مدخل:

إن بناء رؤية موحدة عن العلاقات الخليجية – الإيرانية تعترضها مجموعة من الصعوبات الحقيقية، كونها دولاً منقسمة على نفسها في كيفية التعامل مع الموضوع الإيراني، مع اقتسام الشعور بالخوف وعدم الارتياح لسياسة إيران في المنطقة، نظراً إلى وجود حساسيات ذات طوابع أمنية لدى كلا الطرفين. كما يكتنف هذه العلاقة شيء من الغموض، نتيجة عوامل خاصة بالإقليمين، شكلّت نوعاً من العلاقات الدولية الاستثنائية في العالم.

من هنا تأتي هذه الورقة البحثية لتركز على العلاقات الخليجية – الإيرانية في إطار علاقة ثنائية بين إيران وعُمان، التي عُرِفت ولا تزال باستثنائيتها وتمايزها عن بقية بلدان الخليج العربي، والتي لها تأثير مباشر في الأمن القومي الخليجي، وقد تعددت وجهات نظر السياسيين والباحثين حول تأثيرها في المنطقة برؤى إيجابية من جانب، وسلبية من جانب آخر، ولا سيّما خلال السنوات الأربع الماضية؛ أي بعد قيام الثورات العربية، وتأجج الصراعات في بعض البلدان العربية، التي كشفت عن وجود أيادٍ خارجية تعمل على تغذيتها لمصلحتها الخاصة ولتحقيق مطامعها ومشاريعها في المنطقة.

في ظل انشغال البلدان العربية بأوضاعها المتأزمة يزيد التقارب العماني – الإيراني هواجس دول مجلس التعاون، ولا سيّما بعد إعلان إيران ودول 5+1 التوصل إلى اتفاق مبدئي بشأن محادثات الملف النووي الإيران، الذي أدّت فيه السلطنة دوراً محورياً في تحقيق الوساطة، وكانت مسقط إحدى أهم محطات الاجتماع بين الطرفين.

كثرت التأويلات والجدل السياسي بشأن الدور الحقيقي الذي تؤدّيه عُمان – الدولة المعروفة بالعزلة والهدوء – في الحفاظ على أمن الخليج العربي من خلال علاقتها المتينة مع إيران، كما كثر الجدل والتفسيرات المتعددة في طبيعة العلاقة بين هاتين القوتين، في سياقات تختلط فيها الجوانب العقلانية بالجوانب الانفعالية؛ بين إلقاء الاتهامات بشأن حقيقة العلاقة بين عُمان، كقطر فاعل في مجلس التعاون الخليجي، الذي رفض الانضمام إلى مشروع الاتحاد الخليجي المقترح من السعودية، وبين الإشادة بالدور العماني، كون العلاقة بين هاتين القوتين تحمل الكثير من الدلالات السياسية والاستراتيجية التي لا تزال تؤثر في المحيطين العربي والعالمي.

الإطار المفاهيمي (الأمن والتعاون)

يُنظر إلى الأمن تقليدياً من حيث «التهديدات العسكرية الخارجية أو المخاطر التي تواجه دولة ما من قبل دولة أخرى أو تهديدات مسلحة داخلية من جهات فاعلة غير حكومية»‏[1]، غير أن الأمن يحمل بعداً أوسع من أن يتم حصره في جانب «عسكري»، وقد يكون تعريف روبرت ماكنمارا (وزير الدفاع الأمريكي ورئيس البنك الدولي الأسبق) للأمن في كتابه جوهر الأمن هو الأشمل والأعمق، إذ يقول إن «الأمن ليس هو المعدات العسكرية وإن كان قد يتضمنها، والأمن ليس النشاط العسكري وإن كان قد يشمله، وبدون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن، والدول النامية التي لا تنمو في الواقع، لا يمكن ببساطة أن تظل آمنة»‏[2]، وهو بُعد داخلي يركز على الجانب الاجتماعي والاقتصادي للدولة أكثر من البعد الخارجي المتصل بالعلاقات الدولية والأطماع الخارجية.

يبقى أن مفهوم الأمن قد «يُحرّف أو يُعدّل أو ينحى دلالات مزدوجة تبعاً للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية، ويقبع بكل تأكيد تحت طائلة المتغيرات الدولية، في ما يخص الأساس داخل الدولة، في تعريفه أيضاً وسائله، لأنَّ هذه الوسائل ممسوكة حتماً من قبل الدولة، وسوف يطرأ عليه مزيد من التغيير والتطوير مع مرور العقود المقبلة»‏[3].

يعدّ الدافع الأمني أحد الأسباب الرئيسة والمهمة، إن لم يكن أكثرها أهمية، في قيام مجلس التعاون الخليجي، وهو ما زال يتصدر الأجندة السياسية في الخليج العربي. وتشير التحولات التاريخية السياسية إلى أن منطقة الخليج تعيش حالاً مستمرة من عدم الاستقرار في الأوضاع الأمنية، منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، وتتمثل مظاهر عدم الاستقرار بالخلافات السياسية والحدودية بين بلدان المنطقة، التي كانت ولا تزال لها تأثير مباشر في الأوضاع الأمنية.

إن الأحداث التي مرت بها المنطقة أثرت بشكل مباشر في أمن الخليج، فقد خلقت الثورة الإيرانية عام 1979 تحديات وتفاعلات جديدة. ثم وقعت الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980، وحرب الخليج الثانية عام 1990 المتمثلة بالغزو العراقي للكويت التي ألقت بتداعيات كثيرة وخطيرة على الوضع الدفاعي والأمني للمنطقة، والتي شكلّت نقطة تحول كبرى في تاريخ المنطقة المعاصر، حيث أدخلت المنطقة في دوامة من الحرب والتدخل الأجنبي ما زالت مستمرة منذ بداية التسعينيات، ثم الحرب الأمريكية على أفغانستان وتداعياتها، والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. كلها أحداث كبرى أثرت بصورة مباشرة في استقرار الخليج ومصالحه الاقتصادية‏[4].

يمكن القول، إن الحرب الأمريكية على العراق ولدت مناخاً جديداً سادته حال من الشك والحذر بالنسبة إلى دول المنطقة المجاورة، وبخاصة أن الحرب أسفرت عن وجود 150 ألف جندي أمريكي في العراق، وبعد انتهاء الحرب سيطرت مسألة الأمن على اهتمامات قادة دول مجلس التعاون الخليجي وشعوبها، ولوحظ ذلك بوضوح في قمة المجلس التي عقدت في الكويت يومي 21 و22 كانون الأول/ديسمبر عام 2003‏[5].

كما يمكن تقدير ملامح البيئة الأمنية في الخليج، في ضوء حرب الخليج الثالثة، ولا سيما بعد خروج العراق من معادلة ميزان القوة، وزيادة اختلال التوازن العسكري والاستراتيجي في المنطقة، وتمثل حال الفوضى في العراق تحدياً أمنياً حقيقياً لكل بلدان المنطقة الخليجية وغيرها.

ويشكّل الأمن هاجساً حقيقياً للأنظمة في مجلس التعاون الخليجي، فقد أسرفت هذه البلدان في الإنفاق على شراء أسلحة ومعدات أمريكية بآلاف المليارات من الدولارات، وأُنهِكت ميزانياتها. والآن تجد البلدان الخليجية العربية الستة نفسها من دون نظام للأمن يعتد به في حال أي تراجع محتمل في الالتزامات الأمريكية بهذا الأمن، وغياب «الموازن الإقليمي» القادر على مواجهة ما هو قائم، وما هو مستجد من التحديات والتهديدات‏[6].

ومع هذا كله، فإن التغيرات في الخريطة الجغرافية والسياسية التي شهدتها المنطقة العربية بعد عام 2011، وقيام ثورات الربيع العربي ابتداءً من تونس الشرارة الأولى، ومن ثم ثورة مصر التي ولدت مناخاً ثورياً وروحاً حراكية واسعة في بقية البلدان العربية في ليبيا واليمن سورية. ولم تكن دول مجلس التعاون الخليجي بمنأى من هذا الحراك؛ بل كانت هي الأسرع تأثراً بالمزاج العربي العام، ولا سيما في كلٍ من البحرين وسلطنة عُمان التي عُرفت بالعزلة والهدوء، فكانت المفارقة أن تكون هي من أوائل البلدان العربية تأثراً بثورتي تونس ومصر، فشهدت إبان هذه التجربة رغم قصرها، تغيراً جذرياً على عدة مستويات: دستورية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.

ومع التغيرات والصراعات التي يشهدها الوطن العربي، وفشل الثورات العربية وعودة الاستبداد إلى بعض بلدان الربيع الملهمة، وتأجج الصراعات الدموية وظهور جماعات مسلحة باسم الدين، وظهور ما عرف بتنظيم الدولة الإسلامية الذي استطاع زرع خلاياه في بلدان المنطقة وتبنيه تفجيرات انتحارية هزت تلك البلدان التي ظهرت قلقة ومهزوزة أمام هذه التهديدات، هذا إلى جانب الصراع المسلح في دولة اليمن التي ترتبط بحدود مشتركة مع دول مجلس التعاون الخليجي، ودخول الرئيس اليمني في تحالف عربي تقوده السعودية ضد الحوثيين في البلاد، هذا كله، ضاعف الهاجس الأمني لدول مجلس التعاون، سواء أكان على مستوى المطالب الداخلية للإصلاح السياسي أو التطلعات الخارجية التي ستؤثر في مستقبل الاستقرار السياسي في منطقة الخليج العربي، الأمر الذي يخلق تحديات إضافية لدول المجلس.

أدت هذه التحولات في المنطقة إلى تعميق اختلاف وجهات نظر دول مجلس التعاون في تعريفها أمنها القومي، وكذلك أمنها الإقليمي. حقاً إن بلدان الخليج تشترك في أن الأمن أصبح أمراً ملحاً، بل من أولوياتها، لكن طرائق تفسير ذلك الاتفاق من خلال تحديد الأخطار ومواجهتها أو التفاعل معها، تختلف من دولة إلى أخرى.

وفي المقابل، تُشكّل المادة السابعة من الاتفاقية الأمنية الخليجية محاولة حصار ذلك الاختلاف في طرائق التفسير، حيث يتجلى في نصها بوضوح «مشاورة وزارات الداخلية، وأجهزة الأمن المماثلة في الدول الأطراف مسبقاً، ويتعاون ممثلوها لتنسيق وتوحيد مواقفهم تجاه المواضيع المطروحة على جداول أعمال المؤتمرات والاجتماعات الإقليمية والدولية». لذا، فإنَّ الاجتهادات في تعريف الأمن القومي لبلدان الخليج، أدى لزاماً إلى تباين التحركات في السياسات الخارجية، وقد أدّت الاتفاقية الأمنية الخليجية دور الأصفاد الناعمة التي تؤثر في هامش المناورة الاستراتيجية للبلدان الخليجية في ما يتعلق بتفسير الأخطار والتعامل معها‏[7].

في الحقيقة، إن علاقة الأنظمة الحاكمة في دول مجلس التعاون الخليجي مع العالم أجمع، قامت في إطار تحالف استراتيجي قائم على معادلة الأمن مقابل النفط، وتمكنت النظم الخليجية من الاستفادة من علاقاتها مع الوطن العربي في حماية استقرارها الداخلي على الرغم مما واجهته من مخاطر محلية وإقليمية، ولكن الاستناد إلى علاقة المنفعة المتبادلة من دون عمق حضاري وقومي جعلها محكومة بحزمة من العوامل تخرج على حدود السيطرة الخليجية، ومن أبرز هذه العوامل شكل النظام الدولي القائم، والتوجهات التي تحكمه، وحال الاقتصاد العالمي، ومدى حاجة القوى الكبرى فيه للنفط‏[8].

أدركت دول الخليج خطورة هذا الوضع، فسعت إلى إقامة كيان سياسي اقتصادي يمكنها من التعامل مع المتغيرات العالمية، ويكون أداة إقليمية تساعد على تحقيق الأمن، فكان تأسيس مجلس التعاون الخليجي؛ فمفهوم التعاون في إطار مجلس التعاون جاء كصيغة مناسبة ومرحلية تحتفظ في إطارها كل دولة عضو بسيادتها وتتعاون بموجبها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً بما يفيد كل منها والمنطقة ككل في آن واحد، لكي تتهيأ في المستقبل لتقبل فكرة دمج السيادات الوطنية لمصلحة التجمع الإقليمي الخليجي، والأخذ بمفهوم أكثر مرونة للسيادة‏[9].

على الرغم من وجود اختلافات تبدو واضحة في سياسات دول مجلس التعاون، منها القضايا الدولية، والقضايا المتعلقة بدول الجوار، والمواقف من القضايا الإقليمية والدولية، وإخفاق هذه الدول في عدة جوانب على المستويين الداخلي والخارجي، وبخاصة أن الأمن كان مقترناً أو على الأقل مرتبطاً بما يطلق عليه «الخطر الإيراني» الذي يزداد اتساعاً يوماً بعد يوم، وتخبط بلدان الخليج في التعامل معه، إلا أن آليات التعاون والخصائص القومية المتشابهة بينها، إضافة إلى التحديات التي تواجهه، تحتم على أعضائه التمسك بفكرة الديمومة والاستمرار، وبخاصة في ظل فشل معظم التجارب الوحدوية العربية.

أولاً: وجهة النظر العمانية تجاه الأمن والتعاون

إن عُمان دولة خليجية، بحكم الجغرافيا، كما أن نظامها السياسي القائم على الشرعية الوراثية يتماثل تماماً مع هياكل السلطة القائمة في بلدان الخليج العربية الأخرى، ولكنها، بحكم التاريخ والهوية السياسية، تحتفظ لنفسها بمساحة خاصة من التفرد، وبيان ذلك أنّ خيارها الاستراتيجي – كما توحي سياستها الخارجية – محكوم بذلك الإحساس بالتفرد. اشتركت السلطنة في تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية (1981)، وانخرطت في أنشطته الاقتصادية والاجتماعية، ولكنها مثلّت حالة خاصة في تعاطيها مع معظم القضايا السياسية، وتلك المتصلة بالأمن الإقليمي‏[10].

في حالة سلطنة عمان؛ فإن تبني استراتيجية للتفاعل السياسي منذ أوائل السبعينيات كان يعني عملياً إدراك حقيقة أن نظام الأمن الإقليمي في الخليج بعد انسحاب القوات البريطانية، يؤكد الحاجة إلى دور مشترك تؤديه الوحدات السياسية الجديدة سوياً من أجل حماية مصالحها المشتركة، والدفاع عنها‏[11]. ومع تراجع القوة البريطانية وهيمنتها على المنطقة، ظهرت القوة الأمريكية التي تبسط اليوم هيمنة استراتيجية على ضفاف الخليج؛ فالسياسة الخارجية العمانية كما هو شأن نظرائها في الإقليم، تناور في فضاء إقليمي مكتظ بمشاريع صراعية يتصدرها المشروعان الأمريكي والإيراني، وتخضع بالضرورة لمقتضيات تلك المعادلات الصراعية‏[12]، ومن خلال قراءة الواقع السياسي يتضح ارتباط عُمان بعلاقات استثنائية مع القوى الدولية النافذة في الشأن الخليجي، وتحديداً الولايات المتحدة وبريطانيا، وقد اضطلعت بأدوار مركزية في تشكيل خريطة الصراعات والتحالفات، وكانت جزءاً من حركة التدافع في مراحل تاريخية بعينها.

إن التراجع الكبير للهيمنة العمانية على المحيط الهندي وشرق أفريقيا وبلوشستان، وقيام دولة الإمارات العربية المتحدة ككيان سياسي ودستوري جديد في المنطقة، وصعود القوى اليسارية في العمق العربي، وظهور الحركات الراديكالية ذات النزعة اليسارية في الجنوب العماني، والحركات الراديكالية الدينية (الإمامة) في الداخل العماني، جعل عمان تمر بأخطر أيامها في تاريخها المعاصر، فضـلاً عن التخلف الذي كان المجتمع العماني غارقاً فيه بكل أبجدياته ومستوياته. هذا كله، دفع الدبلوماسية العمانية إلى إعادة إنتاج الذات السياسية من جديد في علاقاتها بالمحيط الإقليمي، ولهذا تم الإعلان عن أهم مبدأين من مبادئ الدبلوماسية العمانية في علاقتها الخارجية، وهما عدم التدخل في شؤون الآخر، والتزام الحيادية. وظلت حيادية الدبلوماسية العمانية قائمة حتى في لحظات حرجة جداً مرت فيها المنطقة إقليمياً وعربياً، كالحرب الإيرانية – العراقية، والمقاطعة العربية لمصر، وحربي الخليج الأولى والثانية، وآخرها موقفها من الملفات الحديثة في السياسة العربية بعد عام 2009، ومنها الملف المصري والملف التونسي والملف السوري والملف الليبي والملف اليمني، وحتى الملف البحريني. لذلك، استطاعت سلطنة عمان أن تجعل من هذين المبدأين المحرك الدينامي لملفاتها الخارجية‏[13].

كانت السياسة الخارجية العُمانية دائماً مبنيةً على أساس النأي بالبلاد عن الصراعات الدولية والإقليمية، وتجنب النزاعات التي لا تعنيها وعدم التدخل في شؤون الآخرين، والإيمان بالحوار والحلول السلمية، والتعامل ببراغماتية بعيدة من العواطف والأدلجة. هذا النهج لا يمكن أن يندمج بسهولة مع السياسة الخارجية لبلدان خليجية أخرى، التي لا يمكن التوفيق بين اختلافاتها الجوهرية في هذا الصدد. كما لا يمكن أن تسمح عُمان، لأطراف أخرى، بجرها نحو مستنقع الصراعات الإقليمية والزج بها في حروب بالوكالة، بدعوى الوحدة الخليجية والأمن الخليجي المشترك؛ فعلى سبيل المثال، اتخذت عُمان موقفاً حذراً من الملفين المصري والسوري، في حين دخلت كل من السعودية وقطر والإمارات بكامل قواها، مستخدمة المال والإعلام، والسلاح أحياناً، للضغط والتأثير في أطراف النزاع في تلك البلدان. إن هذا التدخل لم يكن محسوباً أو مبنياً على تنسيق مسبق في ما بينها، وإنما عملت هذه البلدان منفردةً، وبحسب ما تعتقد أنه يجسد مصالحها القومية. وكانت النتيجة التي لا تُحمد عقباها؛ فالفوضى تعم مصر، والحرب الطائفية تنهك سورية، الأمر الذي سيؤدي إلى نتائج كارثية تنعكس على المنطقة بأسرها على المدى البعيد‏[14].

في ما يخص عُمان، فإن الدخول في خضم صراعات كهذه، مقامرة بالأمن الداخلي العُماني، وتقويض لنهجها الذي تسير عليه منذ عقود، وللمكاسب التي حققتها من ورائه إقليمياً ودولياً. ويبدو أن عُمان لا ترى إمكان تبرير الانخراط في مسار الاتحاد الخليجي، بدافع المصلحة المشتركة التي تدعو إليها بلدان خليجية أخرى‏[15].

ما لا شك فيه، أن للشخصية التاريخية العمانية دوراً في بناء الراهن السياسي لعُمان؛ فسلطنة عمان التي استقلت من الدولة المركزية الإسلامية (أموياً وعباسياً وعثمانياً) لأسباب تاريخية دينية، لا تزال تمارس شخصيتها السياسية الراهنة من خلال تاريخها السياسي؛ ذلك التاريخ الذي صاغته بتحولاته ومساراته كافة، سياقات ظرفية، وتراكمات تاريخية، دفع عمان إلى إحداث قطيعة سياسية – كما يرى الإسماعيلي – مع قضايا العمق العربي. إنّ عمان، وإن أصبحت اليوم عضواً فاعـلاً في الجامعة العربية، وعضواً مهماً وفاعـلاً في منظومة مجلس التعاون الخليجي، فهي لا تزال تمارس اليوم أدوارها الإقليمية والدولية باعتبارها دولة ذات كيان تاريخي مستقل عن التمركزات التاريخية للبلدان العربية والإسلامية‏[16]. ومن الأمثلة والشواهد التاريخية على ذلك:

1 – لم تتماهَ في مسلكها إزاء الحرب العراقية – الإيرانية (1981 – 1988) مع الموقف الخليجي الداعم للعراق، واحتفظت بعلاقات متوازنة مع طرفي الصراع، كما اشتركت في الحملة العسكرية لتحرير الكويت من العدوان العراقي (1990)، ولكنها لم تقطع خطوط الاتصال مع صدام حسين، وقام وزير خارجيته آنذاك، طارق عزيز، بزيارة خاطفة لمسقط في تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام.

2 – الحالة اليتيمة التي انعقد فيها الإجماع الخليجي، كانت دعم حرب الانفصال في اليمن التي شنها الاشتراكيون الجنوبيون على مشروع الوحدة، ولمّا اندحرت تلك الحركة، استضافت السلطنة قائد الانفصال علي سالم البيض.

3 – في العام 2007، أعلنت السلطنة انسحابها من مشروع الوحدة النقدية الخليجية الذي كان مقرراً له أن يبدأ في كانون الثاني/يناير عام 2010، بذريعة أن المشروع يقيد القرار الاقتصادي المحلي. ثم أعلنت رفضها مشروع الاتحاد الخليجي، كما جاء على لسان الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في مؤتمر الأمن الإقليمي الذي انعقد في البحرين في كانون الأول/ديسمبر عام 2013. وأعلن الوزير العماني بلهجة حادة قرار السلطنة الانسحاب من المجلس، عشية قمة الكويت (10 كانون الأول/ديسمبر عام 2013)، مبرراً هذا القرار بالقول: «نحن غير مستعدين للدخول في أي صراعات. ولا علاقة لنا بالمواجهات.. ولسنا ذاهبين في الصراعات إطلاقاً، شرقاً ولا غرباً». يدل الموقف العماني على غياب الإطار الفلسفي المؤسس للمجلس، وعلى الافتراق المفاهيمي الحاد بين الفرقاء حول هوية المجلس ومقاصده الاستراتيجية، على الرغم من أن وثيقة التأسيس تنص على «الوحدة» كمقصد نهائي لمشروع التعاون.

4 – شكلت العلاقة مع إيران عنصراً مفصلياً من عناصر الارتباك في العلاقات العمانية – الخليجية، ولا سيما مع السعودية؛ فمنذ الزيارة التي قام بها السلطان قابوس لطهران في آب/أغسطس من العام 2009، والعلاقات العمانية – الإيرانية تزداد تماسكاً وتداخـلاً، وتشهد صعوداً بوتيرة متسارعة، متعددة الأبعاد. وقد ازدادت صعوداً وتماسكاً بعد أحداث الربيع العربي، وزيارة السلطان قابوس طهران في آب/أغسطس عام 2013.

5 – جاءت «عاصفة الحزم» التي دشنتها السعودية وحلفاؤها، في السادس والعشرين من آذار/مارس عام 2015، لتحدث فرزاً حادّاً في خريطة الاصطفاف الاستراتيجي والسياسي في إقليم الخليج، ولتشكل مَعلماً تاريخياً، ليس في مسار العلاقة العمانية – الخليجية فحسب، بل في منظومة التحالفات والهياكل الاستراتيجية الحاكمة للأمن القومي الخليجي أيضاً‏[17].

ثانياً: العلاقات العمانية – الإيرانية

لم تكن العلاقات العمانية – الإيرانية ودودة دائماً على الرغم من الجيرة الطويلة التي دونها تاريخ سحيق بين هاتين القوتين البحريتين الكبيرتين اللتين تسيطران على مدخل الخليج العربي، إلا أنها شكّلت أمراً واقعاً تفرضه الجغرافيا والمصالح المشتركة؛ فالعلاقات العمانية – الإيرانية ليست وليدة اللحظة، بل مرت بتراكمات تاريخية، بعضها خامل، وبعضها حيوي يتّصل بشخوص قيادة الزمان.

اتخذت هذه العلاقة شكل التعاون السياسي الناضج بعد تولي السلطان قابوس بن سعيد الحكم في العام 1970، وتجلى ذلك في اعتراف شاه إيران بحكومة السلطان بعد وصوله إلى الحكم أولاً وقبل أي شيء؛ إذ كانت إيران بذلك تعد ثالث دولة في العالم تعترف بالنظام السياسي للسلطان قابوس بعد الولايات المتحدة وبريطانيا‏[18]. أي أنها سبقت البلدان العربية في ذلك لاعتبارات أيديولوجية وسياسية في الدرجة الأولى.

ونظراً إلى التحولات السياسية والفكرية في الداخل العُماني ومنطقة الخليج العربي، التي كانت تهددها بصورة مباشرة، بات التقارب بين عُمان وإيران أكثر قوة ومتانة، وكأن السلطنة التي كانت تمر بحالة العزلة حينذاك، أرادت أن تبحث لها عن قوة استراتيجية تدعمها بثقل إيران الاستراتيجي.

اصطدمت الدولة عند أول عهدها بظهور جملة من المهددات والتحديات على الصعيدين الداخلي والخارجي. ولعل أبرز تلك التحديات، المد الوهابي السعودي في منطقة الخليج العربي الذي أصبح يشكّل تهديداً مباشراً على عُمان، والحركة اليسارية المسلحة في الداخل، والمشروع الإمامي الذي استطاع أن يحقق دعماً سياسياً في المحيط العربي متكئاً على المد القومي المناهض للاستعمار الغربي، الذي كان صاعداً آنذاك. غير أن الدبلوماسية العمانية استطاعت أن تحاصر المشروعين معاً وأن تعطب مفاصل القوة فيهما. ففي مثل تلك المناخات المفعمة بالتهديد الاستراتيجي، تخلّق العقل الرسمي وطوّر أدواته الدبلوماسية واكتسب ملامحه السياسية‏[19]، ولربما قد أورثت هذه التحديات والمواقف السياسية الخارجية منها الدبلوماسية العمانية هذا الحذر الذي يصبغ اليوم معظم مقارباتها السياسية، وكرس لديها خاصية الحيادية، وعدم الدخول في أي صراع خارجي.

كان لهذه الأحداث دور في تأصيل العلاقات العمانية – الإيرانية، حيث قامت إيران بدور بارز لدعم السلطان قابوس عسكرياً إلى جانب كل من الأردن وبريطانيا لمواجهة الثورة في ظفار، في الوقت الذي كانت بعض البلدان العربية تدعم الثوار رسمياً وتدربهم، ولا يمكن أن نعزو هذه المساعدات إلى الكرم الإيراني آنذاك، وإنما إلى ضرورات سياسية واستراتيجية استدعتها تلك اللحظة التاريخية في عهد الشاه السابق المدعوم في حينه من الولايات المتحدة وبريطانيا، ولا سيما حين يكون الخصم شيوعياً.

هكذا، بدأت عُمان تزداد يقيناً بأهمية «الجغرافيا السياسية» في اللعبة الإقليمية والدولية، وقد كانت معظم خطابات السلطان قابوس السياسية في البدايات الأولى لحكمه بعد عام 1970 تؤكد أهمية الجغرافيا السياسية في الحفاظ على لعبة التوازنات الاستراتيجية في منطقة الخليج العربي‏[20].

الجدير بالذكر أن العلاقات العمانية – الإيرانية لم تتأثر عقب وصول الثورة الإسلامية إلى الحكم في إيران، على العكس من غيرها من البلدان الخليجية والعربية على وجه التحديد، فبعد القضاء على الثورة الاشتراكية (الشيوعية) في جنوب عمان بمساعدة إيران ودول أخرى، والقضاء على المشروع السياسي/الديني الإباضي في الداخل بمساعدة الإنكليز، ظهر المد السعودي في منطقة الخليج العربي، وهو ما شكّل خطراً مباشراً بات يؤرق السلطة السياسية في عُمان، الأمر الذي أدى إلى مزيد من التقارب العماني – الإيراني، وظلت العلاقة بينهما قوية ومتينة، لمنع أي اختراق سعودي وهابي‏[21]. ويمكن اعتبار الخطر السعودي أو ما يعرف بـ «الإسلام الوهابي» نقطة تحول سياسي في العلاقات الثنائية بين عُمان وإيران، ذلك بأن عُمان كانت تنظر إلى الرغبة الإيرانية في مد النفوذ الشيعي أقل خطراً عليها؛ فكلتا الدولتين كانت بحاجة إلى دعم الآخر وبناء علاقة حسن جوار معها للأبعاد التي من المحتمل أن تفرزها الرغبة السعودية في التوسع، حينذاك.

بغض النظر عن اختلاف الأنظمة القائمة، ومهما كان الجدل حول هذه النظرة، فإن النظام الحاكم في عُمان كان ينظر، خلال سنوات قليلة مضت، إلى أن وحدة التراب العماني مهددة من الجنوب بالتدخل العدني والتأييد العربي لمتمردي ظفار، ومن الشمال بالاحتلال السعودي لواحة البريمي. وكانت إيران آنذاك هي الطرف الوحيد الذي لم يُظهر وجود أي أطماع إقليمية له، وإنما أقدم على المساعدة مادياً ومعنوياً‏[22].

واستمرت العلاقات بين البلدين حتى في أوج الحرب الإيرانية – العراقية، التي كانت الأنظمة الخليجية طرفاً فيها عبر التسليح المباشر للجيش العراقي. ليس هذا فحسب، إنما احتضنت مسقط في تلك الحرب محادثات سرية بين الطرفين المتنازعين لوقف إطلاق النار، ورفضت الدعوة إلى مقاطعة إيران وعزلها دبلوماسياً واقتصادياً في العام 1987. كذلك، رفضت السماح للعراق باستخدام أراضيها في الهجوم على جزر أبي موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، وبعد انتهاء تلك الحرب توسطت عُمان لإعادة العلاقات بين إيران والسعودية، وإيران والمملكة المتحدة. وأدت كذلك دوراً مهماً في استمرار الحوار بين إيران ومصر أثناء انقطاع العلاقات الدبلوماسية بينهما، بعد الثورة الإيرانية وحتى آذار/مارس 1991، وساعدت على تحرير الأسرى والبحارة والصيادين المصريين المحتجزين لدى إيران، أثناء سنوات الحرب مع العراق‏[23].

منذ الزيارة التي قام بها السلطان قابوس لطهران في آب/أغسطس من العام 2009، تزداد العلاقات العمانية – الإيرانية تماسكاً وتداخـلاً، وتشهد صعوداً بوتيرة متسارعة، وتجنح إلى أن تكون متعددة الأبعاد‏[24]. ففي آب/أغسطس عام 2010، وقع البلدان اتفاقية تعاون عسكري، إضافة إلى المناورات البحرية المشتركة في مضيق هرمز. وفي الجانب الاقتصادي، تسعى عُمان إلى استيراد الغاز من إيران عبر بناء أنبوب بحري بين البلدين، ويناقش الطرفان تطوير حقول غاز مشتركة في عرض البحر‏[25].

في الآونة الأخيرة، وحين فرض الحصار الاقتصادي على طهران بسبب برنامجها النووي، كانت مسقط تقوم بدور الوسيط بين إيران والغرب، واستضافت مسقط اجتماعات سرية بين دبلوماسيين وقادة أمنيين من كلا الطرفين، منذ العام 2011 في محاولة للوصول إلى أرضية مشتركة، إلى أن تكللت جهودها بالنجاح في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 من خلال توصل إيران إلى اتفاق جنيف مع مجموعة الدول 5+1‏[26]، حيث استضافت عمان جولات المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني بين إيران ومجموعة 5+1، التي انعقدت في مسقط في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، وكان أبرز أقطابها وزيرا خارجية إيران والولايات المتحدة: محمد جواد ظريف وجون كيري. وقد أفضت جولة المفاوضات تلك إلى اتفاق الإطار الذي وقعه الطرفان في لوزان السويسرية في نيسان/أبريل 2015، تمهيداً للاتفاق النهائي الذي أبرم في 14 تموز/يوليو 2015.

1 – أثر العلاقات العمانية – الإيرانية في الأمن القومي لدول مجلس التعاون

ما يهمنا هنا هو، قراءة أثر السياسة الخارجية العمانية تجاه إيران في الأمن القومي لدول مجلس التعاون، ولا سيما بعد أحداث الربيع العربي؛ فالتحولات التي شهدتها المنطقة العربية منذ عام 2011 وإلى الآن، كان لها تأثير عميق في تصورات الحكم في الخليج، التي اعتُبرت مصدراً يُهدد الاستقرار في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث أعطاها دافعاً إلى الاندماج المشترك بقيادة السعودية بحجة مواجهة الأخطار التي تهدد المنطقة، لكن الرفض العماني للاتحاد عرقل مسيرته والتصور الذي وضعه الملك عبد الله بن عبد العزيز حينذاك، وقد اعتبره بعضهم تواطؤاً عمانياً مع «العدو الأول» في المنطقة إيران، لعرقلة مسيرة الاتحاد على الرغم من تأكيد السلطنة أنها لن تقف «عائقاً» أمام إقامته، ولكن لن تكون جزءاً منه.

هذا إلى جانب الجهود العمانية التي بذلت للتقارب الأمريكي – الإيراني، والتوصل إلى اتفاق مشترك في الملف النووي الإيراني، توصلت دول الأطراف «بوساطة عمانية» إلى اتفاق مشترك وصف بالتاريخي، وهو ما زاد من مخاوف بلدان الخليج من المصالحة التي أتت في وقت حرج جداً تمر فيه المنطقة وقيادتها لتحالف عربي مشترك لمواجهة الحوثيين في اليمن، إضافة إلى التهديدات الإرهابية التي راح ضحيتها العشرات من مواطني دول المجلس، ولا سيما ممن يعتنقون المذهب الشيعي، وقد أدى رفض عمان للاتحاد ودورها الفاعل في التقارب التاريخي الإيراني مع دول 5+1 وانزواؤها عن المشاركة في الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، أدى إلى اختلاف وجهات النظر بين الباحثين والمحللين تجاه مواقف السلطنة؛ بين من اعتبره موقفاً سلبياً ومزعزعاً للاستقرار، وبين من يرى أنه يصب في مصلحة الأمن القومي الخليجي.

2 – أثر العلاقات العمانية – الإيرانية في الاندماج الخليجي

يقودنا المشهد الخليجي الراهن إلى استحالة إقامة اتحاد خليجي مشترك تكون عُمان أحد أعضائه وذلك لعدة أسباب، منها:

– وجهة النظر العمانية تجاه مفهوم الاتحاد – كما أشرنا إليه آنفاً – فالسياسة الخارجية العُمانية كانت دائماً مبنيةً على أساس النأي بالبلاد من الصراعات الدولية والإقليمية، وتجنب النزاعات التي لا تعنيها، وعدم التدخل في شؤون الآخرين. هذا النهج لا يمكن أن يندمج بسهولة مع السياسة الخارجية لدول خليجية أخرى، ولطالما بقيت السياسة الخارجية العمانية بمنأى من الصراعات الخارجية، وتتبع نهجاً مخالفاً للسياسات الخليجية الخارجية المتقاربة.

– موقف السلطنة الرافض للاتحاد الخليجي هو نتيجة وليس سبباً لعلاقتها مع إيران؛ أي أن رفض الاتحاد هو موقف استراتيجي في الدرجة الأولى، ولكنه ربما ينسجم مع التخوف من فقدان السيادة، وبخاصة في ظل الحرص السعودي على الهيمنة على منظومة التعاون.

ويبقى التصدي لإيران هو السبب الأكثر حضوراً وإلحاحاً وراء طرح المشروع بقوة في هذا التوقيت تحديداً، أي أن المحرك الرئيس لمشروع الاتحاد الخليجي، خارجي في جوهره، وهو التوجس من إيران، وعُمان لا تشاطر دول الخليج الأخرى هذا الخوف أو – على الأقل – لا توازيها في مقداره، وتالياً، فهي ترى أن تحويل إيران إلى حليف استراتيجي، سياسي واقتصادي، أجدى من الاستمرار في معاداتها. وعلى أساس هذا الاقتناع، لم يكن من الممكن أن تنضم عُمان إلى اتحاد يمثل في جوهره خطوة استعدائية موجهة ضد إيران، لن ينتج منها إلا المزيد من التقويض لأمن المنطقة وأمن عُمان معها بالضرورة.

– يبدو أن العلاقة المرتبكة مع السعودية، ومساعي هذه الأخيرة للهيمنة على القرار الاستراتيجي في منظومة التعاون، ساهمت في التقارب العماني – الإيراني. كما أن السعودية، وهي الدولة المحورية في منظومة مجلس التعاون، تجد نفسها اليوم أمام مآزق كبرى؛ سواء على الصعيد المحلي المتمثل بالتحولات البنيوية للفكر السلفي، أو داخل منظومة مجلس التعاون الخليجي؛ سواء مع قطر، وكذلك الإقليمي المتعلق بثورات الربيع العربي في كل من سورية وليبيا وتونس ومصر والعراق واليمن، أو العالمي بعد التقارب الإيراني – الأمريكي والغربي، وأخيراً التحول السياسي الذي حدث في اليمن وأعطى الحوثيين فضاءً واسعاً للتحرك، وما يشكله هذا الملف من تهديد جيوسياسي للسعودية. هذه العوامل كلها، وما تشكله الجغرافيا والتاريخ والاختلاف المذهبي، وما ترغب فيه عمان من الاستقلال السياسي خارج منظومة الاتحاد، هذا إلى جانب إعلان عُمان في عام 2011 عن اكتشاف خلية تجسس تعمل لمصلحة الإمارات العربية المتحدة، الأمر الذي زاد العلاقات ارتباكاً. كل هذه الهواجس، إضافة إلى عوامل أخرى كان لها دور من دون شك، في اتخاذ عُمان قرارها الرافض مشروع الاتحاد الخليجي، ودفعها إلى إيجاد بديل آخر لتأمين مصادر الطاقة، وبخاصة الغاز، بعيداً من منظومة مجلس التعاون الخليجي‏[27].

– بعيداً من موقف السلطنة، تعيش العلاقات الخليجية – الخليجية حالاً من الارتباك والتوتر المستمر على الرغم من الفتور الحاصل مؤخراً، كان آخرها أزمة سحب سفراء السعودية والبحرين والإمارات من قطر بسبب سياساتها الخارجية، والتنافس بين بلدان الخليج في أن يكون لها موطئ قدم في بلدان الربيع العربي التي تعاني جراء الثورات سياسياً واقتصادياً، أبرزها مصر وليبيا وسورية.

صحيح أن سلطنة عُمان تبدو أحياناً مندفعة في علاقتها مع إيران، وأن هذه العلاقة أثرت في رفض السلطنة للاتحاد الخليجي الذي يسعى إلى حفظ الاستقرار في المنطقة ودحر التهديدات الخارجية وعلى رأسها إيران، لكن المشهد الراهن يحول دون قيام اتحاد خليجي حقيقي ذي أهداف واضحة بسبب الرغبة السعودية في الهيمنة، والعلاقات الخليجية المرتبكة، وما حدث بين السعودية والإمارت والبحرين بسحب سفرائهم من قطر، وتوتر العلاقة إلى حدٍ كبير بسبب سياسة الأخيرة تجاه مصر، خير دليل على صعوبة وجود اتحاد خليجي مشترك في الوقت الراهن، كما أن عُمان أكدت أنها لن تقف عائقاً إذا ما قررت دول الخليج إقامة اتحاد مشترك مع رفضها الانضمام إليه، وتالياً، فقرارها لن يؤثر في الأمن القومي لبلدان الخليج، وقد يكون له جانب إيجابي في عدم اشتراكها في السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون في حال قيام الاتحاد، حيث ستساهم في دور الوسيط بين هذه البلدان مع الأطراف الأخرى، ولا سيما أن المملكة تدرك أهمية الموقع الجغرافي الذي تتمتع به السلطنة، ولهذا فإنها تفضل تقوية العلاقات الثنائية مع عمان، بل استيعابها لضمان أمن الخليج العربي.

في المقابل، ستحاول إيران الحصول على مكاسب سياسية كبرى من عُمان، والوساطات العمانية خير دليل على ذلك، آخرها الملف النووي، في مقابل الحلول الاقتصادية التي ستوفرها إيران لعمان في مجال الطاقة. ذلك كله، يحتم على سلطنة عمان أن تكون حذرة جداً من مسألة التقارب مع إيران‏[28].

3 – عُمان والاتفاق النووي الإيراني

رعت السلطنة قناة التفاوض السرية للولايات المتحدة وإيران حول البرنامج النووي منذ 2011 أي قبل وصول روحاني إلى سدة الحكم في إيران، وهذا ما أكده كيري في مقال له في صحيفة بوسطن غلوب، عن دور السلطنة في مفاوضات الملف النووي الإيراني، وقال: «لقد شاركتُ في الجهود الرامية إلى كبح جماح البرنامج النووي الإيراني، فحينما كنتُ رئيساً للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، قمتُ برحلة هادئة إلى عُمان في العام 2011 لإبلاغ الحكومة هناك بأن حكومة أوباما قد تكون مستعدة لفتح حوار حول القضية النووية»‏[29].

وأضاف كيري، أن تلك الزيارة قد فتحت الباب لمحادثات مباشرة بين البلدين، وبعد ذلك أدت إلى مفاوضات رسمية متعددة الأطراف، شهدناها في الأشهر الأخيرة.

وبعد الإعلان عن الاتفاق النووي رحب المجلس الوزاري الخليجي خلال اجتماعه في الكويت في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 بالاتفاق بين الدول الكبرى وإيران بشأن برنامجها النووي، شريطة أن يكون مقدمة للتوصل إلى حل شامل لهذا الملف، كما دعا المجلس إلى التعاون التام مع وكالة الطاقة الذرية. أما في ما يتعلق بمواقف الدول الخليجية الفردية، فلم يكن هناك موقف خليجي موحد من هذا الاتفاق؛ ثمة تباينات واضحة في ما بينها تجاه اتفاق جنيف الأخير، حيث سارعت الإمارات والكويت وقطر والبحرين إلى الترحيب بهذا الاتفاق. أما الموقف السعودي، فقد غلب عليه التوجس الصريح في بداية الإعلان عن الاتفاق، ثم حدث تحول في الخطاب الرسمي السعودي إلى القبول المشروط، حيث أكدت الحكومة السعودية خلال اجتماعها في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 أنه إذا توافر حسن النوايا، فيمكن أن يشكل هذا الاتفاق خطوة أولية في اتجاه التوصل إلى حل شامل للبرنامج النووي الإيراني‏[30].

ومن الجدير بالذكر، أن بلدان الخليج العربي تخشى أن يكون التقارب الأمريكي – الإيراني ضمن «صفقة شاملة تعطي لإيران أدواراً إقليمية معترفاً بها دوليّاً في مناطق شديدة الحساسية لأمن الدول الخليجية والأمن العربي بصفة عامة، خاصة في مياه الخليج، وفي العراق وفي سوريا ولبنان»‏[31].

ما لا شك فيه، أن لهذا التقارب دوافعه وله أيضاً خلفياته من مصالح أمريكية وإيرانية، وأبعاده الاستراتيجية وآثاره المباشرة في أمن المنطقة، ومن الاحتمالات المتوقعة لمرحلة ما بعد الاتفاق:

أ – إقامة دول مجلس التعاون تحالفات دولية جديدة، كالاتجاه مثـلاً إلى إقامة علاقات أوسع مع روسيا وفرنسا كوسيلة لموازنة العلاقات الأمريكية – الإيرانية، وذلك في الوقت الذي صارت فيه واشنطن مقتنعة بأن اعتمادها في سياساتها تجاه المنطقة على تحالفاتها العربية، لم يعد كافياً.

ب – سيعطي الاتفاق النووي الإيراني إيران مجالاً أوسع للتمدد في المنطقة، فلن يؤثر الاتفاق النووي الإيراني – الغربي سلباً في النفوذ الإيراني في العراق، بل يتيح لها اعترافاً غربياً بنفوذها، وسيكون دخولها على خط الصراعات الشيعية هناك، من منظور مدى التطور الإيجابي في علاقاتها مع الغرب.

ج – يرى آخرون أن الاتفاق النووي الإيراني سيلزم إيران إنفاق مواردها للتنمية بعد سنوات طويلة عانى معها الاقتصاد الإيراني على حساب رفاهية الشعب الإيراني الذي أبدى فرحاً عارماً من الاتفاق، كما أن الوضع الجديد وازدياد حلفاء إيران في الإقليم حرجاً، ربما سيقود إيران إلى عدم التدخل في شؤون المنطقة، وممارسة أدوارها السلبية الذي سيعود عليها بتكلفة عالية.

د – يرى بعضهم أن البلدان الخليجية ستجد نفسها مضطرة إلى التفاهم مع إيران وقبول شروط إيرانية، منها قبول إيران جارة نووية وقبول إيران قوة إقليمية مهيمنة، كما أن انخراط بعض البلدان الخليجية في مثل هذه التفاهمات سيكون حتماً ضد وحدة الموقف الخليجي، وقد يؤدي إلى انفراط أو تهديد تماسك منظومة دول مجلس التعاون الخليجي.

هـ – إن خرائط جديدة لتحالفات إقليمية جديدة قد تفرض نفسها على حساب توازن قوي، كان يعمل لمصلحة الدول الخليجية في ظل الشراكة الاستراتيجية الأمريكية – الخليجية، والتقارب التركي مع كل من العراق وإيران، والتفاهمات السورية – الإيرانية – العراقية، وزيارة رئيس الحكومة السورية طهران في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، وزيارة رئيس الحكومة العراقية هو الآخر طهران أوائل كانون الأول/ديسمبر 2015، مؤشرات مهمة على مثل هذه التفاهمات أو التحالفات الجديدة‏[32].

يمكن القول، إن الاتفاق النووي الإيراني، والانفراج مع الغرب يمثّل منعطفاً تاريخياً ذا بعد إيجابي كونه يحول دون امتلاك طهران الأسلحة النووية التي قد تهدد به أمن المنطقة، على الرغم من التداعيات المتوقعة ومخاطرها الأمنية والسياسية والاقتصادية على الأمن الإقليمي الخليجي وعلى الأوضاع الداخلية في البلدان العربية الخليجية، وربما على مستقبل مجلس التعاون الخليجي، إذا ما استطاعت إيران أن تفرض نفسها كفاعل إقليمي ضمن منظومة أمنية خليجية جديدة وبديلة من مجلس التعاون؛ فـإعادة تأهيل إيران وإعطاؤها مزيداً من القوة والتغلغل في المشروع، لا يعالج بمنع الاتفاق ولكن بأن الطرف الآخر – أي دول مجلس التعاون الخليجي – تؤهل نفسها للتصدي لهذا المشروع.

ثالثاً: موقف عُمان من الصراع في اليمن وأثره في أمن الخليج

فرض توغّل إيران الإقليمي، وتوقيعها الاتفاق النووي في لوزان، وقائع جديدةً في الإقليم، لعل أبرزها بدْءُ عمليات عاصفة الحزم في اليمن بعد تشكيل تحالف عربي بقيادة السعودية لمواجهة تمدّد جماعة أنصار الله (الحوثيين) المدعومة إيرانيّاً، ومنعها من السيطرة على اليمن. وأرست هذه الوقائع معطىً جديداً في التفكير الاستراتيجي الخليجي من جهة امتلاك زمام المبادرة، والبدء بمواجهة النفوذ الإيراني بالاعتماد على الذات، من دون الارتكاز على الاطمئنان إلى تدابير أمن الخليج الأمريكية التقليدية، وبنسْج تحالفات أمنية وعسكرية مع قوى ودول إقليمية مهمّة، مثل تركيا‏[33]. لقد زال التحفظ التركي عبر تأييد واضح للعملية العسكرية، وعرض تقديم الدعم اللوجستي لها، فقد اعتبر أردوغان أن إيران تمثل تهديداً للأمن والسلم في المنطقة وإزعاجاً لتركيا والسعودية ودول الخليج، ودعاها إلى سحب قواتها من اليمن وسورية والعراق، ويمكن فهم التصريحات التركية الحادة على أنها استثمار للتحالف العشري، وضغط على الجارة اللدود إيران، لتجهيز أرضية للحوار والتفاوض ليس فقط على الملف اليمني، بل ربما على ملفات المنطقة كحزمة واحدة في مقدمها سورية. ولربما عمّق من آثار ذلك الاتفاق النووي بين إيران ودول 5+1، الذي يعني تهميش الدور التركي، مقابل إطلاق يد طهران في ملفات المنطقة‏[34].

لذا، فإن التدخل العربي في اليمن شكّل خطوة لا بد منها، بعد فشل كل المحاولات بين الأطراف المتصارعة لإيجاد حلّ سلمي، ينهي سنوات من الأزمة التي عصفت باليمن، ويوقف الانقلاب الحوثي، بدءاً بالوساطة الأممية، مروراً بالخليجية التي انقلبت عليها الأطراف أكثر من مرّة، إذ لم يعد المشروع الحوثي بعد هذه الاجتياحات مجرد كيان عقائدي يصارع للحصول على نفوذ سياسي في اليمن، بل غدا تجسيداً حياً للمشروع الإيراني في المنطقة. وبهذا، صار الأمن القومي الخليجي في مواجهة التهديد الإيراني المباشر، ومع هذا لا يمكن تجاهل الدور الخليجي السيئ في اليمن، منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى قيام ثورة 2011 في اليمن، فقد دخلت بلدان الخليج في صميم الثورة، ودعمت علي عبد الله صالح الذي يقف الآن مع الحوثيين، ويقاتل معهم ضد حلفائه السابقين.

ودفاعاً عن أمنها القومي، وليس انتصاراً للحق أو دفاعاً عن الشعب اليمني، قادت السعودية التحالف العربي إلى جانب أربع دول في مجلس التعاون، هي الكويت والإمارات وقطر والبحرين، إضافة إلى الأردن ومصر والمغرب، غير أن التحالف جاء من دون سلطنة عمان، التي فضلّت الاعتصام بسياسة النأي بالنفس التي اعتمدتها دوماً. ربما كان للعلاقات العمانية – الإيرانية تأثير مباشر في اتخاذ عُمان هذا الموقف، كون إيران هي الداعم الرئيس للحوثيين، ومن الممكن أن تكون لدى دول الخليج رغبة في إبقاء عُمان باباً لأي مفاوضات محتملة، مع عدم استبعاد سبب علاقاتها الودية بإيران.

بينما يرى محللون أن الخروج العماني عن الإجماع الخليجي هذه المرة، جاء ليعبر عن عمق الشرخ الاستراتيجي الذي تعانيه منظومة التعاون، وليعكس بجلاء حجم الافتراق المفاهيمي بين الفرقاء الخليجيين حول مفهوم «الأمن القومي الخليجي»، وليضع المسكوت عنه في مواجهة مباشرة مع الحقائق على الأرض. من الجدير بالذكر، أن الموقف العماني جاء اتساقاً مع محددات التفكير التي ضبطت إيقاعات العقل السياسي الرسمي، أي في قلب الرؤية الإقليمية العمانية، كما أن الدولة العمانية لا تمتلك رفاهية الإعراض عن الشأن اليمني، أو حتى التعاطي معه من بعد لعدة اعتبارات، منها التماس الجغرافي، والتداخل الثقافي، والامتدادات القبلية مع الجزء الجنوبي من عمان. لذا، فإن تداعيات الحالة اليمنية بخيرها وشرها، هي في مرمى الأمن القومي العماني. وإن الدبلوماسية العمانية لم تلزم نهج «الحياد السلبي» هذه المرة، بل غدت مسقط بوابة للتفاوض بين أطراف النزاع، ووسيطاً رئيساً لإيجاد حل للأزمة‏[35].

ويمكن تحليل السياسة العمانية تجاه اليمن في النقاط التالية:

– قد يسهم دور عُمان بصورة إيجابية في التوسط بين أطراف الصراع في اليمن، ولا سيما أن الحرب قد سببت دماراً كبيراً في البلاد على المستوى الإنساني والمادي، ولا يزال الوضع في تأزم مع اشتداد القتال بين الطرفين المتصارعين، ومقتل عدد كبير من جنود قوات التحالف بما هو غير متوقع، ولربما تكون لدى دول مجلس التعاون رغبة في أن يُبقي عمان بوابةً تفتح على أطراف الصراع في اليمن، كما حدث في الحرب العراقية – الإيرانية، والغزو العراقي للكويت، وغزو التحالف الدولي العراق، بعد ذلك. بمعنى آخر، أن تكون معبراً لأي مفاوضات متوقعة، لا بد منها في النهاية، فلا يمكن أن يطلب أي طرف من عمان التوسط لإنهاء الصراع، إذا كانت ضمن التحالف، ولا سيما الآن، وقد بات الحل السياسي هو الحل الوحيد في الأفق. هذا ما أكده خالد الجبير وزير الخارجية السعودي في أكثر من موضع، أنّ حل الأزمة في اليمن سياسي عبر تطبيق القرار الأممي 2216. كما يبدو، فالتقارب العماني – الإيراني كثيراً ما يثير السخط الخليجي، وبخاصة من جانب السعودية، وهذا ما يدفع السلطنة إلى القيام بأدوار وساطة لتوحي لبلدان الخليج، أن تقاربها مع إيران يمكن أن يخدم الأمن القومي الخليجي.

– يتطلع بعضهم إلى استعمال عُمان لنفوذها للضغط على الحوثيين لتطبيق قرار مجلس الأمن 2216 من دون قيد أو شرط، أو أن تقود عُمان مبادرة «مستقلة» لحل الأزمة في اليمن بحيث تكون صدى للمشروع الأمريكي أو الإيراني. ويرى الباحث عبد الله الغيلاني «أن الأدوار المركزية في لعبة الصراع اليمني يضطلع بها كل من: الولايات المتحدة، إيران، والمملكة العربية السعودية، وأن الدور العماني يقع في غالبه في المربع اللوجستي، التسهيلي (Facilitator)، رغم أن الحالة اليمنية بتداعياتها الحرجة، تتموضع في مدارات الأمن القومي العماني، وتشكل مصدراً محتمـلاً لمهددات استراتيجية عالية الكلفة». ومع هذا، لم تعلن السلطنة رسمياً عن مبادرة مستقلة تستبطن المصالح العمانية العليا، وتفتح أفقاً لتوافقات موضوعية عادلة، بعيداً من حسابات مشروعي الهيمنة الأمريكي والإيراني. ولم تبدِ موقفاً رادعاً إزاء الهجوم الحوثي على مؤسسات الدولة اليمنية، ولم تستثمر دالتها على إيران، التي كانت حاضرة في جولات التفاوض تلك، للدفع في اتجاه عقلنة المشروع الحوثي‏[36].

خاتمة

تنهج السلطنة سياسة خارجية خارجة على المألوف، في المحيطين الخليجي والعربي، وقد شكّلت علاقتها مع إيران مثالاً للسياسة الخارجية المستقلة، التي تحكمها عدة عناصر هي التاريخ، والجغرافيا، والمصالح الحيوية، وميزان القوى الإقليمي، وكون السلطنة أحد الأعضاء الفاعلين والمؤسسين لمجلس التعاون الخليجي، فقد أثرت علاقتها بإيران من دون شك، في أمن المنطقة واستقرارها، وقد زادت هذه العلاقة قوة ومتانة بعد أحداث الربيع العربي، وما ترتب عليه من تداعيات خطرة على أمن المنطقة، في وقت تعاني دول الخليج أوضاعاً داخلية حرجة على المستوى الأمني والسياسي والاقتصادي.

يقوم مشروع الاتحاد الخليجي في الدرجة الأولى على مواجهة التهديدات الخارجية لبناء تكتل خليجي ذي ثقل استراتيجي مقابل الأطماع الخارجية، وتأتي إيران في مقدمة القوى التي تشكّل هاجساً لدول المنطقة، غير أن السلطنة لا تزال رافضة هذا المشروع وهو موقف استراتيجي في الدرجة الأولى وينسجم مع التخوف العماني من فقدان السيادة، وبخاصة في ظل الحرص السعودي على الهيمنة على منظومة التعاون، كما أن عُمان لا تشاطر دول الخليج توجسها من إيران وتالياً، فهي ترى أن تحويل إيران إلى حليف استراتيجي وسياسي واقتصادي، أجدى من الاستمرار في معاداتها، الذي سيكون له تداعيات سلبية على أمن المنطقة واستقرارها.

ساهم التقارب العماني – الإيراني في قيام السلطنة بأدوار مختلفة للوساطة بين القوى العالمية أهمها على الإطلاق الملف النووي الإيراني، والتوصل إلى اتفاق تاريخي بين الولايات المتحدة وحلفائها مع إيران؛ فالاتفاق النووي الإيراني والانفراج مع الغرب باعتقادي يمثّلان منعطفاً تاريخياً ذا بُعد إيجابي، على الرغم من التداعيات المتوقعة ومخاطرها الأمنية والسياسية والاقتصادية على الأمن الإقليمي الخليجي، وعلى الأوضاع الداخلية في البلدان العربية الخليجية، وربما على مستقبل مجلس التعاون الخليجي، لكن إعادة تأهيل إيران وإعطاءها مزيداً من القوة والتغلغل في المشروع، لا يُعالج بمنع الاتفاق، فلا بد من أن تكون لدى بلدان الخليج أدوات ورؤى للتصدي لهذا المشروع، حتى وإن اختلف السيناريو المتوقع حول تداعيات الاتفاق مع إيران سواء أكان سيعمق من التدخل الإيراني في المنطقة أو سينأى بها من الصراعات الإقليمية، ولا سيما أن بلدان الخليج فشلت في التصدي للمشروع الإيراني، وظلت تعبّر عن مخاوفها معتمدة على الحليف الأمريكي من دون وجود رؤية واضحة وأدوات لمواجهته.

يبدو أن التوغّل الإيراني في اليمن ودعمها الحوثيين ومساسها بالأمن الخليجي بصورة عميقة ومباشرة، أعطى دول مجلس التعاون موقفاً استراتيجياً جديداً في الاعتماد على الذات في مواجهة إيران، وبنسْج تحالفات أمنية وعسكرية مع قوى ودول إقليمية مهمّة؛ مثل تركيا، بعيداً من الحليف التقليدي وهو الولايات المتحدة.

ومع اختلاف التحليلات حول دوافع السلطنة في عدم مشاركتها التحالف الذي تقوده السعودية لضرب الحوثيين في اليمن، حيث يُنظر إلى تقاربها مع إيران كأحد الدوافع الرئيسة لاتخاذها هذا الموقف، فإنه من المتوقع أن يسهم دور عُمان إيجاباً في التوسط بين أطراف الصراع في اليمن، ولا سيَّما أن الحرب قد سببت دماراً كبيراً في البلاد على المستوى الإنساني والمادي، وأصبحت بلدان الخليج تواجه صعوبة واضحة في التعامل مع هذا الملف الشائك الذي يشكل لها مخاوف أمنية كبيرة، ولا سيَّما بعد سقوط عدد كبير من القتلى بين صفوف قوات التحالف بشكل غير متوقع، وعلى عُمان أن تقود مبادرة عمانية مستقلة لحل الأزمة في اليمن بعيداً من صدى المشروع الأمريكي أو الإيراني.