تتّبع هذه الدراسة الإسهامات الرئيسية في تطور ونشأة سياسات الصحة العامة في الوطن العربي. وعند القيام بذلك، تبزغ عدة أفكار رئيسية من بين أخرى كثيرة؛ من مثل: تأثير الاستعمار والمواجهة مع الطب الغربي، وعلاقة الصحة العامة ببناء الدولة ومشروع التحديث، ودور مهنة الطب، وكذلك التغيير في السياسات تبعاً لتغيير الواقع السياسي والاقتصادي. ونعتزم تطوير هذه الأفكار الرئيسية وإظهار تفاعلاتها المعقّدة التي تصيب أسس الصحة العامة الحديثة.

وسوف نحاول أن نبرهن أن الصحة العامة كانت أداة رئيسية في مشروع التحديث (الذي نُظِر إليه كمشروع فكري واجتماعي ـ سياسي) الذي ظهر في أواخر عهد الدولة العثمانية، وخضع بعدها لاهتمامات ومصالح القوى الاستعمارية. وقد اعتمدت البلدان العربية المستقلة حديثاً، على تعزيز «التقدم» الاجتماعي، وتأمين الحصول على منافع التطور التي احتلت فيها الصحة مكان القلب من الجسد، كأساس للشرعية، وهو ما تُرجم في تمويل النظام الصحي، وتنظيم بنيته العضوية، وتثقيف وتنظيم وتوظيف واسع النطاق للعاملين الصحيين. وسنركز على مهنة الطب، حيث أدت دوراً مركزياً في مشروعات الصحة العامة والتحديث على السواء. واكتسب الأطباء ـ كمناصرين للصحة ـ احتراماً عظيماً يليق بمسؤولياتهم وعلاقتهم بالدولة وخياراتهم السياسية.

أولاً: المقاربة

الصحة والمرض مفهومان محدَّدان اجتماعياً، يختلفان بحسب الزمان والمكان اعتماداً على خبرات وممارسات وتصوّرات الفئات الاجتماعية والمهنية، بما فيها الأطباء[1]. وهذه المفاهيم مفيدة في رصد التغير الاجتماعي[2]. وقد دَرست البحوث في الكثير من البلدان الصناعية التصورات عن الصحة والمرض، وتنظيم النظم الصحية، وإدارة المستشفيات، والممارسة الطبية، والعلاقات المتبادلة بين المهنيين الصحيين والمرضى والحكومات، وبيَّن العمل الذي قام به فوكو دور الطب في المجتمع، واعتبر الجسم أداة للقوة[3].

وتبقى البحوث المتعلقة بتاريخ وعلم اجتماع الصحة والطب محدودة في الوطن العربي. ففي الوقت الذي اهتم فيه مؤرخو العلوم بالطب العربي في القرون الوسطى، حظي تاريخ الصحة العامة الحديثة في المنطقة باهتمام أقل. فقد درس الباحثون الأوبئة[4] والتغيرات التي شهدتها الممارسة الطبية خلال القرن التاسع عشر[5]، وأثناء حقبة الاستعمار[6] وفي القرن العشرين[7]، وحاولت كتب ودراسات بحثية أخرى عديدة  ملء الفجوات. ويبني هذا الفصل على الأعمال السابقة لتقديم نظرة اجتماعية ـ تاريخية للعمليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أثَّرت في الصحة وتطور الصحة العامة في الوطن العربي إلى حدٍ كبير، وهذا ما أدى بنا إلى التعرّف إلى عدة عصور متمايزة ـ لكنها متداخلة في ما بينها أكثر مما هي منفصلة عن بعضها البعض ـ والتعرّف إلى العمليات المتقابلة فيها.

حاول المؤرخون أن يبرهنوا ـ وربما كانوا على حق ـ أن الصحة العامة الحديثة لها بذور تاريخية قديمة في الوطن العربي، شأنها في ذلك شأن مناطق وثقافات أخرى[8]. ومن الواضح أن هذا الأمر يتعلق بالتعريف الذي نختاره للصحة العامة. فعلى سبيل المثال، في وقت مبكر من الحضارة العربية الإسلامية، تم التعامل مع الكوارث ـ في جزئها المتعلق بالصحة العامة ـ بشكل جيد، وشهدت النظم الصحية إبان ازدهار الإمبراطورية العربية الإسلامية تطوراً مناسباً، شمل وجود مستشفيات لعلاج المرضى العقليين (بيماريستانات)، والإدارة الصحية للأماكن العامة. وبدت مبادئ العدالة الاجتماعية وحق الجميع في الحماية مصانة في جميع الشرائع الدينية والبنى التنظيمية في المنطقة.

ومع إدراكنا لأهمية هذه البذور التاريخية، فإن تحليلنا يعتمد على رؤية الصحة العامة كتطور حديث، نشأ أساساً كَرَدِّ فعل على المشكلات الصحية المترافقة مع التحضر والتصنيع في أوروبا في القرن التاسع عشر، وبذلك تجذَّر في حركات الإصلاح الاجتماعي ونشوء الدول الحديثة. كما تطورت الصحة العامة في الوطن العربي متناسبة مع القوى الأوروبية والصحة العامة لديهم، وأحياناً متعارضة معها.

حاول كامو ورفقاؤه[9] أن يبرهنوا أن الصحة العامة كـ «نظام ذي أدوار محددة، هو سمة من سمات الدولة الحديثة». وقد أدى الطب والمهنة الطبية دوراً مركزياً بالنسبة إلى الصحة العامة الناشئة، حيث وضعت الثورة الفرنسية الطب في خدمة رؤيتها المثالية لاستئصال الأمراض البشرية التي أفرزها مجتمع غير عادل، وهو ما أدى، بحسب ما لاحظ فوكو[10]، إلى «ميلاد خرافتين كبيرتين: خرافة مهنة الطب الوطنية والمنظمة كرجال الدين، وخرافة الاختفاء الشامل للأمراض»، مع مجتمع «يصلح نفسه بالعودة إلى صحته الأصلية»[11]؛ ولذلك كان هناك دائماً بُعد سياسي لمهام الأطباء.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، أَجبرت الظروف البيئية السيئة وتزايدُ الفقر في المناطق الحضرية الحكوماتِ على التدخل لمنع الأوبئة وتحسين الظروف الصحية، من خلال تعزيز الصحة العامة وإجراءات التخطيط المدني. وقد عُرِّفت الصحة العامة بتعاريف مختلفة، مثل تعزيز الصحة البيئية، وعلم الطب الوقائي، وتعزيز الصحة الإيجابية[12]. وكلَّفت الدولة فِرَقَ عمل صحية، أغلبُ أفرادها من الأطباء، مع مهنيين آخرين، مثل مفتشي العمل والمهندسين[13]، لتنفيذ تدابير ترمي إلى حماية الصحة العامة، وتلبّي في الوقت ذاته أهدافاً متعددة: اقتصادية (الحفاظ على قوى عاملة تتمتع بالصحة)، وسياسية (الحفاظ على النظام المدني)، واجتماعية (تعزيز العافية)، واستعمارية (السيطرة على المستعمرات)، وكان الهدف الأخير ـ كما سنناقش لاحقاً ـ سمة مهمة من سمات مقاومة العرب للنزعة الاستعمارية الغربية، ووجهاً محدداً لتطوير الصحة العامة في المنطقة.

وهنا يجدر التنبيه إلى أنه على الرغم من أن البلدان العربية تشترك في الاتجاهات العامة للعلاقات بين مشاريع الدولة، وتوقعات المواطنين وسلوكياتهم، والاهتمامات المهنية، فإن كل بلد من هذه البلدان قد حدّد بالتوازي سبيله الخاص به. ولن نتطرق إلى كل البلدان العربية، لكننا سنسعى ـ بدلاً من ذلك ـ إلى إظهار كيفية تطور هذه العلاقات، من خلال سرد أمثلة استناداً إلى البيانات المتوافرة.

ثانياً: الصحة والطب في إصلاحات القرن التاسع عشر

واجهت كل من الإمبراطورية العثمانية ومصر تحت حكم محمد علي تغلغلاً اقتصادياً واستعمارياً من قِبل القوى الأوروبية، وقد حاولَتا ـ مدركتين «تخلفهما» ـ تدارك الأمر من خلال تطبيق سياسات إصلاحية تنازلية، مقتبستين تقنيات العلم الحديث الغربي. ففي مجال الصحة والطب، لم يؤدِ إدخال الطب الأوروبي إلى انفصال حاد عن التقاليد الراسخة، لأن الطبّيْن العربي والأوروبي من أصل واحد، هو الطب اليوناني القديم. وقد اعتمدت التصورات عن الجسم والمرض في الوطن العربي في بداية القرن التاسع عشر على نظرية «اعتدال الأمزجة والأخلاط» (Tempers)، التي لا تكاد تختلف عن تلك النظريات التي كانت سائدة في أوروبا إبّان النظام القديم (المعرَّف بأنه النظام الاجتماعي السياسي القديم قبل ثورات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا وإنشاء الدولة الوطنية الحديثة). وكان لدى الشعوب العربية عدد وافر من خيارات الرعاية الصحية، وكان الخيار المهيمن فيها هو الطب الشعبي، وهو شكل معدَّل من الطب العربي التقليدي (الكلاسيكي). وكان المرضى يتمتعون بحرية الاختيار والاستقلالية، لكن كان يُنظَر إلى المرض والرعاية الصحية على أنهما مسائل خاصة. لذلك كان لا بد لمشاركة الدولة المتزايدة في الصحة والشفاء أن تبدو كبدعة مطلقة.

لم تخطط السلطات العثمانية والمصرية بدايةً لتوفير خدمات صحية سكانية واسعة (ورغم أهمية ذلك في التعاليم الإسلامية، فقد أصبحت المستشفيات مجرد مؤسسات خيرية بدلاً من أن تكرّس إمكاناتها لفن الشفاء). وبدلاً من ذلك ركّزت السلطات أولاً على الإصلاحات الصحية والحجر الصحي لحماية الجيوش من الأوبئة. ودَعَمَ تأسيسُ كليات الطب في القاهرة وإسطنبول (1827) هذا النظام، حيث كان خريجو هذه الكليات يُستوعبون غالباً في الجيش. ودفع تسريح الجيش المصري بعد الهزيمة في سورية عام 1840 محمد علي إلى تعيين الأطباء العسكريين في مؤسسات مدنية، وبذلك وسَّع الاستفادة من الطب الحديث. ووضع كلوت بيه، وهو طبيب فرنسي أقام في مصر قرابة 40 عاماً، نظاماً مؤقتاً للرعاية الصحية يعمل بموجبه المتخرّجون في مدرسة الطب في القاهرة في مستشفيات مدن الأقاليم الكبرى، وينشرون قواعد حفظ الصحة البيئية ولقاح الجدري، بمساعدة الحلاقين غالباً.

وفي عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1876 ـ 1909) وسَّعت السلطات الرعاية الطبية وتدابير الصحة العامة في الأقاليم العربية، فزادت ـ على سبيل المثال ـ عدد المستشفيات على مستوى البلديات، وضاعفت وظائف أطباء الصحة المدنية، ومواقع عملهم، لتجنب الكوليرا والأوبئة المُعدية الأخرى التي تأتي بها السفن الأجنبية.

وخلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ظهرت المستشفيات المجتمعية التي أنشأها المبشّرون المسيحيون، وعزّزت هذه المستشفيات بشكل كبير توفير الرعاية الصحية، وخاصة في الجزء الجنوبي من بلاد الشام[14]، وبذلك يقدم المشرق الأصالة التي أدخلت الطب الحديث والصحة العامة من دون ضغط من قوة خارجية.

وبقيت محاربة الأوبئة القادمة من الخارج أولوية. فقد اختفى الطاعون من أوروبا لكنه كان متفشياً في جميع أرجاء الشرق حتى منتصف القرن التاسع عشر. ولم تكن الكوليرا متوطنة، لكن المنطقة شهدت عدة جائحات نتيجة التجارة الدولية مع الشرق منذ عام 1831. وفي محاولة لوقف الآثار المدمرة الناجمة عن الكوليرا ـ قبل كل شيء ـ أَسست المنظمة العثمانية ومحمد علي شبكةً من المستشفيات والمكاتب الصحية، المدارة من قبل موظفين محليين وممثلين قنصليين للقوى الغربية، كما استُخدمت تدابير الحجر الصحي على الحجاج على نطاق واسع من قبل البريطانيين في العراق والخليج حتى بداية القرن العشرين، وأُطلِق على هذه المؤسسات اسم الإدارة الصحية للإسكندرية والمجلس الصحي للقسطنطينية‏[15]. ولأن تدابير الحجر الصحي المحلية هذه أعاقت التجارة والملاحة، فقد عقدت القوى الغربية مؤتمرات صحية دولية لإعادة توجيه النظم الصحية لمصلحتها، حيث عُقِد منها اثنا عشر مؤتمراً من عام 1851 إلى عام 1938، ويمكن لهذه المؤتمرات أن تُعتبر المحاولة الأولى لوضع سياسة صحية دولية منسَّقة. وبحلول القرن العشرين، أدى الوضع المتقدم في إعداد تشريع صحي دولي، إلى اختفاء تدابير الحجر الصحي في أوروبا. لقد عاكس الانتشار العالمي لوباء الكوليرا الذي بدأ في موسم الحج في مكة في عام 1865 النبرة المتسامحة السابقة لهذه المؤتمرات، وقام بتوجيه تدابير أكثر شدة ضد «مجموعة الخطر»: الحجاج الدينيون؛ فأنشئت في الشرق عملية كبيرة للرقابة الصحية، مع مشاركة تامة من السلطتين العثمانية والمصرية من خلال المجالس الصحية المشتركة في الإسكندرية والقسطنطينية.

ثالثاً: السياسات الصحية الاستعمارية وتطبيب المجتمع

حدث الاستعمار الغربي للمنطقة العربية على مدار فترة طويلة، وقد بدأ في وقت مبكر، وبقي لمدة أطول في شمال أفريقيا، وبخاصة في الجزائر (احتلت عام 1832)، لكنه قَدِم بعد ذلك إلى بلاد الشام وبلاد الرافدين ومكث فيهما لمدة أقصر، حيث أصبحت تحت «الانتداب» بقرار من عصبة الأمم. إن الاستقلال الذي منحته بريطانيا لمصر (عام 1922) وللعراق (عام 1932) لم يحرر هذين البلدين من السيطرة الأجنبية، رغم ما ترتَّب على هذا الاستقلال من إعادة توجيه في السياسات الصحية والاجتماعية.

وقد تفاوتت آثار التدخلات الاستعمارية إلى حدّ كبير باختلاف المناطق والبلدان العربية، وتبعاً لخبرات التحديث في فترة ما قبل الاستعمار، وطبيعة وسياسات القوى الاستعمارية. لكن ـ في كل مكان ـ كانت السياسات الاجتماعية والصحية تحددها قبل كل شيء مصالح المستعمرين، الذين تَمثَّلت أولوياتهم بالتجارة وتصدير المنتجات الزراعية، وقد نُفِّذت هذه السياسات بطرق استبدادية، وأصبح تعزيز الصحة العامة وسيلة للسيطرة على شعب اعتبر متخلفاً وجاهلاً وخطراً[16].

1 ـ الفقر والموت والمرض: معاناة تفاقمت بالاستعمار

إن الظروف الصحية للشعوب المقهورة كانت بائسة. وإن الأمراض تختلف من منطقة إلى أخرى، لكن المعاناة عامة، فقد كان في مقدور المرء أن يجد في كل مكان كلاًّ من الأمراض المستوطنة ـ نتيجة سوء التغذية وقلة النظافة ـ والأمراض الوبائية، لكن الظروف لم تكن متماثلة، فعلى سبيل المثال: كانت الظروف الصحية في مصر أفضل، مقارنةً بمنطقة شمال أفريقيا، وذلك بفضل تطورات الصحة العامة في زمن محمد علي وخلفائه. وبحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر تراجعت الأوبئة، رغم استمرار الأمراض الشائعة ـ الإسهال، والتهاب الرئة ـ الناجمة عن نقص التغذية والفقر[17].

لقد جعل الاستعمار الأشياء أسوأ في كثير من البلدان. فبالإضافة إلى الوفيات والإعاقات نتيجة العنف المباشر، كان للكثير من السياسات الاستعمارية ـ مثل مصادرة أراضي الفلاحين وإعادة تنظيم الاقتصادات المحلية لتكون في خدمة الاقتصاد العالمي والمصالح الاستعمارية ـ عقابيل أليمة. كما عانت الاقتصادات الريفية الاضطراب، الأمر الذي دفع الكثير من السكان إلى النزوح ليعيشوا في المدن حياة غير مستقرة. وإن السياسات البريطانية التي استهدفت زيادة محاصيل القطن في مصر ـ كأساليب الري التي تجاهلت الممارسات القديمة جداً للتصريف المناسب ـ أدت إلى مشكلات صحية جديدة، حيث إن هذه الأساليب كانت تدعم تكاثر البعوض ومعه الملاريا[18]. كما أدت مشروعات «التنمية» مثل إنشاء الطرق[19] إلى المزيد من التحديات الوبائية في غياب التدابير الوقائية الجادة. لقد تجاهلت السياسات البريطانية الصحة العامة إلى حدٍ كبير ـ قبيل نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ـ عاكسةً سياسات الإمبراطورية في بريطانيا.

وتشكّل الجزائر الحالة الأكثر إيلاماً، إذ كانت الظروف الصحية ـ بعد عقدين من الاحتلال الفرنسي ـ يُرثَى لها (عندما اكتمل ما سمّي «إخماد الثورة»)، حيث فتكت أوبئة الجدري والكوليرا والتيفوس وأمراض الزهري والعين بالناس، كما أدى العنف في إخماد الثورة ومصادرة أراضي الفلاحين إلى مجاعة وجدب، مع ما تلاه من ضعف في المقاومة وانتشار الأوبئة.

2 ـ السياسات ذات الطابع الطبي

بينما كان الاستعمار مسؤولاً بشكل كبير عن زيادة تدهور الظروف الصحية ـ السيّئة أصلاً ـ فإن القوى الاستعمارية اتخذت تدابير معينة لتلطيف الظروف التي اعتُقد أنها الأكثر تهديداً للمشروع الاستعماري، وهي الأوبئة. كانت هذه التدابير تستند إلى السياسات الوعظية المرتبطة بالنظافة والتطبيب. كما وطّد اكتشاف الجراثيم، من سبعينيات القرن التاسع عشر فصاعداً، الأساس المنطقي للسيطرة على الأوبئة. وحال مصر توضح ذلك، فقد هدّدت الأوبئة الاقتصاد بعد أن فتكت بحياة أعداد كبيرة من المصريين. ولم تكن بريطانيا مهتمة برفع مستوى الخدمات الاجتماعية، بل فضَّلت السيطرة القمعية الهادفة إلى تحديد المخاطر والتعامل مع تهديدات الأوبئة. من ناحية ثانية، فقد تم تجاهل الأمراض الشائعة والمتفشية، مثل الأمراض المُعدِية المعوية والتنفسية والطفيلية بشكل كامل[20].

بيد أن الطب كان أكثر من مجرد أداة لمكافحة الأوبئة، فقد اعتُبر الطب وسيلة رائدة لتمدين السكان ـ إلى درجة أكبر من التعليم ـ وبدت تناقضات الاستعمار كلها واضحة جداً في هذا الدور المرسوم للطب. وقد فاقمت نظرة الازدراء إلى المواطنين الأصليين من قِبَل المستعمرين الطابعَ التأديبي للتدابير الصحية المفروضة على السكان المحليين، حتى دفعهم إلى القول إن «التمدن يُحقن كلقاح»[21]، فقاوم السكان المحليون التمنيع الجماعي والتدابير الوقائية الأخرى المترافقة مع السيطرة العسكرية والسياسية المَقيتة، لكنهم سرعان ما تبنّوا المعالجات الفردية، وأدركوا قدرات الأطباء المستعمرين على الشفاء، مظهرين انتقائية وواقعية في التعامل مع ما قدّمه المستعمر.

وفي مصر، ترافقت حملات التمنيع ضد الجدري مع برنامج التجنيد الإلزامي الذي نظر إليه المصريون نظرة مريبة، وأسيء فهم الطبيعة الوقائية للبرنامج. وبشكل مشابه، فرض المستعمرون الفرنسيون في الجزائر رؤيتهم الخاصة للتدابير الصحية بعد الاحتلال مباشرة، حيث تضمنت تدابير الصحة العامة أدوات قديمة هي النظافة، والعزل، والحجر الصحي، والتطعيم ضد الجدري. وتوقفت حملة التطعيم بعد عقد من انطلاقها في عام 1847، بسبب عدم كفاية التمويل من الحكومة الفرنسية، وعدم التعاون على المستوى المحلي، ثم استؤنفت الحملات على نطاق أوسع في سبعينيات القرن التاسع عشر، بعد نجاح المستعمرين الفرنسيين في قمع الانتفاضات. وفي العراق ـ كما في الكثير من البلدان العربية ـ وُضعت الصحة العامة بشكل رئيسي تحت رعاية وزارة الداخلية، الأمر الذي يعني ارتباط الأعمال الصحية بالأمن. ولم يصبح تعزيز صحة السكان همّاً رئيسياً للحكومة إلا مع استقلال العراق وإنشاء وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية في ثلاثينيات القرن العشرين[22].

إضافة إلى تدابير الصحة العامة، أُدخِلت الرعاية العلاجية ذات النمط الغربي على نطاقات مختلفة، بهدف كسب قلوب السكان المحليين وعقولهم[23]. ولم يتردّد المصريون والجزائريون في الحصول على الأدوية الغربية التي اعتُبرت فعالة ضد نوبات الملاريا أو الرَّمَد، لكن الممارسات العلاجية بقيت هامشية نتيجة النقص المتفشي في الرعاية الصحية، والذي يفاقمه نقص عدد الأطباء.

رابعاً: ميلاد مهنة الطب

في ظل الاستعمار، كان الأطباء يُعتبرون وسيلة من وسائل التمدن، ومع ذلك، سرعان ما أدى توطيد مهنة الطب في أوساط السكان الأصليين إلى المواجهة مع القواعد والممارسات الاستعمارية، وكَشفت هذه المواجهة ـ على تفاوت بين البلدان المختلفة ـ الروابط الوثيقة بين الطب والصحة العامة والمشروع الوطني.

في بداية القرن التاسع عشر، كانت الممارسات الطبية في أوروبا والإمبراطورية العثمانية متشابهة إلى حدّ ما، لكن الأسس المفاهيمية التي استندت إليها هذه الممارسات كانت مختلفة، إذ اعتمد الأطباء الأوروبيون على الطرق التجريبية لتحليل أسباب الأمراض، في حين ركَّز الأطباء المسلمون على الملاحظات التي تستند إلى الملاحظات الإمبريقية‏[24]. ومثَّل الأطباء الأوروبيون الذين دخلوا قصور الخلفاء العثمانيين ـ ابتداءً من القرن الثامن عشر ـ المصالح الغربية، وخاصة مصالح التجار، مدافعين عن أهمية دور الصحة في تطوير التجارة. وفي بلاد المغرب، بقي الطب الحديث مدة طويلة حكراً على الأطباء الأوروبيين، فقد أنشئت أول مدرسة للطب في الجزائر العاصمة عام 1857، ومُنح عدد ضئيل فقط من السكان المحليين امتياز دخول هذه المدرسة، وكان ذلك في أواخر القرن التاسع عشر.

وعلى العكس من ذلك، فقد أنشئت مؤسسات التدريب الطبي قبل عصر الاستعمار في المشرق؛ فإضافة إلى مدرسة الطب التي أنشأها محمد علي في القاهرة، أسس العثمانيون مدرسة للطب في دمشق في عام 1903، وبالتوازي مع ذلك، أُسست مدرستان للطب في لبنان كجزء من مشاريع تبشيرية متزامنة؛ فقد أسس الأمريكيون مدرسة الطب في الكلية البروتستانتية السورية (SPC) (لاحقاً الجامعة الأميركية في بيروت) في عام 1866، وأسس اليسوعيون الفرنسيون مدرسة الطب في جامعة القديس يوسف في عام 1883، ولم يعمل خريجو هاتين المدرستين في سورية ولبنان فقط، بل عملوا أيضاً في الأناضول وفلسطين ومصر، وحتى في بلاد الرافدين، في عيادات خاصة عادة، وأحياناً في مستشفيات خاصة صغيرة. وكان دور المبشّرين أساسياً في تأسيس المستشفيات في المنطقة، ففي عام 1920 كان في دمشق المستشفى الإيطالي، والمستشفى الفرنسي[25]، وافتتح المبشرون الأمريكيون في البحرين وعُمان أول مستشفيين حديثين في السنوات الأولى القليلة من القرن العشرين.

وعقب احتلال مصر عام 1881، أعاد البريطانيون تنظيم مدرسة الطب، فأدخلوا رسوم الانتساب، وإصلاحات كثيرة صارمة على المناهج الدراسية، وفرضوا استخدام اللغة الإنكليزية. وكان التوظيف مقتصراً على حاجات الحدّ الأدنى من العمل الحكومي، وكان الأطباء المحليون حبيسي الوظائف العادية، في حين كانت الوظائف العليا والمرموقة محفوظة للأجانب. وفي العراق ـ حيث فقد البريطانيون الثقة بالطب العثماني، الذي كان يمثله آنذاك عدد صغير من الأطباء المدرَّبين تدريباً حديثاً ـ عُيِّنَ عدد كبير من الأطباء العسكريين من الإمبراطورية، من أصول هندية وبريطانية، وأنشئت مدرسة الطب الأولى في عام 1925، وكان التعليم فيها ـ منذ البداية ـ باللغة الإنكليزية، رغم اعتراض القوميين.

لقد كان اختيار لغة تعليم الطب قضية وطنية، وكان لذلك تبعات طويلة الأمد. فقد تخلّت مدرسة الطب في دمشق عن اللغة التركية لمصلحة العربية في عشرينيات القرن العشرين، أما مدرسة الطب في جامعة القاهرة ـ التي عرَّبت مناهجها الدراسية تدريجياً خلال القرن التاسع عشر ـ فقد أُجبرت على تطبيق اللغة الإنكليزية في التدريب الطبي بعد الاحتلال الإنكليزي، واستمر هذا الوضع حتى اليوم. واستخدمت مدرسة الطب في الكلية البروتستانتية السورية اللغة العربية لمدة عقدين، ثم تحوّلت إلى الإنكليزية في عام 1882‏[26]. وفي كتاب لها (سيصدر قريباً) قدَّمت مروة الشاكري بياناً عن هذا التحول إلى الإنكليزية، وبيّنت كيف أدى تضمين نظرية داروين في المناهج الدراسية ـ وهو ما يعرف بـ «أزمة داروين» ـ إلى استقالة الكثير من المدرّسين الناطقين باللغة العربية. أما في المدرسة الطبية في جامعة القديس يوسف في بيروت، فقد دُرِّس الطب باللغة الفرنسية دائماً. وكان اختيار لغة التعليم ـ وما زال إلى الآن ـ يحدد الوجهة التي يذهب إليها ألمع الخريجين للحصول على التدريب المتخصّص.

وأحيل الأطباء «المحليون» في مصر والبلدان العربية الأخرى تحت الانتداب على وظائف أدنى، الأمر الذي أصابهم بالإحباط، وحاولوا جاهدين التشديد على كفاءتهم، وأصبحت عواطفهم جزءاً من الصراع الوطني. ونجح الأطباء المحليون في مصر، على نحو لافت للنظر، في تطوير وجهة نظر مختلفة، حيث تم توجيه اهتمام الصحة العامة نحو الأمراض المستوطنة بدلاً من توجيهه ضد الأوبئة، حسبما اقترح الطب الاستعماري. وقد كشفت الجمعيات المهنية الأولى التي أنشئت في عشرينيات القرن العشرين في مصر والعراق، التوتر بين الاستسلام للنموذج البريطاني وسياسات الحكومات الملكية الحليفة من جهة، وبين التطلعات نحو المصالح القومية من جهة أخرى. وتنامت مشاركة الأطباء في الحركات القومية في ثلاثينيات القرن العشرين، الأمر الذي أبرز دور الصحة في بناء الدولة والمشروع الإصلاحي[27]، ففي مصر التحررية، اشترك الأطباء بفاعلية في تطوير إطار نظري للصحة العامة، هدَف إلى الإصلاح الاجتماعي بشكل واضح وغير مسبوق. ورغم أن هذا حدث فقط من خلال مشاريع رائدة قليلة، فقد كان مؤشراً مبشراً على ما يمكن أن يكون عليه نموذج طب الصحة العامة بعد الاستقلال[28].

خامساً: دولة الرفاه والصحة العامة: بين الاشتراكية والتوريثية

لقد واجهت البلدان العربية الخارجة من حروب وصراعات الاستقلال في خمسينيات وستينيات القرن العشرين ظروفاً صحية مؤسفة؛ فكان معدل وفيات الرضع 145/1000 في المغرب، و155 ـ 160/1000 في تونس والجزائر وشبه الجزيرة العربية، و179/1000 في مصر. وهذه المعدلات لم يُشاهَد مثلها في أوروبا الغربية منذ أواخر القرن التاسع عشر. وكان الوضع أفضل في لبنان (61/1000)، وفي الكويت (80/1000). وكان العمر الوسطي المتوقع عند الولادة أقل من 50 سنة في كل مكان تقريباً، ما عدا لبنان (حوالى 62 سنة) ودول الخليج الأصغر (55 ـ 60 سنة)[29].

وورثت الأقطار الجديدة نظماً صحية مبنية على غرار النموذج الاستعماري، تتأرجح بين العمل الخيري وانهماك المستعمر بالصحة العامة. وكانت المرافق الصحية والمراكز الطبية تفتقر إلى التجهيزات، وتركّزت المستشفيات في المدن الكبيرة، وكان أغلبها تابعاً للبعثات الدينية، وكانت القوة العاملة الطبية هزيلة. ففي مصر، كان هناك طبيب لكل 2700 نسمة في عام 1952‏[30]، بينما في سورية كان هناك طبيب لكل 4000 نسمة في عام 1955. وبعد أن غادر الكثير من الأطباء الأجانب بلدان المغرب بعد استقلالها، احتاجت المنطقة إلى سنوات كثيرة لتدارك المعدل المنخفض أصلاً من الطواقم الطبية المتخصّصة في نهاية الفترة الاستعمارية[31].

1 ـ الصحة كحق للجميع

إن النُخَب من الناشطين الذين قادوا نضالات التحرر الوطني، اعتبروا الفقر والبؤس والظلم أموراً متجذرة في الهيمنة الاستعمارية، وانطلاقاً من إيمانهم بقيم الثورة الفرنسية، فقد طالبوا أن تكون الصحة حقاً للجميع في مجتمع أكثر إنصافاً. وقد عَكَسَ التمثيل القوي للأطباء في الحركات القومية تعبئتهم في الصراع الاجتماعي، وأبرَزَ الصلة الوثيقة بين مكافحة المرض ومحاربة الظلم.

وكان على البلدان العربية ـ التي ورثت اقتصادات ومجتمعات دمّرها الاستعمار بشدة ـ أن تضطلع بمهامّ كانت تُسنَد إلى القطاع الخاص في بلدان أخرى. وكانت سيطرة الدولة النامية على الاقتصاد الوطني تعني ارتفاع سقف توقعات الناس. وأصبحت الصحة والتعليم رمزين للتقدم الاجتماعي، والمصدر المفضل لشرعية «الدولة الجديدة»[32]. إن الإجراءات التي اتخذتها الدولة لحماية صحة السكان لم تكن تعني مجرد تعزيز الإنتاجية البشرية، فمن سورية إلى السعودية، اعتُبرت الصحة ـ بشكل تدريجي ـ كحق يجب على الدولة أن تكفله. ومن دون شك، فإن الخطاب الذي يبرر السياسات الصحية وتنفيذها في البلدان المختلفة كان متفاوتاً، لكن المنطق ـ في النهاية ـ بقي نفسه، إذ يكفل الدستور المصري عام 1952 حق الوصول إلى الخدمات الصحية مجاناً، في حين يُقرُّ النظام الأساسي لحزب البعث أنه «يتعين على الدولة أن تُوجِد مؤسسات صحية قادرة على تلبية حاجات كل المواطنين، وتكفل لهم رعاية صحية مجانية»[33]. وأعلن الرئيس التونسي بورقيبة في عام 1956 أن «العالم يحتاج أن يعلم أن الحكومة مصممة على بذل كل جهد لخدمة الشعب، وأنها لا يمكن أن تسمح بترك بعض المواطنين من دون رعاية»، وأضاف أنه مستعد لتجنيد الأطباء بالقوة عند الضرورة[34].

وبشكل مشابه ومدهش، فإن هذه البلدان التي بدت خياراتها السياسية متعارضة جذرياً، استمدت شرعيتها من التزامها بالتقاليد بدلاً من أن تستمدها من مطالبتها بالتقدم والتنمية والتحديث، وقد أسست سياساتها الصحية على مفاهيم مشابهة أيضاً. فقد أعلنت السعودية أن «على الدولة توفير الرعاية الطبية المجانية لكل المواطنين، وللحجاج أيضاً»، كما وفرت النظم الطبية للأردن رعاية طبية مجانية لعدد متزايد من السكان[35].

وإجمالاً، فقد كانت الصحة جزءاً من حزمة فعالة هدفت إلى الارتقاء بالمجتمع، محدثة عملية حراكٍ اجتماعي واسع من خلال تطوير المؤسسات الحكومية والخدمات العامة، بما في ذلك التوظيف في القطاع العام والتحضر والتعليم. وعلى الرغم من ذلك، فإن تطوير الخدمات الصحية ـ بما يجسّد هذه الرؤية ـ كان عاملاً واحداً فقط في عملية تحسين صحة السكان.

2 ـ تحسينات سريعة

لقد كانت هناك تحسينات ملحوظة في صحة السكان في كل المنطقة بين عامي 1950 و1980، فخلال 20 سنة ما بين بداية الستينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين، قام المغرب تحت حكم الأسرة العلوية بمحاكاة إنجازات الجزائر الاشتراكية، إذ ارتفع وسطي العمر المتوقع عند الولادة في المغرب من 48 إلى 59 عاماً، في حين تناقص معدل وفيات الرضع من 145 إلى 90 لكل 1000 ولادة حية. وفي الجزائر، ازداد وسطي العمر المتوقع من 48 إلى 61 سنة، في حين تراجع معدل وفيات الرضع من 159 إلى 84.

وكانت التحسينات في المؤشرات الصحية في مصر أكثر بطئاً في الفترة نفسها، إذ ارتفع وسطي العمر المتوقع 9 سنوات فقط (من 47 إلى 56 سنة)، وتراجع معدل وفيات الرضع من 179 إلى 108/1000. وتُبيّن مقارنة بين سورية ذات التوجه الاشتراكي والسعودية الغنية بالنفط تحسناً أكثر تأثيراً في الأخيرة. إن أسباب هذه التغيرات مُعقَّدة، ويمكن ربطها كثيراً بتوافر الموارد والعوامل غير المباشرة الأخرى، مثل التحضر وتطور وسائل الإعلام والاتصالات، وكذلك بتدابير تعزيز الصحة العامة والسياسات الصحية.

3 ـ مسؤولية الدولة تجاه الناس

لقد ارتبطت فكرة مسؤولية الدولة القومية عن تطوير القطاع الصحي وإتاحة الخدمات الصحية للجميع بشكل وثيق بأهمية الطب في مشاريع الإصلاح والتحديث. وقد كان هذا صحيحاً قبل العصر الاستعماري في أثنائه وبعده، وكان قد انعكس في المستشفيات المصرية اعتباراً من عام 1925 بإنشاء نظام الاستشارات المجانية في العيادات الخارجية. وفي العراق، استفاد كل طلاب الطب من المنح الدراسية، وتلقوا عروضاً للعمل في الجهاز الحكومي بعد التخرّج. إلا أن الفضل يرجع إلى الثورات التي أدت إلى تنفيذ سياسات سبّاقة للتغطية الصحية التي تشمل كامل السكان في مصر وسورية والعراق.

لقد أدى تطوير نظام للصحة الوطنية والتوسع في الرعاية الصحية المجانية للجميع إلى صراع بين خطط التأمين الصحي الاجتماعي ـ المموَّلة من رسوم تُستقطَع من مداخيل العمال ـ وبين الرعاية الطبية المجانية التي كانت مخصّصة للفقراء في السابق، وتم التراجع عنها في نهاية المطاف في الجزائر ومصر وسورية. وقد سُنَّت السياسات نفسها في تونس، ولاحقاً في الجزائر. وفي بعض البلدان، كان التأمين الطبي المرتبط بالتوظيف يهدف إلى تقوية القوة العاملة اللازمة لتحقيق أهداف التنمية. ففي الجزائر، أدى تمويل كل الخدمات الصحية من نظام للضمان الاجتماعي ـ الموروث عن الحقبة الاستعمارية، في ثمانينيات القرن العشرين ـ إلى عجز هائل في الميزانية[36].

إن السياسات الطموحة للدولة بتوسيع خدمات الصحة العامة لكل المناطق، ولكل القطاعات السكانية، جعلت الأطباء أنفسهم عرضة لتدابير أضعفت ممارستهم المستقلة للطب، واضعة إياهم في نزاع مع القطاع العام. وقد أُجبِر الأطباء على تقديم الخدمة لسنوات قليلة في المناطق الريفية بعد التخرج في سورية ومصر[37]، أو على العمل بدوام كامل كموظفين في القطاع العام في تونس. وقد قاوم المهنيون هذه القيود؛ فعلى سبيل المثال، حدث انخفاض في عدد الأطباء المسجّلين في تونس خلال الثمانينيات من القرن العشرين إلى درجة أن الحكومة وضعت نهاية للشرط الذي يقضي بضرورة التوظيف بدوام كامل في القطاع العام[38]. ولم يحظر أي بلد ـ باستثناء الجزائر ـ الممارسة الطبية الخاصة بشكل كامل، ومع ذلك فقد بقيت الممارسة الخاصة في تونس وسورية ومصر مقتصرة على الممارسة المنفردة، مقترنة أحياناً بالعمل في القطاع العام. وكان لبنان هو الاستثناء الوحيد، حيث تطور قطاع المستشفيات الخاصة المربح للغاية مبكراً في المدن الرئيسية، بالتوازي مع النظام العام، الهادف إلى خدمة الأقاليم الريفية والسكان الفقراء.

وقد مكَّنت إيرادات النفط البلدان المنتجة له من تقديم خدمات رعاية صحية مجانية لكل مواطنيها، اعتباراً من خمسينيات القرن العشرين في الكويت، وفي ستينياته أو سبعينياته في أماكن أخرى. وكان التقدم سريعاً بشكل خاص بعد حظر النفط في حرب 1973، بسبب ارتفاع إيرادات النفط، والتأميم الجزئي أو الكلي لشركات النفط. كما امتد كرَم الدولة ليشمل الإسكان، من خلال الإعانات السكنية الكبيرة، والخدمات العامة الأخرى. وكان المنطق الاجتماعي وراء هذه السياسات الاجتماعية موروثاً، فالمحكوم شخص صادق الولاء للحاكم، وهذا المنطق مختلف تماماً عن نموذج التحديث الاشتراكي الذي ظهر في تونس في حكم بورقيبة، والجزائر إبان حكم بومدين، ومصر تحت حكم عبد الناصر، وسورية البعثية. وقدم الأردن نموذجاً مختلطاً من الرعاية الصحية مشابهاً جزئياً لذلك الموجود في شبه الجزيرة العربية؛ فالطابع «الريعي» لاقتصاده، بفضل المعونات المالية البريطانية، ومن بعدها الأمريكية، سمح بتمويل التغطية الصحية للأغلبية العظمى من السكان من خلال مؤسستين:

الأولى، هي الخدمات الطبية الملكية، التي أنشئت في عام 1963، وكانت خدماتها مقتصرة في أول الأمر على العاملين في الجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات وعائلاتهم، وكان ثلث الأردنيين تقريباً مؤهلين للتغطية من قبل الخدمات الطبية الملكية مقابل رسوم سنوية رمزية في ثمانينيات القرن العشرين.

والمؤسسة الثانية، هي هيئة التأمين الطبي التي تغطي العاملين في الدولة، الأمر الذي يسمح لهم بتلقي الرعاية المجانية في المستشفيات الحكومية. وفي مصر وسورية أيضاً، كانت هناك المستشفيات العسكرية والخدمات الصحية العسكرية التي تتمتع بمعدات متطورة مخصّصة للعسكريين وعائلاتهم. ومع ذلك، قد يكون الأثر السياسي الصرف لمثل هذه السياسات الهادفة لتحسين الظروف المعيشية ولتطوير الخدمات العامة، هو خنق الحريات السياسية وإعاقة التعبير السياسي المستقل، وذلك من طريق تحويل علاقة المواطنين بالدولة إلى ولاء مطلق للقادة السياسيين[39]. باختصار، ورغم التناقض الظاهر بين الخطاب السياسي والمرجعيات الأيديولوجية، فإن الجمع بين الاستبدادية والتوريثية أمر شائع في معظم الأنظمة الاجتماعية في البلدان العربية، ومُترجَم إلى سياسات صحية متماثلة بشكل عام.

سادساً: التحولات الليبرالية الجديدة وقضايا الصحة العامة

لقد ساهم التحضر والتعليم وتحسين الظروف المعيشية ـ في السنوات التالية للاستقلال ـ في زيادة وسطي العمر المأمول، وانخفاض معدل وفيات الرضّع، وانحسار الجائحات والأوبئة التي كانت شائعة سابقاً في الكثير من المناطق العربية. ولكن في الفترة من عام 1970 إلى عام 1980، أدى الاستمرار في تحسين المستويات المعيشية، وتبني الحكومات لسياسات جديدة، إلى زيادة الجور الاجتماعي، وتحوُّل عميق في الممارسات والتوقّعات، وبالتالي إلى زيادة الطلب على الرعاية الصحية. وحدث انسحاب للسياسات الاشتراكية، والعودة إلى الليبرالية الاقتصادية بشكل تدريجي، بدءاً من سبعينيات القرن العشرين، مترافقاً مع دخول فاعلين جدد على المستويين المحلي والعالمي.

وقد حدثت هذه التغيّرات على فترتين: في سبعينيات القرن العشرين، مع زيادة أسعار النفط، وتسارع وتيرة الهجرة؛ وفي تسعينيات القرن العشرين، مع تفاقم حدة الدَّين الخارجي، وتنفيذ إصلاحات بنيوية، وانفجار الجور الاجتماعي، وخسائر الحرب، والتهجير في بلدان مثل السودان وفلسطين والعراق. وأدت السياسات الصحية والتطورات على الأرض ـ خلال هذه الفترات ـ إلى اتجاهات متلازمة لكنها متضادة. فكانت هناك جهود حكومية لتعزيز صحة المجتمع، ولتطوير خدمات طبية خاصة مربحة للأثرياء. وبينما كانت البلدان العربية في سبعينيات القرن العشرين لا تزال تملك الموارد للاستثمار في الخدمات الاجتماعية والصحة، فقد واجهت قيوداً متزايدة منذ تسعينيات القرن العشرين، بسبب الخفض في الميزانية، والضغوط من قِبَل المؤسسات المالية الدولية. وكان إصلاح أنظمة الحماية الاجتماعية والتأمين الصحي على جدول أعمال معظم البلدان العربية، كما في بقية العالم. وفي الواقع، كانت الإصلاحات الليبرالية الجديدة المفروضة من قبل البنك الدولي بارزة في الكثير من البلدان العربية، معطية دوراً أوسع للقطاع الخاص، ومُغيِّرة مفهوم الدولة ومسؤولياتها في توفير الخدمة الصحية.

1 ـ زيادة الطلب وتعميق اللامساواة

إن نمو الدخل الهائل الناجم عن ازدهار النفط بعد عام 1973 أخلّ بالتوازن الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة العربية، إذ جذبت الأسواق الناشئة في شبه الجزيرة العربية والعراق وليبيا مئات الآلاف من العمال من مصر ولبنان وسورية والأردن واليمن وتونس، ورفعت التحويلات النقدية إلى الوطن دخل العائلة بشكل حادّ، لكنها سبّبت تفاوتات خطيرة في سوق العمل، الأمر الذي أدى إلى اتساع الفجوات الاجتماعية، وتشجيع أنماط جديدة من الاستهلاك. وبينما أفادت عائدات النفط الدول ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ بالسماح ببرامج استثمار اجتماعي جديدة، وتأخير الأزمات الناجمة عن حالات الفشل المتعددة، التي أفضت إليها الاقتصادات البيروقراطية، عزّزت هذه العائدات في الوقت ذاته الاستهلاك غير المعقول، وأوجدت طلبات صحية جديدة.

إن زيادة الاستثمارات والإنفاقات الحكومية في القطاع الصحي سارت جنباً إلى جنب مع نمو الخدمات الصحية الخاصة، بما فيها المستشفيات التي تهدف إلى تحقيق الربح وتستهدف الزبائن الأثرياء، وفي غضون ذلك كان تحرير الاقتصاد في طريقه إلى الكثير من البلدان. وبدأت الوكالات والمنظمات الدولية (البنك الدولي، أو منظمة الصحة العالمية، أو المنظمات الدولية غير الحكومية)، والفاعلون المحليون ـ بما في ذلك القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية ـ بامتلاك تأثير أكبر في السياسات الصحية.

وفي نهاية سبعينيات القرن العشرين، ومع التعرّض للضغوط بسبب الطلب المتزايد على الخدمات، عانى القطاع العام بجميع أجهزته قلة الموارد والإهمال وعدم اكتراث المهنيين الصحيين المحبَطين، الذين عانوا انخفاضاً نسبياً في الأجور نتيجة التضخم الحاصل بسبب تدفق دخول المهاجرين. ولاحظ كامو تناقضاً في تونس في ثمانينيات القرن العشرين[40]، إذ أدى التحسن في الحصول على الخدمات الصحية ـ نتيجة تطور القطاع العام، الذي كان يقدم خدماته مجاناً أو مقابل تكلفة ضئيلة ـ إلى حفْز زيادة الطلب على الخدمات الخاصة، بشكل يتناسب عكسياً مع تدهور القطاع العام. وكان هناك إدراك منتشر بأن الرعاية الصحية العامة المجانية هي طب الفقراء، وبالتالي تحولت الطبقة الحضرية الوسطى الجديدة إلى استهلاك الرعاية الطبية الخاصة التي يفترض أنها ذات جودة أفضل، وأصبحت الطبيعة المجانية للخدمات وهماً مع الأطباء العاملين في القطاع العام، وكانت هناك ممارسة شائعة بإعادة توجيه المرضى إلى العيادات الخاصة، وطلب الرشى من أجل تجاوز الدور لإجراء الجراحة أو لضمان معالجة أفضل[41].

وفي تونس، أظهر مسح أُجري في ثمانينيات القرن العشرين تبايناً متنامياً بين العرض والطلب في مجال الرعاية الصحية، وزيادة اللامساواة في توفير الخدمات الصحية، الأمر الذي دفع كامو إلى القول إن التحسن السابق في مستوى المعيشة قد تبعته تنمية غير متكافئة، مفاقمةً التباينات الاجتماعية والفجوة الثقافية[42]. وفي مواجهة المطالب المتنامية وغير المتجانسة، نأت الدولة بنفسها وأنشأت قسماً جديداً للعمل بين القطاعين العام والخاص، وخصخصت بعض الخدمات العامة، وحاولت التعويض من خلال برامج مساعِدة للفقراء. وقد شهدت ثمانينيات القرن العشرين تمايزاً واضحاً يتعلق بمهنة الطب، حيث تشكّلت القاعدة الأعرض من الأطباء العامين وأطباء «الخط الأمامي للرعاية الصحية» التي تكوّنت من جيل جديد من الأطباء الشباب الذين عملوا في المواقع الريفية والحضرية الفقيرة، بينما هيمن الأطباء الأكفاء الذين تلقوا تدريباً في الغرب على وظائف أكثر ربحاً.

وكما هي الحالة غالباً، تُظهِر مصر تناقضاً صارخاً بين التحسينات الكمية الرائعة التي حدثت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين والتردّي المخيف للنظام الصحي في ما بعد. وقد أثّر ترافُقُ تدفق الطلاب إلى كليات الطب المنتشرة في الأقاليم ـ التي تعاني نقصاً في التجهيزات مع تدنٍ بالغ في جودة التعليم ـ مع دخول أطباء يافعين ذوي تدريب ضعيف وخبرة قليلة، سلباً في جودة الرعاية الطبية[43]. وما فضيحة التلوث بفيروس التهاب الكبد سي التي كُشفَت في تسعينيات القرن العشرين إلا مثال مخيف على السياسات الصحية المتّبعة ذات الطريق المسدود. فقد كانت نتيجة الحملة التي أُطلقَت للقضاء على داء البلهارسيا في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين مثيرة وغير متوقعة، إذ أعيد استخدام المحاقن الملوّثة في التلقيح، نتيجة نقص الموارد وجهل وإهمال المهنيين الصحيين ذوي الأجور الضعيفة والتدريب الهزيل، ما سبب انتشاراً سريعاً لالتهاب الكبد سي، الذي ما زال معدل انتشاره في مصر لا مثيل له في العالم[44].

ويمكن لزيادة الطلب على الرعاية الطبية وزيادة استهلاكها أن تكونا قد ساهمتا ـ في نهاية المطاف ـ في الصعوبات المقبلة، التي نجمت عن الانكماش الاقتصادي في ثمانينيات القرن العشرين بسبب انخفاض أسعار النفط بعد عام 1982.

2 ـ إصلاحات القطاع الصحي: بين صحة المجتمع والطب للأغنياء

لقد وقَّعت معظم البلدان العربية إعلان ألما آتا لعام 1978 وبيان «الصحة للجميع»، وقد أدى ذلك إلى بذل جهود خجولة لإصلاح الرعاية الصحية، بغية تعزيز الرعاية الصحية الأولية والصحة العامة وطب المجتمع. وكانت هناك محاولة في هذا الصدد في عام 1982 في مصر، إلا أن النخبة المهنية قاومت هذا الإصلاح، وعرقل أطباء المستشفيات تطوير التدريب على الصحة العامة، عادّين ذلك ذا قيمة ضئيلة. وعلى العكس من ذلك، فإن محاولة إدخال حدّ أعلى على أعداد طلاب كليات الطب تَعارضَ مع المبدأ المقدس بحق الجميع في الحصول على تعليم عالٍ[45].

وفي ثمانينيات القرن العشرين، أدت وكالات المساعدات الدولية دوراً مهماً ومتزايداً في تعزيز برامج صحة عامة نوعية وعمودية ـ يشار إليها أحياناً بالرعاية الصحية الأولية الانتقائية ـ التي يُعتَقَد أنها ذات «قيمة» عليا، مثل التلقيح وحملات مكافحة الإنتانات التنفسية، وأمراض الإسهال[46]، إلا أن نجاح المرحلة الأولى من هذه الإصلاحات ـ التالية لإعلان ألما آتا ـ كان مضطرباً في أحسن الأحوال. ولم تعد منظمة الصحة العالمية الوكالة الدولية الوحيدة التي تعزز رعاية المجتمع، إذ بدأ البنك الدولي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووكالات المساعدة الدولية الأخرى بتأدية دور بارز في هذا المجال. ومع ذلك، كان على السياسات الجديدة ـ في كل مكان ـ تجاوز النقص في الموظفين المدرّبين في القطاع العام، والتغلب على مقاومة المستشفيات الجامعية والخاصة.

وقد أُطلقت حزمة جديدة من الإصلاحات في تسعينيات القرن العشرين، برعاية البنك الدولي، وبالتحالف مع وكالات أخرى للمساعدات (خاصة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID) والفاعلين المحليين، وهدفت هذه الإصلاحات إلى مزيد من تحرير القطاع الصحي، وبدأ ـ أثناء ذلك ـ قطاع خاص غير ربحي بالظهور في بعض البلدان، مثل مصر، ممثلاً في المؤسسات الدينية الخيرية، كعيادات ومستشفيات ملحقة بالمساجد، وذلك بواسطة منظمات غير حكومية. ولقد زاد هذا التطور من الصعوبة المتزايدة ـ أمام المهنيين اليافعين ذوي الخلفيات المتواضعة ـ للعيش باستقرار، ومن ارتفاع تكلفة الخدمات الصحية في القطاع الخاص[47].

وقد مرت سورية بتغيرات مشابهة لما حدث في تونس، لكن بعد مرور عقد تقريباً. ففي ثمانينيات القرن العشرين، وبينما كانت ظروف القطاع العام تتدهور، تكاثرت المستشفيات الصغيرة الربحية، ومرت مهنة الطب بكل من التمييز والاستقطاب. ومع نمو القوة العاملة الطبية، وصعوبة دخول الوافدين الجدد إلى سوق العمل، اضطرت الحكومة إلى إصدار قرار في عام 1991 يكفل توظيف الأطباء حديثي التخرج (بمن فيهم العدد المتزايد من النساء)[48] في القطاع العام. وفي الوقت نفسه، حصل حماس عجيب عند الأطباء الشباب لممارسة المهنة في الريف[49].  وللتحايل على ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، بدأت الحكومة بالاعتماد على المساعدات الدولية، وعلى المنظمات غير الحكومية المحلية أيضاً، وأحياناً على أعضاء شبكات الإغاثة الدولية. كما أطلق «برنامج ضخم لتحديث القطاع الصحي»، كما حدث في سورية، على سبيل المثال، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي في عام 2004‏[50]. وبهذه الطريقة عادت إلى الظهور منظمات مدنية قديمة مساهمة في تعزيز الصحة، متخصّصة في مواجهة أمراض بعينها[51].

لقد أصبحت الرعاية الصحية في بعض البلدان العربية صناعة مربحة بشكل واضح. ففي الأردن ولبنان، ازدهرت «المستشفيات الاستثمارية» المزوّدة بمعدات متطورة، جاذبةً الزبائن الأغنياء من جميع أرجاء المنطقة. كما تطورت السياحة الطبية في المغرب وتونس، حيث يستفيد الأوروبيون من الخدمات الطبية الأقل تكلفة، ونمت الجراحة التجميلية بسرعة، مستفيدة ـ بشكل واضح ـ من هذا الفرق في التكلفة. وأفادت التقارير أن الكثير من الأثرياء العرب والغربيين سافروا إلى العراق لشراء الكلى وإجراء عمليات زرع الكلية، خلال سنوات العقوبة على العراق.

وتبقى الرعاية الصحية في بلدان أخرى مرادفاً لطب الطوارئ. وفي الغالب، فإن أصوات أولئك الذين يدافعون عن الحق العام في الصحة في معسكرات اللاجئين، وفي مناطق الحرب، وفي الأحياء الفقيرة من المدن الكبيرة، تبدو غير واقعية. وتبرز آفات صحية جديدة نتيجة الفقر والظروف البيئية السيئة وفشل الخدمات العامة.

خاتمة

حاولنا في هذا البحث أن نسلط الضوء على أهمية الصحة العامة في بناء الدولة الحديثة. ففي القرن التاسع عشر، تضمّنت مشاريع التحديث العثمانية والمصرية برامج للصحة العامة، ومضى الاستعمار في هذه البرامج، لكنه استخدم مشروع التطبيب كأداة للسيطرة على الشعوب، ولتحقيق مصالحه الاقتصادية والأمنية. وعلى العكس من ذلك، فخلال العقود الأولى من الاستقلال، أصبحت الصحة حقاً مكفولاً من قِبَل الدولة، وتحقق تقدم مهم في هذا الشأن، لكن أزمة نموذج التنمية في ثمانينيات القرن العشرين، وتراجع الإنفاق العام، أدَّيا إلى ظهور لاعبين دوليين ومحليين جدد، أكثرهم من القطاع الخاص. وفي ظل تزايد انعدام العدالة، فإن وكالات دولية ومنظمات غير حكومية ـ منها الجمعيات الخيرية والدينية ـ أدت دوراً متزايداً.

واليوم، يبدو أن أهداف العدالة الاجتماعية والحق في الصحة للجميع بعيدة المنال، بعد فشل سياسات التنمية الوطنية، وما تلاها من انسحاب الدولة من البرامج الاجتماعية. والتحدي الجديد الذي يواجه المهنيين الصحيين هو إيجاد ديناميات اجتماعية وسياسية جديدة، يمكن أن تجعل هذه الأهداف واقعية مرة أخرى.

 

قد يهمكم أيضاً  واقع الصناعة الدوائية في البلدان العربية للفترة (2006–2015): دراسة تحليلية باستخدام نموذج SWOT

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الطب_في_العالم_العربي #الصحة_العامة_في_العالم_العربي #بناء_الدولة_في_الوطن_العربي #صحة #طب #بناء_الدولة #دراسات