تقديم:

عندما احتل الاستعمار الفرنسي الجزائر سنة 1830 ومن ثم تونس سنة 1881 والمغرب سنة 1912، غيَّر البنى الاقتصادية التقليدية في البلدان المغاربية، وقد أدّى الاستيطان دوراً جوهرياً في هذا التغيير الذي أوصل إلى التأثير المباشر والجوهري في المجتمع ووضعه الديمغرافي وتشكيله الطبقي. وعندما نقارن أوضاع المنطقة في ظل السيطرة الغربية بالعهد السابق عليها نرى أن الأتراك الذين كانوا يسيطرون على المغارب قبل الاستعمار الغربي أبقوا على البنية الاجتماعية المحلية من دون أن يمسّوها، بل استخدموها واستفادوا منها، حيث كانوا يستمدون منها دخلهم وقوتهم، أما الاستعمار الغربي فلم يستطع استغلال المنطقة إلا بتحطيم الأسس الذاتية للسكان من طريق الاستيطان بالدرجة الأولى‏[1].

لقد أتاح الاستيطان مجالاً خصباً لاستثمار الأفراد والشركات الرأسمالية الغربية في بلدان المغارب من طريق تنمية رأسمالها وتنويع استثماراتها وربط اقتصاد تلك البلدان بالاقتصاد الرأسمالي الغربي، فأدى ذلك إلى نمو الرأسمالية الغربية في المغارب كامتداد للوضع الاقتصادي في الغرب، ولم تكن تهدف إلى تنمية المنطقة أو تتيح للسكان الأصليين ممارسة حقهم في اقتصاد يلبّي حاجة المواطنين للمواد الأساسية ويعمل على تنميتها، بل تهدف إلى سد حاجة السوق في الدول الغربية وتلبية سياسات دولها في كل الظروف.

فمن منطلق تأكيد حصول انتقال بوعي النخب السياسية القائدة للحركات الوطنية المغاربية تحديداً مع مستهل الأربعينيات، نعتقد أن المحدد الاقتصادي وحده غير كافٍ لمقاربة وضع المغارب خلال الحقبة الاستعمارية‏[2]، وأن اعتماد البعدَين الاجتماعي (حجم التأثير الاستعماري) والأيديولوجي (أوجه ردود الفعل الوطنية وطبيعتها) هو الكفيل نسبياً‏[3]، بالسماح بمثل هذه المقاربة.

لقد برزت مع نهاية الحرب الباردة عوامل سياسية إقليمية جديدة في الاستراتيجية الدولية الأمريكية، تمثلت بالرهان على التجمعات التجارية الإقليمية وتشجيع الليبرالية الاقتصادية. وقد بدأ المسؤولون الأمريكيون منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي يولون أهمية خاصة للمنطقة المغاربية، في سياق مشروع اندماجي إقليمي، يسمح بإقامة سوق مغاربية تستقطب اهتمام رجال الأعمال والمستثمرين الأمريكيين.

جاء هذا المنظور الأمريكي الجديد للمنطقة منسجماً مع التحولات الدولية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، التي تراجع فيها محرك العامل الأيديولوجي لحساب عوامل التنافس الاقتصادي على الأسواق التجارية العالمية والإقليمية، ولا سيّما بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا والمجموعات الآسيوية وما تمثله الشركات وأصحاب رؤوس الأموال للضغط على صناع القرار الأمريكي، وتأثيرها في توجه السياسة الأمريكية في المنطقة المغاربية بعد الحرب الباردة.

تُرى كيف أثر النزول الأمريكي في هاته البلدان؟ وبماذا تميزت اقتصادات بلدان المغارب في تلك الفترة؟ وما التغيرات التي مست بناها الاقتصادية والاجتماعية؟ وما تداعيات التدخل الأمريكي بالمنطقة مع نهاية القرن العشرين؟

أولاً: السياق التاريخي للنزول الأمريكي بالمنطقة

لم تدخل الولايات المتحدة الأمريكية الحرب رسمياً وعملياً إلا بعدما رأت أن اكتساح القوات الألمانية لكثير من الأقطار وتهديدها القوي للقضاء على الحلفاء وأخيراً انضمام اليابان إليها، وإقامتهم قواعد حربية في وسط وشمال الفيتنام ثم تسلل الأسطول الياباني إلى جزر هاواي وهجوم طائراته على الأسطول الأمريكي الذي كان راسياً في بيرل هاربور، وقتله نحو ثلاثة آلاف أمريكي، إلى آخر ما وقع بعد ذلك؛ إزاء كل هذا قررت أمريكا الدخول إلى الحرب إلى جانب حلفائها وخصوصاً إنكلترا. لقد كانت الولايات المتحدة تظهر الحياد والانعزال، وإن كانت ميالة إلى تأييد الحلفاء، تمدهم بالأسلحة والعتاد، ولكنها رأت أن سياسة الانعزال لا تجلب لها هي نفسها إلا الدمار، فقررت عندئذ الدخول في الحرب عملياً وإقناع الرأي الأمريكي بهذا الدخول. وبدخول أمريكا الحرب صارت كفة الحلفاء تتقوى على ألمانيا، وصارت القوات الألمانية تتراجع شيئاً فشيئاً إلى الوراء‏[4].

كان دخول أمريكا الحرب أواخر سنة 1941 أي بعد مضي أكثر من عامين على اشتعالها، وقبل ذلك بقليل حصل لقاء خطير جداً بين الرئيس روزفلت والوزير الأول البريطاني تشرشل على متن السفينة الحربية «بوتوماك»‏[5] التي كانت راسية في المياه الكندية، وفي هذا اللقاء وضعت وثيقة ما سمي «الميثاق الأطلسي»، ووقعها الرئيسان، وفيها حددت المبادئ التي يجب أن يعمل الحلفاء على تطبيقها لمصلحة الشعوب، بعد انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء.

لقد كانت سنة 1942 سنة تحوُّل في الحرب الطاحنة الدائرة في العالم، فرغم أن النازيين وحلفاءهم سيطروا على أوروبا وشمال أفريقيا وجنوب شرق آسيا، ورغم الانتصارات التي كان يحققها «رومل» في كثير من المواقع، فإن الحلفاء صاروا يردّون الهجوم ويسترجعون بعض المواقع، سواء بقيادة «مونتغمري» الذي رد الألمان على أعقابهم خاسرين في معركة «العلمين» أو بقيادة الجنرال إيزنهاور الذي أخذ القيادة العليا، وقرر طرد الألمان من شمال أفريقيا، وتطويق قوات رومل والإيطاليين في المراكز التي كانوا يحتلونها. وهكذا وصلت القوات الأمريكية إلى البلدان المغاربية (المغرب، الجزائر، تونس)، لتطرد النازيين والبيتانيين الفرنسيين، وتقضي القضاء المبرم على ما كان يسميه الألمان «الجبهة الأفريقية»‏[6]. تطورت إذن ظروف الحرب وجاءت سنة 1942 لتقرر القوات الأمريكية النزول على شواطئ أفريقيا الشمالية ومنها الشواطئ المغربية.

1 – النزول الأمريكي في المغرب

كانت الليلة 7 – 8 تشرين الثاني/نوفمبر دامسة الظلام، ووصلت البواخر الأمريكية إلى آسفي في الساعة الحادية عشرة ليـلاً والدقيقة الخامسة والأربعين، وإلى المحمدية في الحادية عشرة والثالثة والخمسين، وإلى المهدية في الثانية عشرة ليـلاً عند مصب نهر سبو، وكان الأميرال هيويت على ظهر الطرادة أوكوستا ومعه الجنرال جورج باتن الابن القائد العام للقوات الأمريكية التي أنزلت في المغرب، وكان أمام آسفي الجنرال إيرنيست هارمون ومعه 6500 رجل‏[7]، وكان يجهل في الساعة الثالثة والدقيقة العشرين صباحاً أن حالة الطوارئ قد أُعلنت في صفوف الجيش الفرنسي بآسفي استعداداً لما قد يدهم المدينة من جهة البحر، وكانت الليلة حالكة حتى تعسرت عملية إنزال قوارب العبور إلى اليابسة، فأجّل إنزال القوات إلى الساعة الرابعة والدقيقة الثامنة والثلاثين صباحاً، وبعد سبع دقائق وصل أول جندي أمريكي إلى ميناء آسفي، وفي اليوم التالي أي التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر انطلقت المصفحات الأمريكية في الطرق متجهة إلى الدار البيضاء، أما المطار فقد استولى عليه الأمريكيون في مساء 10 تشرين الثاني/نوفمبر بعد توقف القتال الرسمي‏[8].

أما عملية إنزال القوات شمالاً فكانت ببوقنادل (شاطئ الأمم)، فقد وصلت إلى مصب نهر سبو على بعد 5 كلم من الشاطئ، وفي الساعة الثانية عشرة ليـلاً، البارجة العتيقة «تيكساس» والطرادة الخفيفة «سافانا» واثنتان من حاملات الطائرات وثلاث مدمرات وأربع خافرات وثماني ناقلات جنود، على ظهرها 9000 رجل، وكان الجنود والبحارة يبصرون أنوار مدينة المهدية تتلألأ، غير أن التيارات البحرية دفعت بالبواخر فبددتها، فأجلت عملية الإنزال إلى الساعة الرابعة والنصف، وكان الجنرال بتوار قد أمر مدافع الشاطئ بعدم إطلاق النار‏[9]، غير أن هذا الأمر بطل لما تأخر نزول الأمريكيين، وما لبثوا أن أمدوا بما يقرب من خمسين سيارة مصفحة قدمت من الرباط، ودمرت الطائرات الأمريكية عدداً من الطائرات الفرنسية وهي لا تزال جاثمة على الأرض، واستمر القتال ثلاثة أيام فكانت الخسائر جسيمة عند الفريقين: 88 جندياً أمريكيا وخسارات لها بال في صفوف الرماة المغاربة.

أما في المحمدية فقد ألقت الطرادة «أوكوستا» وكذلك البارجة «بروكلين» وأربع مدمرات وإحدى عشرة خافرة وخمس عشرة ناقلة مراسيها على بعد 14 ميـلاً من المدينة، وكان الجنرال بيتوار قد أخبر قائد الجيش الفرنسي بالمحمدية بعملية النزول، إذ كانت مقررة في الساعة الثانية، ولما طال انتظاره ولم ينزل أحد رد رجاله إلى ثكناتهم، فكانت عملية الإنزال هذه أسهل من غيرها، لكنها فشلت أكثر من غيرها، فأخذ الجنود يتذمرون ويرفضون النزول بواسطة الشباك الممدودة على جوانب البواخر، وكان كثير منهم قد نشبوا في عيون الشباك، فأجلت ساعة الإنزال، ثم عادت سفن الريادة التي كانت بعثت من قبل لاستكشاف المنطقة، غير أنها اختفت لما وصلت قوارب الإنزال الأولى، وأخذت القوارب تنزل الجنود في الساعة الرابعة والدقيقة الخامسة عشرة من البواخر إلى الشاطئ كل ربع ساعة.

كان النزول الأمريكي بالمغرب مفاجئاً لنوكيس، فقرر أن تقوم الجيوش التي تحت إمرته بمقاومتها، وكان موقف السلطان محمد بن يوسف الرفض القاطع لمقاومة الجيوش الأمريكية‏[10]، فرفض بالتالي أن ينقل عاصمة ملكه إلى فاس عندما طلب منه نوكيس ذلك، ولم يوافق على مقاومة هاته الجيوش النازلة بالشواطئ، مؤكداً للمقيم العام الفرنسي أن المغرب غير مستهدف لأخطار، ونزول الجيوش الأمريكية ليس نزول احتلال ولا هو حرب ضده، بل إن هذا النزول يتمشى مع الخط الذي ارتضاه لنفسه، عندما أعلن هو الحرب نفسه ضد ألمانيا، وكل موقف آخر يعتبر تنكراً لما ارتضاه لنفسه، ثم خاطب المقيم العام الفرنسي قائـلاً: «إن الدم الفرنسي ودم الجنود المغاربة ودماء المدنيين تراق، وقد أعلن الرئيس روزفلت والجنرال أيزنهاور أن القوات الحليفة أتت إلى المغرب كقوات صديقة، وأنت تعرف أكثر مني أن هذه القوات لا تغلب، فعليك إذاً أن توقف القتال، أما بالنسبة لي كملك للأمة المغربية فإن أول واجب علي هو حقن الدماء»‏[11].

كان موقف نوكيس غير متجاوب مع السلطان، لذلك كان مصراً على مقاومة نزول الجيوش الحليفة منفذاً للأوامر التي يتلقاها من الجنرال دارلان الذي كان مقيماً بالجزائر، والذي كان وافقه على المقاومة ورفض الإنذار الأمريكي، وهكذا دخلت الجيوش الواقعة تحت إمرة نوكيس في حرب مع الجيوش الأمريكية، الأمر الذي لم يرتضه السلطان ولم يوافق عليه.

لم تدم مقاومة نوكيس إلا ثلاثة أيام، 8 و9 و10 تشرين الثاني/نوفمبر، ثم توقفت بعد ذلك بأمر من الجنرال دارلان نفسه، واستسلمت للجنرال إيزنهاور، وانتهى الأمر بعزل الجنرال نوكيس من منصبه كمقيم عام ثم فراره إلى البرتغال.

2 – النزول الأمريكي في الجزائر

نزلت القوات الأمريكية في الجزائر في الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1942‏[12]، ورحب الجميع بهذا النزول على أساس أنه يمثل علامة التحرر لتحقيق مبادئ الميثاق الأطلسي، وكلا الطرفين (المحور والحلفاء) كشف عن ضعف القوة الاستعمارية في نظر الشعوب المضطهدة، وساهم في يقظتها وتمسكها بحقها ومصيرها.

ورغم الدعاية السابقة فإن موقف أمريكا الرسمي من الجزائر وشمال أفريقيا منذ ربيع 1942، أي قبل نزول الحلفاء بعدة أشهر، كان يقوم على احترام السيادة الفرنسية على شمال أفريقيا، ومن ثم عدم الاعتراف بالحركة الوطنية. ومهما يكن الأمر فقد اجتمع ممثلو الحلفاء في شرشال يوم 27 تشرين الأول/أكتوبر سنة 1942 وخططوا لعمليات نزول الجنود. وقد حضر عن الجانب الفرنسي الجنرال جيرو وبعض أنصار ديغول والجمهوريين والملكيين وغيرهم ممن كانوا يمثلون قطاع المقاومة الفرنسية للاحتلال الفاشي، وحضر من الجانب الأمريكي الدبلوماسي روبرت مورفي والجنرال كلارك وضباط آخرون، كما حضر هارولد ماكميلان وبعض الضباط عن بريطانيا.

أما موقف الشعب الجزائري وزعماء الحركة الوطنية فلم يكن في الحسبان‏[13]، وكان الحلفاء في ما يبدو مطمئنين لولاء السكان، لأن دعايتهم السابقة قد جعلت منهم أبطالاً محررين يهدفون إلى تخليص الشعوب من الظلم والاضطهاد. وكانت التقارير الأمريكية تشير إلى أن السكان المسلمين قد برهنوا على صداقتهم وولائهم للحلفاء. ولعل ذلك هو السبب في عدم أخذ السكان في الحسبان يوم الاجتماع الذي وقع فيه وضع الاستراتيجية لنزول قوات الحلفاء، إضافة إلى أن قيادة الحركة الوطنية كانت شبه مفقودة في هذه الأثناء‏[14].

وقبل عملية الإنزال قام الأمريكيون بحملة دعاية إعلامية ونفسية لكسب الفرنسيين إلى جانبهم، من ذلك أن الرئيس روزفلت أخبر الفرنسيين بأن أمريكا تنوي النزول في شمال أفريقيا قبل أن يفعل ذلك المحور، وأن هدف أمريكا من ذلك هو منع المحور من احتلالها (شمال أفريقيا)، والحفاظ على السيادة الفرنسية في الجزائر، وفي الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر 1942 أمر روزفلت ممثله الشخصي مورفي بأن يتصل بواسطة مساعديه في الحرب المعنوية بأولئك المواطنين الفرنسيين الذين يعدُّهم جديرين بالثقة، وأن يخبر هؤلاء بأن هدف الجنود الأمريكان سيكون منع المحور من احتلال الجزائر والحفاظ على السيادة الفرنسية في الجزائر‏[15]، وأن ليس هناك تغيير سيحدث في الإدارة المدنية الفرنسية الموجودة من جانب الولايات المتحدة.

وعشية نزول الحلفاء أذاعوا منشوراً وزعوه بالطائرات على فرنسا وعلى شمال أفريقيا، وكان إيزنهاور الذي أذاع المنشور قد أعلن أن هدفهم هو إيقاع الهزيمة بالإيطاليين والألمان وتحرير فرنسا كما حدث سنة 1917، وهذا واضح في أن مبادئ الميثاق الأطلسي غير واردة بالنسبة إلى الشعب المستعمر.

يمكن تلخيص أهداف الحلفاء في الجزائر، إضافة إلى المحافظة على السيادة الفرنسية، في ما يلي‏[16]:

  •  إيجاد إدارة مستقرة ناجحة.
  •  إعادة الحياة الاقتصادية المخربة.
  •  إعادة قرار كريميو إلى اليهود.

هذه الأهداف إذاً تعمل لمصلحة الفرنسيين واليهود بتأييد من الحلفاء، أما بقية السكان فللحلفاء رأي آخر فيهم.

وقد شجعت هذه الوعود والتحركات بعض الجزائريين على أن كسب الحرب إلى جانب الحلفاء سيحقق رغبتهم في الحرية والاستقلال الذاتي، إضافة إلى أن نهاية سنة 1942 قد شهدت الحرية للحزب الشيوعي الجزائري، لكن أعضاء حزب الشعب ظلوا في السجون رغم نزول الحلفاء، وهذا يبرهن على أن الإدارة الفرنسية كانت هي المسيطرة على الوضع الداخلي، كما يبرهن على خشية الحلفاء من الوطنيين الاستقلاليين، ولا يمكن أن نفهم لماذا يطلق الحلفاء سراح الشيوعيين ويبقون على الوطنيين في السجن‏[17]، في الوقت الذي كانوا يطالبون فيه الجزائريين بتأييدهم لكسب الحرب ضد النازية. أليس موقف الحلفاء من الوطنيين الاستقلاليين هو إذاً موقف حكومات فرنسا الاستعمارية وموقف حكومة فيشي؟ لقد وقف الحلفاء إلى جانب إعادة قرار كريميو إلى اليهود تحت ضغط يهود أمريكا، وإلى جانب إطلاق سراح الشيوعيين تحت ضغط موسكو، ولكنهم لم يقفوا إلى جانب الوطنيين الاستقلاليين لأنه لا أحد يضغط عليهم سوى المبادئ التي أعلنوها باسم الحرية والديمقراطية وتقرير المصير.

عندما نزل الحلفاء مدينة الجزائر كان ممثل السلطة العسكرية فيها هو الأدميرال دارلان، وممثل السلطة المدنية هو السيد شاتيل، ولم يجد الحلفاء مقاومة تذكر في مدينة الجزائر ولكنهم واجهوا مقاومة شديدة رغم أنها كانت مؤقتة، في إقليمي وهران وقسنطينة‏[18].

3 – النزول الأمريكي في تونس

نزلت جيوش المحور في تونس يوم 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1942، فقد نزلت الجيوش الألمانية فيها بالاتفاق مع حكومة فيشي الفرنسية الموالية للألمان‏[19].

وفي هذه الأثناء بذل الباي محمد المنصف جهوده لإطلاق سراح الزعماء المعتقلين، ولم تلبث جيوش الحلفاء أن نزلت في تونس في أيار/مايو 1943، حتى اضطرت القوات الألمانية إلى الانسحاب منها.

لم تستطع السلطات الفرنسية الجديدة الصبر على السياسة الوطنية التي اتبعها الباي محمد المنصف، لذلك اتهمته بالتآمر مع دول المحور وقت وجودها في البلاد، ثم قررت عزله ونفيه إلى خارج البلاد.

طلب الجنرال جوان إلى الباي أن يتنازل عن العرش، ولكنه رفض وتمسك بحقه الشرعي، وعندئذ اقتحم الجنرال جيرو، قائد القوات الفرنسية، القصرَ وحمل الباي عنوة في طائرة خاصة إلى المنفى بجنوب الجزائر، كما أرغم الباي محمد المنصف على التنازل للعرش لابن عمه الأمين، وهو آخر بايات تونس. إضافة إلى ذلك أصدرت السلطات الفرنسية على مئات الوطنيين أحكاماً قاسية بالإعدام والسجن لمدد طويلة‏[20]، كما شكلت حكومة لإدارة البلاد كان أغلب أعضائها من الفرنسيين، وكان لذلك رد فعل عنيف بين مجموع الشعب.

ثانياً: الآثار السياسية للنزول الأمريكي في المنطقة

مهما يكن من أمر فإن النزول الأمريكي بالبلدان المغاربية الثلاثة قد خلف مجموعة من الآثار على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومجموعة من التحولات أثرت في مستوى وعي المجتمعات المغاربية في تلك الفترة.

تغيرت الأوضاع السياسية بالبلدان المغاربية بعد نزول القوات الأمريكية فيها، فلم يبقَ النفوذ المطلق للقوات الفرنسية الخاضعة لسيطرة بيتان، وخلف هذا النزول بالتالي عدة آثار على جميع المستويات داخل هذه البلدان، لعل أهمها الحدث التاريخي المتمثل بمؤتمر أنفا؛ فبعدما صارت كفة الحلفاء ترجح، أخذت الاجتماعات تتوالى لتقرير مصير الحرب وتوحيد الأفكار وتمتين علاقات المنتصرين، ووضع استراتيجية موحدة عسكرية وسياسية لضمان الانتصار وتثبيت مواقع الحلفاء. هكذا انعقد مؤتمر في الدار البيضاء بين 14 و24 كانون الثاني/يناير 1943، حضره بالخصوص الرئيس الأمريكي روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، ومساعدوهما وأعوانهما من الضباط الكبار والمدنيين المسؤولين، إضافة إلى السلطان محمد بن يوسف. وكان من المفروض أن يحضره أيضاً الرئيس السوفياتي ستالين والرئيس الصيني تشان كاي تشيك، ولكنهما اعتذرا عن الحضور نظراً إلى الظروف الحربية التي كانت تلزمهما بالبقاء ببلديهما، للإشراف بنفسهما على العمليات العسكرية التي كانت تجري‏[21].

وافق حلول الرئيس الأمريكي روزفلت والوزير الأول الإنكليزي تشرشل منعطفاً معتبَراً في مجرى الحرب العالمية الثانية، ذلك أن العالم الحر أصبح ينظم مسيرته إلى النصر، إذ في أنفا صرح الرئيس روزفلت باسم الحلفاء عزم هؤلاء على الاستمرار في الحرب إلى أن تستسلم دول المحور من دون شرط، وبذلك بعث مؤتمر أنفا آمالاً عريضة من جديد في نفوس سكان أوروبا.

اتخذ المؤتمر في الميدان العسكري قرارات سرية أعدتها هيئة أركان الحرب الأمريكية والإنكليزية وهي‏[22]:

- غزو صقلية في أجل قريب.

- غزو أوروبا في ربيع سنة 1944، وقد حددت الشواطئ التي تنزل فيها الجنود في منطقة نورمانديا.

- التزام روزفلت كتابة بمد شمال أفريقيا بالسلاح والعتاد اللازم لتجهيز ثلاث فرق مصفحة وثماني فرق محمولة و500 طائرة مطاردة، و300 طائرة مقنبلة و200 طائرة للنقل، وقد سلمت بعد ذلك في شهر نيسان/أبريل 1943 تجهيزات فوجين اثنين مصفحين وثلاثة أفواج للاستطلاع وثلاث فرق محمولة وثلاث كتائب من مطاردات الدبابات.

أما في الميدان الدبلوماسي فكان لقاء سلطان المغرب محمد بن يوسف بروزفلت وتشرشل حدثاً تاريخياً، إذ أخذ يحقق بوضوح فكرة ميثاق المحيط الأطلسي، وأخذت تبدو آمال المسيرة نحو استقلال المغرب‏[23].

كما صرح روزفلت باليوم الذي سيصل فيه المغرب إلى الاستقلال وفقاً لمبادئ الحلف الأطلسي، وعلى أنه بعد انتهاء الحرب ستصبح إعادة التنظيم السياسي الاقتصادي للمجتمعات الإنسانية ضرورة ملحة.

ثالثاً: الآثار الاقتصادية للنزول الأمريكي في المنطقة

ربما لا يكفي في البحث في تطور الحركات الوطنية المغاربية ومقاومتها الاستعمار وأساليبه أن نقتصر على الجوانب السياسية والنضالية دون سواها، بل يفترض علمياً أن نتناول المظاهر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك لعمق الصلات التي ربطت الظاهرة الاستعمارية بالاقتصاد ولوزن هذا الأخير وفعاليته، في حقل توسع الاحتلال وانتشاره واستقرار النظام المنتمي إليه.

خلاصة مركزية سنعتمدها عند تحليل نتائج الإدماج ومضاعفاته على المديين المتوسط والبعيد‏[24]، وهي أن الاقتصاد المغاربي قد تعرض لاختلالات بنيوية غيّرت أولوياته ووظائف قطاعاته، بصورة تستجيب لمتطلبات الارتباط بالنظام الرأسمالي، ويتلاءم ومقتضيات التقسيم الدولي للعمل، الذي يعد إحدى أدواته الأساسية‏[25].

ثلاثة قطاعات كفيلة بإعطائنا نظرة دقيقة وشاملة عن عمق الإدماج وتفكك الاقتصاد المغاربي وهي: الزراعة، الصناعة، ثم التجارة الخارجية.

1 – الزراعــة

شكل استيطان مجالات الزراعة واستثمار منتوجاتها هدفاً حيوياً في استراتيجية فرنسا الاستعمارية، فقد تعرضت بفعل الإدماج لتغييرات عميقة، أعادت هيكلة بناها الإنتاجية على أساس مقتضيات السوق الفرنسية والمراكز الرأسمالية، كما أعاقت تطور الإمكانات المحلية، وقللت فرص استعادتها مكانتها الطبيعية.

هذا ونعتقد مع سمير أمين أن «الاستعمار الذي استولى على الجزائر فتونس فالمغرب، وبين البلد والآخر ما يقرب من ثلاثين عاماً، قد طور بالتأكيد الطرائق الزراعية في مناطق كانت بقيت أحياناً حتى ذلك الوقت قفراً، لكن بما أن هذه الثروة الزراعية تركزت في أراضي الاستعمار وحدها تقريباً، فقد كانت التطورات في الزراعة بطيئة على وجه الإجمال، تراوحت بين 1 و2,5 بالمئة في العام حسب الفترات المختلفة…»‏[26]، الحقيقة التي يمكن معاينتها بنوعية المنتوجات وتمركزها بالدول الثلاث.

فإنتاج الحبوب مثـلاً ظل متقارباً من حيث نسبه المئوية، وضعيفاً من حيث مواكبته النمو الديمغرافي بأقطار المغارب، فهكذا لم يتجاوز تطور إنتاج هذه المادة بالجزائر وعلى امتداد الفترة الفاصلة بين عامي 1930 و1945 أكثر من 1,7 بالمئة، متراوحاً ما بين 5,2 و18,8 قنطار سنوياً، وهي النسبة التي شهدتها تونس (1,7 بالمئة بين عامي 1910 و1955) وإلى حد ما المغرب‏[27].

لكن بالموازاة مع ضعف هذا المنتوج الذي يُعد نموه ضرورة أساسية بالنسبة إلى حاجات المجتمعات المغاربية ومتطلباتها اليومية، أدخلت أنواع زراعية جديدة وتطورت إمكاناتها، وذلك لاستجابتها للأسواق الرأسمالية، ومقتضيات التقسيم الدولي للعمل، نعني بذلك الحوامض والبواكير والصيد البحري؛ ففي الجزائر مثـلاً شهدت زراعة الكروم نمواً ضخماً مع بداية الحرب العالمية الثانية، فمن 180.414 هكتاراً من المساحات الزراعية عام 1939، انتقلت إلى 353.337 هكتاراً سنة 1942، و339.512 هكتاراً سنة 1945، لتبلغ 410.131 هكتاراً خلال 1949، وهي أرقام مكنت المعمرين الفرنسيين بالجزائر من تحقيق نسب مرتفعة من إنتاج أنواع الخمور تجاوزت 18.371.100 هكتولتر في 1941 – 1945، الأمر الذي لم يقتصر على إشباع حاجات السوق الفرنسي وحسب، بل خلق أزمة تنافسية حادة فرضت على البرلمان التدخل لصياغة حلول قانونية في شأنها‏[28]. وعلى حساب الحبوب أيضاً اهتم المعمرون بالحوامض التي كانت تدر عليهم أضعاف ما كانوا يجنونه من القمح والشعير. وقد تطور منتوجها من الحوامض من 700.000 قنطار سنة 1931 إلى 2.716.000 قنطار سنة 1950، وأصبح بذلك يحتل المرتبة الثانية في قائمة الصادرات‏[29]. ولمصلحة الكروم والحوامض قضي في ضواحي معسكر على زراعة الأرز وكذلك الأمر في شمال شرق الجزائر، حيث أهملت زراعة القمح وسائر أنواع الحبوب الغذائية والفول والعدس وغيرها.

وإذا كانت مغارس الكروم والحوامض قد أنشئت على حساب زراعة القمح والشعير، فإن اقتصار المعمرين على استغلال المساحات التي وجدها المستعمر عند الغزو، وعدم التفاتهم إلى الجنوب حيث تتكاثر المياه الجوفية، قد أدّيا بسبب ارتفاع عدد السكان وبالتالي تزايد الحاجات إلى تحويل الجزائر من بلد مزدهر إلى مستعمرة لا يستفيد منها سوى المعمرين الذين اجتمعت بين أيديهم زهاء ثلاثة ملايين هكتار من أخصب الأراضي‏[30].

وفي المغرب حيث استحوذ الاستعمار على ما يفوق مليون هكتار من الأراضي الفلاحية‏[31]، انصب الاهتمام على المنتوجات الأكثر إقبالاً من لدن الجالية الفرنسية والأوروبية، فهكذا ستغطي مساحات زراعة الكروم 41.000 هكتاراً من الأراضي الخصبة، موزعة على المدن والمناطق النافعة بتقدير الاستعمار كمكناس والدار البيضاء والرباط، وبعض الضيعات بوجدة‏[32]، والأمر نفسه يقال بالنسبة إلى الحوامض التي تطورت ابتداء من سنة 1941، بفعل أساليب العصرنة التي أدخلها المعمرون، ونافسوا بل دمروا بها الإمكانات المحلية، ولا سيَّما أن الزراعات المخصصة لإنتاج الخمور تتناقض والمعتقدات الدينية للمغاربة، الأمر الذي حرم هؤلاء من أراضٍ شاسعة كان من الممكن أن تشغل لمنتوجات هم بحاجة ماسة إليها.

أما في تونس فقد عرقلت الحرب العالمية الثانية تقدم الاستعمار الزراعي بها، ذلك أن الافتقار إلى الوقود والآلات الزراعية والأسمدة وغير ذلك، قد تسبب في حدوث مشاكل عويصة للزراعة التونسية، كما أن الحرب التي دارت بعض فصولها بالتراب التونسي (1942 – 1943) قد أفضت إلى تدمير عدد مهم من الآلات والمنشآت الزراعية بشمال البلاد؛ وأخيراً فإن الجفاف الحاصل في السنتين المواليتين لانتهاء الحرب (1946 و1947) قد كانت له آثار قاسية في الزراعة الاستعمارية‏[33].

تسببت حاجات السوق الفرنسية غداة الحرب في إعطاء دفع جديد إلى منتوج الحبوب في البلاد التونسية، وبقي نصيب الأوروبيين دائماً هو الأوفر، وذلك بفضل اتساع رقعة المساحات المزروعة من دون انقطاع وارتفاع المحاصيل بمعدل متراوح بين 11 و14 قنطاراً من القمح في الهكتار الواحد (مقابل إنتاج متراوح بين 2 و3 بالنسبة للمزارعين التونسيين).

كما لوحظ غداة الحرب العالمية الثانية تقهقر إنتاج القمح اللين الذي مكن عدداً من المعمرين بين سنة 1930 وسنة 1945 من تكوين ثروات حقيقية، في حين شهد القمح الصلب تقدماً كبيراً وفاقت قيمته التجارية في السوق الفرنسية قيمة القمح اللين‏[34]. ففي سنة 1941 بلغ معدل منتوج القمح اللين 23 قنطاراً في الهكتار، ونزل إلى 16 قنطاراً في الهكتار في سنة 1952 بوادي مجردة الوسطى حيث أنهك التربة الاستعمال المفرط للآلات الزراعية. تمثل رد فعل المعمرين بمحاولة التسرب بجميع السبل إلى مناطق زراعة الحبوب بالتل حيث ما زالت الملكية الإسلامية سائدة، فاستولوا على الأراضي الخصبة بالكريب والسرس وتبرسق والكاف وتاجروين، وهي المناطق التي تحتل فيها زراعة الحبوب التونسية مكانة مرموقة.

أما زراعة الكروم فقد بقيت الزراعة الأوروبية المثالية، فالخمور التي تنتجها معدّة أولاً وبالذات للسوق الفرنسية، حيث إن السكان الأوروبيين بالبلاد التونسية يستهلكون أقل من ثلث الإنتاج التونسي، ولكن الخمور التونسية تتعرض للمنافسة القوية من جانب الخمور الجزائرية، كما أن المنتجين الفرنسيين لم يوافقوا أبداً على دخول الخمور التونسية لفرنسا؛ فرغم الاتحاد الجمركي المبرم بين تونس وفرنسا تركت السلطات الفرنسية نفسها مضطرة إلى مراعاة مصالح المنتجين الفرنسيين والجزائريين.

وقد ساهمت الأزمة الاقتصادية وانتشار داء الفيلوكسيرا في التنقيص من المساحات المزروعة والكميات المنتجة. وتبعاً لذلك فإن الكروم التونسية التي كانت تمتد إلى 51.000 هكتار تقريباً لم تعد تغطي إلا 30.000 هكتار في سنة 1944‏[35].

وحصلت غداة الحرب العالمية الثانية انطلاقة جديدة واضحة، وذلك بالارتباط مع طلبات السوق الفرنسية، فشجعت سلطات الحماية مزارع الكروم عندئذ على إعادة غرس الكروم التي أتلفها الفيلوكسيرا وذلك بالاعتماد على الشتائل الأمريكية، وأسندت إليهم القروض، كما منحت الاعتمادات اللازمة لـِ «التجمع الإجباري لمزارعي الكروم وغارسي الأشجار المثمرة» لإنشاء مشاتل الكروم الأمريكية والمحطات التجريبية وتم تدعيم المنظمات التعاونية، من ذلك أن «تجمع تعاونيات مخازن الخمور» الذي أنشئ غداة الحرب قد وفر للمنخرطين فيه الوسائل اللازمة لتحسين أساليب الإنتاج الفنية وحتى للزيادة في حجم الصادرات، كما مكنهم من الحصول على القروض اللازمة لإعادة غرس كرومهم وشراء الآلات وتجهيز المخازن.

من المعلوم أن إنتاج الخمور لم يصل إلى المستوى الذي عرفه قبل الحرب، ولكن الكميات المنتجة منذ سنة 1949 تبرهن على الانطلاقة الجديدة، ففي سنة 1949 بلغ إنتاج الخمور 880.000 هكتولتر (430.000 في سنة 1944) بالنسبة إلى مساحة تبلغ 40.000 هكتار‏[36]، وقد كانت الزيادة في الإنتاج مرتبطة أساساً بتحسين المحاصيل التي بلغت – بل تجاوزت – كمية تتراوح بين 70 و80 هكتولتراً في الهكتار، وإلى جانب إعادة تنظيم الإنتاج والزيادة فيه لوحظ منذ الحرب العالمية الثانية تطور في هياكل زراعة الكروم وتوزيعها الجغرافي، هذا علاوة على الحوامض والبواكير والصيد، وهي تُعد قطاعاً مهماً من حيث طاقاته الإنتاجية كما هو الشأن بالنسبة إلى المغرب.

 

 

2 – الصناعة

تعرض قطاع المعادن بدوره للمضاعفات نفسها أو أكثر، سواء من حيث نوعية المواد المستخرجة أو من ناحية القطاعات التي شملتها الصناعات المنجمية. فلكي يظل الاستعمار الفرنسي منطقياً مع ضرورات أسواقه الداخلية، ومنسجماً مع مقتضيات التقسيم الدولي للعمل، عمد إلى تركيز استثماراته المادية ونشاطاته الاقتصادية ببعض القطاعات، التي قُدر أنها أكثر استراتيجية لحركته التصنيعية. وهكذا حظي استخراج الحديد الجزائري باهتمام متزايد وذلك لمكانته الخاصة ببنية الاقتصاد الفرنسي، كما هو الشأن بالنسبة إلى مادة الفوسفات بكل من تونس والمغرب‏[37].

بلغت كمية استخراج الحديد الجزائري مليون طن سنة 1941 و2,2 مليون طن سنة 1945، لتبلغ 3,4 مليون طن كحد أقصى، وهي نسبة مهمة قياساً على ما لهذا المنتوج من وزن وفعالية في عملية تنشيط الصناعات وبخاصة الثقيلة منها‏[38]، من دون إغفال معادن أخرى لها أهميتها الخاصة، مثل الفوسفات بنسبة 900.000 طن سنة 1943 والفحم الحجري بنسبة 300.000 طن سنة 1955.

كما أن مادة الفوسفات في تونس قد حققت إنتاجاً تجاوز 3,3 مليون طن سنة 1941، محتلة بذلك الدرجة الثانية في سلم الإنتاج العالمي‏[39]، النسبة التي سيضاعفها المغرب بفعل عمليات التحديث والعصرنة التي شملت هذا القطاع محققاً ما قدر بـ 4.700.000 طن سنة 1951، و4 ملايين طن سنة 1952، و4.200.000 طن سنة 1953 و5 ملايين طن سنة 1954، هذا من دون أن نغفل مادة الفحم الحجري التي اكتشفت بكميات هائلة ابتداءً من سنة 1928، لتصل نسبة إنتاجه إلى 560.000 طن سنة 1953.

ترتب على هذا التقسيم (تخصص بلدان المغارب في تصدير المواد الأولية) نتائج عميقة، بالنسبة إلى طبيعة الحركة التصنيعية وآفاقها المستقبلية، فهكذا ستتوسع الصناعات الاستخراجية بالدول الثلاث، كما ستتطور بدرجات متفاوتة الصناعات الخفيفة المرتبطة بحاجات السوق الفرنسية، ومتطلبات الجالية الأوروبية المقيمة بالبلدان المغاربية، مثل التغذية والبناء وورش الإصلاح‏[40].

وبالموازاة مع ذلك شهد قطاع الخدمات نمواً متزايداً مقارنة بالزراعة والصناعة، وفرض الاستعمار على بلدان المغارب التخصص الذي بمقتضاه تأكد إدماج المنطقة، عبر إعادة هيكلة اقتصادها في اتجاه تصدير المواد الأولية واستيراد المنتوجات المصنعة، الواقع الذي نلمسه أكثر ببنية الاستثمارات في المغرب، إذ علاوة على ضعف الاستثمارات بالقطاع الصناعي مقارنة بنظيره في البلدان المتقدمة، وكذلك تزايد حجم الاستثمارات غير المنتجة من استهلاك وخدمات، فإن رؤوس الأموال – التي واكبت حركة الهجرة والاستيطان في البلدان المغاربية في بداية الاحتلال أولاً وبعد الحرب العالمية الثانية بصورة أساسية‏[41] – لم تحدث تراكمات تسمح ببناء اقتصادات متوازنة ومستقلة، بل رسخت طابعها الاقتصادي التابع والمستجيب لمتطلبات المنظومة الرأسمالية العالمية.

فبالعودة إلى الفلسفة التي حكمت حركة الاستثمارات في المغارب، وحددت المستفيدين منها ما، تتأكد صحة هذا الحكم ومفعوله على اقتصادات المغارب، ذلك أن القطاعات التي حظيت بامتيازات خاصة لدى الاستعمار، وبالتالي استوعبت أعلى نسب الاستثمار، هي التي تخدم توسع الاقتصاد الاستعماري، وزيادة عائداته وضمان استقراره، مثل تجهيزات البنية التحتية (الطرق، سكك الحديد، الموانئ، السدود،…)، والأنشطة الموجهة إلى التصدير (المناجم، المنتوجات المصنعة وشبه المصنعة، والمواد الفلاحية)، وخدمات القطاعات غير المنتجة (التسويق، الاستهلاك، البناء، العقارات، المنقولات).

وبموازاة ذلك، أهمل الاستعمار قطاعات تعد روافد ضرورية لكل تنمية اقتصادية واجتماعية، فقد همش الاقتصاد التقليدي وفكك نسيجه الاجتماعي، كما أعدم إمكانات بناء صناعة ثقيلة، وفي مستوى ثالث أبعد التكوين الثقافي والفني القادر على تهيئة الإنسان المغاربي المحور المركزي لكل مشروع يروم النماء والتقدم والاستقلالية‏[42].

3 – التجارة الخارجية

إن التشديد على الطابع الاستغلالي لحركة الاستثمارات بالبلدان المغاربية، قد يجد تفسيره المنطقي والواقعي في فحص قائمة المستفيدين من مجمل المشاريع المنجزة في البلدان الثلاثة (المغرب، الجزائر، تونس)، وعلى درجات متفاوتة‏[43]، كما توضحه أيضاً وضعية التجارة الخارجية خلال فترة الاحتلال. يكثف قطاع التجارة الخارجية مجمل الخصائص التي طبعت الاقتصاد الاستعماري في المغارب، فحتى حدود سنة 1955 شهدت الدول الثلاث اختلالات في موازينها التجارية، وذلك على الرغم من التفاوت النسبي في معدلات نمو المبادلات الخارجية من بلد إلى آخر، ومن وضع إلى آخر‏[44].

وهكذا، لم تتمكن صادرات كل من الجزائر وتونس من تغطية أكثر من 70 بالمئة من الواردات، مقابل 65 بالمئة بالنسبة إلى المغرب، الأمر الذي يتعذر تفسيره بتزايد حجم الواردات مقارنة بالصادرات وحسب، بل قد يرد أيضاً، وهذا هو الأساس، إلى التبادل غير المتكافئ الذي يحكم أثمان الصادرات المغاربية بوارداتها (أسعار المواد الأولية مقابل المنتوجات المصنعة)، ففي المغرب مثـلاً، وخلال سنة 1940، فاق «ثمن الطن المستورد أربع مرات ثمن الطن المصدر، وفي سنة 1952 كان يفوقه بخمس مرات، وفي سنة 1954 بست مرات أكثر…»‏[45]، الواقع الذي تعكسه نسبياً قيمة الواردات العامة التي وصلت سنة 1952 إلى 180 مليار فرنك من أصل 275 ملياراً من الحجم الإجمالي للتجارة الخارجية، في الوقت الذي لم تتجاوز فيه الصادرات 95 مليار فرنك‏[46]، عنصر آخر من شأنه أن يساعد على ملامسة الطابع الاقتصادي للبلدان المغاربية، ونعني به تمحوُر الصادرات المغربية حول السوق الفرنسية أساساً، وبعض المراكز الأوروبية بالدرجة الثانية، مقابل ضعف مهول للمبادلات الأفقية بين الأقطار الثلاثة: المغرب، الجزائر، تونس، وغياب شبه مطلق تجاه بلدان المشرق العربي.

عرفت سنة 1943 أدنى قيمة للصادرات التونسية منذ انتصاب الحماية: 93 مليون فرنك مقابل 484 مليوناً بالنسبة إلى الواردات، حيث إن البلاد التونسية التي دارت فيها رحى الحرب بين قوات الحلفاء وقوات المحور قد انعزلت تماماً عن بقية العالم. أما بعد الحرب فإن حاجات إعادة التعمير والتجهيز واستهلاك المدن التي تضخَّم عدد سكانها بكثافة، قد تسببت في ارتفاع الواردات ارتفاعاً استثنائياً، حيث بلغت قيمتها 59.268.000 فرنك في سنة 1954 بعدما كانت هذه القيمة في حدود 3.580.000 فرنك في سنة 1945 (وذلك مقابل 44.477.000 فرنك بالنسبة إلى الصادرات). وما يثير الانتباه أن البلاد التونسية قد أخذت في توريد المواد الغذائية كالقهوة والشاي والتبغ والسكر وخصوصاً الحبوب التي بلغ نصيبها من الواردات نسبة تتراوح ما بين 53 و55 بالمئة من المجموع‏[47]، وذلك منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهذه الظاهرة ليست مرتبطة بتعاقب سنوات الجفاف (من سنة 1945 إلى سنة 1947) فحسب، بل خصوصاً بتزايد السكان، ولا سيَّما سكان المدن. من ناحية أخرى أصبحت تونس منذ سنة 1946 تستورد المواد الغذائية أكثر فأكثر. على أن نسبة تغطية الواردات بالصادرات تتغير بحسب حجم الإنتاج الزراعي السنوي وبحسب طلبات الأسواق العالمية للمواد الأولية، وقد بلغت هذه النسبة 65 بالمئة في سنة 1949، و77 في سنة 1950، و25 في سنة 1951، و75 في سنة 1954‏[48].

وخلال سنة 1952 مثـلاً، بلغت تجارة المغرب مع فرنسا وحدها ما قدر بـ63 بالمئة، أي ثلثي المبادلات المغربية مع الخارج، في الوقت الذي لم تكن تتجاوز سنة 1928 نسبة 36,5 بالمئة، وهذا تطور يؤشر بما فيه الكفاية إلى عمق الارتباط مع دولة المتروبول‏[49]، كما يبرز الخطورة المستقبلية لعدم تنويع أسواق التجارة الخارجية للمغرب ولباقي دول المنطقة، وبالتالي استمراريتها بحمل خصائص التقسيم الدولي للعمل مستجيبة لمتطلبات المنظومة الرأسمالية العالمية.

تلك إذاً مظاهر لبعض التغييرات التي طرأت على صعيد اقتصادات المغارب، التي مسّت كـلاً من قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة الخارجية؛ فالتأخر التاريخي لم تقتصر نتائجه الأولية على تعميق تفكك وحدة البلدان المغاربية، وتعريض سيادته للاختراق، بل وفرت شروط إدماج المنطقة بالمنظومة الرأسمالية، وإخضاعها لمتطلبات الاستراتيجية الاستعمارية الفرنسية.

رابعاً: الآثار الاجتماعية للنزول الأمريكي في المنطقة

إن الظاهرة الاستعمارية كونها حصيلة منطقية في سيرورة تطور النظام الرأسمالي، لم تستهدف الاقتصاد وحده، بل سعت بكل إصرار إلى المساس بالمجتمع في مكوناته وعناصر توازنه، وفي قيمه الفكرية ونظمه الثقافية، وبذلك شهدت البلدان المغاربية تغيرات عميقة كان لها الوقع البالغ على نسيجه الاجتماعي والحضاري.

ديناميتان جديرتان بالتحليل لإدراك طبيعة التحولات التي مسّت المجتمعات المغاربية، وكيفت علاقات مكوناتها الاثنية والثقافية، على نحوٍ يواكب ويستجيب لمقتضيات النمو الاقتصادي التابع للمنظومة الرأسمالية العالمية وهي: البنية الديمغرافية، والتعليم.

1 – البنية الديمغرافية

أولى هذه الديناميات تلك المتعلقة بالبنية الديمغرافية، من حيث معدلات نموها وتكوينها الإثني، وتشكلها المهني، وتمركزها الحضري، وهي عناصر كفيلة بتقديم صورة تقريبية عن التغير الذي مس الجوانب البشرية في تحول المجتمعات المغاربية‏[50].

وعلى الرغم من الصعوبات التي طرحتها النسب والأرقام الإحصائية المستخلصة خلال الفترة الاستعمارية، لعل أهمها عدم تطور علم الإحصاء وضعف استعمال معطياته، إضافة إلى بقاء مناطق من البلدان المغاربية الثلاث خارجة عن عمليات الإحصاء التي قامت بها السلطات الفرنسية، وخصوصاً بالبادية والمناطق المتمردة، علاوة على تردد السكان في الإدلاء بحقائق عن أوضاعهم الديمغرافية، فإن الموجود منها لا يؤشر إلى حصول آثار للاستعمار في النمو الديمغرافي في المغارب، كما لا يدعو إلى الاعتقاد بتحقق تزايد بفعل تحسن الأوضاع الصحية للسكان؛ فمعدلات النمو ظلت متواضعة، وبنسب تراوح بين 1,2 بالمئة و1,7 بالمئة بالنسبة إلى الدول الثلاث‏[51]، وحتى في إثر التزايد الذي شهدته المنطقة ما بعد 1945، فإن المعدل السنوي لم يتجاوز 2,5 بالمئة.

ما يستلفت الانتباه أكثر عند تحليل البنية الديمغرافية للمجتمعات المغاربية هو التشكل المهني للسكان، وحركات الهجرة الداخلية والتمدن، فبالرغم من تواضع النمو الديمغرافي الذي ظل مع ذلك مرتفعاً بالنسبة إلى الإنتاج الزراعي، فإن موجات متعددة من الهجرات نحو السهول الفلاحية والأراضي الخصبة وأحزمة المدن الكبرى قد عمت سكان الدول الثلاث، تارة من أجل الكسب والنشاط التجاري، وطوراً بغرض البحث عن فرص الشغل بقطاعات الزراعة والصناعة والبناء والخدمات. وبالفعـل، ترتب على موجات الاستيطان الزراعي التي شهدتها بلدان المغارب وتوسع قطاع الصناعات الاستخراجية، بروز علاقات اجتماعية من طبيعة رأسمالية، بكل ما تحمله هذه الصفة من قابلية للجدل والتباين والاختلاف.

ففي الجزائر وتونس كما في المغرب، أفرز مسلسل إدماج الاقتصاد المغاربي بالمنظومة الرأسمالية مظاهر اجتماعية عميقة، تراوحت بين التفقير المتزايد لقطاعات عريضة من سكان الأرياف العاملين بالزراعة، وبلترة الشرائح الأخرى المدينية أو تلك النازحة من البوادي تجاه المدن‏[52].

ولقد تقلصت نسبياً (15,1 بالمئة) أعداد العاملين بالزراعة لمصلحة قطاع المناجم والصناعات الاستخراجية والحرفية (زيادة 10,6 بالمئة)، ومن جهة ثانية ارتفعت نسبة المشتغلين بالخدمات الشخصية والمنزلية والأعمال الإدارية‏[53].

تتعزز ملامسة هذا التغير وإدراك دلالاته أكثر بتحليل الدينامية الاجتماعية المترتبة على الإدماج الذي تعرضت له اقتصادات المغارب، وذلك من خلال عناصر: الدخل القومي وكيفيات توزيعه، ونظام الأجور وتطورها أيضاً، والتراتب الاجتماعي ومستويات العيش الناجمة عنه.

يخلص سمير أمين في تحليله للتكوين التاريخي للمجتمع الكولونيالي إلى الإقرار بأن «نتيجة هذا النموذج من التطور هي الركود النسبي، لا بل أحياناً نقص الدخل بالرأس على مستوى السكان المسلمين. كل شيء يحصل كما لو أن النمو الاقتصادي الذي لا جدال فيه لم يعد بالفائدة عملياً إلا على الأوروبيين الذين يسمح لهم، أولاً وعلى وجه الخصوص بنمو عددي كبير، وبالتالي بتحسين الدخل بالرأس…»‏[54].

وفعـلاً، حين ننظر إلى حالة كل قطر على انفراد، نعاين ما يؤكد صحة هذه الخلاصة ويبرر أهميتها، فمتوسط الدخل السنوي الفردي لم يتجاوز حتى حدود سنة 1955 أكثر من 300.000 فرنك بالنسبة إلى السكان المغاربة، في الوقت الذي وصلت فيه معدلات مداخيل الجالية الفرنسية أساساً والأوروبية بوجه عام إلى 47 بالمئة من الدخل الإجمالي بالجزائر، و43 بالمئة بتونس، و33 بالمئة بالمغرب، وذلك على قلتها وضعف حجمها مقارنة مع المواطنين الأصليين‏[55].

وفي المغرب شهدت الأجور انخفاضاً متزايداً من عام 1927 وحتى أواسط الأربعينيات (1943)، في الوقت الذي تصاعدت فيه مستويات العيش وارتفعت الأسعار، الأمر الذي يعكسه واقع السكان الذين مسَّهم الفقر والبؤس، وانعدام الإمكانات الدنيا للبقاء والاستمرارية. هذا وبالرغم من الزيادات التي وافقت عليها السلطات الفرنسية (1943، 1952، 1953، 1955) تحت ضغط الحركة العمالية، فإن أجرة ساعة عمل بالدار البيضاء مثـلاً لم تكن تتجاوز أكثر من 56,90 فرنك (نيسان/أبريل 1955)‏[56]، وهو معدل يقل عن معدلات باقي عواصم دول المغارب (تونس 61 فرنكاً، الجزائر 77 فرنكاً)، وضعيف إلى حد بعيد بالمقارنة بما كان مطبقاً بفرنسا (باريس 110 فرنكات)‏[57].

لقد تطور نظام الأجور في كل من الجزائر وتونس بالوتيرة نفسها بالمغرب، الأمر الذي كانت له المضاعفات ذاتها على أوضاع السكان وظروفهم المعيشية. هكذا كانت الأجور الفلاحية كما يؤكد عبد السلام بن حميدة، «أكثر انخفاضاً، ففي سنة 1944 كان العمال الفلاحيون يتقاضون ما بين 35 و40 فرنكاً في اليوم، أي ما يعادل ثمن 5 خبزات…»، ليضيف: «ولا ننسى أن هؤلاء لا يعملون في الغالب إلا ثلاثة أشهر تقريباً، بالإضافة إلى أن مرسوم 29 أبريل 1937 يسمح للإدارة بأن تفرض الأجور الدنيا، ومرسوم 23 فبراير 1950 يرى حرية تحديد المكافآت الخاصة بالعمال الفلاحين بالاتفاق بين الأطراف المهنية وهذا ما يعطي لكبار المعمرين حرية تفقير العمال بصفة شرعية…»‏[58].

تساؤل مركزي تخلل العديد من الكتابات التي تناولت موضوع الحركات الوطنية المغاربية، سواء من حيث الأشكال النضالية للعمل الوطني والأيديولوجيا المؤطرة له، أو من حيث العلاقات الأفقية بين مختلف مكونات المجتمعات المغاربية، أو على صعيد الظاهرة الاستعمارية ومضاعفاتها العامة (الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية) على حاضر ومستقبل الأقطار المغاربية، إنه التساؤل الرامي إلى استبعاد التحليل العمودي الذي يقصر التمييز بين الاستعمار والحركات الوطنية فقط، وفي المقابل يشدد على أن يحظى التحليل الأفقي هو الآخر بقدر كاف من الدقة والعمق، قصد تحديد المكونات الفعلية للمجتمعات المغاربية، وفهم الآليات الناظمة لنشاطها الوطني، وبالضرورة إدراك المشروع أو المشروعات المجتمعية، إن وجدت، الرامية إلى إنجازها حالاً واستقبالاً.

يبقى أن نشير إلى عدم الجزم بحصول تباين طبقي بالمغارب خلال الحقبة الاستعمارية، وصعوبة استبعاد الإقرار ببروز ملامح فرز اجتماعي بالدول الثلاث، فرز لا يوصل إلى وجود طبقات مهيكلة من الناحيتين التنظيمية والسياسية، ولكن لا يعدم إمكان القول بحضور عناصر مجتمعية قادرة على التحول مع التطور إلى طبقات فعلية متناقضة ومتصارعة.

ففي الجزائر وعند استعراضنا للتركيب الطبقي لهذا المجتمع في ظل الاستعمار، نجد أن الزراعة التقليدية مستمرة ويعمل بها أغلبية السكان‏[59]، فحجم ومستوى معيشة الطبقة المتوسطة هما اللذان يحددان مدى التوازن البشري والمادي في المجتمع، كما نجد الطبقة المتوسطة الأوروبية في الجزائر تفوق الطبقة المتوسطة المحلية بخمس مرات تقريباً، وهذا يفسر ضعف الطبقة المتوسطة المحلية، لذا كان دورها في الاقتصاد محدوداً جداً وليس مؤثراً.

أما الطبقة الرأسمالية الأوروبية في الجزائر فليس لها مقابل محلي آنذاك، وهي التي تستحوذ أساساً على الاقتصاد، كما أن دخلها مرتفع جداً قياساً على دخل أفراد الطبقات الأخرى، الأمر الذي يؤكد هيمنتها وتحكمها في الاقتصاد الجزائري وحرمان الشعب حقه في أرضه وموارده.

2 – مجال التعليم

إن التغير الحاصل بفعل الارتباط بالمنظومة الرأسمالية على المستويين الديمغرافي والاجتماعي، قد امتد إلى حقل شكَّل على الدوام مجالاً حيوياً في استراتيجية الاحتلال، كما مثل سلاحاً أكثر شحذاً للوعي الوطني، وأعمق إثارة لحماسة نخبه السياسية، ونعني بذلك التعليم ونظمه التربوية والثقافية.

لقد كانت حصيلة الاستعمار سلبية جداً في مجال التعليم، سواء من حيث الانتشار والتوسع، أو على مستوى تطور المؤسسات وتقدم مناهجها التربوية والعلمية، الواقع الذي تؤكده معدلات التمدرس ونسب الأمية، وأعداد الخريجين الجامعيين في البلدان المغاربية‏[60].

ففي الجزائر، حيث أصر الاستعمار على اعتماد سياسة التجهيل، بلغ معدل الأمية 85 بالمئة، كما أن إحصاء 1954 يبين أن «هناك 3.020.000 طفل في سن الدراسة يوجد من بينهم 1.900.000 طفل فقط في المدارس، أما في المعاهد الثانوية فنجد 6260 تلميذاً، بينما لا يتجاوز عدد الطلبة 1700 طالب منهم 589 في جامعة الجزائر، وفيما كانت نسبة الطلبة بين الأوروبيين 1 لكل 127 ساكناً، فإنها بالنسبة للجزائريين لا تتجاوز 1 لكل 15.341 ساكناً…»‏[61].

تنص الإحصاءات الرسمية بكل بساطة على أن الجزائر كانت سنة 1944 تشتمل على 6500 قسم مدرسي في الابتدائي، نصيب المسلمين منها نحو 1000 لاستقبال 108.000 تلميذ أي بمعدل 108 تلاميذ للقسم الواحد. وفي المقابل فإن عدد التلاميذ الأوروبيين قد بلغ في السنة نفسها 118.000 موزعة على 5500 قسم أي بمعدل 22 مدرسة للقسم الواحد.

أما في التعليم الثانوي فإن عدد التلاميذ الجزائريين سنة 1951 لم يكن يمثل سوى 6 و11 بالمئة من مجموع المسجلين في الثانويات. وفي التعليم العالي كان عدد الطلبة الجزائريين سنة 1948 لا يزيد على 6 طلاب من بين ما يقرب من 600 طالب أوروبي‏[62].

هذا وتتأكد الحصيلة السلبية للتعليم في الجزائر، حين ينظر إلى نتائجها المباشرة على مكونات المجتمع، وواقع لغته وقيمه الثقافية والفكرية، إذ علاوة على تحطيم النظام التربوي الجزائري القديم، سعى الاستعمار إلى خلق وترسيخ ثنائية متعارضة على صعيد ثقافة النخبة الجزائرية وأنماط تفكيرها، وذلك بواسطة البرامج التعليمية والإمكانات المادية المرصودة لها‏[63]، وكذلك من خلال آفاق الشغل وحظوظ الاندماج بمؤسسات الاحتلال ودواليب إدارته.

إنها الحصيلة التي لم يتمكن المغرب وتونس من التخلص من سلبيتها وامتداد نتائجها، سواء على مستوى ضعف النظام التربوي وفقر إمكاناته، أو على صعيد ثنائية النخبة المثقفة وأوروبا جزء منها. ففي المغرب، وبالرغم من تقدير الاستعمار لمكانته العلمية ودعوته إلى المحافظة على مؤسساته التعليمية التقليدية، فإن حصيلة منجزاته كانت أبعد مما ادّعته السوسيولوجيا الكولونيالية ودافعت عن إيجابياته، إذ علاوة على خفض الإمكانات المادية المخصصة للتعليم الإسلامي ومراقبة برامجه، عبر التقليل من أهمية اللغة العربية وخطر تدريس المواد المرتبطة بتاريخ المغرب ومجالات انتمائه العربي الإسلامي‏[64]، فإن الأرقام المتاحة تعكس نمواً بطيئاً في معدلات مختلف أطوار التمدرس‏[65]، وذلك بالرغم من الدعوات المتتالية للحركة الوطنية، للاعتناء بالتعليم الإسلامي، عبر تطوير مؤسساته وتحديث مناهجه وبرامجه.

هكذا، ومع حلول سنة 1955 وصلت نسبة الأطفال الذين هم في سن التمدرس ولم يجدوا مقعداً في التعليم العمومي إلى قرابة مليونين، وهو رقم يفوق كثيراً ما كان حاصـلاً سنتي 1938 (1.200.000) و1945 (1.500.000)، وحتى الذين أسعفتهم ظروف الاستعمار على ولوج مؤسسات التعليم لم يتجاوز عددهم حتى حدود 1952 ما نسبته 163.170 تلميذاً‏[66]. وأهم خلاصة يمكن استنتاجها هي وجود نسبة ضعيفة للمتمدرسين ممن هم في سن التعليم، إذ لا تتعدى النسبة 10 بالمئة من العدد الإجمالي.

لقد كان منطقياً أن تشهد بلدان المغارب تغيرات عميقة مسَّت مجتمعاتها سلوكاً وتعليماً وثقافة، وأدت إلى نتائج وخيمة على مستوى بنيتها الديمغرافية ومستواها التعليمي، الأمر الذي تؤكده الإحصاءات والمؤشرات في هذا المجال، وهذا ما نلمسه أيضاً في طبيعة السياسة الاستعمارية في المنطقة، والقاضية بالإجهاز على كل ما له صلة بهويات المجتمعات المستعمرة، ومقومات شخصيتها التاريخية.

خامساً: تداعيات التدخل الأمريكي في المنطقة المغاربية حتى نهاية القرن العشرين

1 – البلدان المغاربية ضمن التصورات الأمريكية

ظهر الاهتمام الأمريكي بالمنطقة المغاربية منذ نيل هذه الدول استقلالها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتنافس بين موسكو وواشنطن في فترة الحرب الباردة لاستمالة العواصم المغاربية إلى أحد المحورين الشرقي الشيوعي أو الغربي الرأسمالي، وتوجت هذه السياسة بنجاح واشنطن في استمالة المغرب وتونس في مقابل ميل ليبيا والجزائر نحو الاتحاد السوفياتي، ثم تطور هذا الاهتمام بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي عبر المقترح الأمريكي لمشروع الشراكة مع المنطقة المغاربية، الذي أطلق عليه مشروع «إيزنستات» المنافس للمشروع الأوروبي للشراكة.

كانت السياسة الأمريكية واضحة في دعوة الدول المغاربية إلى الانفتاح السياسي والاقتصادي، والانخراط في حركة الاقتصاد العالمي، وركزت واشنطن على ضمان استمرار تطور العلاقات السياسية والاقتصادية مع المغرب، إلى أن توجت هذه العلاقات بتوقيع اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين.

تخضع التصورات الأمريكية منذ السبعينيات من القرن العشرين للمنطقة المغاربية بصورة مرجعية لرؤية وزير الخارجية الأسبق «هنري كيسنجر» الذي وضع تقسيماً إدارياً لمناطق العالم، ألحق بموجبه المنطقة المغاربية بمنطقة الشرق الأوسط، وبقيت في إثره درجة الاهتمام نفسها بالمنطقة المغاربية إلى عهد الرئيس السابق باراك أوباما. ويتأكد هذا التقسيم من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تقدمت به وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس في إطار سياسة الرئيس السابق جورج بوش الابن لفرض الإصلاح السياسي على دول العالم الإسلامي، إذ شملت تلك الخطة دول شمال أفريقيا التي انخرطت فعلياً في الحرب العالمية على الإرهاب، من أجل كسب ود الولايات المتحدة الأمريكية واستغلال التعاون الأمني لتحسين مستوى العلاقات معها.

إن إلحاق المنطقة المغاربية بمنطقة الشرق الأوسط يهدف بالأساس إلى جعل التحولات السياسية والاستراتيجية الحادثة في منطقة الشرق الأوسط سبباً مباشراً في التأثير في المنطقة المغاربية، التي تشترك في كثير من خصائصها السوسيولوجية والدينية مع الدول العربية الشرق الأوسطية، إذ تتأثر الشعوب المغاربية بالسياسات الأمريكية حيال فلسطين من جهة، والحرب الأمريكية على الإرهاب من جهة ثانية.

وهكذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدرك جيداً أن الوجود الأوروبي في المنطقة المغاربية له جذور تاريخية عميقة، وأن تخطيها أو منافستها أمر لا يخلو من صعوبة، إلا أن الولايات المتحدة وجدت أن فرصة تفردها بالمنطقة المغاربية أصبحت مواتية مع توافر مجموعة من المعطيات في إطار رهانها على منافسة أوروبا على المنطقة المغاربية منها‏[67]:

– التناقضات التي تحملها السياسة الأوروبية تجاه الدول المغاربية، وذلك لتعدد مراكز القوى الأوروبية، الأمر الذي أدى إلى عرقلة إمكان ترسيخ الفضاء الاقتصادي الأوروبي الواسع.

– طغيان الهاجس الأمني على العلاقات الأوروبية – المغاربية المتمحور حول الهجرة غير الشرعية والتطرف الديني والمخدرات، الوضع الذي بلغ بضفتي المتوسط حالات من الشد والتوتر إلى درجة تصبح فيها اتفاقية الشراكة مجرد نصوص ميتة، وهذا أدى إلى تزايد مصادر الاختناقات الخارجية للاقتصادات المغاربية، وبالتالي ضرورة البحث عن مخرج ينتشلها من أوضاعها المتردية، وهذا ما حاولت تقديمه الشراكة المغاربية الأمريكية.

– الخلافات المغاربية البينية ولا سيَّما بين المغرب والجزائر، فالخلاف في إطاره السياسي أحرج القوى الأوروبية وبخاصة فرنسا، إذ إن أي خطوة تخطوها فرنسا تجاه دولة منهما تحسبها الأخرى خطوة ضدها.

– استطاعت الولايات المتحدة التحكم في ظاهرة عدم الاستقرار السياسي الأمني والصراعات العنيفة بين مختلف القوى السياسية، وخصوصاً التيارات الإسلامية، إلى جانب التدهور في الأوضاع الاقتصادية وتفاقم المديونية.

2 – الشراكة المغاربية – الأمريكية مدخل للتدخل الاقتصادي في المنطقة

حاولت أمريكا دعم نفوذها في البلدان المغاربية غداة الحرب العالمية الثانية وارتبطت خطتها آنذاك بظروف الحرب الباردة، أما الاهتمام بالجانب الاقتصادي فقد كان يقتصر على نشاط بعض الشركات الأمريكية العاملة في مجال النفط في كل من الجزائر وليبيا، أما التخطيط لشراكة أمريكية – مغاربية تشمل في المرحلة الأولى بعض الدول المغاربية تم تمتد إلى بقية دول المنطقة فتعود إلى أواخر القرن الماضي‏[68]، وهو ما عرف آنذاك بمبادرة «إيزنستات» نسبة إلى وكيل التجارة الأمريكي «ستيوارت إيزنستات» في عهد الرئيس كلينتون.

شكلت مبادرة «إيزنستات» التي طرحت في حزيران/يونيو 1998 الخطوة الأولى في اتجاه إقامة الشراكة التي اقتصرت على ثلاث دول وهي: المغرب، الجزائر وتونس، قبل أن تنضم إليها ليبيا وموريتانيا بصفة ملاحظ في سنة 1999. تهدف هذه الشراكة إلى تنمية دور القطاع الخاص والدفع بمسلسل الإصلاحات الهيكلية وتحسين المحيط القانوني للأعمال، وتشجيع التبادل التجاري وتسريع الاندماج الجهوي والرفع من حجم الاستثمارات الأمريكية في المنطقة.

ترتكز هذه الشراكة على أربع دعائم أساسية وهي: الديمقراطية، تطوير التعليم، حقوق المرأة ودعم التنمية والاقتصاد والاستثمار؛ وتتميز عن الشراكات الأخرى بكونها موجهة منذ البداية إلى إقامة شراكة خصوصية مع بلدان المغرب الأوسط، أي تونس والجزائر والمغرب، وفي إطار تبادل حر يتم إنجازه إلى غاية 2013.

بقدر ما أكدت المبادرة الأهمية الاستراتيجية لهذا الجزء من المغارب فقد أثارت تساؤلات حول مدى أهدافها ومردوديتها، ومدى التأثير السلبي لهشاشة وتعثر مسلسل الاندماج المغاربي في التجاوب مع مثل هذه الشراكات. تختلف مبادرة «إيزنستات» عن الشراكة الأورو - متوسطية كونها تفضل الشأن الاقتصادي على السياسي، فهي لا تحسب الإصلاح السياسي شرطاً من شروط الشراكة، وهذا ما زاد من تشجيع الدول المغاربية في المضي قدماً نحو هذه الشراكة.

مع مطلع سنة 2000 طورت أمريكا المبادرة إلى مشروع شراكة مع شمال أفريقيا بمناسبة زيارة وزير التجارة الأمريكي روبرت ماليت عواصم المنطقة، وتبلورت بعد ذلك صيغة اللقاءات السنوية (3+1) بدءاً من نيسان/أبريل 2000، وتوسعت في ما بعد إلى (4+1) بإضافة موريتانيا، وأنشأت لها سكرتارية دائمة مؤلفة من سفراء البلدان المغاربية واشنطن.

ونظراً إلى ارتباط المبادلات التجارية المغاربية بالاتحاد الأوروبي بنسبة تفوق 70 بالمئة تصديراً واستيراداً، فقد رصدت الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2000 مبلغ 5 مليارات دولار لتمويل مشاريع مع شمال أفريقيا كجزء من تنفيذ مبادرة «إيزنستات»، ساعية بذلك إلى غزو السوق المغاربية والحلول محل الدول الأوروبية‏[69].

إذا كانت المفاوضات قد أرادتها أمريكا جماعية فإنها سرعان ما غيرت طريقة عملها. فالخلافات بين المنطقة أكبر من مشروع تجاري وأوسع من نقاط تعلن هذه الدول الخلاف حولها. ولأن أمريكا انشغلت في قضايا بعيدة من القارة الأفريقية، ولأنها غيرت تكتيكاتها في مد النفوذ الأمريكي عبر التعامل المباشر مع الدول بدلاً من التكتلات، فقد اختارت اتفاقيات التبادل الحر مع كل دولة على حدة حين تكون أوضاعها جاهزة لتوقيع الاتفاقية.

إن انعدام خطة تنسيقية بين الأقطار المغاربية في مجال التعاون الاقتصادي يكمن وراءه بصفة أساسية عدم وجود خطة تنسيقية في المجال السياسي، حيث تشكو من خلافات حول ملفات أساسية معقدة تحول دون هذا التنسيق، إضافة إلى اختلاف وجهات النظر في تقييم القضايا الإقليمية والدولية ومسألة التطبيع مع إسرائيل. وبالتالي فقد تأكد أن البلدان المغاربية غير قادرة على تبني مبدأ واحد من المبادئ التي شددت عليها معاهدة مراكش، كما أنها لم تنسق جهودها للتفاوض من مركز قوة مع الولايات المتحدة الأمريكية للتخفيف من الآثار السلبية للشراكات التي عُرضت عليها.

خاتمة

تلك مظاهر من التغيرات التي شملت اقتصاد البلدان المغاربية ومجتمعها وثقافتها. فهي وإن تفاوتت درجات عمقها من قطر إلى آخر ومن ظرفية إلى أخرى فإنها قد توحدت حول الحصيلة وأبعادها: تكسير الوحدة الوطنية للمغارب وتفكيك نسيجه الاقتصادي والاجتماعي، وبالضرورة إعادة هيكلته على نحوٍ يتمشى ومتطلبات ارتباطه بالمنظومة الرأسمالية.

لذا كانت الحصيلة مع الأربعينيات والسنوات الأولى من الخمسينيات محاكمة فعلية لجوهر الظاهرة الاستعمارية ومدلولها التاريخي؛ فهكذا لم يعد الوعي الوطني بالظاهرة مبطناً بالقانون، مراهناً على إمكان التطور ضمن بنيتها، بل غدا منتقداً لها وداعياً إلى إلغائها ومطالباً باسترداد السيادة وإعادة بناء الدولة الوطنية.

وما يؤشر إلى هذا الانتقال في تمثل الظاهرة الاستعمارية والوعي بخطورتها، ذلك الاندفاع والحماسة الوطنيان اللذان شهدهما المغارب مع مستهل الأربعينيات، وكذلك تلك الأطروحات التي تخللت تفكير النخب السياسية القائدة للحركات الوطنية، في شأن مقاومة الاستعمار واستشراف آفاق تجاوزه، وهو انتقال لم يكن من السهل أن يحصل بمعزل عن التغيرات السالفة الذكر.

هذا وتبرز تداعيات التدخل الأمريكي في المنطقة المغاربية إلى سعي الولايات المتحدة الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين لملء الفراغ السياسي الذي خلّفه تراجع الوجود الأوروبي في المنطقة العربية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ استخدمت الولايات المتحدة جميع الوسائل المتاحة لديها من ضغط سياسي واقتصادي وعسكري وبناء القواعد وعقد الأحلاف والمعاهدات، واحتكار دور حماية القانون الدولي وتأكيد شرعية الأمم المتحدة خدمة لمصالحها.

فقد أدركت الولايات المتحدة أن في الشمال الأفريقي دولاً ذات مواقع جيوستراتيجية كالمغرب تجعلها مؤهلة لجذب الأطراف الدولية الفاعلة، وتمكنها من أن تكون في موقع مؤثر في العلاقات مع القوى الكبرى؛ فالأمن الأمريكي طالما ارتبط بأمن إقليمي وعالمي، والدول الأفريقية المطلة على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي تعد ذات إمكانات استراتيجية عظيمة، والمنطقة المغاربية بالأخص تمثل لصانعي القرار في واشنطن من الناحية الجيوسياسية الجناح الغربي للشرق الأوسط الكبير والمنفذ الرئيس للقارة الأفريقية.

 

قد يهمكم أيضاً  الاستمرار والتغير في العلاقات الأورو-مغاربية بعد الحراك العربي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #النزول_الأمريكي_في_المغرب #النزول_الأمريكي_في_البلدان_المغربية #انعكاسات_الدخول_الأمريكي_إلى_المغرب_العربي #الولايات_المتحدة_والمغرب_العربي #تأثير_الدخول_الأميركي_إلى_بلدان_المغرب_العربي #دخول_الولايات_المتحدة_الحرب_العالمية_الثانية #مشاركة_أمريكا_بالحرب_العالمية_الثانية #المغرب_العربي #البلدان_المغاربية