المؤلف: نقولا فارس

مراجعة: أحمد الحاج دياب (**) 

الناشر: دار الفارابي، بيروت

سنة النشر: 2017

عدد الصفحات: 560

 

أولاً: مشروع الكتاب وأهدافه

صَدَرَ كتاب الجبر: ولادته وتطوّره في التقليد الرياضي العربي في أواخر 2017، باللغتين العربية والفرنسية، وتمّ طبعه في مجلّدٍ كبير الحجم (560 صفحة). يهدف الكتاب كما يقول عنوانه، إلى عرض ولادة علم الجبر وتطوّره في التقليد الرياضي العربي. يعرض الكتاب كمّاً كبيراً من المعلومات، المُوَثّقة بلائحة غنيّةٍ من المراجع في تاريخ الرياضيات عامةً وفي الجبر بصورةٍ خاصة، معزّزةً بنصوصٍ مختارةٍ من المخطوطات المحقّقة وغير المحقّقة، ويطرح، بين الحين والآخر، عدداً من الأسئلة البحثيّة الراهنة في تاريخ الرياضيات.

يحصر المؤلِّف اهتمامه بالفترة الواقعة بين ولادة علم الجبر (على يد الخوارزمي)، في بداية القرن التاسع، وأواخر القرن الثاني عشر الميلادي، لاعتباره أنّ الجبر لم يعرف تطوّراً نوعيّاً ملحوظاً بعد تلك الفترة، كما يتعمّد عدم التعرّض للأعمال الجبريّة في المغرب العربي والأندلس لتقديره أنّ الأبحاث الجبريّة في تلك المنطقة الجغرافية لم تقدّم جديداً، مقارنة بتلك التي جرت في المشرق.

لا يتوجهُ الكتاب إلى الباحثين فحسب، بل يتمكّن من قراءته، كما يقول المؤلِّف، «دون الكثير من العناء، جمهورٌ أوسع من الطلّاب والأساتذة الذين اقتربوا من نيل الإجازة في الرياضيات أو الفلسفة». ومن بين دوافع تأليف الكتاب يذكر:

1 – الإسهام في تأكيد أهمّية دور تاريخ العلوم على المستوى الجامعي، في مجالات العلوم والتربية والفلسفة.

2 – تقديم أمثلة حيّة للطالب – الباحث على ولادة العلوم والنظريّات العلميّة، ونموّها وتحوّلها، ممّا يساعده على الاستفادة من تجارب المبدعين الذين سبقوه، وبالتالي على تقوية مَلَكة الخَلْق والإبداع عنده، وعلى ابتكاره لنظريّات جديدة انطلاقاً من النظريّات الرياضيّة المعاصرة التي يدرسها ويعالجها.

3 – تقديم أمثلة حيّة للطالب – الأستاذ، تُظهر له أنّ أيّ نظرية هي كائن حيّ، يُولَد ويتطوّر ويتحوّل، وأنّ الإلمام بتاريخها هو من العناصر التي تساعد على فهمها وإدراك جدواها ودواعي تدريسها، وتسهّل بالتالي عمليّة استيعابها وإيصالها إلى الطالب.

4 – الإسهام في مجابهة لأفكار الفلسفيّة العنصرية القائلة بتفوق الغرب في مجالات العلوم، بلغاته الحيّة، وبتخلّف العرب بسبب عدم قدرة اللغة العربية على مواكبة التطوّر وعلى حَمل العلوم والتعبير عنها وصياغة الأبحاث العلمية المتقدّمة بها.

 

ثانياً: نظرة سريعة إلى محتوى فصول الكتاب

 

1 – ولادة الجبر – الخوارزمي

يقول المؤلّف، في مقدّمة كتابه، إنّ أيّ نظريّة علميّة تُولَد من تفاعل النظريّات السابقة لها، وتنمو وتتغذّى من تفاعلها مع العلوم الأخرى عِبرَ عمل البشر الفكري. ويبرهن في الفصلين الأوّل والثاني من كتابه أنّ علم الجبر لم يشذّ في ولادته عن بقيّة فروع العلم، وأنّ هذا العلم وُلِد مع صدور كتاب الخوارزمي ذي العنوان كتاب الجبر والمقابلة الذي صيغ في الثلث الأوّل من القرن التاسع للميلاد (الثالث للهجرة) في بغداد، لا قبل ذلك الكتاب. ويشرح كيف أتت تلك الولادة نتيجة تراكم المعطيات في العلوم الرياضيّة السابقة وتفاعلها، وبشكل خاصّ نتيجة الزواج بين علمَي الحساب والهندسة، العلمين اللذين ورثهما الرياضيّون العرب عن أسلافهم اليونانيّين، وكان هؤلاء قد ورثوهما من الرياضيّات السابقة، وخاصّة البابليّة.

يحتوي الفصل الأوّل من الكتاب بحثاً هو الأحدث، حول حياة الخوارزمي ومؤلّفاته العلميّة، ويعرض المحتوى الرياضي النظري لكتاب الخوارزمي الجبري، ويبيّن بالتفصيل أنّ ذلك الرياضي، الذي أدخل كلمة «جبر» لأوّل مرّة إلى القاموس الرياضي، أَدخَلَ بالفعل علماً رياضيّاً جديداً. فقد أعطى بشكل تجريدي بحت، «التعابير الأوّليّة» لعلم الجبر، أي الكلمات المجرّدة التي مكّنته من بناء نظريّته في حلّ المعادلات، ومن القيام بالحسابات الجبريّة التي تلزمه، ومكّنت خلفاءه من تطوير هذا العلم، بما في ذلك إغناء تعابيره الأوّليّة. وقدّم الخوارزمي شكلاً أوّليّاً من المصادرات الجبريّة (التي كان من المستحيل إعطاؤها بشكل كامل قبل نهاية القرن التاسع عشر) ثمّ أرسى قواعد الفصلين اللذين ما زالا يُشَكّلان، إلى يومنا، أساس علم الجبر وهدفه وهما: (1) الحلول الجذورية (أي بالجذور) للمعادلات كثيرة الحدود؛ (2) حسابات كثيرات الحدود.

قبل الخوارزمي، لم تُعامل المعادلات والمجاهيل وكثيرات الحدود ككائنات رياضيّة قائمة بذاتها، بل كان التعامل معها يتم في سياق حلّ هذه المسألة المحدَّدة، العرضيّة، أو تلك، ضمن إطار حقل رياضي معيّن كمجال الهندسة أو مجال الحسابات العدديّة. ولادة تلك الكائنات (في كتاب الخوارزمي) بوصفها كائنات رياضيّة جديدة مع القوانين التي تحدّد تفاعلها والتعامل معها، شكّلت الخطوة النوعيّة الجديدة التي حدّدت ولادة علم الجبر. وكتاب الخوارزمي يتميّزُ بأنّه أوّل عمل في التاريخ يتعامل مع تلك الكائنات بذاتها وبأنّه فتح الباب، منذ صدوره، لتيّار نشيط من الأبحاث الجبريّة، بدأ معه ومع معاصريه وخلفائه المباشرين، ولم يبدأ قبل ذلك أبداً، وما زال ناشطاً إلى يومنا.

يشرح المؤلِّف قوله هذا في الفصل الثاني من الكتاب، حيث يدرس الأعمال اليونانيّة التي وُصفت بأنّها أعمال جبريّة سابقة للخوارزمي، وهي عدد من قضايا كتاب الأصول لأقليدس (حوالى 300 ق.م)، ومجمل كتاب علم الحساب لديوفنطس (بين القرنين الثاني والرابع للميلاد)، ثمّ يعرض آخر الدراسات حول الأعمال الهنديّة، من القرنين السادس والسابع للميلاد، التي حُمِّلت تلك الصفة.

يبيِّن المؤلِّف، استناداً إلى نصوص قضايا الأصول المذكورة، أنّ تفسيرها على أنّها جبريّة يستند إلى استدلالات تنتسب إلى زمن غير زمن أقليدس، وهو بالتالي تفسير مصطنع ولا يأخذ في الاعتبار الفكر الرياضي الأقليدي، الذي كان في تلك القضايا فكراً هندسيّاً بحتاً.

وفي فقرة طويلة مخصّصة لكتاب ديوفنطس (ص 59-77) يقدّم تكثيفاً لكمٍّ هائل من المعلومات عن محتوى عمل ديوفنطس الضخم وأهمّ ما كُتِب حوله. ليصل  إلى النتيجة التالية: «كتاب ديوفنطس ليس بداية لعلم الجبر، ولا موضوعه هو علم الجبر ولا هو من المراجع التي استند إليها الخوارزمي في تأسيس ذلك العلم. ولكنّه بالمقابل، يحتوي على عدد كبير من الأدوات والقواعد والوسائل التي يمكن وصفها بأنّها جبريّة لأنّها استُخدِمت منذ القرن التاسع (بدءاً من عصر الخوارزمي) في بناء الجبر وفي تطويره».

وفي ما يخصّ الأعمال الرياضيّة الهنديّة، يثبت نقولا فارس، معتمداً على بحث رشدي راشد المستفيض في هذا الموضوع (1)، وعلى آخر للمتخصّص بالعلوم الهنديّة ليون روديه(2)، أنّ تأثير تلك الأعمال لا يعتدّ به في مجال الجبر، بينما كان أساسيّاً في علوم أخرى كعلم الفلك والحساب القائم على الترقيم العشري.

2 – الاتجاهان الحسابي والهندسي لتطوّر علم الجبر

تُقدّم الفصول الباقية من الكتاب صورةً عن تطوّر الجبر من بعد الخوارزمي، وهو تطوّر جرى من خلال تيارين رئيسيّين من الأبحاث الجبريّة: أحدهما مطبوع بتأثير علم الحساب؛ والآخر مطبوع بتأثير الهندسة. وتتوقّف تلك الفصول عند أعمال مهمّة، يمكن اعتبارها محطّات من شأنها رسم الخط البياني لمسيرة تطوّر ذلك العلم الجديد في كلّ من التيّارين المذكورين، في التقليد الرياضي العربي.

في الفصل الثالث يبرّر المؤلّف وجود هذين التيّارين باعتبار أنّ الجبر، ككلّ العلوم والنظريّات الرياضيّة التي بدأت قبل القرن التاسع عشر، لم يمتلك عند ولادته، مع الخوارزمي، النظام المصادراتي الخاصّ به والذي يكفي للسماح بأن تُبَرهَنَ كلُّ قضاياه استناداً إلى ذلك النظام. لذلك استعان الخوارزمي (وخلفاؤه المباشرون) بالهندسة الإقليدية من جهة (في تعليل خوارزميات حلول المعادلات)، وبعلم الحساب من جهةٍ أخرى، للاستدلال على صحّة قواعد الحسابات الجبريّة على كثيرات الحدود (أي المصادرات الجبريّة). وكان اللجوء إلى الهندسة وعلم الحساب، أمراً طبيعيّاً، لأنّ كلاًّ من هذين العلمين كان مزوّداً  بشكل من أشكال الأسس المصادراتيّة المتماسكة، في كتاب الأصول لأقليدس، الذي تُرجم إلى العربيّة في عصر الخوارزمي. بعد ذلك يُبرِزُ المؤلِّف مظاهر كلّ من هذين الاتجاهين عبر تقديم عدد من الأمثلة.

3 – تطوّر الجبر في الاتجاه الحسابي

يعالج الفصل الرابع من الكتاب تيّار الأبحاث في الاتجاه الحسابي لعلم الجبر، ذلك التيّار الذي تكوّن عبر قراءات الكتب 7 و8 و9 من الأصول (وهي الكتب الحسابيّة)، والكتاب العاشر (في المقادير غير المُنطقة) في ضوء الجبر، التي أُضيفت إليها لاحقاً القراءات الجبريّة لـ حساب ديوفنطس. ويركّز الفصل الرابع على الأعمال الجبريّة لثلاثة رياضيّين: أبي كامل (830-900؟)، وأبي بكر الكرجي (بداية القرن 11م) والسموأل بن يحيى المغربي
(… – حوالى 1175م)، معتبراً أنّ تلك الأعمال تُعطي فكرة وافية عن تطوير خلفاء الخوارزمي للجبر في منحاه الحسابي، منذ القرن التاسع وحتّى نهاية القرن الثاني عشر للميلاد. ويستحيل أن توجز، في عدد محدود من الصفحات، إنجازات ذلك التيّار من الأبحاث، لذلك نكتفي بأن نذكر منها:

1 – توسيع حقل العمليّات الحسابيّة من مجال الأعداد المُنطَقة إلى مجال أوسع، مكوّن من الأعداد و«الأشياء» وكثيرات الحدود(3)  من الدرجتين الأولى والثانية، بدءاً من الخوارزمي: تطوير الحساب على كثيرات حدود، إلى درجات أعلى من الثانية، والتأمّل في أشباه المصادرات المتعلّقة بضرب ثنائيّات الحدود وجمعها وجمع ثلاثيّات الحدود، وبدء الصياغة الصريحة لعدد من أشباه المصادرات وخصائص الحسابات الجبريّة التي كانت «مضمرة» في عمل الخوارزمي، بدءاً من أبي كامل.

2 – التعامل مع قوى «الشيء» من درجات أعلى من الثالثة وحتّى القوّة الثامنة مع أبي كامَل، ثمّ إلى أيّ قوّة  كانت بدءاً من الكرجي، وهو ما يشكّل خطوة مهمّة على طريق استقلال الجبر عن الهندسة (لاستحالة التمثيل الهندسي لـ xn، في حال ).

3 – إدخال التحليل غير المحدّد من الدرجتين الأولى والثانية، كفصل مستقلّ من فصول الكتب الجبريّة، وإدخال مجال جديد، غريب عن عمل ديوفنطس، هو التحليل غير المحدّد بالأعداد الصحيحة (منذ أبي كامل، بالاستقلال عن كتاب ديوفنطس وقبل أن يُنقل إلى العربيّة)، ثمّ الاستفادة من عمل ديوفنطس وتطويره بدءاً من الكرجي.

4 – تطوير الجبر عبر نقل العديد من نتائج كتب الأصول: الثاني والخامس والسادس (الهندسيّة) والسابع (الحسابي)، إلى الجبر، وبلغة الجبر، منذ القرن التاسع في سياق الحسابات الجبريّة. توسيع النظريّة الأقليديّة في المقادير غير المُنطَقة التربيعيّة وتغيير وجهها، عِبرَ القراءة الجبريّة للكتاب العاشر من الأصول (الهندسيّ): اعتبار تلك المقادير مقادير جبريّة تُطبّق عليها العمليّات الحسابيّة للجبر، وتوسيع نظريّة أقليدس عِبر التعامل مع أنواع جديدة من تلك المقادير، وملاحظة لانهائيّة تلك الأنواع وعدم كفاية «الكتاب العاشر» من أصول أقليدس للتعبير عنها (بدءاً من الكرجي).

5 – البدء بالاستغناء عن الاستدلال الهندسي، وحتّى عن التمثيل الهندسي في الجبر، وإعادة ترتيب فصول الرسائل والمؤلّفات الجبريّة، مع الكرجي (وربّما قبله)، بحيث أخذ الفصل المتعلّق بالحسابات الجبريّة يسبق ذلك الذي يعالج خوارزميّات حلول المعادلات. ذلك الترتيب مخالف لترتيب أوائل الجبريّين مثل الخوارزمي وأبي كامل، وهو يؤشّر إلى استقلال الجبر عن الهندسة؛ فقد اعتُمِد لكي تُستَخدَم قواعد الحساب الجبري في براهين القضايا التي تأتي بعدها، بحيث تنتفي الحاجة إلى التبريرات والأشكال الهندسيّة.

6 – تطوير الحسابات الجبريّة على قوى «الشيء»، x، وقواه،، و«أجزائها»
(أي الـ ) وعلى كثيرات الحدود من أي درجة كانت، بدءاً من الكرجي الذي مَثَّلَ كثيرة الحدود أيّاً  كانت: ، بمتوالية عدديّة معاملاتها: وهو التمثيل الذي ما زلنا نستخدمه في عصرنا. تطوير ذلك التمثيل (مع السموأل)  وتطوير مفهوم «البُعد» الذي كان الكرجي قد أدخله بشكل بدائي على الـ، ليشمل الـ ، مع السموأل، مكّن ذلك الرياضي من إعطاء الصيغة: التي كانت حتّى أمد قريب تُنسَب إلى رياضيّات القرن الخامس عشر الميلادي.

7 – إدخال السموأل للأعداد السالبة (وللصفر) كمعاملات لكثيرات الحدود هو سبقٌ تاريخيٌ مكّنه من تسهيل الحسابات الجبريّة، مثلَ قسمة كثيرة حدود على أخرى وهي إلى حدّ بعيد القسمة الأقليديّة لكثيرات الحدود التي نعرفها اليوم ومنذ الرياضي الألماني كارل فريدريك غوس (Carl Friedrich Gauss) (1777 – 1855)، ومثل التقريب العددي لتلك القسمة (وهو ما نسمّيه، في عصرنا، التوسيع المحدود) ومثل استخراج الجذر التربيعي لكثيرة حدود مربّعة. نشير أخيراً إلى أنّ السموأل، في معرض حسابه لصيغة  (المعروفة الآن بصيغة نيوتن لذي الحدّين)، يُعطي المثلّث الحسابي المنسوب في يومنا إلى باسكال (Pascal) (1623-1662) أو إلى تارتاغليا (Tartaglia) (1499-1557)، وينسبه بصراحة إلى سلفه الكرجي.

4 – المنحى الهندسي لتطوّر الجبر

ارتكزت علاقة الجبر بالهندسة في عصر الخوارزمي وخلفائه المباشرين (ابن ترك، أبي كامل وثابت بن قرّة، …) على تمثيل «الشيء»، x، بخط، و«المال»، ، بمربّع ضِلعُه الخط x، و بمساحة مستطيل ضلعاه هما x و y. استُخدِم ذلك التمثيل لتبرير خوارزميّات حلول أصناف معادلات الدرجة الثانية، ولتبرير بعض قواعد الحساب الجبري. ومع نهاية القرن التاسع الميلادي وبداية القرن العاشر تطوّرت العلاقة بين الجبر والهندسة نتيجة لتزايد المسائل المطروحة على الباحثين في الهندسة والفيزياء (4) وعلم الفلك، ومن بينها المسائل المجسّمة (أي التي لا يمكن حلّها بالمسطرة والبركار) الموروثة من اليونانيّين (5). يعرض نقولا فارس في الفصل الثالث من كتابه (وفي بداية الفصل الخامس) عيّنة من تلك المسائل ويذكر عدداً من عشرات العلماء من التقليد الرياضي العربي الذين بحثوا فيها. تصدّى الهندسيّون من هؤلاء لحلّ تلك المسائل، هندسيّاً، عن طريق تقنيّةٍ عرفها أسلافهم اليونانيّون من قبل، هي تقنيّة تقاطع القطوع المخروطيّة. أمّا الجبريّون فقد حوّلوا عدداً من تلك المسائل إلى معادلات جبريّة كانت (بالطبع) من الدرجة الثالثة وما فوق. ونظراً لصعوبة حلّ تلك المعادلات بطرائق جبريّة حسابيّة، أخذ الجبريّون بحلّها هندسيّاً عن طريق تقاطع قطوع مخروطيّة. لذا استعان هؤلاء بكتاب المخروطات لأبولونيوس (القرن 2 ق.م)، وترجموا بلغة الجبر عدداً من قضاياه الأساسيّة، وهو ما جعلهم يتعرّفون إلى تلك المنحنيات عن طريق علاقات جبريّة نسمّيها الآن «معادلاتها الجبريّة» بالنسبة إلى أنظمة محاور تختلف بحسب متطلّبات المسائل المطروحة. تلك النشاطات الجبريّة والهندسيّة أسّست لعلاقة جديدة، جدليّة (في الاتجاهين)، بين الجبر والهندسة: المسألة الهندسيّة تتحوّل إلى معادلة جبريّة ثمّ يُستعان، من أجل حلّ تلك المعادلة، بالهندسة أي بنظريّة القطوع المخروطيّة. ساعدت تلك النشاطات عمر الخيّام على تصوّر مشروعه غير المسبوق وعلى تنفيذ هذا المشروع الذي يُعتبر بداية الفرع الرياضي الذي نسمّيه الآن «الهندسة الجبريّة» (géométrie algébrique).

أ – عمر الخيّام (1048-1131م)

يُذَكِّر المؤلِّف بأنّ الرياضي والفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) كان، ولفترة طويلةٍ من الزمن، يُعتَبَر أوّل من حدّد المنحنيات الهندسيّة بواسطة المعادلات الجبريّة، وأنّه واضع اللبنة الأولى في بناء الهندسة الجبريّة. ولكن تلك النظرة بدأت تتغير بعدما نشر فرانتز وبكِه كتابه جبر عمر الخيّامي [Wœpcke, 1851] (6) . كتاب مؤرِّخ الرياضيّات هذا، كشف النقاب لأوّل مرّة عن أنّ الفترة الزمنيّة بين أبولونيوس (والعلوم اليونانيّة عامّة)، وبين ديكارت، لم تكن فارغة، ولكنّها كانت تحتوي لائحة طويلة من أسماء لعلماء كبار من التقليد الرياضي العربي أسهموا  في ولادة الهندسة الجبرية، كما أسهموا في تصوّر عمر الخيّام لمشروعه الذي يعتبر بداية هذا الفرع الرياضي. يشرح وبكه مقاطع من رسائل هؤلاء الرياضيّين في ملحق بكتابه، مهمّ جدّاً من الناحية التاريخيّة ويذكر من بينهم، أبا عبد الله الماهاني، وثابت بن قرّة (من القرن التاسع الميلادي)، وأبا الحسن الشمسي الهَرَوي، وأبا حامد الصاغاني (من القرن العاشر الميلادي)، وأبا سهل القوهي (القرن 10-11م)، وأبا الجود بن الليث، والحسن بن الهيثم، وأبا الريحان البيروني، وأحمد بن عبد الجليل السِجزي (من القرن الحادي عشر الميلادي). وكان الخيّام وقد أتى على ذكر هؤلاء (باستثناء الهروي والسجزي)، وأضاف إليهم أسماء أبي الوفاء البوزجاني وأبي جعفر الخازن (القرن العاشر الميلادي)، وأبي نصر بن عراق (القرن الحادي عشر الميلادي).

يُبرِز نقولا فارس قول عمر الخيّام، إنّه تصدّى لمشروع حلّ جميع أصناف معادلات الدرجة الثالثة وإنّ أحداً لم يسبقه إلى ذلك المشروع بل جرت محاولات لحلّ بعض المعادلات التكعيبيّة في مناسبات عَرَضيّة مختلفة، يعدّدها. ويُبرِز قولَه إنّه حاول إيجاد حلٍ لأصناف المعادلات التكعيبيّة بطرائق حسابيّة الغوريتميّة، فلم يتأتَّ له ذلك، فاختار طريق الهندسة، معرباً عن أمله بأن يتمكّن، غيره ممن سيأتي بعده، من معرفة الحلّ بالطرائق الحسابية. كلام الخيّام هذا تحقق فعلاً على يد الرياضيَين الإيطاليَين تارتاغليا وكاردانو من القرن السادس عشر. يقدّم نقولا فارس في الفصل الخامس من كتابه عدّة أمثلة عن حلول الخيّام للمعادلات، مع نصوصها الأصليّة التي يترجمها ويشرحها بلغة الرياضيات العصرية. إضافة إلى ذلك، يقدّم ملاحظات تبيّن سبب اختيار الخيّام للقطوع التي يستخدمها في حلوله، محاولاً إعادة بناء «التحليل الغائب» عن استدلالات الخيّام. ثمّ يقارن بالتفصيل بين طرائق ديكارت في حلول معادلات الدرجة الثالثة وطرائق عمر الخيّام. ويعيد في نهاية هذا الفصل مقاطع طريفة من خواطر للخيّام حول مفهوم «الأبعاد» في الجبر وفي الهندسة، وحول الفرق بين هذين العلمين، تهمّ بشكلٍ خاص المهتمّين بتاريخ الرياضيات وفلسفتها.

ب – شرف الدين الطوسي (…-1180م-…)

يستند المؤلّف في دراسة جبر شرف الدين الطوسيّ  إلى كتاب رشدي راشد الذي حقق فيه أعمال الطوسي الرياضيّة وترجمها إلى الفرنسية (7)، دون أن يغفل ذكر الباحث اللبناني عادل أنبوبا الذي درسها أيضاً. ويقول إنّ الطوسيّ سعى لإكمال مشروع الخيّام في حلّ معادلات الدرجة الثالثة، وعالج بشكلٍ خاص مسألة وجود جذور تلك المعادلات، وهي مسألةٌ شائكة (بالنسبة إلى رياضيّات عصره) لم يتصدّ لها الخيّام إلّا عَرَضاً. إنجاز مشروع الطوسي، وهو مشروع جبري في الأساس، تطلّب الاستعانةَ بالهندسة والهندسة التحليلية، كما استدعى ابتكار وسائل تحليلية وأدوات جبرية متطورة ونتج منه ظهور مفاهيم تحليلية متقدِّمة بالنسبة إلى عصره. إنّ تناغم وتزاوج هذه الأدوات والتقنيّات التي تنتمي إلى مجالات رياضية مختلفة، إضافة إلى وجود مجال الحساب العددي الذي يحتل قسماً أساسياً من رسالة الطوسي الجبريّة، هو تنوع في الوحدة، يميّز رياضيات الطوسي التي لم تُعرَف إلّا منذ مدة وجيزة، والتي ما زالت تحتمل المزيد من الدراسات للكشف عن كل جوانب أهميتها تاريخياً ورياضياً.

فمسألة وجود الجذور دفعت الطوسي إلى تصنيف جديد للمعادلات يختلف عن تصنيف سلفه الخيّام، وقادته إلى أن يُدخل، لأوّل مرّة في التاريخ، طرائق ومفاهيم تنتمي إلى مجال «التحليل الرياضي» وأخرى تنتمي إلى مجال «الهندسة التحليليّة». أمّا في مسألة الحلّ العددي للمعادلات الجبرية، فقد تطرّق إلى ما يشابه منهج روفيني- هورنر (8).

في ما يخص المعادلات التكعيبيّة التي لها دائماً حلّ حقيقي (موجب)، برهن الطوسي، هندسيّاً، وجود الحلّ عن طريق تقاطع قطعين مخروطيّين، ودعته مسألة التقاء القطعين في تلك الحالات إلى إدخال مفهوم النقطة «داخل» القطع أو «خارجه»، وهو مفهوم ينتمي إلى مجال الهندسة التحليليّة. أمّا مسألة وجود جذور المعادلات التي ربما لا يكون لها أي حلّ (حقيقي موجب) فقادته إلى طرح مفهوم «النهاية العظمى» لعدد من التعابير الجبريّة، وهو مفهوم ينتمي إلى ميدان «التحليل الرياضي». تلك المفاهيم التحليليّة التي لم تتبلور قبل القرن السابع عشر. يشرح نقولا فارس بالتفصيل إدخال الطوسي لتلك المفاهيم (9)، ويذكِّر بمقال، سبق أن نشره (10)، يبرهن فيه أنّ حسابات الطوسي عند معالجته لمسألة وجود الجذور كانت حسابات جبريّة، ممّا يدحض وصفاً سابقاً لها بأنّها «أقليديّة» (11).

ويشير المؤلّف إلى تفصيلٍ لافت هو أنّ الطوسي في مجرى حسابه للنهاية العظمى لعدد من التعابير الجبريّة، توصّل إلى معادلة تصفير (أو إعدام) المشتقّ لكلٍّ منها، أي إلى المعادلة . تعبير «المشتق» الذي ينتمي إلى مجال التحليل الرياضي، لم يتحدّد قبل رياضيّات القرن الثامن عشر مع نيوتن ولايبنتز. أسلوب الطوسي، في حساباته تلك، كان تركيبيّاً في الغالب، لا يبيّن التحليل الذي قاده إلى استخدام ذلك التعبير. لذا يُنهي نقولا فارس الفقرة المتعلّقة بالطوسي بتقديم بحث يهدف إلى إعادة بناء التحليل الغائب في حسابات الطوسي، الذي يقدّم تفسيراً لظهور تعبير المشتق، هو تفسير طبيعي يستند إلى نص الطوسي دون أي فرضيّة أو تخمين من خارج ذلك النَص.

 

ثالثاً: تقييم الكتاب

يتميّز أسلوب الكتاب بالموضوعيّة، والدقة العلمية، وبهاجسه التربوي المستمرّ لمساعدة القارئ على حسن الفهم ودقّة الإدراك. ففي كلّ مرّة يتعرّض فيها الكاتب لإحدى المسائل الشائكة، أو المثيرة للجدل، نراه يناقش مختلف الآراء الواردة حولها، مشيراً إلى مصادرها العلمية، ويستعين ببعض النصوص الأصلية، فيشرحها ويعلّق عليها بلغة الرياضيات الحديثة، ويُظهِر مواطن الاختلاف ومواقع الشبهة فيها.

وبالرغم من علميته الدقيقة، ومواضيعه المجّردة، يأخذنا هذا الكتاب، في العديد من صفحاته، في نزهةٍ علميةٍ ممتعة، في عالم الجبر القديم، فينتقل بنا في الزمان وفي المكان ومن عالِمٍ إلى عالِمٍ آخر، ليطلعنا، عن كَثبٍ على أعمالهم، ويعرّفنا، بالشواهد، على منجزاتهم شارحاً ما غَمُضَ مِنها، متوافقاً مع هاجسه العلمي الطاغي، ومنسجماً مع أهدافه التعليمية. وتُظهِر قراءتُه كيف أحدث الجبر ثورة في العلوم الرياضيّة القديمة، وغيّر صورة العديد من نظريّاتها، وسهّل حلّ مسائلها، عبر القراءات الجبريّة لكتب أصول أقليدس و«مخروطات» أبولونيوس، و«حساب» ديوفنطس، وكيف أسهمت أبحاث الجبريين من التقليد الرياضي العربي، في بناء العلم في أوروبا ابتداء من القرن الثاني عشر. وتُساعد قراءته أيضاً على تصويب تاريخ بداية العديد من النظريّات والإنجازات الرياضيّة (بما فيها بداية الهندسة الجبريّة)، وذلك عبر البرهان على أنّها حصلت في التقليد الرياضي العربي، قبل قرون ممّا اصطُلِح على تسميته عصر النهضة.

بعد هذه النظرة السريعة إلى كتاب نقولا فارس، بمشروعه وأهدافه ومحتواه وأسلوبه، يمكننا أنْ نؤكّد مرة أخرى القيمة العلمية العالية لهذا العمل. إنّه عمل بحثي غير مسبوق. فرغم أن الكثير من الأفكار التي يعالجها الكتاب وردت في أدبيّاتٍ علميةٍ سابقة،  منها ما يتبنّاه الكاتب، ومنها ما يدحضه أو لا يتبنّاه، إلّا أنّنا لا نجد، في زمننا هذا، ذلك الكمّ الكبير من المواد الموثّقة، المنسّقة،  مجموعةً بين دفّتي كتابٍ واحد. هذه الموادّ التي قدّمها نقولا فارس بعنايةٍ فائقة وقام بشرحها تفصيلياً جعلته يسهم بشكلٍ عميق في الإضاءة على تفاصيل نموّ علم الجبر وتطوّره في الاتجاهين، الحسابي والهندسي. كما مكّنته من الحسم النهائي  للجدل القائم لدى مؤرّخي العلوم حول ولادة علم الجبر!

وهو أيضاً عمل تربوي غير مسبوق.  فجميع الكتب المهمّة المتداوَلة في تاريخ الرياضيّات تتوجّه إلى الباحثين فَحَسْب، وكُتِبَت بأسلوب الباحث الذي يفترض أنّ الكثير من المعلومات والمراجع التي يستند إليها معروفة من قِبل القارئ. أمّا الكتاب الذي بين أيدينا فيتوجّه أيضاً إلى الطلاّب الجامعيّين والمثقّفين العاديّين. تتوالى فصوله بشكل مترابط، وأفكاره  تُقدَّم  بأسلوب تربوي واضِح، يُكثر من الأمثلة، ولا يرجع إلى معلومةٍ  إلّا وأعطى فكرة وافية عنها. هذه المعلومات الموثّقة بوفرةٍ من المصادر والمراجع والإشارات، والمعززة بالأمثلة المعبِّرة، المختارة من النصوص الأصلية القديمة، والموضَّحة بالشروح بلغة الرياضيات الحديثة الصارمة في علميّتها والتربوية في طرائق عرضها، تجعل من هذا الكتاب مرجعاً لازماً لجميع الطلّاب ولكلّ الباحثين في تاريخ الرياضيات عموماً وعلم الجبر خصوصاً.

كلّ ذلك يجعلنا نعتقد أنّ هذا الكتاب يسدّ ثغرةً مهمّة في المكتبة العلميّة والتربويّة العربية، والفرنسية أيضاً، في تاريخ علم الجبر، وأنّه سيشكِّل بالتأكيد مرجعاً ثميناً للمهتمّين بالرياضيّات وتاريخ العلوم وفلسفتها في لبنان وعلى صعيد العالمين العربي والفرنكوفوني.