مقدمة:

كان ظهور حركة «أبناء البلد» من نتائج ومؤشرات التحولات السياسية لدى الفلسطينيين في إسرائيل عقب حرب 1967 والنتائج والتطورات السياسية التي نشأت عنها؛ فبعد هذه الحرب التي وضعت جميع الفلسطينيين في فلسطين التاريخية تحت الحكم الإسرائيلي، بدأت مرحلة جديدة في حياة العرب الفلسطينيين في إسرائيل تميزت بتحولات واسعة وعميقة في موضوع تنظيمهم السياسي. مرت الحركة بمراحل من التطور، وعرفت فترات من التوسع والانتشار المحدود وفترات أخرى من الفشل والانكماش ولا سيَّما منذ عام 1988، إضافة إلى عمليات الانشقاق التي نتجت، بوجه خاص، من الخلافات حول المشاركة في انتخابات الكنيست، التي كانت مقاطعتها أحد الثوابت في فكر الحركة.

تستند الدراسة، بالأساس، إلى المصادر الأولية، أي منشورات حركة «أبناء البلد» المختلفة من المناشير والبيانات، والصحافة والمجلات، ومواقع الإنترنت، إضافة إلى مقالات أو تصريحات أو مقابلات مع ناشطي الحركة في وسائل الإعلام المختلفة. نذكر أيضاً أن استعراض تاريخ الحركة بين عامي 1972 ـ 1993 يستند إلى كتاب المؤلف الذي صدر عام 1995‏[1].

أولاً: مرحلة 1972 ـ 1983: من النشوء إلى الانشقاق الأول

نشأت حركة «أبناء البلد» في سياق نهضة وطنية سياسية عامة وشاملة، مر بها الفلسطينيون في إسرائيل في أوائل السبعينيات، شكلت بداية مرحلة جديدة من تطور التنظيم والفكر السياسي الفلسطيني في إسرائيل. عقب حرب 1967، والصدمة العنيفة للأغلبية العظمى من العرب الفلسطينيين في إسرائيل، بدأ هؤلاء عملية إعادة النظر في مواقفهم من القومية العربية والأنظمة العربية ومن مراجعة تعريفهم لأنفسهم. وشهدت الفترة نفسها أحداث مذابح أيلول/سبتمبر عام 1970، ورحيل الرئيس المصري عبد الناصر، ثم حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وارتفاع مكانة منظمة التحرير الفلسطينية والشرعية الدولية التي حصلت عليها عام 1974‏[2].

في سياق هذه التطورات، نشأ أول تنظيم لحركة «أبناء البلد» في أم الفحم عام 1969. وقد أسسها عدد من المثقفين والأكاديميين، الذين بادروا إلى الانتظام ضد العائلية وضد عملاء السلطة[3]. في البداية، رفعت المجموعة شعارات محلية خاصة بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في أم الفحم، إذ كانت حركة وطنية محلية شاملة «لا ضوابط محددة لها من ناحية سياسية أو حتى تنظيمية»[4].

1 ـ البرنامج الأول لأبناء البلد

نشرت «أبناء البلد» أول بيان رسمي وعلني لها في 31/8/1972. وفي إطار التحضير لخوض انتخابات المجلس المحلي في أم الفحم، تم عقد أول مؤتمر للحركة عام 1972، وتم صوغ برنامج عرف باسم «الكرّاس الأخضر»[5]. في العام 1976، بدأت الحركة تشبك علاقات مع لجان الطلاب العرب في الجامعات الإسرائيلية، ومن ثم توصلت إلى صيغ تحالف مع تنظيمات سياسية أخرى. شكلت الحركة إطاراً لفئات ذات اتجاهات فكرية مختلفة، وأحياناً متناقضة، يجمعها رفض واقع الدولة اليهودية ومعارضة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي شكل، في حينه، القوة الأساسية بين الفلسطينيين في إسرائيل[6]. شملت هذه التيارات: حركة «متسبين» العربية ـ اليهودية، و«الجبهة الحمراء» أو المجموعة العربية ـ اليهودية، والتيار القومي الكلاسيكي، والقيادة الطلابية ذات التوجه القومي الراديكالي، والبعثيين، والماركسيين[7]. تجمعت هذه التيارات حول القاسم المشترك ولم تمزج بينها[8].

2 ـ أهداف الحركة وفكرها السياسي

امتنعت حركة «أبناء البلد» لسنوات طويلة من نشر برنامج سياسي يوضح أهدافها بسبب تركيبتها الفضفاضة. وكانت خلال هذه السنوات تناقش النقاط التي ترفضها في برنامج الحزب الشيوعي والسلوكيات التي تعترض عليها دون أن تطرح بدائل سوى أنها تحاول أن تشكل منافساً حقيقياً للأحزاب الصهيونية الفاعلة في المجتمع العربي وللحزب الشيوعي الإسرائيلي.

منذ سنة 1979، ساهمت «الحركة الوطنية التقدمية»، وهي الجناح الطلابي لحركة «أبناء البلد» في تعريف أهداف الحركة. وفي نشرتها التحدي والالتزام (نشرة لمرة واحدة)، تم تعريف «الحركة الوطنية التقدمية» على أنها «حركة في طريق التحول إلى يسار فاعل حقيقي…»[9]. كذلك، عدّت نفسها أنها «رافد من روافد حركة التحرر الوطني الفلسطيني…»[10]. وعرّفت أهدافها في ما يلي: الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتصعيد النضال السياسي، وتعزيز العلاقة مع القوى التقدمية والثورية العالمية، وتمتين العلاقات مع حركات التحرر[11].

رأت حركة «أبناء البلد» نفسها متميزة بفلسطينيتها بين التنظيمات السياسية الفلسطينية في إسرائيل؛ فهي ترى أن القضية الفلسطينية هي محور فكرها وأن المشكلة الأساسية بالنسبة إليها هي مشكلة الهوية الفلسطينية وليس الهوية العربية[12]. هذا التميز، كما تراه حركة «أبناء البلد»، إضافة إلى اعتبار نفسها حركة اشتراكية وثورية حقيقية، جعلها تميز نفسها من التيارات السياسية الفاعلة في البلاد باعتبار أن «طرحها السياسي أرقى ونهجها أكثر وطنية»[13].

تَركّز الفكر السياسي للحركة حول طبيعة إسرائيل والصهيونية، وحل القضية الفلسطينية، ومصير الفلسطينيين في إسرائيل، وأساليب النضال، وعلاقات الحركة مع التنظيمات السياسية العربية الأخرى في إسرائيل.

أ ـ إسرائيل والصهيونية وحل القضية الفلسطينية

يشكل موقف حركة «أبناء البلد» من الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل الجانب الأهم في فكرها السياسي لأنه يحدد مواقفها الأخرى؛ نظر «أبناء البلد» إلى الصهيونية بصفتها «حركة عنصرية استيطانية تهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من وطنهم، ولذلك فإن الصراع معها صراع وجود»[14]. بناءً على هذا، رأت الحركة أن الكيان الذي يجب أن يحل محلها هو «مجتمع علماني ديمقراطي اشتراكي في نطاق وحدوي تقدمي مع العالم العربي»[15]؛ ولذلك عارضت، مبدئياً، تقسيم فلسطين بين الشعبين[16].

استمرت حركة «أبناء البلد» في طرح موقفها هذا من الحل الجذري الوحيد الممكن للقضية الفلسطينية، وهو إقامة مجتمع ديمقراطي علماني يضم العرب واليهود على أرض فلسطين التاريخية، من دون استعداد لإبداء أي مرونة أو قبول بالحلول الجزئية أو المرحلية حتى اتخاذ قرار إعلان إقامة الدولة الفلسطينية في المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988.

ب ـ مصير الفلسطينيين في إسرائيل

رأت الحركة أن الفلسطينيين في إسرائيل جزءٌ لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، ومنظمة التحرير الفلسطينية هي ممثلهم الوحيد[17]. حدد هذا الانتماء للشعب الفلسطيني سياسة دولة إسرائيل نحو مواطنيها من الفلسطينيين، التي هدفت إلى إضعاف وتشويه هذا الانتماء[18]. لذلك، تركز النضال الأساسي للحركة على «… تثبيت الهوية الفلسطينية لجماهير الداخل…»[19].

3 ـ أساليب نضال حركة «أبناء البلد»

أقرت الحركة مقاطعة الانتخابات البرلمانية، واعتبرتها من «الثوابت» الوطنية[20]، لأن المشاركة في مؤسسات الدولة تشكل اعترافاً بالواقع وتكريسه[21].

أولت حركة «أبناء البلد» اهتماماً خاصاً للنشاط والفعالية بين طلاب الجامعات[22]. في عام 1979، شكّل الطلاب المنتمون إلى أبناء البلد «الحركة الوطنية التقدمية». وسيطرت على لجنة الطلاب في القدس، وحصلت على تمثيل في لجان الطلاب في الجامعات الأخرى، حتى عام 1985. وفي العام التالي (1986)، بدأت تخوض الانتخابات في قائمة مشتركة مع جبهة الطلاب العرب، الذراع الطلابية للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة.

4 ـ علاقة «أبناء البلد» بالتنظيمات السياسية العربية في إسرائيل، وموقفها من التعاون مع منظمات يهودية

انعكست أفكار حركة «أبناء البلد» في مواقفها من الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي كان القوة السياسية الوحيدة الفاعلة بين العرب في ذلك الوقت، إلى جانب الأحزاب الصهيونية والقوائم العربية المرتبطة بها: منذ اللحظة الأولى التي أعلنت فيها حركة «أبناء البلد» عن تأسيسها عرضت نفسها بصفتها البديل الحقيقي للحزب الشيوعي الإسرائيلي «راكاح» لأنه، بحسبها، لا يمثل المصالح الحقيقية للفلسطينيين في إسرائيل. اتهمت حركة «أبناء البلد» «راكاح» بأنه أداة «لصهينة» الفلسطينيين وإعاقة النضالات الحقيقية[23]، وركزت نقدها اللاذع على قبول «راكاح» بقرار التقسيم[24]، وقبلت بالعمل المشترك مع بعض الفئات الصغيرة جداً، والمناهضة لجوهر وتعريف دولة إسرائيل مثل تنظيم «متسبين» أو «طريق الشرارة».

ثانياً: مرحلة 1983 ـ 1988:
الخلاف الداخلي والانقسام

كانت المواقف المعلنة حول أساليب النضال والمواقف من الحزب الشيوعي والتنظيمات السياسية اليهودية موضع نقاش واعتراض من قيادات وتيارات داخل الحركة برزت في إثر تحول الحركة من التنظيم المحلي إلى التنظيم القطري بعد يوم الأرض (30 آذار/مارس 1976) ومحاولة وضع خطوط سياسية عريضة عام 1977. وكان أبرزها «جبهة الأنصار» التي اختلفت مع التيار المركزي حول القضايا الأساسية، مثل المشاركة في انتخابات الكنيست والنضال البرلماني والتعاون مع الحزب الشيوعي والتنظيمات السياسية اليهودية.

عشية انتخابات الكنيست العاشرة عام 1981، تَفجَّر الصراع داخل الحركة، حول مقاطعة انتخابات الكنيست وحول الموقف من الحزب الشيوعي، الأمر الذي أدى إلى الانشقاق عشية الانتخابات اللاحقة عام 1983‏[25]. ففي حزيران/يونيو من عام 1983، أعلن بعض أعضاء الحركة الانفصال وتأسيس حركة جديدة تحت اسم «أبناء البلد ـ جبهة الأنصار». وبعد أسبوعين، أقرّت المشاركة في الانتخابات[26].

انضمت جبهة الأنصار إلى الحركة التقدمية وخاضت انتخابات الكنيست الحادية عشرة عام 1984 ضمن «القائمة التقدمية للسلام». ونظراً إلى موقف منظمة التحرير المشجع للمشاركة في الانتخابات[27]، شعرت حركة «أبناء البلد» بزيادة عزلتها، فخرجت بفكرة أنها تخوض المعركة الانتخابية من موقع المقاطعة[28].

أعلنت حركة «أبناء البلد» موقفها المعادي للقائمة التقدمية للسلام، وشنت عليها هجوماً عنيفاً ركز على انتماءات قيادة القائمة الطبقية والفكرية ووصفتها بأنها «…ابن شرعي طبقياً وفكرياً وسياسياً لليمين الفلسطيني»[29]، هذا الانتماء إلى اليمين يعني اتخاذ مواقف سياسية محددة تتمثل بـ «التفريط والاستسلام» والوساطة لدى المؤسسة الصهيونية في ظروف مريحة أكثر[30]. كذلك وجه «أبناء البلد» نقدهم للقائمة التقدمية بأنها «تجمع انتهازي عربي ـ يهودي صهيوني»[31].

كان شعور «أبناء البلد» أن التحدي الجديد أخطر من التحديات التي مثّلها الحزب الشيوعي بسبب الشعارات التي رفعتها «الحركة التقدمية» والتي شددت على الانتماء الوطني الفلسطيني. وكان للدعم الذي حظيت به القائمة الجديدة من جانب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أثر كبير في تقوية الشعور لدى «أبناء البلد» بخطورة هذا التحدي. فهو يمس قضية تمثيل الفلسطينيين في إسرائيل ومكانة أبناء البلد الذين اعتقدوا أنهم التيار الذي يمثل الفكر الوطني. ولم يكن هجوم الحزب الشيوعي على الحركة التقدمية أقلّ حدّة من هجوم «أبناء البلد» ولكن من منطلقات عقائدية مختلفة.

ورغم اختلاف أسباب هذه المواقف نلاحظ أنه منذ عام 1984 حدث تحول واضح في موقف «أبناء البلد» من الحزب ومن التعامل معه، بالرغم من استمرار انتقاداتهم لبرنامجه السياسي، وبخاصة في مسألة حل القضية الفلسطينية، إذ بدأت حركة «أبناء البلد» تميز بين موقف الحزب من القضية الفلسطينية، وهو موقف سلبي من وجهة نظرها، وبين إيجابية الدور الذي مارسه في المطالبة بالحقوق اليومية والسياسية[32].

بعد هذا التغيير بدأت محاولات التقارب بين أبناء البلد والحزب الشيوعي، فشكّل الجانبان قائمة انتخابية طلابية واحدة عامي 1986 و1987 وتقاسموا مقاعد اللجنة في الجامعة العبرية[33]. بلغ التوجه الجديد أوجَه برفع أبناء البلد شعار المساواة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل عام 1987 في إضراب يوم المساواة. وكان رفع الشعار يعني بداية إعادة أبناء البلد لحساباتهم ومراجعة أطروحاتهم بحيث تأخذ في الاعتبار الواقع المعاش والمطالب اليومية للفلسطينيين.

استمر التقارب والتعاون بين أبناء البلد والحزب الشيوعي مع «الاستمرار في النقاش الديمقراطي الفكري السياسي حول القضايا الأساسية المختلف عليها بيننا»[34]. كانت هذه المرة الأولى التي تطرح فيها حركة أبناء البلد مسألة «النقاش الديمقراطي» مع الحزب «حول القضايا الأساسية»، وهو ما يؤكد استعداد الحركة لمراجعة فكرها وأطروحاتها الأساسية. ويمكن التحديد أن قمة التعاون والعمل المشترك تحققت في إضراب «يوم المساواة»، في حزيران/يونيو 1987. لذلك نجد صحيفة «أبناء البلد» (الراية) تصل إلى الحد الأقصى في مديح مواقف الحزب: «يعتبر الحزب الشيوعي الإسرائيلي الحالة الأرقى في حدود الواقع الراهن والمتميزة نوعياً…»[35]. لكن الخلافات القائمة بينهما حول المواقف المبدئية من القضايا الأساسية بقيت على حالها ولا سيَّما في ما يتعلق بتحديد هوية الفلسطينيين في إسرائيل ومصيرهم[36]، بالرغم من استمرار انتقاداتهم لبرنامجه السياسي.

  • «أبناء البلد» في السلطات المحلية والهيئات القطرية

فشلت الحركة في إحراز نجاح بارز في انتخابات السلطات المحلية العربية، وفشلت في الحصول على رئاسة أي سلطة محلية منذ تأسيسها؛ لذلك، لم تتمكن من إحراز تمثيل في لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية التي تعرضت للنقد ـ وأحياناً التشهير ـ من جانب «أبناء البلد» بسبب تركيبتها ومواقفها المهادنة وفق منظور «أبناء البلد». إلا أن هذا الموقف كان يتغير حسب القرارات التي تتخذها اللجنة، مثل قرار إضراب يوم المساواة عام 1987‏[37]. بُعيد فشلها في الانتخابات المحلية عام 1989، أعلنت الحركة أنها لا تعتبر لجنة الرؤساء «العنوان السياسي الوطني»، وأنها، أي اللجنة، انخرطت «بشكل مذهل في لعبة الكراسي الدائرة بين الليكود والمعراخ!»[38].

حصلت حركة «أبناء البلد» على تمثيل في لجنة المتابعة العليا منذ تأسيسها عام 1982، إلا أنها، في أغلب الأحيان، وجهت إلى اللجنة النقد اللاذع بسبب ما اعتبرته مواقفها اللينة والمتساهلة، وذكّرت خصوصاً بوجود ممثلي الأحزاب الصهيونية فيها، والمقصود هم أعضاء الكنيست العرب المنتخبون في قوائم الأحزاب الصهيونية. كما اتهم «أبناء البلد» لجنة المتابعة، لاحقاً، بأنها تقوم بدور «الدرك الداخلي» في لجم الجماهير الفلسطينية[39].

انضمت حركة «أبناء البلد» إلى «لجنة الدفاع عن الأراضي» منذ تشكلت عام 1975، وساندتها، والتزمت قراراتها ونهجها، واعتبرتها «قفزة نوعية في حياة جماهيرنا العربية»[40]، لكن موقف الحركة لم يخْلُ من النقد، واتهام اللجنة بالقصور في قضايا الأرض المختلفة[41].

في الوقت نفسه، تسبب ضعف لجنة الدفاع عن الأراضي وتضاؤل دورها السياسي والاجتماعي في فقدان «أبناء البلد» أحد أهم أدوات النضال التي امتلكتها. ويعتبر النجاح الذي حققته الحركة في السيطرة على لجان الطلاب في الجامعات الإسرائيلية أهم إنجازاتها السياسية منذ نشوئها (وبخاصة سيطرتها على لجنة الطلاب العرب في القدس ما بين عامي 1975 و 1978 ثم بين عامي 1980 و1984. وبعدها كانت تدخل في تحالفات مع قوائم أخرى في معظم الجامعات). إلّا أن هذا النجاح كان معنوياً، ولم يزوّد الحركة بقوة تأثير في الساحة السياسية.

ثالثاً: مرحلة 1988 ـ 2000: التحديات والانشقاق الثاني

صبغ المرحلة الثالثة في تاريخ «أبناء البلد» تسارع الأحداث والتطورات التاريخية في تسعينيات القرن العشرين، إذ اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية عام 1987، تلاها القرار الفلسطيني بإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة (1988)، وانهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية (1989 ـ 1990)، وحرب الخليج (1991)، وتوقيع اتفاقية المبادئ المعروفة باتفاقية أوسلو (1993)، وقيام السلطة الفلسطينية. وعلى المستوى المحلي، برز ظهور الحزب الديمقراطي العربي عام 1988 وغياب القائمة التقدمية والحركة التقدمية عن الساحة السياسية (منذ انتخابات عام 1992).

اعتبرت حركة «أبناء البلد» اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، عام 1987، تأكيداً لصحة فكرها وموقفها[42]، لكنها اعترفت بالواقع الخاص للفلسطينيين في إسرائيل[43]. أما مساهمتها في دعم الانتفاضة، فلم تتجاوز المساعدات المادية، والتظاهرات، والإضرابات[44].

أعلنت الحركة عن قبولها بإقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967‏[45]، كحل مرحلي «… يسرع في إقامة المجتمع الديمقراطي…»[46]. أما الآلية لتحقيق هذا الحل، فهي المؤتمر الدولي باشتراك منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني[47].

أخذت الحركة في طرح موضوع المؤتمر الدولي بشكل جدي ولكنها، في الوقت نفسه، اعتبرته مجرد شعار[48]، وهو «يشكل شعاراً نضالياً يجب دعمه وبوصفه يتضمن رداً على كل المشاريع الإمبريالية ـ الصهيونية الرجعية»[49].

بغض النظر عن اعتبارها هذا الحل مرحلياً، فلا بد من الملاحظة أن الموافقة عليه تعكس تحولاً ليس قليلاً ولا سطحياً في الموقف من الإسرائيليين ودولة إسرائيل. فتصريح سكرتير الحركة، رجا إغباريه، في مقابلة مع صحيفة هآرتس يتضمن الاعتراف بأن هناك شعباً إسرائيلياً «نحن نؤيد إقامة دولتين للشعبين»[50].

أكّدت الحركة أن حل الدولتين هو حل مرحلي لأن جوهر الصراع، من وجهة نظرها، لم يتغير[51]؛ فهو صراع قومي ولكن الحركة اعتبرت الصراع الطبقي أيضاً عنصراً مهماً في المواجهة مع المؤسسة الإسرائيلية[52].

بسبب المزج بين مركبي الصراع (القومي والطبقي)، دعت حركة «أبناء البلد» إلى تشكيل النقابات المهنية على أساس قومي[53]. لكنها، في الوقت نفسه، وافقت على الانخراط في فعاليات، بل ودعم منظمات غير عربية. فمثلاً، بدأت الحركة تؤكد ضرورة المشاركة في انتخابات نقابة الطلاب العامة ودعم حركة «كامبوس» الطلابية اليسارية (1991)[54]. كما طرح «أبناء البلد» وسيلتين للعمل: التعاون مع القوى الديمقراطية في الشارع اليهودي، وصوغ وبناء الهيئات والمؤسسات الوطنية ـ الثقافية والسياسية والاقتصادية ـ بقطاعاتها المختلفة[55]. إلا أنها طالبت أيضاً بتطوير أدوات نضال دائمة مثل تشكيل اللجان الشعبية[56]. عبرت هذه السلوكيات عن تحول ما نحو البراغماتية وصل إلى حد الموافقة على ضم عناصر يهودية في إطارها، رغم كونها حركة وطنية فلسطينية[57].

شاركت الحركة في فعاليات النضال اليومي من أجل تحسين الأوضاع المادية لأنه «لا يتعارض مع نضال شعبنا الفلسطيني في الخارج»[58]، كما أنه وسيلة للبقاء في الوطن[59]. إلا أن الحركة استمرت في التأكيد أن قضية الفلسطينيين في إسرائيل بالذات هي المحافظة على الهوية القومية. وبذلك حاولت الحركة الجمع بين الانغماس في قضايا شعبها اليومية والرؤية السياسية أو المشروع السياسي الذي نادت به. ومن الواضح أن هذه المواقف في واقع سياسي معقّد تنطوي على بعض التناقض.

بعد انهيار المعسكر الشرقي وحرب الخليج الثانية ونتائجها، شعر «أبناء البلد» بعزلة تامة في مواجهة المؤسسة الإسرائيلية بسبب موقفها المؤيد للعراق[60]، وهي الوحيدة التي عارضت بشدة الهجرة اليهودية من روسيا إلى إسرائيل[61]، التي بدأت في إثر انهيار الاتحاد السوفياتي.

نتيجة لذلك، اتجهت الحركة نحو التحالف مع القوى السياسية الفلسطينية في إسرائيل[62] وعلى رأسها الحزب الشيوعي[63]. من هنا، أضافت الحركة إلى فكرها السياسي مسألة التعددية السياسية[64]. إلا أنها وجّهت نقداً لاذعاً للحزب متهمة إياه بالعجز عن «فهم طبيعة الصراع وعدم قدرته على تحديد موقعه منه»[65]، وأنه ساهم في تثبيط عزيمة الجماهير[66].

وكانت «أبناء البلد» بدأت تميّز بين «الحركة التقدمية» و«القائمة التقدمية للسلام»[67]؛ فالأولى، تضم «الكثير من الكوادر الوطنية… ذات تراث وطني مشرف»[68]. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت الحركة التقدمية حليفاً جديداً في مواجهة «الخطر الجديد» المتمثل بالحزب الديمقراطي العربي، الذي أسس عام 1988.

أثارت «أبناء البلد» الشك في أن إقامة الحزب الديمقراطي العربي هي تكتيك من جانب حزب العمل للحصول على الأصوات العربية[69]، وأن إقامة الحزب هي وسيلة سلطوية لضرب وإضعاف وحدة الهيئات التمثيلية العربية[70].

كذلك وقفت حركة «أبناء البلد» موقفاً معادياً ومتشدداً من الحركة الإسلامية بوصفها «امتداداً للإخوان المسلمين في مصر التي أقيمت بهدف خدمة الاستعمار والأنظمة العربية الرجعية…»[71]، وأنها «من نتاج سياسة السلطة الإسرائيلية بغرض ضرب التيارات السياسية الوطنية…»[72].

رغم تحول غايات نضال حركة «أبناء البلد» فإنها بقيت متميِّزة عن الحركات السياسية الفلسطينية واليهودية ـ العربية المشتركة: أولاً، لأنها ترى حل قضية اللاجئين في عودتهم إلى الوطن فقط، وليس الاختيار بين العودة أو التعويض؛ وثانياً، اعتبار إقامة دولة فلسطينية حلاً مرحلياً فقط؛ وثالثاً، مقاطعة انتخابات الكنيست.

لكن موقف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الداعم للمشاركة في الانتخابات، وحقيقة أن وثيقة الاستقلال الفلسطينية واتفاق أوسلو الذي قبلت به قد استثنت الفلسطينيين في إسرائيل من الحل الوطني، شكّلا ضغطاً وإرباكاً للحركة؛ من هنا، بدأت الحركة تتجنب الاحتكاك بالحركات السياسية والأحزاب المشاركة في الانتخابات[73]، ورفعت شعار «كنس الشارع العربي من الأحزاب الصهيونية»[74]. أي أن هذه الدعوة لم تشمل مقاطعة الجبهة الديمقراطية للسلام ولا الحركة التقدمية[75]، بل إنها بادرت إلى إقامة جبهات سياسية مشتركة معهما، وبخاصة في انتخابات لجان الطلاب العرب في الجامعات. كما أنها بدأت بمراجعة مبادئها ومواقفها مراجعة جذرية[76]. وقد طرحت مشروعاً للمشاركة في الانتخابات في إطار تحالف من «قوى ديمقراطية ووطنية ثورية» على قاعدة برنامجية ثورية، ترفض يهودية الدولة و«مطالبة اليهود بالاعتراف بالعرب كأقلية قومية…»[77].

شكّل طرح فكرة المشاركة في الانتخابات وتعريف الفلسطينيين في إسرائيل كأقلية قومية تحولاً عميقاً في فكر «أبناء البلد». بالمقابل، استمرت «أبناء البلد» في مقاطعة انتخابات الهستدروت، ولكنها وافقت على المشاركة في انتخابات مجالس العمال والنقابات المهنية[78].

وقد أربك هذا التناقض، بين الاستمرار في تأكيد أن الصراع القومي هو الأساس، وبين الاعتراف بالواقع والسلوك حسب ما يمليه عليهم هذا الواقع، «أبناء البلد» أنفسهم وأدخلهم في مواقف صعبة، كما سنرى لاحقاً، ولكنه فرض نفسه أيضاً على أساليب نضالهم وعلاقاتهم بالتنظيمات السياسية الأخرى. فقد شاركت الحركة في الفعاليات التي كانت تهدف إلى الاحتجاج ورفع مطالب يومية، إلّا أنها طالبت بتطوير أدوات نضال دائمة مثل تشكيل اللجان الشعبية[79]. واستندت مشاركتها في النضال اليومي إلى إدراك أنه «لا يتعارض مع نضال شعبنا الفلسطيني في الخارج»[80]. كما أنه نضال في سبيل تحسين الأوضاع المادية مؤقتاً لحين إحداث التغيير الجوهري الذي يتوق إليه «أبناء البلد» وهو «إحداث تغيير جذري في البناء الاقتصادي والاجتماعي وإعادة بناء الاقتصاد على أسس الاشتراكية العلمية من أجل رفاهية المجتمع»[81]. فوق كل هذا، تعتبر الحركة أن الاهتمام بالقضايا اليومية للفلسطينيين في إسرائيل ليست لأنها هدف بحد ذاته، وإنما أيضاً كوسيلة للبقاء في الوطن[82]. وبذلك حاولت الحركة الجمع بين الانغماس في قضايا شعبها اليومية وبين الرؤية السياسية أو المشروع السياسي الذي نادت به.

في سبيل تحقيق المطالب العينية للفلسطينيين، طرح «أبناء البلد» وسيلتين للعمل: التعاون مع القوى الديمقراطية في الشارع اليهودي وصوغ وبناء الهيئات والمؤسسات الوطنية ـ الثقافية والسياسية والاقتصادية ـ بمختلف قطاعاتها[83].

في عام 1995، انضم عدد كبير من قيادات الحركة وكوادرها إلى مجموعة من التنظيمات السياسية في تأسيس حزب «التجمع الوطني الديمقراطي» مع استمرار النقاش داخل الحركة حول المشاركة في الانتخابات أو المقاطعة. وفي بداية عام 1998، أصدر التيار المعارض للمشاركة في الانتخابات بياناً أكد أن المواقف المبدئية للحركة تتعارض جوهرياً مع البرنامج الانتخابي للتجمع الوطني، وبخاصة شعار «دولة جميع مواطنيها»[84]. احتد النقاش بين الطرفين عشية انتخابات الكنيست الرابعة عشرة 1999‏[85]، ثم أقر المكتب السياسي وقف العلاقة مع التجمع الوطني الديمقراطي، والإعلان عن «إقامة جبهة وطنية غير برلمانية والدعوة إلى مقاطعة انتخابات الكنيست الإسرائيلي»[86].

كانت عودة التيار المركزي إلى تبني مبادئ الحركة الأولية من جديد إيذاناً بانشقاق ثانٍ انخرطت بموجبه قوى أساسية في الحركة في إطار التجمع الوطني، بينما بدأ الجزء الباقي من الحركة مرحلة جديدة من تطوره، بدأت مع انعقاد مؤتمر عام 2000.

رابعاً: مرحلة مؤتمر 2000:
عودة إلى الجذور والتوجه إلى القومي

عقدت الحركة مؤتمراً عاماً، في آب/أغسطس عام 2000، أقرت فيه برنامجاً سياسياً استعادت فيه مبادئها الأصلية فكراً وممارسة. أكد البيان المنبثق من المؤتمر التمسك بـ «المبادئ والثوابت الوطنية غير القابلة للتفريط»[87]، وعلى رأسها وحدة القضية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني «في الحرية والاستقلال والعودة، وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشريف» (البند 8). كما أكد أن الحل هو: «… إقامة الدولة الديمقراطية في فلسطين التاريخية وإشاعة الديمقراطية في الوطن العربي تأسيساً لبناء المجتمع الديمقراطي العربي الموحد» (البند 9).

نلاحظ هنا تجديداً في مبادئ «أبناء البلد»، إذ إنها تضيف إلى المطالبة بإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية بعداً قومياً عربياً يطالب بإشاعة الديمقراطية في البلدان العربية سبيلاً إلى الوحدة العربية. ويعكس هذا التغيير الانفتاح المتزايد للنخب والجماهير الفلسطينية في إسرائيل على ما يحدث في الوطن العربي بسبب تعزيز التواصل، وخصوصاً منذ أواسط التسعينيات.

يعرّف البرنامج حركة «أبناء البلد» بأنها «… تشكل امتداداً طبيعياً للحركة الوطنية الفلسطينية وتعبيراً صادقاً عن الانتماء الوطني والقومي لجماهيرنا العربية الفلسطينية في الداخل…» (البند 15)، ويؤكد عودتها إلى رفض الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، ويصرّح بأنّ «حجر الزاوية في الاندماج أو عدمه هو دخول البرلمان الصهيوني، أو عدم دخوله» (البند 16). وبدلاً من الاندماج تطالب الحركة بـ «بناء مؤسسات وطنية، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وتعزيز دور المؤسسات والهيئات القائمة حالياً، والانخراط فيها من أجل الوصول إلى حالة من الاستقلالية الخاصة بالجماهير العربية… (أي تحقيق الحكم الذاتي السكاني الشامل، بكل تبعاته واستحقاقاته)».

وهنا يطرح البرنامج مسألة انتخاب هذه الهيئات والمؤسسات، وبخاصة الهيئات السياسية وعلى رأسها لجنة المتابعة العليا (البند الرابع). كما أكدت الحركة المطالبة باستعادة الأراضي التي صودرت، وحق المهجّرين في وطنهم بالعودة إلى قراهم ومدنهم وتعويضهم (البندان السادس والسابع). يلفت في هذا البيان التشديد على «المهجرين في وطنهم»، وكذلك المطالبة بعودتهم وتعويضهم وليس عودتهم أو تعويضهم، بينما كانت الحركة تدرج هذه المطالبة ضمن حق العودة لكل اللاجئين الفلسطينيين.

كرّس انعقاد مؤتمر عام 2000 انقسام الحركة عملياً إلى شقين: الشق الذي انضمّ إلى التجمع الوطني والذي عدّ منشقاً عن الحركة، والشق الذي عقد المؤتمر عام 2000 واعتبر نفسه التيار المركزي الذي يواصل مسيرة الحركة.

بقي موقف الحركة ثابتاً تجاه مقاطعة انتخابات الكنيست. وبدءاً من انتخابات عام 2003، تشكلت «الحركة الشعبية لمقاطعة الانتخابات»[88].

في انتخابات 2006، أضافت الحركة إلى أسباب المقاطعة الأيديولوجية، وبتأثير تحالفها مع قوى تقاطع الانتخابات على أسس غير مبدئية، تفسيرات براغماتية يمكن تلخيصها في عدم القدرة على التأثير من خلال العمل البرلماني[89]. في الوقت نفسه، دعت الحركة إلى «كنس الأحزاب الصهيونية من الشارع العربي»[90]. واستمرت في المقاطعة في انتخابات عام 2009‏[91] وانتخابات الكنيست التاسعة عشرة في كانون الثاني/يناير 2013‏[92]. كما دعت «كل الأحزاب العربية للحفاظ على الروح الأخوية الديمقراطية خلال هذه المعارك، ولنتوحّد في كنس الأحزاب الصهيونية من الشارع العربي»[93].

1 ـ المؤتمر العام لحركة «أبناء البلد» 2006

تزامناً مع عقد مؤتمر الحركة في نهاية عام 2006، نشرت ورقة عمل مطولة شملت تقييماً موسعاً لنشاطها احتوى نقداً ذاتياً وتوصيفاً للأوضاع والتطورات في العالم والشرق الأوسط؛ وفيها طرحت مشروع «تحالف القوى الاشتراكية والإسلامية المناهضة للإمبريالية»[94]. واللافت هنا طرح التحالف بين القوى الاشتراكية والإسلامية، علماً أن الحركة تدعو إلى إقامة دولة علمانية، إضافة إلى أنها كانت قد اتهمت الحركة الإسلامية في إسرائيل بأنها من نتاج سياسة السلطة الإسرائيلية بغرض ضرب التيارات السياسية الوطنية والفكر الديمقراطي الثوري.

ورأت الحركة أن أفضل السبل للنضال الشعبي هي «اللجان الشعبية»، وإعادة هيكلة المؤسسات العربية، وانتخاب لجنة المتابعة العربية. كما طرحت برنامج «الإدارة الذاتية» من دون أن تتنازل عن إقامة الدولة العلمانية الديمقراطية. فقد بدأت نشاطات وفعاليات خاصة بتأكيد حق العودة: عام 2008 عقدت «مؤتمر حيفا لأجل حق العودة والدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين»[95]، وشاركت في «إعلان ميونيخ لأجل إقامة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية»[96]. ونص البيان على إقامة الدولة الديمقراطية الواحدة في كامل أراضي فلسطين التاريخية ما بين البحر المتوسط ونهر الأردن كدولة واحدة ينتمي إليها جميع مواطنيها، وعودة اللاجئين الفلسطينيين واستعادة الممتلكات الخاصة بهم وترتيبات العودة والتعويض، والفصل بين الدين والدولة.

2 ـ حركة «أبناء البلد» والثورات العربية

تكررت الأزمة الأيديولوجية والسياسية التي عانتها حركة أبناء البلد في الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتوقيع اتفاقات أوسلو مع اندلاع الثورات في عدد من البلدان العربية. فقد وجدت نفسها في حالة تناقض صارخ بين مبادئها العالمية الشاملة (ديمقراطية وعلمانية، مواطنة متساوية) وبين انتمائها القومي: أصدرت الحركة بياناً يدعم الثورة في تونس[97]، مطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية في الوطن العربي، وكررت موقفها هذا بوضوح في بيان تأييد الثورة في مصر[98].

بينما انقسمت الحركة على نفسها، في حالة الثورة في سورية، بين تيار مؤيد للثورة وآخر مؤيد للنظام. وأصدرت الحركة بياناً حضت فيه جميع الوطنيين والشرفاء من أبناء الشعب السوري على دعم النظام[99]، إلا أنها اعترفت بوجود خلاف داخلها، لذلك أقرت أيضاً احترام الاجتهاد الفردي… وذلك نظراً إلى اختلاط المفاهيم والأوراق. يلاحظ هنا التناقض بين التطلع إلى إشاعة الديمقراطية في الوطن العربي وبين دعم الجزء المؤيد للنظام الحاكم في سورية لأسباب تتعلق بكونه نظام «ممانعة» ودعمه لمنظمات المقاومة. بعد نحو عام من اندلاع الثورة في سورية عادت الحركة بهيئتها الموسعة وأكدت موقفها الداعم للنظام[100].

رغم هذا الموقف، من قبل الهيئة الموسعة الموحدة، أقرت أيضاً احترام الاجتهاد الفردي لأي رفيق من رفاق حركة أبناء البلد، وذلك نظراً إلى اختلاط المفاهيم والأوراق، الأمر الذي يستدعي ممارسة التعددية الداخلية وليس التغني بها فقط. يمس الاعتراف بالاجتهاد وبالاختلاف هنا واحداً من أهم عناصر فكرها السياسي كحركة أيديولوجية، ذلك لأن الحركات الأيديولوجية تكون موحدة في المواقف من القضايا الحساسة والخلاف حولها يمكن أن يؤدي إلى الانشقاق، كما حدث للحركة نفسها مرتين بسبب الموقف من الانتخابات البرلمانية. من جهة أخرى نجد أن الطرف الثاني المؤيد للثورة شارك مع 28 حركة وحزب وشخصية في الوطن العربي في نشر بيان تضامن مع الثورة[101] من الخليج العربي إلى الشام ووادي النيل والمغرب العربي ـ الشعوب تتضامن مع سورية. ثم نشر باسم الحركة بياناً «دعماً للثورة السوريّة ولاجئي مخيّم اليرموك»[102].

يعكس هذا الخلاف بين تيارين في حركة «أبناء البلد» درجة الصعوبة من الاستمرار في اتباع توجهات فكرية، أيديولوجية وسياسية، تجمع بين القيم والمبادئ العالمية من جهة، وبين القيم والمبادئ القومية/الوطنية الخاصة التي تغلِّب الجمعانية على مركزية الفرد، من جهة أخرى. وتبرز هذه الصعوبة بخاصة في أوقات الأزمة التي تفجر التناقض وتجعل التعايش بين منظومتي القيم مستحيلاً.

3 ـ إعادة اللحمة إلى الحركة

رغم الخلافات بين شقَّي الحركة منذ عام 2000، ورغم الخلاف حول الموقف من الثورات العربية، عقدت «أبناء البلد»، بتاريخ 22/12/2012، مؤتمرها الوطني الاستثنائي السابع تحت شعار «الوحدة وإعادة البناء»[103]؛ كرر المؤتمر مواقف «أبناء البلد» نفسها من عامي 2000 و2006. أما التجديد الأساسي في قرارات المؤتمر فهو الإعلان عن إعادة التوحيد بعد بعض الانشقاقات التي حصلت داخل الجزء الذي لم يدخل حزب التجمع، واعتبار المؤتمر دورته السابعة دورة تأسيسية جديدة. في بداية المرحلة الجديدة، سجلت حركة «أبناء البلد» تطوراً جديداً على مواقفها بالمطالبة بتمثيل الفلسطينيين في إسرائيل في منظمة التحرير الفلسطينية بعد إعادة هيكلتها[104]. مع انعقاد المؤتمر السابع وتوحيد الحركة، تكون «أبناء البلد» قد طوت صفحة من تاريخها وبدأت صفحة جديدة دشنتها بداية عام 2013.

خاتمة

تشير دراسة تطور حركة «أبناء البلد» خلال مدة أربعين عاماً (1972 ـ 2012) إلى أنها عرفت تحولات في أربعة مستويات: التنظيم، والأيديولوجيا العامة، والمواقف السياسية، والممارسة العملية.

حددت الحركة هويتها السياسية بصفتها تشكل رافداً من روافد الحركة الوطنية الفلسطينية، وأصرت على بقاء ملف عام 1948 مفتوحاً، واستمرت في عرض حلٍ أساسه إقامة مجتمع (أو دولة) علماني ديمقراطي يضمن الحل الأمثل لليهود والفلسطينيين على السواء. بناء على ذلك، رفضت الحركة اندماج الفلسطينيين في إسرائيل، وترجمت موقفها إلى سياسة مقاطعة انتخابات الكنيست، واتبعت سياسات الهوية متجاهلة، إلى حد بعيد، القضايا المعيشية اليومية، رغم وضوح الصورة تاريخياً أن الجمهور الفلسطيني في إسرائيل، وإن كان على استعداد للبذل والعطاء والتضحية في سبيل تحقيق الأماني الوطنية للشعب الفلسطيني، فهو لم يكن يوماً على استعداد أن يتجاهل بشكل مطلق قضاياه المعيشية اليومية؛ لا بل إن هذا الجمهور اعتبر دائماً معالجة هذه القضايا وتحسين أوضاعه الاقتصادية والصحية والاجتماعية ورفع مستوى تعليم أبنائه وثقافتهم هو النضال الوطني بعينه وهو الكفيل بتحقيق الغايات والأماني الوطنية على المدى البعيد.

تبرز دراستنا معضلة «أبناء البلد» المتمثلة بثلاثة مستويات: الأول، تبني الفكر القومي والوطني، والتقليل من أهمية القضايا المعيشية الذي أدى إلى عزلتها وعدم انتشارها. الثاني، التناقض بين أيديولوجيتها وسلوكها في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وكذلك مواقف القيادة الفلسطينية متمثلة بتوقيع اتفاقيات أوسلو. الثالث، تناقض صارخ بين مبادئها العالمية الشاملة وانتمائها القومي الذي احتد مع اندلاع الثورات في عدد من الدول العربية.

لذلك، يمكن تلخيص تاريخ حركة «أبناء البلد» بأنه مسيرة من المراوحة بين القيم العالمية الشاملة، والأيديولوجيا الوطنية والقومية الرافضة للواقع من جهة، والاعتراف بخصوصية واقع الفلسطينيين في إسرائيل، من جهة ثانية.

تظهر الدراسة، وربما بسبب هذه الإشكالية البنيوية، حقيقة أن التيارات الوطنية والقومية، التي لم تجد التوليفة المناسبة بين الفكر القومي والوطني، من جهة، ومتطلبات الواقع من جهة ثانية، وعلى رأسها حركة «أبناء البلد»، لم تستطع، حتى في قمة تطورها، أن تحظى بشعبية بين الجمهور الفلسطيني أو أن تحقق إنجازات بارزة على المستوى المحلي أو القطري أو على المستوى الفلسطيني والعربي.

 

للمزيد من المواضيع ذات الصلة، اضغطوا على الرابط التالي:  سنة على مسيرات العودة الكبرى