات البلدية في آذار/مارس 2014، والرئاسية في عام 2015، والبرلمانية في حزيران/يونيو 2015 وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2015، إلى درجة يظهر فيها الرئيس أردوغان رئيساً لفئة عرقية ومذهبية (سنية) لا رئيساً لتركيا، فمن يهشم المجتمع عبر خطابه فإن له نتائج سلبية جداً ستؤدي إلى الانفجار.

2 – البحث في مشروعية تركيا بعد انتهاء اتفاقية لوزان 1923؛ بعد سبع سنوات من بدء الحرب في سورية، يتزايد الحديث عن اتفاقية سايكس – بيكو وكأن هناك شعوراً متزايداً بخطورة ذلك. والحديث المتواتر على لسان المسؤولين الأتراك (لن نسمح لسايكس بيكو جديد) أي تقسيم تركيا. وإن كان الحديث سابقاً يدور همساً وبين الطبقة السياسية والأمنية، فقد خرج إلى العلن وفي الصحف.

3 – الأسلمة القسرية للمجتمع التركي من خلال بعض التحولات التي تفرض على المجتمع التركي والتخلي عن العلمانية التي باتت تطرح علناً وعلى لسان رئيس البرلمان… نهجاً إسلامياً مذهبياً (سنياً) على فقه واحد (الحنفي).

4 – تقليص دور الجيش منذ عام 2002 وسجن قياداته، وهذا أمر زاد بعد محاولة الانقلاب، حيث تخلى عن دوره كحارس للعلمانية والمشاركة في الحياة السياسية ومساعدة الغرب له، الأمر الذي سيزيد من التفاعلات الداخلية للجيش التي أفضت إلى محاولة الانقلاب وقد تتكرر.

5 – الخلافات المتصاعدة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبخاصة بعد محاولة الانقلاب، فضلاً عن مشكلات تركيا مع دول الجوار، إلى درجة تبدو تركيا جزيرة معزولة ومن دون أصدقاء (صفر أصدقاء/100 خصوم).

6 – الدعوات المتصاعدة إلى إعادة النظر في الحدود استناداً إلى الوزن الإقليمي لتركيا حيث لم تعد هذه الحدود تستوعب تركيا الجديدة المقارنة بالحدود الإمبراطورية (20 مليون كم2)، ثم تقلصت إلى 2.3 مليون كم2، والآن تبلغ مساحة تركيا 789.000 كم2، وهذه لا تكفي؛ وبالتالي استفزاز واستنفار الجوار من هذه الطروحات والأهداف غير المعلنة للدولة التركية.

7 – محاولة الرئيس أردوغان وحزبه التحول إلى النظام الرئاسي ومركزة السلطات بشخصه بحيث تستجيب لنوازعه السلطوية الاستبدادية، وهذا سيشكل ضربة للديمقراطية التي تعرضت لضربات مؤلمة، كما ستشكل عامـلاً إضافياً في تفجير الوضع الداخلي التركي.

8 – العلاقة بإيران، في اعتقادي أن العلاقة التركية – الإيرانية محكومة بالمساكنة وعدم الوصول إلى مرحلة الصراع، فالدولتان إقليميتان ووازنتان تبنيان على المشترك وتتحاوران على المختلف عليه. وستستمر هكذا رغم الخلاف حول سورية والعراق، وهناك حرص على العلاقات الاقتصادية واستمرارها.

9 – وحول احتمالات تعديل السياسات التركية للرئيس إردوغان وحزبه، في تقديري أن هذا التغيير قادم، وقد توقعته منذ نيسان/أبريل 2016 قبل الانقلاب والمصالحة الروسية – التركية.

6 – منى سكرية

أود إبداء ملاحظتي حول حول الوضع في تركيا، فقد دفعتنا أوراق العمل إلى الاستنتاج أن تركيا ستنهار غداً!، وسؤالي: متى ستنهار تركيا تبعاً لذلك؟

1 – توقع محمد نور الدين مزيداً من العزلة لتركيا تجاه أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ورأى أن لجوء تركيا إلى روسيا وإيران لا يوفر لها ملاذاً آمناً. سؤالي: في ظل صعود حركات سياسية – اجتماعية متطرفة وذات أبعاد عنصرية في المجتمع الغربي، كيف لتركيا أن تتعامل مع هذا النموذج من المستجدات؟ ولا سيّما مع أوروبا الرافضة عضويتها في الاتحاد الأوروبي إلى الآن؟

2 – في ظل صعود حركات إسلامية ذات طابع مذهبي سنّي مغاير لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، ألا يمكن هذا الصعود أن يشكل عنصر تحالف تركي – روسي على قاعدة محاربة الإرهاب الإسلامي التكفيري الذي يهدد أمن واستقرار البلدين؟

3 – يسود المشهد السياسي الدولي نوع من فوضى التحالفات وتبدل العلاقات تبعاً لمصالح كل دولة. فهل هذا النوع من المشهد السياسي غير المستقر قد يوفر لتركيا ملاذاً من الانهيار، بمعنى أنه يمكنها أن تبقى في حلف الأطلسي، وعلى علاقة بواشنطن، وعلى تحالف مع إسرائيل، ولها حظوة عند روسيا، وعلاقات تقية مع إيران؟

7 – محمد خيري قيرباش أوغلو (يرد)

أولاً، كان تخفيف قبضة الجيش على السياسة التركية بدعم من الاتحاد الأوروبي، وهذا أمر واضح. حزب العدالة والتنمية وجماعة فتح الله غولن كانا مشروعاً غربياً، ثم حصل صراع داخلي للسيطرة والانفراد بالحكم. لذلك، لم يحصل هذا بالقدرة الذاتية للحزب وإنما بدعم من الاتحاد الأوروبي.

بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية، وإلى أردوغان تحديداً، فقد تبنّى خطاباً يقوم على القومية التركية، وهذا في الحقيقة يعبر عن أيديولجية الدولة العميقة على أساس تتريك المجتمع الإسلامي السنّي الحنفي، الذي حوّل المجتمع التركي إلى مجتمع إسلامي إلى حد كبير، وكان ذلك في الحقبة الجمهورية. فقبل الحقبة الجمهورية كان المسلمون قلة في الأناضول، ومشروع الجمهورية الفتية كان تتريك المجتمع وتبني الإسلام كدين الدولة والمذهب السنّي الحنفي. وهذا المشروع تبناه أردوغان، ويقال إنه في محاولة انقلاب 15 تموز/يوليو، كان الدعم الأساسي المقدم إلى أردوغان من بعض كبار الضباط في الجيش المنتمين إلى بعض الأيديولوجيات الشيوعية الكمالية المتطرفة الذين واجهوا محاولة الانقلاب، واضطر أردوغان إلى الاتفاق مع هذا الجزء من الجيش لضرورة تبني أيديولوجية الدولة العميقة مقابل الدعم من داخل الجيش ومقابل الدعم السياسي لأردوغان. لذا يقال إن هناك تصالحاً مع بعض مراكز القوى في الجيش؛ إذاً، أردوغان عاد إلى الأيديولوجية البناءة للجمهورية الفتية التركية.

لماذا تتصاعد القومية التركية؟ لأن هناك سبباً آخر، وهو أن لدى أردوغان مشروع نظام رئاسي سلطوي، ولتحقيق هذا الهدف، فإن أصوات حزب العدالة والتنمية تلجأ إلى أصوات من حزب الحركة القومية الوطنية، وهذا أمر أصبح واضحاً جداً، حيث أصبح حزب الحركة القومية الوطنية كفرقة احتياطية للحزب الحاكم. هناك أمر آخر، بعد محاولة الانقلاب اضطرت الحكومة إلى التعامل مع حزب الحركة القومية لأنه موجود بقوة في جهاز الأمن وفي الجيش، لذلك هناك تصالحات على أساس المصلحة المتبادلة بين الحزبين.

بالنسبة إلى العلاقات الإسرائيلية – التركية، لم تنقطع هذه العلاقات. وحتى حين بلغ التوتر بين الكيانين الذروة، كانت العلاقات الاقتصادية والعسكرية مستمرة. وهذا يدل على أن كل ما حدث من توتر في العلاقات الاجتماعية والإعلامية لم يكن له أساس، لأن السياسيين يلجأون إلى ممارسة مثل هذه الخطابات.

كذلك هي الحال بالنسبة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إذ لا يمكن أن تتنازل تركيا عن هذا المشروع، لا لأسباب أيديولجية بل لأسباب اقتصادية، لأن نسبة التصدير الكبرى من تركيا هي إلى الاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ذلك، هناك علاقات عسكرية مع حلف الناتو ولا يمكن أن تتراجع تركيا عن هذه الاتفاقيات إلا إذا تم الاتفاق بين الأحزاب كلها وبين شرائح المجتمع المختلفة. لكن الوضع الحالي يدل على أن أردوغان يطبق سياسة براغماتية، وهذا أمر واضح. أما الوقوف ضد الاتحاد الأوروبي فهو للشد والجذب وليس هناك أي قرار حاسم بالنسبة إلى الانسحاب من هذا المشروع. وبالتالي فإن تصريحات بعض الوزراء والمسؤولين الموجهة إلى الاتحاد الأوروبي تدل على أنه أقرب إلى التسويق الداخلي أكثر مما هو متعلق بتوجيه رسائل إلى الخارج.

في حال غياب أردوغان، ما هي النتائج؟ كما أشرت، مع الأسف الشديد، إن السياسة التركية تعتمد على الزعماء الكارزميين، وإذا رحلوا يرحل الحزب، كما هو الأمر مع أربكان وأوزال… إلخ. وعندما يذهب أردوغان سيذهب كل شيء معه، وهذا أمر خطير. لذلك أنا أتحدث هنا كوني كنت أيضاً أحد مؤسسي حزب صوت الشعب سابقاً مع اليسار والإسلاميين، ومن مبادئ هذا الحزب هو التخلي عن السياسة على أساس الزعيم الكاريزمي والانتقال إلى مرحلة الكوادر الكارزمية أو المدرسة الكارزمية على أساس الفكر السياسي، ثم يقوم الحزب كإنتاج جانبي لهذه المدرسة. لكن هذه الثقافة هي كمالية بالنسبة إلى المجتمع التركي الآن، وربما في المستقبل يكون هذا أكثر تقبـلاً لهذه الفكرة. لذلك يجب توزيع مصالح الدولة والحكومة على الأحزاب والجماعات الدينية… إلخ.

بالنسبة إلى العثمنة، هذه فكرة سليمة جداً، أنا خريج مدرسة أردوغان نفسها: اتحاد الطلاب الوطني التركي، وأيديولجية هذا الاتحاد تقوم على العثمنة، والإسلام مجرد ذريعة للوصول إلى الأهداف، حتى عندما نتحدث عن مقاربة مفهوم الإسلام، فمقاربة الحزب وأنصاره للإسلام هي مَرَضِيَّةَ جداً جداً، وتحتاج إلى جلسة مستقلة. ماذا يفهمون من الإسلام؟ فقد أصبحت السنّية ديناً بديـلاً للإسلام وشكلوا جماعات دينية داخل تركيا بدعم من الحكومة للقيام بدعايات ضد الشيعة، وأكبر دعاية كانت تتم على هذا الصعيد من جانب جماعة فتح الله غولن. نحن حذرنا الحكومة منذ فترة طويلة، ولكن بعد تصفية جماعة غولن، هناك جماعات جديدة تقوم بذلك. ولكن أردوغان نفسه يقول إنه ضد التعصب المذهبي وهذا القومية، وهذا كله على المستوى الخطابي فقط، أما الممارسات فتقول شيئاً آخر.

بالنسبة إلى المسألة الكردية، فهي ذات أبعاد كثيرة وتتعلق بإيران والعراق وسورية، وأعتقد أن موقف تركيا في المسألة الكردية قوي جداً، وبخاصة لناحية حزب العمال الكردستاني وعلاقته ببعض الجماعات الكردية الأخرى في شمال سورية، وأعتقد أن أخطاء بعض الدول الأوروبية عززت من موقف الحكومة التركية من المسألة الكردية. كما يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى إعادة النظر في سياسته حول هذا الشأن.

بالنسبة إلى الموضوع السوري، وهو أهم نقطة، لماذا تغير موقف تركيا هذا التغيُّر الجذري، أعتقد أن أهم شيء هنا هو دور خطوط الطاقة في المنطقة. فالحديث الذي جرى بين أوغلو وبشار الأسد أعتقد أنه يتعلق بخط الغاز القطري وما إلى ذلك، والأمر يتوقف على توافق القوى وضمان خطوط الغاز وأسباب أخرى أكثر من المعلوم، ولكن لا نملك تفاصيل هذه المحادثة، ولكن لا يمكن الأسد أن يوافق على المشروع بسبب علاقته بإيران وروسيا. أعتقد أن هناك صراعاً بين محورين (الاعتدال/المقاومة) كما أن هناك دولاً مستقلة (مثل تركيا)، وعليها التفكير في الخروج من بين مأزقي المحورين. وأعتقد أن هذا الانقسام سيؤدي إلى تقسيم في المنطقة، كما أن هناك تفاهمات بين روسيا وأمريكا، حيث باتت الثانية تتخوف من الصين وتريد التضييق عليها، بعدما باتت تشكل الخطر الأكبر عليها، وأعتقد أن هناك نوعاً من التفاهم بين أمريكا وروسيا لتحديد مستقبل الصين وتقسيمها. ولكن هذا ليس بتخصصي، وأعتقد أننا بحاجة إلى خبراء ومتخصصين في هذا الموضوع.

8 – محمد نور الدين (يرد)

سأنطلق مما جزم به د. مسعود حول أن هذا المشروع قد انهزم ولا يمكن أن يتجدد، والآن يبحث فقط عن كيفية الحد من الخسائر في المرحلة المقبلة. أعتقد أن المشروع فشل في مصر بصفة أساسية وفشل في سورية، إذ أعتقد، كما ذكرت، أن تحرير حلب ختم هذا المشروع التركي بالشمع الأحمر في كل من سورية والمنطقة.

أما من حيث الفراغ، فليس هناك أي فراغ في العلاقات الدولية في أي منطقة. ولو لم تكن الساحة العربية ضعيفة ومفككة، لما أمكن المشروع التركي أن يتدخل فيها.

أريد أن أتوقف عند السؤال هل أردوغان على هذه الدرجة من العزلة أم لا؟ نجد أن علاقة أردوغان متوترة مع جميع الدول ما عدا قطر؟ وتخوف الخليج من إيران أكثر من أطراف أخرى، لا يشكل دافعاً لتلاقي السعودية والخليج مع تركيا. فالخليج محمي من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، فشيعية إيران، مقابل سنّية الخليج، هي أكبر جدار يحول دون تغلغلها في الساحة الخليجية لتقلب موازين القوى. أعتقد أن الخطر الأكبر على الخليج والسعودية والتيار الوهابي هو تركيا، كان يمكن لمصر أن تشكل أكبر خطر على الجميع، ولكنها مستقيلة من دورها المغيَّب، لهذا السبب هي خارج الحسابات. تركيا هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن تشكّل خطراً على السعودية، وأكبر دليل على ذلك هو ما حصل في مصر، الذي لم يكن إلا امتداداً لصورة محدثة عما حصل في أيام محمد علي باشا. لهذا السبب العالم الإسلامي لا يمكن تسليمه للإخوان المسلمين، فالمشروع العثماني الإخواني يعني العداء لكل مكونات المنطقة؛ فالمشروع العثماني يستعدي المحيط الجغرافي له من أكراد وعرب وفرس وأرمن ويونان… إلخ، على أسس عرقية، كما يستعدي المسيحيين والشيعة والسنة غير الوهابيين كافة على أسس مذهبية. وبالتالي كان هذا المشروع يحمل بذور فشله معه. من هنا فإن لمَّ الشمل العربي يردع هذا المشروع. وبالتالي أعتقد أن أردوغان سنّي محاصر، ليس معه أحد إقليمياً، أما دولياً فلا أعتقد أن روسيا ستشكل دعماً له، ومن يتابع الصحف التي تؤيد حزب العدالة والتنمية والبرامج على الشاشة التركية يلحظ هجوماً شرساً حاداً على كل من روسيا وإيران، وبالتالي يدرك الأتراك أن هاتين الجهتين لا يمكن أن تشكلا أصدقاء لهم. وبالتالي تركيا في عزلة حقيقية، ليس على الساحة الإقليمية والدولية فقط بل في الداخل أيضاً، حيث إن هذا النظام الرئاسي السلطوي سيؤبد تركيةَ وسنيّةَ النظامِ في تركيا، لأن هناك محافظين وقوميين في حدود 60 إلى 65 بالمئة، مقابل من 35 إلى 40 بالمئة تضم الفئات الأخرى كافة، من علمانيين وأكراد وعلويين.

أعتقد أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يمثّل عامل كبح يحد من طموحات تركيا في التوسع في المنطقة على الصعيد الإقليمي، فأي عضو في الاتحاد يخرج عن سياسة الإجماع الأوروبية يحاسب ويعاد إليها أو تنهى عضويته، وعلى الرغم من أن سياسة الاتحاد الأوروبي لا تحدد السياسة الخارجية للبلدان الأعضاء، حيث يمكن لكل بلد اتباع سياسته الخارجية، ولكن هناك نوعاً من الضوابط التي تنظم هذه السياسات.

يجب أن نفصل أيضاً علاقة تركيا بالاتحاد الاوروبي عن علاقتها بحلف شمال الأطلسي، إذ إن علاقتها بالاتحاد الأوروبي هي أقرب إلى دور ثقافي وقيمي وحضاري وأن مشروع أردوغان قد خرج عن مسار حلف شمال الأطلسي.

تبقى نقطة أخيرة، هي أن تركيا لا تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهذه النقطة يستخدمها العلمانيون فقط في تركيا لغيظ الإسلاميين. وكذلك الإسلاميون لا يريدون الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بل يستخدمون هذه النقطة لهدف تحقيق طموحاتهم ومشاريعهم، وهم قاموا بضرب العسكر والعلمانيين، والمسار الآن متوقف. كما أن الاتحاد الأوروبي لا يتحمل انضمام دولة إسلامية إليه، حيث هناك تيارات قومية متشددة فيه ترفض ذلك.

9 – أمين حطيط

يأتي توقيت هذه الحلقة بعد الأحداث التي حصلت في حلب وتعطيل اليد التركية الأساسية في دورها الخارجي الإقليمي، وبالتالي فالموضوع بذاته وفي توقيته يتسم بأهمية كبيرة. وبالنسبة إلى أوراق العمل، أنوّه بموضوعية ورقة د. أوغلو وورقة د. نور الدين، مع أن ورقة أوغلو مع موضوعيتها جنحت إلى التشاؤم أكثر وورقة محمد نور الدين مع موضوعيتها جنحت إلى التوصيف الذي يمكن أن يقال فيه الكثير من النقاش حول المستقبل.

أما ورقة د. محمود الداود، فهناك ملاحظتان رئيستان أسوقهما، وبخاصة في عملية توصيف الدور التركي في سورية والواقع السوري. من يقرأ ما كتبه عن سورية يكاد يظن أننا في بداية الأزمة وأن كثيراً من الحقائق ما زالت محجوبة عن أبسط المتابعين. أما أن يكتب هذا الكلام في نهاية العام 2016، وعلى الرغم من أن كل شيء بات مفضوحاً حتى عند الإعلام الغربي، فأنا أستغرب مثل هذا الكلام. فتركيا قادت الحرب على سورية ضمن مشروع شامل عام ووصفناه يوماً بأنه مشروع الأقواس الثلاثة الذي يؤدي إلى قيام قوس الإخوان المسلمين بقيادة تركية يمتد من تونس إلى ليبيا إلى مصر إلى سورية عبر فلسطين والأردن. فلم تكن تركيا تبتغي في سورية الديمقراطية ولا الحرية، بل قيام مشروع سلطوي سمّه ما شئت (عثمانية قديمة، عثمانية جديدة، نزعة طورانية). المهم هو أنه مشروع الإخوان المسلمين وقوس الإخوان المسلمين الذي يتكامل مع قوس الوهابية ليفرض على المنطقة وجود قوس ثالث هو قوس شيعي، ويكون حال عدم الاستقرار دائماً ومستمراً في المنطقة. وفشل هذا المشروع الذي تدرج في فشله في مراحل ثلاث، انتهت المرحلة الأخيرة والنهائية بالفشل والنعي الكامل، وانتقل المشروع بعدها من موت سريري (الكوما) إلى لفظ أنفاسه في حلب. وبالتالي كان على الباحث أن يراعي هذه المسألة وأن يعالجها بموضوعية.

المسألة الثانية، لي ملاحظة على فهمه لاتفاقية أضنة، فاتفاقية أضنة لم تكن تحالفاً ولا حلفاً استراتيجياً ولا اتفاقاً، إنما كانت نوعاً من التنسيق الأمني الذي نصفه في العلوم الاستراتيجية بالتنسيق السلبي الذي يمنع الصدام والاحتكاك ويمنع الاعتداء، لا أكثر ولا أقل. ولم يرتقِ هذا الاتفاق إلى أي نوع من أنواع التحالف الاستراتيجي أو السياسي أو حتى التنسيق الاقتصادي أو الفكري أو الثقافي أو أي شيء آخر، بل بقي محصوراً في دائرة أمنية لا أكثر ولا أقل.

وعلى هذا الأساس ننتقل إلى الإجابة عن عنوان الندوة بذاته «تركيا … إلى أين؟». للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نحدد عناصر ثلاثة في الموضوع: الأول، تركيا الذات/الكيان، الثاني تركيا الدور/الوظيفة، الثالث تركيا وموقعها في خريطة العلاقات الدولية. الأوراق وصّفت أكثر مما أجابت، ولامست الإجابات بصورة مجتزأة في بعض الأحيان. نحن نرى في موضوع العنوان الأول تركيا الذات/الكيان، أنها لا تستطيع أن تفرط بوحدتها التي ترى أنها بحسب توصيفها، قد تراجعت في المساحة من 20 مليون كلم2  إلى 780 ألف كلم2، فهي لا تتقبل فكرة تجزئة إضافية. لهذا السبب، فالخوف على الذات هو هاجس يعيشه التركي وله ما يبرره، وبخاصة مع مكونات رئيسية ثلاثة (الأكراد، العلويون، الأتراك). وبالتالي فالسؤال الرئسي هو هل تبقى تركيا موحدة؟ هناك قاعدة في الصراعات والعلاقات الدولية والانخراط في هذه العلاقة، وهي أن القوة الفائضة أو الذاتية التي تنطلق إلى الخارج لتحقيق أمرٍ ما وتنجح في ذلك، فهي تثبت وحدتها وتماسكها وإذا فشلت، فإن هذه القوى تمتد إلى الداخل فتفجره. السؤال الذي يُطرح الآن بعد الفشل التركي الذريع والمدوّي في مشروع كبير، مشروع تغيير الشرق الأوسط تحت الراية التركية، هو: هل ستعود هذه القوى إلى الداخل لتفجره؟ هذا هو السؤال الذي يجب طرحه. بعدما استمعت وبإصغاء كلّي للتوصيف الذي قدمه أوغلو، وأنا الحقيقة أشكره جداً في الكثير مما ذكره الذي لم نكن نعرفه، أرى أن البنية التركية على وهن يمكّن هذه القوة المرتدة التي فشلت في الخارج أن تفعل شيئاً في الداخل التركي. ثم هناك مستجد آخر كبير في هذا الموضوع، وهو العامل الكردي، الذي لامس بعض القوة في السنوات الثلاث الماضية، هل يمكن إغفال دوره وحركته، ثم هل العامل العلوي الذي حاول التركي خلال الـسنوات الـسبعين الماضية طمسه كليّاً، يمكن أن يُحدث شيئاً في تركيا بعد هزيمتها وفشلها في سورية وبعد أن رست الحال في سورية بصورة أو بأخرى على إقامة سورية العلمانية الموحّدة التي لن يكون للإخوان المسلمين دور رئيسي فيها. هذه النقطة يجب معالجتها. ولهذا نحن نقول إن الهاجس التركي من مسألة الوحدة هو في مكانه وله ما يبرره.

أما حول دور تركيا في المنطقة، كما ذكرت في بداية الحديث، أقول إن حلب أجابت عن نصف السؤال. إن تركيا الآن، بعد فشلها الذريع في مشروعها، قد انتقلت من سياسة عدوانية هجومية اعتمدتها على مراحل ثلاث (الأولى كانت سياسية خداعية وبدأت عبر تظاهرها في سورية بأنها مع الحلف الاستراتيجي ثم انقلبت عليه؛ الثانية هي احتوائية مركّبة من سياسة وأمن في الداخل السوري وقيادة الإقليم؛ الثالثة هي التدخل المباشر)، وبعدما فشلت هذه السياسة، ارتدت تركيا الآن إلى استراتيجية دفاعية تركّز أساساً على الدفاع عن الوحدة والذات لا عن الدور/الوظيفة، وهذا أمر أساس. لذلك نحن نرى أن تركيا الآن، وبعد هذا الفشل، لن تستطيع أن ترسي لنفسها مشروعاً قيادياً في الشرق وبناء الموقع التركي القيادي المستقل القائم بذاته. ولكن في هذه النقطة بالذات، معطوفة على النقطة الثالثة عن موقعها في الإقليم، لن تستطيع تركيا أن تغادر المنظومة الأوروبية ولا الحلف الأطلسي لحاجة مزدوجة أو ثنائية بين الطرفين، فتركيا من الوجهة الاقتصادية بحاجة إلى أوروبا، وأوروبا بحاجة إلى تركيا من الوجهتين الأمنية وإلى حد ما الاستراتيجية – الاقتصادية. لهذا السبب نجد، أن تركيا مهما غالت في علاقاتها الدولية يميناً أو يساراً، ستبقى شريكاً لأوروبا، إذ لن تصبح أوروبية بل ستبقى شبه أوروبية، كما أن الغرب بحاجة إلى تركيا بقدر حاجته إلى إسرائيل، ولا يمكن إسرائيل أن تحل مكان تركيا أو تحل تركيا مكانها، فدور الدولتين متكامل ومحكوم عليهما بالتعاون. وبهذا آتي إلى النقطة الثالثة حول دور تركيا مع إسرائيل في العلاقات الدولية والدور الوظيفي، تركيا محكومة بأن تبقى على علاقة تنسيق إيجابية لا سلبية مع إسرائيل لإتمام الدور التكاملي، وكل الزعامات التركية، سواء العلمانية أو الإسلامية واليمينة واليسارية، بالنسبة إلى إسرائيل ثابتة في هذه العلاقة، وإذا مرّت هذه العلاقة ببعض التوتر أحياناً، فإنما هو توتر لحظوي عابر يعود إلى المبدأ. إنهما محكومان بالدور التكاملي.

أما تركيا الآن فهي في مرحلة استيعاب فشل مشروعها الذي كان فشله بحجم لا تقدر تركيا على احتوائه بسرعة بالبنية التي هي عليها، حيث حملها هذا الفشل على تغيير استراتيجيتها من استراتيجية هجومية إلى دفاعية، ونحن كمختصين في هذا الشأن، نعلم أن الانتقال من الهجوم إلى الدفاع على هذا النحو يفرض الكثير من الإجراءات والتدابير المؤلمة جداً، التي تتضمن إعادة النظر في العلاقات الدولية. فعلاقات تركيا بروسيا وسورية وإيران الآن هي علاقات اضطرارية، وهناك بيت شعر عربي للمتنبي أكاد أرى أن التركي في قرارة نفسه يردده: «ومن نَكَدِ الدّنْيا على الحُرّ أنْ يَرَى … عَدُوّاً لَهُ ما من صَداقَتِهِ بُدُّ»، بحيث يُتراجع عنها فوراً في أول فرصة تسنح، كما تم التراجع عما يسمى الحلف أو التحالف الاستراتيجي بين سورية وتركيا في لحظة من اللحظات. لهذا نرى أنه لا يمكن أن تكون تركيا مطلقاً حليفاً تكتيكياً ولا استراتيجياً لإيران، لأنها وإيران على تناقض في أمرين، في المسألة الدينية العقائدية تناقض بين الشيعي والسنّي، وتناقض في مسألة الدور حيث يطمح كلٌ منهما إلى وضع يده على الإقليم. وبالتالي أقل ما يمكن أن تكون العلاقة بينهما في أحلى حالاتها هي مساكنة مع تنسيق سلبي يمنع الصدام، وبخاصة أن إيران ترعبها فكرة التصادم الإسلامي السنّي – الشيعي، وهي مستعدة للتنازل عن الكثير لمنع هذا الصدام. وبالتالي يمكن تركيا أن تستفيد من تهيب إيران من فكرة التصادم السنّي – الشيعي هذه، كما أن المصلحة التركية تقضي بألا تنخرط في هذا الموضوع. أما في العلاقة بروسيا، فالغرب لا يمكن أن يسمح بانخراط روسي – تركي إلى العمق في مسائل استراتيجية وأمنية وعسكرية. ولا ننسى مطلقاً أن تركيا هي الحدود الشرقية للحلف الأطلسي، وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفياتي قد تم حلّه، لنتذكر ما قاله الحلف الأطلسي منذ 8 أشهر: «إن روسيا هي العدو الحقيقي للحلف الأطلسي»، وينبغي أن ننظر إلى تلك الحقيقة. وبالتالي فالعلاقة التركية بروسيا ستكون علاقة مساكنة لمنع الصدام وستكون في مسألة الإفادة اللحظوية من بعض المكاسب لتحمي همها الأول وهو المحافظة على الذات.

أما بالنسبة إلى الجيش التركي، فقيرباش أوغلو ليس مختصاً عسكرياً وكنت أتمنى أن يسلّط الضوء أكثر على بنية الجيش التركي ووظيفته البنيويّة.

أختم لأقول إن العرب عليهم التدقيق جيداً بمواقفهم وألّا يرهنوا على تركيا الحليف، فهي لا تنظر إلى العرب إلا على أنهم تابعون كما كانت نظرتها لهم خلال 400 عام. نحن لا ندعو إلى عداء عربي – تركي، بل نريد صداقة كل الشعوب، ولكن هذه الصداقة لا تكون إلا مع من يريد صداقتك. لذلك أنصح من يملك القرار في الدول العربية أن يتعامل مع تركيا في بناء علاقاته وفقاً للاستراتيجية الإيرانية: صداقة وتنسيق سلبي لا يرتقي إلى الوثوق الكامل.

الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع، إن تركيا الفاشلة في موضوعها والخائفة على ذاتها، باتت محكومة بسياسة متعددة الأبواب والاتجاهات غير متناسقة. ولا يمكن القول إن تركيا ستحفظ الوظيفة التي طمحت إليها، وسيكون الدفاع عن ذاتها ووحدتها أمراً صعباً في المرحلة المقبلة.

10 – الياس فرحات

عام ٢٠٠٢ تسلّم حزب العدالة والتنمية الإسلامي السلطة وقرر تغيير وجهة تركيا نحو الجنوب، وأقام علاقات وثيقة مع سورية تضمّنت علاقات شخصية وعائلية بين الرئيسين بشار الأسد ورجب طيب أردوغان. عُقدت اتفاقات اقتصادية بين البلدين تضمنت تنازلات مهمة من سورية أثارت احتجاج التجار السوريين الذين أقفل بعضهم مصانعه بسبب غزو المنتجاتِ التركيةِ الأرخصِ الأسواقَ السورية.

على الصعيد الثقافي والاجتماعي، تأزمت العلاقات السورية – التركية في التسعينيات بسبب مسلسل «أخوة التراب» الدرامي السوري لتظهيره الدرامي للظلم والاستبداد التركيين في سورية أثناء الحرب الأولى، ولهذا أنتجت سورية دراما جديدة هي «أهل الراية» صوّرت الظلم أنه جاء نتيجة تصرفات فردية من بعض القادة وتضمنت تسامحاً من الصدر الأعظم وظهرت ابنة الصدر الأعظم على أنها مدافعة عن المظلومين في مواجهة بعض الضباط العثمانيين الظالمين.

قدمت سورية سياسياً واقتصادياً وثقافياً وإعلامياً أقصى ما يمكنها في سبيل إرساء علاقات قوية ومتينة مع تركيا.

في المقابل، بادلت تركيا ذلك بصورة مخالفة لحال الصداقة والتحالف التي أرسيت. فما إن بدأ ما سمي الربيع العربي في ما بعد حتى تخلت تركيا عن جميع عهودها وبدأت بأعمال عدائية ضد سورية، سواء بالإسهام في شق الجيش السوري وإنشاء الجيش السوري الحر بواسطة الضابطين حسين هرموش ورياض الأسعد، أو بالدفع إلى مجزرة جسر الشغور. ثم شكلت في ما بعد المجلس الوطني للمعارضة السورية الذي عرف بمجلس اسطنبول وأغلبيته من الإخوان المسلمين.

اقتصر تدخل تركيا مع الحكومة السورية بمطالبتها بإشراك الإخوان المسلمين في السلطة على نحوٍ فاعل.

على أن أخطر ما قامت به تركيا هو في مطلع ٢٠١٢ حين عجزت عن تفكيك الجيش السوري وإسقاط النظام، فاتخذت قراراً مثّل نقطة تحول في سورية والمنطقة بكاملها، وهو الاستعانة بتنظيم القاعدة من أجل إسقاط النظام في سورية، ومنذ مطلع العام ٢٠١٢ شهدت سورية عمليات تفجير انتحارية بسيارات مفخخة في دمشق وعدد من المدن السورية وسيطر تنظيم القاعدة في بلاد الشام – جبهة النصرة على منطقة القلمون على الحدود الغربية مع لبنان وعلى ريف حمص الغربي والغوطة الشرقية، وضُيِّق الخناق على العاصمة دمشق.
استناداً إلى الحقيقة الجغرافية الواقعة، تشكل تركيا العمق اللوجستي لتنظيم القاعدة – النصرة وفي ما بعد داعش، كما أنها كانت القيادة العملانية للمعارضة المسلحة. وليست مصادفة أن تظهر هذه الجيوش الإرهابية على الجانب السوري من الحدود السورية التركية، هي ليست مطراً هبط من السماء ولا فطراً نبت من الأرض بسرعة. ببساطة إنها من فعل الحكومة التركية.

على الصعيد الداخلي التركي عندما نسمع الرئيس اردوغان يخاطب كمال كليتشدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري: أنت علوي، نتساءل كيف سيكون سلوكه مع مكونات المنطقة العربية؟ وعندما يقول إننا سنصل إلى كل مكان وصل عليه أجدادنا على ظهور الخيل. طبعا القلق ليس في جرابلس والراعي وإنما في مكة المكرمة والقاهرة.

هناك أزمة ثقة عميقة بين العرب وتركيا وحلها عند الجانب التركي.

مسألة أخرى، هي مسألة الهوية القومية والدينية في تركيا ومحاولة الجمع بين الهويتين. أقول بصراحة إن الهوية الدينية لا يمكنها أن تحل مكان الهوية الوطنية في المجال السياسي، لأننا في منطقة متعددة الأديان والمذاهب، حين نجعل الهوية الدينية سياسية فيها تبدأ على الفور الفتن والحروب كما نشهد اليوم. لذلك أنصح بابتعاد تركيا من جعل الهوية الدينية إطاراً سياسياً، لأن ذلك سيؤدي إلى تمزق تركيا من الداخل والخارج. لا يمكن أن يتحالف المسلم السنّي التركي مع العلوي والكردي ضد المسيحي الأرمني واليوناني، ثم يتحالف مع العلوي التركي ضد الكردي ثم يختلف مع العلوي. إنه مسلسل حروب لا يتوقف إلا باعتماد هوية الدولة الوطنية. ثم لماذا تكون تركيا دولة إسلامية كما قال رئيس البرلمان؟ وهل أصـلاً كان هناك دولة إسلامية في التاريخ؟ ما عدا عهد الرسول والخلفاء الراشدين، هل كانت الدول الأموية والعباسية والفاطمية والمملوكية والعثمانية دولاً إسلامية؟ كانت سلطة إمبراطورية يترأسها مسلمون لكنها لم تكن إسلامية بالمعنى المنشود في الدين الحنيف. وإذا أراد أردوغان إقامة إمبراطورية عثمانية مستخدماً الإسلام السنّي فإن قدرات تركيا لا تسمح بذلك وسيصطدم بجدارات مانعة ويصاب بخسارة بالغة.

11 – حسام مطر

في ظل سياسة أوباما الحذرة والمترددة، بالتوازي مع سياسة خارجية تركية طموحة على نحو مبالغ فيه، بدا الافتراق بين القوتين يتنامى في سياق أحداث «الربيع العربي». تلقى أردوغان الخيبة الأولى مع القرار الأمريكي بالتعامل الواقعي مع إقصاء الرئيس الإخواني محمد مرسي من الحكم وزجه في السجن، إلا أن التوتر بلغ ذروته في التراجع الأمريكي عن التدخل المباشر في سورية ورفضه تقديم مساندة جدية إلى أنقرة في لحظة التوتر القصوى مع موسكو بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية، وقبلها وبعدها التفاهم الأمريكي – الكردي في الشمال السوري الذي تجاهل تماماً المصالح القومية التركية. بناء على هذه التحولات وجدت القيادة التركية نفسها مضطرة إلى التعامل مع الدّور الأمريكي الجديد والتوازنات الإقليمية من خلال بدء مسار من الانفتاح والتفاهم مع روسيا من بوابة الحرب السورية.

لذا توصلت أنقرة إلى قناعة مفادها أن إنجاز أي مساومة مع موسكو وطهران أجدى من التحالف مع الأمريكيين. وقد قوبل هذا التحول التركي بموقف احتوائي روسي – إيراني أقر بالمصلحة التركية بمنع كانتون كردي موحّد على الحدود السورية، وبأن تركيا يمكن أن تكون شريكة في الحل السوري إن تبنت مقاربة مختلفة. من هنا انطلق المسار التركي نحو البحث عن بدائل وخيارات استراتيجية جديدة مع القوى الآسيوية الوازنة والانتقال من قلب التحالف الأمريكي على حافته لتشبيك مصالح مع الأطراف الأخرى واللعب على تنافساتها. هذا التحول التركي يأتي في سياق عودة المفهوم الأوراسي إلى العلاقات الدولية، مع صعود قوتين أوراسيتين، الصين وروسيا، تسعيان لفرض شراكتهما في النظام الدولي من خلال التشديد على أدوارهما ضمن المجال الأوراسي من آسيا الوسطى ووسط أوروبا إلى شرق آسيا، وصولاً إلى شرق المتوسط (غرب آسيا). إذاً تشهد السياسة الخارجية التركية انزياحاً من التحالف المسلّم به مع الأطلسي نحو تحالف رخو يسمح باستكشاف تقاطعات ربما استراتيجية مع القوى الأوراسية التي تقر بالدور التركي وهواجسه الجوهرية، ولا تتعرض لأردوغان في السياسة المحلية.

إعادة التموضع التركية هذه، تهدف في سياق آخر إلى فرض أنقرة نفسها مرجعية المسلمين السنّة في المنطقة، ولا سيّما مع التدهور الحاصل في الدور السعودي وعدم خروج مصر من أزماتها. لذا، وعلى عكس ما ذهب إليه البعض، لا تزال الطموحات الإقليمية لأردوغان مرتفعة، وهي طموحات تحفزها حالة الفراغ المتزايد في المجال العربي. هنا، يرى الأتراك ضرورة الحفاظ على مناخ التنافس مع إيران لمنعها من العودة الوازنة إلى الساحة السنّية العربية. يبدو أن أردوغان يسعى لجذب الروس إلى منطقة وسط بينه وبين الإيرانيين في الحد الأدنى، فلا تعود طهران قادرة على موازنة الأتراك من خلال علاقاتها الاستراتيجية مع موسكو. لذا يسعى أردوغان إلى الاستثمار في الرغبة الروسية بتأدية دور «ناظم الاستقرار الإقليمي» وعدم الانزلاق إلى حروب مفتوحة في المنطقة في مشروع خلق تفاهمات تركية – روسية تسمح لأنقرة بإعادة تنشيط دورها الإقليمي بعد الخيبات المتكررة من مصر إلى سورية.

12 – عقيل محفوض

كانت السياسة التركية في المنطقة محل «التباس جماعي» تقريباً لدى العرب؛ حتى إن استطلاعات الرأي كانت تظهر تأييداً كبيراً لأردوغان تجاوز في بعض البلدان 87 بالمئة من المستجيبين، في حين أن نسبة المؤيدين له في تركيا نفسها لم تكن تتجاوز الـ 50 بالمئة، هذا يحيل إلى عدة تساؤلات من قبيل: هل حدث نوع من خديعة أم سوء تقدير للأمور.

في تقديري أن الأزمة السورية كانت أزمة كاشفة، لا للسياسة الخارجية التركية فحسب وإنما للسياسة الداخلية أيضاً، فقد أظهرت الأزمة أولاً رهانات تركيا ومدى استعدادها للانخراط في سياسات معقدة، والتخلي عن التزاماتها وصداقاتها أمام ما عدَّته مصالح حيوية لها وانتهاز الفرصة السانحة لتحقيقها، كما كشفت عن حدود تلك السياسة وقيودها وإكراهاتها والبعد الطوباوي والمغامر فيها.

لقد قيل الكثير في توصيف السياسة التركية، وفي محاولة تفسير تلك السياسة، ولماذا حدث ما حدث في داخل تركيا نفسها، وعلى صعيد تفاعلاتها الخاجية، وبخاصة مع الأزمة السورية، وطبيعة الموقف بين تركيا وكل من روسيا وإيران والغرب… إلخ. وأُقدِّر أن الحديث عن «تركيا إلى أين؟» يفترض – من الناحية المعرفية والمنهجية – أن نتحدث عن سيناريوهات أو مسارات احتمالية رئيسة، وقد سبق لمركز دراسات الوحدة العربية أن قدم مشروعاً كبيراً حول استشراف المستقبل، وكان بالإمكان الاستفادة من اقتراحاته المنهجية – وثمة مقاربات عديدة بطبيعة الحال – في تحليل موضوع هذه الحلقة النقاشية.

هنا يمكن الحديث عن عدة مسارات أو مستويات؛ أولاً ما يخص البناء أو التكوين الاجتماعي في تركيا، والثاني ما يخص طبيعة الدولة والنظام السياسي، وثالثاً يخص طبيعة التفاعلات الدولية والسياسة الخارجية.

على صعيد التكوين الاجتماعي، من المحتمل أن تتجه التفاعلات الاجتماعية إلى المزيد من الاستقطاب الحاد، وأن تزيد حدة التوترات بين البنى والتكوينات العرقية والدينية، أي بين الترك والكرد والعرب والشركس والشيشان وغيرهم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التفاعلات بين البنى والتكوينات الدينية والمذهبية، مثل العلويين والسنّة والجماعات الصوفية وغيرها. وثمة مؤشرات كثيرة تعزز هذا الاحتمال، وهو ما يعني عودة نشطة إلى صيغة ما من ديناميات نظام الملل والنحل العثماني أو السلطاني.

في ما يخص طبيعة الدولة، هناك اتجاه قصدي وعميق لتغيير طبيعة الدولة والنظام من أجل المزيد من التمركز حول الرئيس وإقامة نظام رئاسي، أو بالأحرى إقامة نظام سلطاني. هنا يذكِّر بما قاله أردوغان في نقد اتفاقية لوزان 1923، وهذا ليس من أجل الجغرافيا والحدود وإنما – وهذا تقدير يتطلب المزيد من التدقيق – من أجل تفكيك شرعية الدولة الجمهورية أو شرعية أتاتورك، بهدف إقامة شرعية جديدة أو عقد اجتماعي جديد على أسس عثمانوية أو سلطانية. نحن نعلم أن اتفاقية سيفر كانت مثار مخاوف شديدة إلى درجة يمكن معه الحديث عن «متلازمة سيفر»، والواقع أن العودة إلى سيفر أفضل من منظور مراقب أو متلق سوري أو عراقي أو لبناني أو كردي.. إلخ. لأن لوزان اقتطعت جغرافية سورية وعربية كبيرة كما هو معروف، بينما تمثل شرعية سيفر إحياءً محتمـلاً لتلك الجغرافية!

وقد أوردت ورقة د. قرباش أوغلو مؤشرات ذات دلالة، وبخاصة في حديثه عن انخفاض نسبة الثقة على صعيد التفاعلات الاجتماعية في تركيا إلى أقل من 8 بالمئة، وأورد مؤشرات أخرى، وكل ذلك من الأمور التي تعزز ديناميات إقامة نظام توتاليتاري أو توتاسلطاني، إذا صح التعبير.

في ما يخص التفاعلات الدولية أو تفاعلات السياسة الخارجية، ثمة عدة نقاط، أهمها فكرة كنتُ قدمتها شخصياً في مؤتمر عقد في بيروت بمناسبة مئة عام على الحرب العالمية الأولى، وأكرر طرحها هنا، وهي تحتاج إلى المزيد من التدقيق والنقاش، إذ ثمة عودة إلى ما سمّيته «ديناميات المسألة الشرقية»، لجهة نظام الاختراق والتغلغل العالمي في المنطقة، وضبط سياساتها والحديث المتكرر عن مراجعة الحدود والسياسات والجغرافيا السياسية والدولتية… إلخ. وهنا من المحتمل أن تكون تركيا في قلب تلك الديناميات المستعادة، وتعلمون أن الدولة العثمانية بقيت أكثر من مئتي عام بفعل تلك الديناميات، وليس بفعل عوامل تماسك أو بقاء ذاتية.

بالنسبة إلى التجاذبات بين اتجاه تركيا شرقاً أو غرباً، أقدّر أن تركيا ستبقى في حالة موازنة ومساومة أو مفاضلة بين الاتجاهات والسياسات، وهذا ينسحب على تفاعلات تركيا مع إيران مثـلاً، وهنا أفترض أن العلاقة محكومة بقاعدة تمكينية وبراغماتية تكثفها العبارة التالية: «نتعاون على ما نتفق فيه، ويعذر بعضنا بعضاً في ما نختلف عليه»، هذا يفسر جانباً من التجاذبات بين تركيا وإيران في الموضوع السوري. وتعلمون كيف أن العلاقات بين إيران وتركيا كان لها تأثير كابح نسبياً في موقف تركيا من الأزمة السورية. ويمكن أن ينسحب ذلك على الموقف بين تركيا وروسيا.

وهكذا تستفيد تركيا بدورها من إعادة إنتاج ديناميات المسألة الشرقية في بعدها البراغماتي وفي الموازنة والمساومات المركبة والمعقدة في المنطقة.

ويهمني أن أشير هنا إلى أن الحديث عن تغيير النظام من برلماني إلى رئاسي تتطلب بعض التدقيق، ذلك بأن النظام الرئاسي قائم عملياً، حيث تتمركز السياسات بيد أردوغان، والواقع أن النظام القائم بالفعل هو نظام سلطاني تقريباً، ولن يغير قوننة ذلك كثيراً في واقع الأمور، في المدى القريب على الأقل.

وبالنسبة إلى الحديث عن موقف أتاتورك من الأسلمة، ألفت النظر إلى أن أتاتورك هو أول من «أَسلَمَ» تركيا، من خلال عمليات التهجير والطرد وتبادل السكان مع اليونان وغير ذلك، كما أن أتاتورك لم يكن معادياً للدين أو للأسلمة، خلافاً لما يقال أو يشاع عن الرجل.

وقد كتبت عن متلازمتين تحكمان جانباً كبيراً من الظاهرة التركية اليوم، الأولى متلازمة لوزان والهدف منها – كما سبقت الإشارة – تفكيك العَقْد المؤسس للجمهورية من أجل إقامة عَقْدٍ عثمانوي أو سلطاني جديد؛ والثانية هي متلازمة الرئيس بشار الأسد، بمعنى عقدة الموقف من الرئيس الأسد، ذلك بأن أردوغان لم يتمكن من إسقاطه، وهو لا يستطيع تقبل استمراره في الحكم، وسوف يكون لهذه المتلازمة ما بعدها في السياسات التركية في مقبل الأيام. وقد لاحظتم ما حدث حين صرح أردوغان أن بلاده عملت على إسقاط نظام الرئيس الأسد، وحين تحفظ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اضطرت تركيا إلى التراجع عن التصريحات المشار إليها. هذا نوع من التكيّف مع إكراهات الحدث السوري، وهو ينسجم مع المبدأ الإخواني أو الإسلاموي المعروف بـ «التمكين»، حيث يحاول صانع القرار تحقيق المكاسب ما أمكنه ذلك، وحين يجد صعوبات أو مخاطر فإنه يراجع الموقف ويتراجع أمام الضغوط والمخاطر، متحيّناً الفرصة المناسبة لمعادوة الكرّة، وهكذا…