من أجل فهم أزمة النظام اللبناني وأبعادها، لا بد من الابتعاد من الإسقاطات العقائدية على الواقع اللبناني، وبذل الجهد البحثي لاكتشاف هذا الواقع في القطاعات كافة، ولا بد كذلك من تتبع سريع للمتغيرات الإقليمية والدولية، منذ الحرب العالمية الثانية لفهم نهوض لبنان الاقتصادي، ثم انحداره لتلمس طريق خلاصه من أزمته البنيوية الشاملة، ولا بد من بحث تركيبة بعض قطاعات الاقتصاد المهيمنة، لفهم تركيبة الطبقة الحاكمة واستهدافاتها الأساسية، مثل قطاعات المال والتجارة بصورة أساسية، وانعكاسات هذه السياسات على قطاعات الإنتاج، وعلى التناقضات الطبقية الأساسية في المجتمع اللبناني.

تمّ وضع أسس الكيان اللبناني ونظامه المركنتيلي منذ سنة 1861 مع إنشاء نظام المتصرفية في إطار الدولة العثمانية بإشراف قناصل الدول الأوروبية الخمس، وعلى رأسهم القنصل الفرنسي، ثم اختيار مدينة بيروت لتكون مركزاً خدماتياً ومعْبراً للاستعمار الأوروبي إلى عمق المشرق العربي.

كان إعلان «دولة لبنان الكبير» سنة 1921 تتويجاً لسياسات استعمارية امتدت ستين عاماً لبناء هذه الدولة – القاعدة – بالنسبة إلى فرنسا بخاصة، ونشأت الطبقة الحاكمة في لبنان، بحسب حاجات الاستعمار الأوروبي ومقاييسه، من كبار التجار ووكلاء الشركات الأوروبية، ومن الصيارفة والمرابين الذين تحوَّل بعضهم إلى أصحاب مصارف مرتبطة بالسوق المالية الأوروبية. فكانت بيروت المرفأ والمتجر والمصرف والجسر، وعقدة المواصلات، وبوابة المشرق بالنسبة إلى بعض أوروبا، ومركزاً للتسوق والسياحة والتجارة والدراسة.

أريد لهذا الكيان أن يكون منطقة حرة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، كما كانت مدينة طنجة عند مدخله الغربي سوقاً مفتوحة أمام كل أنواع التدفقات المالية والسلعية والخدماتية والبشر. وشكلت منطقة الانتداب الفرنسي في المشرق العربي – سورية ولبنان – وحدة اقتصادية شبه كاملة إبان عهد الانتداب: هي وحدة نقدية وجمركية، وحدود مفتوحة أمام انتقال السلع والأفراد والأموال. وكان دعاة الانعزال اللبناني يتوجسون خيفة من أن تؤدي الوحدة الاقتصادية إلى وحدة سياسية، متذكرين دائماً إنفاق «الزولفارين» الذي أوصل إلى وحدة ألمانيا.

بعد الاستقلال، كانت القطيعة بين لبنان وسورية سنة 1951 نتيجة المخاوف السياسية لبعض اللبنانيين، كما نتيجة تناقض توجهات الطبقتين البرجوازيتين الحاكمتين ومصالحهما الاقتصادية، والتابعة لدور كل منهما في البنية الاقتصادية للبلدين.

إن البرجوازية السورية التي تعتمد الإنتاج الزراعي بصورة أساسية، وتعمل على حماية إنتاجها، تتناقض مصالحها مع الانفتاح الاقتصادي الشامل الذي يخدم مصالح طبقة تجارية تشكل جسراً بين الاقتصادات الأوروبية المتقدمة، وحاجات المشرق العربي إلى سلعها وخدماتها.

حقق لبنان بسبب السياسات الليبرالية المتطرفة وتقدمه النسبي في محيطه ودوره الوسيط في التجارة الإقليمية، وقدرته على إنتاج الكثير من الخدمات التي تحتاج دول المحيط العربي إليها، ازدهاراً اقتصادياً كبيراً وكسب لقب «سويسرا الشرق».

واستفاد لبنان من متغيرات المحيط بعد الحرب العالمية الثانية، فقد أدى سقوط فلسطين إلى ازدهار أعمال مرفأ بيروت، كبديل من مرفأ حيفا. وتحويل مصب أنابيب النفط السعودي من فلسطين إلى لبنان، واستقبال عمالة فلسطينية متقدمة في الزراعة، وبخاصة زراعة الحمضيات والخضار، وخبرات متقدمة في قطاعات المال والمحاسبة والتعليم الجامعي.

تعززت الطبقة الحاكمة اللبنانية بانضمام برجوازيات عربية إلى صفوفها بأموالها وخيراتها نتيجة الانقلابات العسكرية الراديكالية في بلدان الجوار العربي، واحتلت هذه البرجوازيات سريعاً، مكاناً لها في قطاعَي المال والتجارة.

كما أفاد الاقتصاد اللبناني من هزيمة حزيران/يونيو عام 1967 ومن إقفال قناة السويس، ثم من حرب تشرين التي انتجت الحظر النفطي العربي، ثم ارتفاع أسعار النفط ومضاعفة تدفقات أمواله مع ارتفاع التوظيف في البنى التحتية في بلدان النفط، وما أنتجته من طلب على العمالة اللبنانية والسلع، وتدفق فوائض هذه الأموال على مصارف لبنان التي مثلت أقنية لتدوير هذه الأموال وضخها إلى الأسواق المالية الناضجة مع عمولات مجزية، وازداد الطلب على خدمات مرفأ بيروت وحركة النقل والمواصلات البرية والجوية.

بلغ الاقتصاد اللبناني أوج ازدهاره عند منتصف سبعينيات القرن الماضي. وقبل أن تعصف فيه رياح «الثورة» الفلسطينية، كانت قوى الانعزال اللبناني، التي أقامت الحلف الثلاثي بعد هزيمة حزيران/يونيو، تعد عدتها لتحقيق حلم تاريخي، بدا ممكن التحقيق في نظر المارونية السياسية، وهو ما أجج الصراع في لبنان، ومهّد للاجتياح الإسرائيلي والأمريكي سنة 1982.

بدأ انحدار الاقتصاد اللبناني في سبعينيات القرن الماضي بسبب الصراع الداخلي، ومتغيرات المحيط العربي، ونتائج تلك المتغيرات على الاقتصاد اللبناني. فإلى جانب تقدم البنى التحتية في بلدان الداخل العربي وقدراته الإنتاجية على السلع والخدمات، انفتح هذا الداخل على الخارج الأوروبي – الأمريكي من دون الحاجة إلى الوساطة اللبنانية:

  • نمت السوق المالية الحرة في البحرين لتنافس دور المصارف اللبنانية في استقطاب فوائض صادرات النفط، وتضخها إلى الخارج، وقدمت إلى سوق البحرين مصارف أوروبية وأمريكية بغية تدوير فوائض أموال النفط، فانتهى دور المصارف اللبنانية عملياً في هذه المهمة المجزية.
  • ظهرت عشرات المصارف العربية الحديثة الشاملة والكبيرة، متجاوزة بنية المصارف اللبنانية وقدراتها وعلاقاتها الخارجية.
  • تم توسيع المرافئ العربية على شواطئ البحر الأحمر والخليج العربي لتلبية حاجات الاستيراد، وبخاصة بعد إعادة فتح قناة السويس، ففقد مرفأ بيروت الكثير من دوره.
  • مع انتقال الثقل الاقتصادي الإنتاجي تدريجاً من السوق الأوروبية والأمريكية إلى الشرق الآسيوي، أصبحت إمارات الخليج هي بوابات المشرق العربي بدلاً من لبنان.
  • ظهرت في دول الخليج وإماراته أسواق حديثة وغنية، والكثير من المعاهد والجامعات، وانفتحت هذه المنطقة على الخارج الأوروبي – الأمريكي، في الوقت الذي كان الوضع الأمني في لبنان يُفقده هذه الأدوار الخدماتية.

كان حرياً بالطبقة الحاكمة في لبنان أن تدرك عمق التحولات في المحيط، وفقدان لبنان دوره الاقتصادي السابق كنظام وكيان، وأن تبحث لنفسها عن دور جديد في إطار إعادة إنهاضه.

لكن الطبقة الحاكمة المتجذرة في ثقافة النظام ودوره السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي، ذي الثقافة الرأسمالية الغربية الهجينة، لم تكن مؤهلة أو قادرة على تغيير جلدها ودورها، وابتكار دور جديد لها وللبنان في محيطه وإحداث التغيير الذي تتطلبه متغيرات الذات والمحيط، وكانت القوى الدولية والإقليمية النافذة قد تكفلت بإجهاض قوى التغيير اللبنانية التي تمثلت آنذاك بأحزاب الحركة الوطنية، التي عبَّر برنامجها المرحلي عن توجهاتها وأهدافها في إحداث التغيير المطلوب.

ثم كان الاجتياح الإسرائيلي بإشراف ومشاركة أمريكية – أطلسية، وبالتحالف مع قوى المارونية السياسية المرتبطة بإسرائيل، وفشل الاجتياح في تحقيق أهداف أي من أطرافه. لكن توازنات المحيط والعالم، وبخاصة بعد وهن الاتحاد السوفياتي ثم سقوطه، فرضت مؤتمر الطائف وأقصت المقاومين للاجتياح وأعادت إحياء دور المهزومين في لبنان، وفرقاء النظام ورموزه كافة، مع إعادة توزيع بعض الأدوار السياسية والحصص في الحكم على الفرقاء الطائفيين، وإعادة اقتسام النفوذ الإقليمي السابق للاجتياح.

مع إصدار عفو عام عن الجرائم والمجرمين إبان الاجتياح والحرب الأهلية، وجلّها جرائم ضد الإنسانية، مُنع التغيير المطلوب في بنية النظام.

وأتت التوازنات الجديدة ومساومات اتفاق الطائف بحكومة الرئيس رفيق الحريري، وكقيادة جديدة أكثر دينامية من سابقاتها، وأكثر وقاحة في تعبيرها عن توجهات المحافظين الجدد ومبادئ الليبرالية الجديدة، وبدعم سعودي كامل. ورسمت هذه الحكومة لنفسها دور استعادة دور لبنان الاقتصادي البائد في إطار نظام «الشرق الأوسط الجديد» الذي تحدث عنه وبشّر به شيمون بيريز، ونال مباركة الإمبريالية الأمريكية.

استندت خطة النهوض الاقتصادي التي تبنتها حكومة الرئيس الحريري إلى فرضية إنهاء الصراع العربي – الصهيوني، وفتح الحدود مع العدو الإسرائيلي وتخصص لبنان كما في السابق، بإنتاج بعض الخدمات المصرفية والتجارية والسياحية في النظام الإقليمي الموعود.

تم وضع خطة النهوض الاقتصادي هذه من قبل شركة بكتل الأمريكية وبالتعاون مع دار الهندسة وموافقة مجلس الإنماء والإعمار، وتم استقدام شركة كهرباء فرنسا لتقود عملية «إنهاض» قطاع الكهرباء (وما زالت تعمل على ذلك حتى اليوم).

وعدت خطة النهوض الاقتصادي وإعادة الإعمار بتحقيق نمو في الناتج المحلي معدله 8 بالمئة سنوياً وحتى سنة 2000 بهدف رفع كفاءة مؤسسات القطاع العام، وتسريع إعادة الإعمار. وبهذه الذريعة تم تعطيل مؤسسات التفتيش المركزي وديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية والإحصاء المركزي، وأتى الحريري بطاقمه إلى مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وتسلم وزارة المالية ومجلس الإنماء والإعمار، أي أنه تسلم شخصياً كل مفاصل القرار والتنفيذ على الصعيد الاقتصادي.

ومن أجل تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، تم ربط سعر صرفها بالدولار الأمريكي للحد من معدلات التضخم، ولكن سعر صرف الدولار لم يكن ثابتاً، بل كان يتغير بحسب حاجات الاقتصاد الأمريكي، واختارت الإدارة الأمريكية في تسعينيات القرن الماضي أن تنتهج سياسة «دولار» قوي، عبر رفع سعر صرفه بالنسبة إلى عملات العالم الرئيسة، بهدف جذب تدفقات نقدية إلى السوق الأمريكية لسد العجز في الموازنة والحساب الجاري.

وتالياً، فإن ربط سعر الليرة بالدولار لم يثبت سعر صرفها، بل أدى خلال التسعينيات إلى رفع سعر الصرف الحقيقي لليرة بما يقارب 100 بالمئة تجاه سلة العملات التي تسعر بها التجارة الخارجية اللبنانية مثقلة بنسب الاستيراد، فنتج من ذلك ارتفاع كبير في أسعار الصادرات اللبنانية وانخفاض كبير في أسعار السلع المستوردة، ما ألحق أضراراً كبيرة بالاقتصاد اللبناني.

كما تم رفع معدلات الفائدة الحقيقية على سندات الخزينة إلى نحو 20 بالمئة (الفائدة الحقيقية تساوي الفائدة الجارية ناقص معدل التضخم). وارتفاع الفائدة الحقيقية حتى إلى حدود 4 بالمئة، يعتبر كابحاً للنمو الاقتصادي، وتتطلب مرحلة الإنماء والإعمار خفض الفائدة الحقيقية إلى نحو الصفر، وتالياً، تكفلت السياسة النقدية بقيادة رجل الحريري في مصرف لبنان (أي حاكم المصرف المركزي) بإجهاض عملية الإنماء وإعادة الإعمار، فعلى الرغم من الإنفاق الضخم للخزينة الذي تجاوز بأشواط أرقام الموازنة، فإن معدلات النمو أخذت في التناقص حتى وصلت إلى الصفر في أواخر التسعينيات، وكان معدلها لا يتجاوز 2 بالمئة بدلاً من الـ 8 بالمئة التي وعدت بها خطة النهوض الاقتصادي المسماة «آفاق ألفين».

ومع خيبة الآمال في إقامة «الشرق الأوسط الجديد» بمركزية إسرائيلية وتبيان صعوبة استعادة لبنان دوره الاقتصادي الغابر، اشتدت نزعة الطبقة الحاكمة إلى التعويض عن خسارة ذلك الدور بنهب الداخل اللبناني على جميع الصعد وبكل الوسائل.

يمتاز النظام الرأسمالي العالمي بعد سيادة مبادئ الليبرالية الجديدة بقيادة المحافظين الجدد، بهيمنة قطاع المال على قطاعات الاقتصاد كافة، على الصعيدين العالمي والداخلي للدول ذات النظام الرأسمالي الحر. وتتحكم الولايات المتحدة عبر دور الدولار في تمويل التجارة العالمية وحصته في الاحتياطيات النقدية لدول العالم، كما عبر هيمنتها على مؤسسات النظام العالمي الثلاث، بالسوق المالية العالمية، وهي قادرة تالياً على ممارسة عدوانية شرسة على الكثير من دول العالم المناوئة لسياستها وعدوانيتها.

وبغية التحكم بالنظام اللبناني، وبالاقتصاد اللبناني بخاصة، وتأدية دور، ولو متواضع في اقتصادات الجوار، تم تركيز جهود الطبقة الحاكمة بقيادة الحريرية على تقوية المصارف وتنمية رؤوس أموالها بأي ثمن عبر السياسات التالية:

  • اتباع سياسات مالية ونقدية لجذب رؤوس أموال خارجية.
  • تنمية الدين العام الداخلي والخارجي.

ولتأمين تدفقات مالية إلى السوق اللبنانية، كان لا بد من تحقيق الشروط والمناخات التالية:

–  استتباب الأمن وسيطرة الدولة على الداخل وإنهاء دور الميليشيات والمقاومة.

–  السيطرة على معدلات التضخم واستقرار سعر الصرف من دون تذبذبات فجائية حادة، وهو أمر تحقق بربط سعر صرف الليرة بالدولار الأمريكي.

–  رفع معدلات الفائدة على سندات الخزينة، التي تشكل العمود الفقري لهيكلية الفوائد في السوق المالية.

لذلك، تم رفع معدلات الفوائد الحقيقية إلى ما يقارب 20 بالمئة مقارنة بمعدلات فوائد حقيقية لا تتجاوز 2 بالمئة على سندات الدين في الكثير من دول العالم، وأمنت هذه السياسة تدفقات مالية كبيرة على السوق المالية اللبنانية طمعاً في المردود المرتفع جداً لهذه السندات، مع استحالة قدرة قطاعات الإنتاج الحقيقي على تحمل هذه الكلفة العالية جداً للأموال. فهذه الفائدة تفوق بأشواط المردود المتوقع للأموال في قطاعات الإنتاج السلعي. لذلك، يمكننا القول إن الفوائد المرتفعة جداً على سندات الخزينة، طردت قطاعات الإنتاج من السوق المالية.

مكّنت معدلات الفوائد المرتفعة المصارف اللبنانية من تحقيق أرباح خيالية عبر توسيع الهوة بين الفائدتين الدائنة والمدينة إلى أضعاف معدلاتها في العالم، ومكنت الكثير من المصارف والأثرياء في الداخل والخارج من الاستدانة بعملات أجنبية بفوائد منخفضة جداً والتوظيف في سندات الخزينة اللبنانية بالليرة اللبنانية، محققين أرباحاً مرتفعة جداً (Carry Trade)، وبسبب المردود المرتفع لهذه التوظيفات والأرباح الخيالية للمصارف، استطاعت المصارف اللبنانية اجتذاب مشاركات خارجية جديدة في رؤوس أموالها حتى غدت ملكية المصارف اللبنانية الكبيرة في أيدٍ عربية وأجنبية.

مع ارتفاع اكتتابات المصارف والأثرياء في سندات الخزينة، رفعت حكومة الحريري معدلات الإنفاق العام بما يتجاوز أرقام الموازنات العامة، وأبقت سقف الاستدانة العامة مفتوحاً، فتضاعف الإنفاق العام الجاري وغير المنتج. ومع تعطيل مؤسسات الرقابة والمحاسبة تضاعف الهدر في إنفاق المال العام، وتصاعدت معدلات الفساد والإثراء السريع لأصحاب السلطة والنقود بنسب لم يعرفها لبنان سابقاً. وفي غضون عشر سنوات، نمت رؤوس أموال المصارف بنسبة 1000 بالمئة، وتصاعد تراكم الدين العام وكلفته، وتم دفع الاقتصاد اللبناني إلى فخ المديونية وتقلصت رؤوس الأموال الموظفة في قطاعات الإنتاج السلعي، أي الزراعة والصناعة.

وتشكل الاستدانة لتمويل الإنفاق العام الجاري وغير المنتج، سطواً على مدخرات الأجيال السابقة من اللبنانيين، وسطواً على إنتاج الأجيال المقبلة التي ستتكلف خدمة هذه الديون وإلغائها..

ولما علت بعض الأصوات المعترضة على سياسات الاقتراض الزائد على حاجات الخزينة وقدرتها على الإنفاق وتراكم مليارات الدولارات في حسابها لدى مصرف لبنان (حساب 36)، عمد حاكم مصرف لبنان إلى إصدار «شهادات إيداع» للمصارف بفوائد تفوق معدلات الفوائد على سندات الخزينة بـ 1 بالمئة (نقطة أساس) بدلاً من خفض معدلات الفوائد على سندات الخزينة، للتقليل من جاذبيتها ودفع توظيفات المصارف إلى قطاعات اقتصادية منتجة. ولكن هذا البديل الطبيعي لا يلائم استهدافات الطبقة الحاكمة.

للخزينة اللبنانية 80 بالمئة من أرباح مصرف لبنان. ويحقق مصرف لبنان أرباحه من إصدار النقد وأرباح القطع (المتاجرة بالعملات الأجنبية) وتسليف المصارف والاكتتاب بسندات الخزينة، وربما بلغت حصة الخزينة من أرباح مصرف لبنان نحو 1.5 مليار دولار سنوياً، يتم تحويلها عبر آليات السوق إلى المصارف عبر «شهادات الإيداع» ودفع فوائد على ودائع المصارف بالقطع الأجنبي لدى مصرف لبنان، تفوق فوائدها فوائد ما يستطيع مصرف لبنان توظيفه من أموال في الخارج بـ 1 بالمئة. ولكن مصرف لبنان، وللتعمية على هدر أموال الخزينة، يحوّل بعض الأرباح غير المحققة (أرباح دفترية ناتجة من ارتفاع أسعار الذهب والعملات الأجنبية) إلى الخزينة، وهو أمر مخالف لكل الأنظمة والقوانين وغير جائز بالمطلق.

أقامت المصارف اللبنانية بنية احتكارية (جمعية المصارف) تحدّد معدلات الفوائد في السوق بدلاً من آليات السوق وتمنع استعمال معدلات الفائدة للتنافس بين المصارف، ومنعت إقامة مصارف متخصصة بعد دفع مثل هذه المصارف إلى الإفلاس أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات في القرن الماضي (مصارف الإقراض المتوسط والطويل الأجل لقطاعات الصناعة والزراعة) ومنعت إحياء «البورصة» الرسمية التي تشكل أداة أساسية لمزاحمة المصارف التجارية في الوساطة المالية، والقادرة على إجبار المصارف على تقليص الهوة بين الفائدتين الدائنة والمدينة إلى حدود واحد بالمئة. وأطلق النظام اللبناني للمصارف حرية فرض الفوائد التي تريدها في السوق المالية ولو بلغت أكثر من 20 بالمئة سنوياً، في الوقت الذي يمنع القانون اللبناني الإقراض بفائدة تفوق 9 بالمئة، إذ يعتبر ذلك فائدة ربوية يعاقب عليها ذلك القانون.

أما لجنة الرقابة على المصارف، فقد تم حصر مهمتها في العمل على حماية المصارف ومنعها من الانزلاق إلى التعثر أو الإفلاس، ومنع قانون إنشاء اللجنة مفتشيها من التدخل أو البحث في أمر تهرب المصارف من ضريبة الدخل، في الوقت الذي أنشأ «هيئة خاصة» تخرق قانون السرية المصرفية وتراقب كل حركة مالية لدى المصارف لمصلحة الإدارة الأمريكية بغية منع «تبييض الأموال» وتمويل «الإرهاب» كما تعرّفه الإدارة الأمريكية، وتفرض على المصارف تحصيل ضريبة الدخل من حاملي الجنسية الأمريكية لحساب الخزينة الأمريكية.

نتيجة لما سبق، نستطيع القول إن سياسات الطبقة الحاكمة تجاه قطاع المصارف حققت نجاحاً كبيراً في رفع معدلات ربحية هذا القطاع وإعادة بناء رؤوس أمواله، وحققت دفقاً كبيراً من الأموال إلى السوق اللبنانية، حتى وصلت موجودات المصارف اللبنانية إلى أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي القائم. هذا التورم في الموجودات خطِر وضارّ بالاقتصاد اللبناني، ولكن قطاعات الإنتاج الحقيقي بقيت غير قادرة على الاستفادة من هذه الأموال بسبب كلفتها المرتفعة جداً، ولكونها أموالاً ساخنة غير قابلة للتوظيف المتوسط والطويل الأجل. وتسببت هذه السياسة في نهب أموال الخزينة ودفع لبنان إلى فخ المديونية وإثقال نسبة مرتفعة من اللبنانيين بالديون الشخصية عالية الكلفة وإقعاد قطاعات الإنتاج، وتوسيع الهوة بين قلة ثرية مالكة، وأكثرية مدينة وفقيرة من اللبنانيين، وتملّك غير اللبنانيين لأكثرية أسهم المصارف، وتالياً، ضخ معظم أرباح المصارف إلى الخارج، وهو ما فاقم عجز حساب المدفوعات الجاري. وفوق كل ذلك، تمّ تمكين القطاع المصرفي من الإمساك بالاقتصاد اللبناني وتالياً، بالحياة السياسية اللبنانية كما سنبين لاحقاً.

أولاً: القطاع التجاري

كان قطاع التجارة شديد الاعتماد على أسواق بلدان المحيط العربي عبر التجارة المثلثة (حيث يتولى التاجر والمصرف اللبنانيان عقد صفقة الاستيراد وفتح الاعتماد وتمويل نقل البضاعة إلى تاجر في بلد عربي من دون مرور البضاعة بلبنان) وعبر إعادة التصدير، كما عبر السوق اللبنانية للمتسوقين العرب. ونتيجة متغيرات الداخل اللبناني والمحيط، كما نتيجة تطور المواصلات وتقنيات الاتصالات ووسائل الدفع، وبناء أسواق حديثة وغنية في بلدان الجوار، خسر قطاع التجارة اللبناني الكثير من دوره، ولم يستطع النظام اللبناني على الرغم من إعادة بناء وسط بيروت أن يعيد لهذا الوسط دوره التجاري السابق، أو جزءاً من هذا الدور.

عملت الطبقة الحاكمة على انسحاب القطاع العام من الكثير من مهماته الاقتصادية لتوسيع دائرة نشاط القطاع التجاري؛ فتمّ مثلاً تدمير مصفاتَي النفط (وهي ملك القطاع العام، أي ملك الشعب) عن سابق تصور وتصميم، وانسحب القطاع العام من استيراد المشتقات النفطية لمصلحة بضع شركات جديدة شكلت احتكاراً نافذاً لاستيراد المشتقات. وتم منع مكتب الدواء الذي تم إنشاؤه عند بداية السبعينيات من القرن الماضي في وزارة الصحة من القيام بمهماته في استيراد الأدوية للقطاع العام، وخفض ثمن الأدوية إلى نحو النصف (تقدّر فاتورة الدواء بنحو 1.4 مليار دولار سنوياً)، وتولى «كارتيل» مستوردي الدواء تصفية هذا المكتب.

على الرغم من اعتراض السوق الأوروبية التي عقدت اتفاقاً مع لبنان على البنية الاحتكارية لقطاع التجارة وضرورة إلغاء الوكالات الحصرية وحمايتها، وعلى الرغم من إقرار مجلس النواب هذا الإلغاء مع تأجيل تنفيذه بضعة أشهر، لم تنته هذه البنية الاحتكارية بعد مرور بضع سنوات على إقراره.

وعلى الرغم من أن بعض السلع المستوردة والمدعومة بمعدلات عالية من قبل المنتجين، مثل الإنتاج الزراعي الأوروبي، وبخاصة الحليب ومشتقاته والسلع الزراعية والصناعية التركية المدعومة… التي يشكل استيرادها إغراقاً للسوق اللبنانية مع تدني الرسوم الجمركية عن معدلات الدعم، فإن الطبقة الحاكمة ترفض إخضاع هذه السلع لضرائب مرتفعة، بغية حماية الإنتاج الزراعي اللبناني من الإغراق.

ويرفع نظام الوكالات الحصرية وحمايتها أسعار السلع في السوق اللبنانية إلى أضعاف أسعار المنشأ، فيلحق الضرر الفادح ببعض قطاعات الإنتاج كما بالمستهلكين. ويعاني قطاعا الصناعة والزراعة احتكار استيراد مدخلات الإنتاج والسلع الوسيطة؛ فأسعار الشتول والبذور والأسمدة والأدوية الزراعية تباع بأضعاف أسعارها في الأسواق العالمية. وكذلك المكونات المستوردة لبعض الإنتاج الصناعي اللبناني، ما يجعل الإنتاج اللبناني مرتفع الكلفة غير قابل للتصدير وغير قادر على مزاحمة السلع الشبيهة المستوردة من قبل كبار التجار.

أضف إلى ذلك عدم قدرة صغار المنتجين على الوصول إلى السوق المالية الرسمية، ولجوؤهم إلى الاستدانة من التجار ولجوء المزارعين إلى الاستدانة من المرابين و«الكونتوارات» الزراعية، حيث يبلغ معدل الفائدة السنوي نحو 150 بالمئة.

وفي إطار «تحرير الأسواق» أزالت «الحكومات الحريرية» الرقابة على الأسعار، فألغت مهمة «حماية المستهلك» وأزالت سقوف أرباح التجار للجملة ونصف الجملة والمفرق.

وبحسب بعض التقديرات، فإن البنى الاحتكارية ترفع كلفة المعيشة في السوق اللبنانية بنحو 30 بالمئة كمعدل عام.

ثانياً: سياسة الخصخصة وبناء الاحتكارات

تولى القطاع العام، قبل اجتياح أيديولوجيا الليبرالية الجديدة للقطاع الرأسمالي العالمي في أكثرية بلدان العالم مهمة إنتاج الكثير من السلع والخدمات الأساسية التي لها علاقة قوية بالأمن الوطني أو القومي ولها أبعاد استراتيجية أو لكونها حاجات أساسية وضرورية للمجتمع، يصعب الاستغناء عنها ومن حق المواطن الحصول عليها بأقل كلفة ممكنة. بعض هذه الخدمات تقدم مجاناً، وبعضها الآخر بأقل من كلفة إنتاجها، وتشمل هذه الخدمات التعليم والصحة (التطبيب، الاستشفاء، الدواء، النظافة ولمّ القمامة، الطب الوقائي…) والسكن الشعبي، والنقل، والطاقة (كهرباء، وقود نفطي) والمياه (مياه الشرب ومياه الاستخدام المنزلي ومياه الري)، والمواصلات (طرق نقل عام، سكك حديد، إلخ…) والاتصالات (بريد وما شابه).

ومع وصول أفكار ومبادئ الليبرالية الجديدة مع العهود الحريرية إلى السلطة، اختلفت القيم والسياسات والمبادئ المعلنة، فلم يعد الإنسان هو الغاية من وراء الإنتاج ومن قبل السياسات العامة، بل أصبح تراكم «الربح» و«رؤوس الأموال» و«الثروة» هو الغاية وتحوّل الإنسان العامل والمنتج إلى وسيلة لتحقيق تراكم «رؤوس الأموال»، أي أنه تحول إلى أحد مدخلات الإنتاج، وتحدد عوامل السوق، من عرض وطلب، «ثمنه» أو قيمته، ومن لا عمل له ولا حاجة إليه في السوق لا قيمة له ولا يستحق دعم المجتمع وعطفه، وفي أحسن الأوضاع يغدو محط اهتمام الجمعيات الخيرية، وليس مؤسسات الدولة والقطاع العام، فالفقير هو المسؤول عن فقره، والعاجز مسؤول عن عجزه، وعلى المجتمع التخلي عنه.

هذه هي خلفية سياسات الخصخصة والتشاركية ورفع الدعم عن السلع والخدمات وسياسات «تحرير سوق العمل»، أي تسهيل صرف الموظفين والعمال من العمل، واستبدال العمل الدائم بالعمل الموقت أو اليومي، وإلغاء ربط الرواتب والأجور بمعدلات التضخم ونمو معدل الدخل الفردي على الصعيد الوطني وإلغاء مبدأ العقد الجماعي وإضعاف النقابات والمؤسسات الضامنة الرسمية… إلخ.

ولأن الطبقة الحاكمة لا تستطيع المجاهرة بمبادئها و«قيمها» المتنكرة لإنسانية الإنسان تلجأ إلى التبشير بعجز القطاع العام، وارتفاع كفاءة القطاع الخاص بمحاسن «ترشيق الدولة» (بحسب وصف رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة) وبشاعة أثقالها بالمهمات الإنتاجية والخدماتية وتعمل كطبقة حاكمة ومتحكمة في المجتمع والدولة ومؤسساتها على إفشال هذه المؤسسات الإنتاجية والخدماتية، وتعمل على خصخصتها والاستيلاء عليها بأبخس الأثمان وتحويلها إلى احتكارات جشعة تنهب القوى العاملة، وتعيد تقسيم الناتج الوطني لمصلحتها، وعلى حساب نصيب القوى العاملة كافة.

تظهر التجارب التنموية في كثير من البلدان الناشئة، وبحسب الإحصاءات الدولية، إلى أن تدخل الدولة في الإنتاج السلعي والخدماتي، بحسب نظام رأسمالية الدولة حققت معدلات نمو أكثر ارتفاعاً من غيرها من الدول التي اتبعت سياسات الليبرالية الاقتصادية، واستطاعت تقليص نطاق الفقر ومعدلات البطالة بصورة أفضل.

سلكت «الحريرية» وحكومات ما بعد الحريرية، وبإشراف مؤسسات «إجماع واشنطن»، طريق الخصخصة بحماسة المبشِّرين، متخطية كل الاعتراضات والاحتجاجات على هذا النهج الذي هدر المال العام، وعلى السياسات الاقتصادية والاجتماعية الظالمة للأكثرية الساحقة من أبناء الشعب اللبناني.

تمت خصخصة هذه القطاعات بعد «تخريب» بعضها عمداً ومنع صيانتها وإصلاحها قبل بيعها، كما هو معمول به في البلدان الرأسمالية المتقدمة، ومن دون طرح أسهم في السوق المالية لتحدد السوق ثمنها، ومن دون شروط تُفرض على مالكيها الجدد لحماية المستهلكين، ومن دون متابعة عملها المستقبلي، وتم بيع هذه المؤسسات، وهي تمثل مدخرات الأجيال السابقة بأبخس الأثمان أو من دون أي ثمن، وكأن استيلاء القطاع الخاص عليها هو خدمة تقوم بها الطبقة الرأسمالية المتحكمة بالمجتمع، مثل خصخصة قطاع النفط والبريد والهاتف، وصيانة معامل الطاقة الكهربائية وجمع القمامة وإعادة بناء وسط بيروت وصيانة الطرق.

وتمت خصخصة تدريجية لبعض القطاعات أو وضعها على طريق الخصخصة الشاملة عبر تيئيس المجتمع من إعادة بنائها وإصلاحها وإدخال القطاع الخاص لسد عجزها، مثل قطاعات المياه والكهرباء والنقل العام والاستشفاء والتعليم العام والمهني والجامعي.

تنضم هذه القطاعات التي يتم خصخصتها إلى البنية الاحتكارية الشاملة لجميع قطاعات الاقتصاد من دون استثناء، تتحكم فيها بضع شركات و«كارتيلات» احتكارية، مثل جمعية المصارف، وجمعية أصحاب المستشفيات، وجمعية مستوردي الأدوية، وجمعية التجار… إلخ.

وتم إنشاء احتكارات جديدة بحجة حماية البيئة مثل حصر رخص المرامل والكسارات التي وزعت على زعماء الطوائف في المناطق وعلى كبار الرأسماليين، مثل الوزير السابق نقولا فتوش، الذين أحدثوا ويحدثون أكبر الأضرار بالبيئة، وتم رفع ثمن الرمول والحصى نتيجة إقامة هذه الاحتكارات إلى أربعة أضعاف أسعارها السابقة.

ثالثاً: السياسة المالية

تعبر السياسة المالية لأي حكومة أو طبقة حاكمة عن استهدافاتها الاقتصادية والاجتماعية، كما تعبر عن سياساتها في جباية واردات الخزينة، وتعبر بنود وأوجه إنفاقها عن بنيتها الطبقية ورؤيتها المستقبلية.

تظهر سياسات الضرائب والرسوم في الموازنة مدى عدالة توزيع الأعباء الضريبية على عواتق شرائح المجتمع وطبقاته، ويظهر توزيع مخصصات الوزارات والمؤسسات العامة وتوزيع الإنفاق العام بين الإنفاق الجاري غير المنتج والإنفاق الاستثماري المنتج، دور الحكومة الإنمائي وتطلعاتها المستقبلية وأولويات اهتماماتها التنموية.

كما تظهر هذه السياسة في توزيع أعباء الضرائب وتوزيع المنافع والتقديمات والخدمات الاجتماعية وقع السياسة المالية ومدى تحقيقها العدالة الاجتماعية.

إن السياسة المالية في أكثرية بلدان العالم، تعيد توزيع جزء أساسي من الناتج المحلي عبر الضرائب والإنفاق بغية تضييق الفوارق في المداخيل الحقيقية بين الطبقات، فتنقل بعض الثروة من الأثرياء إلى المحتاجين أو الضعفاء في المجتمع.

ولأهمية السياسة المالية، تعمل الأحزاب السياسية ومراكز الأبحاث والصحافة على بحث مشاريع الموازنات العامة بعمق وبالتفصيل لكل بنودها، وتتم محاسبة الأحزاب السياسية في الانتخابات على أساس موقفها من بنود مشاريع الموازنات التي لها انعكاسات على مصالح الطبقات الاجتماعية وحياة المواطنين. كما يمثل نقاش مشروع الموازنات وتعديلها وإقرارها، كما مراقبة تحقيقها بشفافية عالية، المهمة المركزية لمجالس النواب.

أما في لبنان، فقد جرت العادة في الماضي على إقرار مشروع الموازنة ببند واحد من دون البحث في تفاصيلها، وخلال دقائق معدودة وبضربة من مطرقة رئيس المجلس، يتم إقرار مشروع الموازنة بعد إقرار قطع حساب الموازنة السابقة من دون نقاش أيضاً.

مع وصول الحريرية إلى السلطة في الزمن الصعب، عمل بعض النواب على نقاش بنود الموازنة وتبيان محتواها الاقتصادي والاجتماعي، فلم يكن لمداخلاتهم أثر في المجلس، وتم إسقاطهم في الانتخابات النيابية التالية. وعمد بعضهم إلى مناقشة الموازنة وبنودها ومحتواها السياسي والطبقي خارج مجلس النواب، فتم إلغاء تقديم مشروع الموازنة إلى المجلس، وتم تالياً إلغاء نقاش الموازنة، كما نقاش قطع حساب السنة السابقة، أي تم إلغاء دور مجلس النواب في إقرار السياسة المالية العامة ومحاسبة الحكومة على جباية وإنفاق المال العام من دون اعتراض من مجلس النواب ورئيسه، وأصبحت السياسة المالية للدولة خارج إطار المراقبة والتدقيق والمحاسبة، والمال السائب كما يقول المثل: «يُعلِّم الناس الحرام».

يمكن اختصار توجهات السياسة المالية اللبنانية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم على النحو التالي:

1 – الضرائب والرسوم أي بنود الواردات

أ – عمدت الحكومات إلى خفض الضرائب المباشرة على شرائح الدخل للشركات والأفراد إلى أقل من نصف ما كانت عليه، وبخاصة بالنسبة إلى أرباح الشركات. بهذا، جعل لبنان «جنة ضريبية» للأثرياء.

ب – أبقت الحكومات على إعفاء المدارس والجامعات والمستشفيات ومؤسسات الأوقاف من الضرائب المباشرة.

ج – حافظت على نظام السرية المصرفية بالنسبة إلى تحصيل الضرائب على المكلفين على الرغم من خرقه وكشفه أيام الإدارة الأمريكية لتحصيل ضريبة الدخل عن حاملي جنسيتها بوساطة المصارف اللبنانية، وكان الهدف الأساس من وراء هذا القانون، وما زال، تمكين أصحاب الدخل المرتفع من التهرب من الضرائب المباشرة.

د – أبقت على نظام فرض الضرائب على كل نوع من الدخل بالنسبة إلى المكلف الواحد، وهو ما يخفض العبء الضريبي، ولا يعرض المكلف لضريبة الشرائح العليا من الدخل.

هـ – استمرت سياسة إعفاء الأرباح الرأسمالية من الضرائب.

و – مكّنت كبار المالكين العقاريين (35 بالمئة من أراضي لبنان ملكيات كبيرة) من التهرب من ضريبة الإرث عبر تأليف لجان خاصة لتقدير قيمتها بما يرضيهم.

ز – يتكفل الفساد بتهريب ثلاثة أرباع حق الخزينة اللبنانية من الضرائب المباشرة والمستحقة على المؤسسات والشركات.

ح – رفضت الحكومة منذ بداية التسعينيات نصائح وطلبات صندوق النقد والبنك الدوليين فرض ضريبة على الثروة (كما فعلت فرنسا وألمانيا بعد الحرب العالمية، ولعشرات السنين) لخفض عجز الموازنة والمساعدة على إعادة الإعمار.

ط – تم فرض الكثير من الرسوم الجديدة والضرائب غير المباشرة التي يقع عبؤها على عاتق الطبقات الشعبية والعاملة، وأهم هذه الضرائب ضريبة القيمة المضافة TVA التي طبقتها السلطات بصورة جائرة، ومخالفة للقوانين بحيث تم إخضاع الضرائب السابقة على السلع والخدمات لضريبية القيمة المضافة (انظر فاتورة الكهرباء مثـلاً)، كما طبقت هذه الضريبة على سلع الإنتاج المعفية من هذه الضريبة مثل الجرارات الزراعية بحجة إمكانية استعمال هذه الجرارات لنقل العمال الزراعيين.

كان لهذه السياسات الضريبية أن خفضت نصيب حاصلات الضرائب المباشرة إلى نحو 20 بالمئة من الضخ الضريبي، وقسم أساسي من هذه الحصيلة هو ضرائب الدخل على الموظفين التي يتم حسمها من رواتبهم من قبل الإدارات العامة والشركات، وارتفع نصيب الضرائب غير المباشرة إلى نحو 80 بالمئة من الضخ الضريبي، وهو التوزيع النقيض للضرائب السائد في العالم حيث تمثل الضرائب المباشرة 80 بالمئة من الضخ الضريبي بدلاً من 20 بالمئة، كما هي الحال في لبنان.

2 – الإنفاق

أ – ارتفع نصيب الإنفاق الجاري للموازنة إلى نحو 95 بالمئة من مجمل الإنفاق من نحو بالمئة 50 في سبعينيات القرن الماضي.

ب – تم حرمان وزارات الإنتاج السلعي – الزراعة والصناعة – من الحد الأدنى الضروري للإبقاء على مستوى الإنتاج الحالي، مع أن نحو 20 بالمئة من القوى العاملة اللبنانية، تعمل في قطاع الزراعة ولا تنال إلا أقل من 1 بالمئة من إنفاق الموازنة، وتم إسقاط مشاريع زراعية كثيرة مثل «المشروع» الأزرق، ورفض الكثير من الهبات والقروض الزراعية الميسرة والمرتبطة بمشاريع محددة.

ج – ارتفعت مخصصات وزارة الداخلية وعديد قواها المسلحة واستخباراتها بغية حماية أبناء الطبقة الحاكمة ومصالحها لا لحماية الوطن.

د – جرى خفض الإنفاق الاجتماعي الحقيقي مع زيادة المخصصات وزيادة الهدر والسرقات في بعض الوزارات المختصة.

هـ – بعض الدعم السلعي والإنتاج الزراعي، مثل الخبز ودعم مزارعي الشمندر السكري، كان يذهب لأصحاب المطاحن ولكبار ملاكي الأراضي التي يستأجرها المزارعون، وكان بدل الإيجار يرتفع مع الدعم الزراعي، فيذهب الدعم إلى كبار الملاك، لا إلى المزارعين.

إن وقع السياسة المالية في لبنان هو نقيض وقعه في بلدان العالم، إذ إن نظام واردات الخزينة ونفقاتها يعيد توزيع الناتج لمصلحة المصارف والأثرياء ويوسع الفروق الطبقية بدلاً من تضييقها؛ فالأعباء الضريبية الكبرى تقع على عاتق الفقراء والعاملين ونصف إنفاق الخزينة يذهب إلى المصارف والأثرياء كخدمة للدين العام. يضاف إلى ذلك سطو أبناء هذه الطبقة على بقية أبواب الإنفاق، مثل الإنفاق الصحي، وتلزيم الأشغال العامة، وإيجارات خيالية لمقار الوزارات والدوائر العامة وغيرها.

رابعاً: الطبقة الحاكمة وضرورة التغيير

يتضح مما ذكر أعلاه دور الطبقة الحاكمة وتناقض مصالحها مع مصالح الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، كما يتضح انتهاء دورها التقليدي الذي أحدث ذات يوم ازدهاراً أو بحبوحة واسعة لظروف تاريخية وظروف عابرة وأتى دور هذه الطبقة كما هو دور هذا الكيان، وأصبحت هذه الطبقة عبئاً ثقيـلاً على لبنان وجماهيره الشعبية والعاملة، وغير صحيح بالمطلق أن اقتصاد لبنان هو اقتصاد ريعي.

فالريوع بالنسبة إلى الدول تأتي من ثروات طبيعية (نفط – غاز – فوسفات – كبريت – يورانيوم… إلخ) ولبنان محروم منها حتى اليوم، وما من توظيفات خارجية تدر عليه أرباحاً وعوائد كبيرة. ولبنان مدين للخارج، أما التدفقات النقدية، فهي إما قروض وتدفقات مالية ساخنة هدفها المضاربة والربح السريع، وهذه ليست ريوعاً، وإما تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج وهي حتماً لا تمت إلى الريوع بصلة. إن الدخل الوطني اللبناني GNP هو نتيجة عمل اللبنانيين في الداخل والخارج، وتعمل الطبقة الحاكمة على السطو على القسم الأكبر من نتاج هذا العمل وعلى مدخرات اللبنانيين (مدخرات الأجيال السابقة)، والسطو على إنتاج الأجيال المقبلة أو على ريوع لبنان النفطية المرجوة، عبر آليات الدين العام المتعاظم الذي يشكل كما أسلفنا أداةً لانتقال الثروة من الفقراء والعاملين إلى الأثرياء والمتسلطين، فمن هي هذه الطبقة التي تقود لبنان وتُفقر شعبه وتهجّر شبابه؟

لا يختصر أعضاء مجلس الوزراء ومجلس النواب الطبقة الحاكمة في لبنان؛ فبعض هؤلاء أعضاء أصيلون في هذه الطبقة، ولكن جلّهم موظفون لديها برتب وزراء ونواب ومديرين عامين، يأتمرون بأمرها ويضربون بسيفها ويقتاتون من موائدها، وحتى أمد قريب كان بعض كبار السياسيين من أرستقراطيي الأرياف مجندين لقاء عطاءات أو «مكرمات» لخدمة مصالحها.

مع تورُّم المدن وهجرة معظم أبناء الريف إلى أحزمة الفقر وضواحي بيروت، تراجع وزن الأرياف الاقتصادي والسياسي في الحياة اللبنانية، وتم تدريجاً إسقاط معظم أبناء الطبقة الأرستقراطية الريفية من واجهة الحياة السياسية وبقي منهم من استطاع دخول صفوف الطبقة الحاكمة عبر الإثراء الفاحش وليس من نتاج عرق جبينه.

لم تكن هذه الطبقة يوماً مقفلة في وجه قادمين جدد إلى صفوفها، بل كانت دائماً منفتحة على الداخل اللبناني والمحيط العربي لاستقبال أصحاب الثروات والشطارة اللازمة للعمل في صفوفها، فقد عزز صفوف هذه الطبقة الكثير من المغتربين اللبنانيين الذين كدّسوا الثروات بوسائل، نجهلها ولا نجهلها، واحتل بعضهم واجهة الحياة السياسية والاقتصادية، كما دخل إلى صفوف هذه الطبقة دفق من كبار المصرفيين والتجار من الجوار العربي الهاربين من متغيرات السياسة والاقتصاد في بلدانهم. بعضهم اختار حياة الظل، وبعضهم الآخر برز في مقدم الصفوف والواجهة، كما انضم إلى صفوف هذه الطبقة بعض قادة الميليشيات التي هبطت الثروات عليهم إبان الاجتياح الإسرائيلي – الأمريكي للبنان 1982، والحرب الأهلية، وتجذرت ثقافتهم في القتل والنهب والإجرام.

في الماضي البعيد، حددت حاجات الدول الاستعمارية الأوروبية مهمة الكيان «اللبناني» المزمع إقامته ومواصفات الطبقة الحاكمة فيه، كانت مهمة هذه الطبقة تجارية وخدماتية تتركز في تسويق بعض إنتاج دول «المتروبول» أو الدول الصناعية الأوروبية المستعمرة وثقافاتها للسيطرة على المشرق العربي ونهبه، فكانت حليفة مستتبعة معادية لقطاعات الإنتاج السلعي من صناعة وزراعة متوزعة الولاءات الخارجية بحسب مصالحها وارتباطاتها وحماتها، وما زالت تتمتع هذه الطبقة حتى الآن بالأخلاقيات والمهمات ذاتها، وهي تهيمن على الحياة السياسية في لبنان عبر التبعية لبعض مراكز النظام العالمي ووكلائه المحليين في الجوار، كما عبر الفساد والإفساد الذي يوسع نهب الداخل ويحمي البنية الاحتكارية للطبقة الحاكمة في قطاعات الاقتصاد كافة.

تُضاعِف الاحتكاراتُ «أرباحَ» وثرواتِ هذه الطبقة، وتمكنها من تمويل الدورة السياسية والحياة السياسية الباذخة لمأجوري هذه الطبقة. وتسيطر هذه الطبقة على وسائل الإعلام كافة، بالتملك المباشر أو بالتمويل المباشر أو عبر الإعلانات التجارية وعبر شراء الكثير الكثير من حملة الأقلام.

وتشكل «الديمقراطية التوافقية» أداة لتقاسم أجهزة الدولة وموظفيها من خلال قيادات العشائر المذهبية وحشد الجماهير بوسائل شتى داخل «غيتوات» المذاهب بالإغراء والتهديد؛ فبقاء المواطن خارج محاجر المذاهب – العشائر، كمن في العراء في جو عاصف، بلا حماية، وبلا غطاء وبلا حقوق.

تم تعطيل مؤسسات الرقابة والمحاسبة، وتمت سيطرة الزبونية السياسية على كل المؤسسات العامة ومعظم المؤسسات الخاصة، وأنتجت الدورة السياسية ومتغيرات الحياة السياسية في ظل هيمنة تكوينات الطبقة الحاكمة الجديدة – القديمة نظاماً سياسياً هجيناً يعبر عن دكتاتورية هذه الطبقة واستبدادها، وقدرتها على التلوُّن والاستتباع والصمود في وجه كل العواصف التي ضربت الكيان منذ الاستقلال، ونجاحها ونجاح أسيادها في الخارج في إجهاض كل محاولات التغيير من سنة 1958 وحتى سنة 1986.

عملت هذه الطبقة وتعمل على بناء قدرات قمعية لمصالحها في الداخل، لقمع أي حراك طبقي يهدد مصالحها ونظامها مع العمل على إضعاف قدرات الدولة على التصدي لأي تهديد خارجي؛ فالعدو الذي تخشاه ليس إسرائيل الطامعة في مياه لبنان وأرضه، بل سلاح المقاومة الذي حرر الأرض أو معظمها وحمى ويحمي لبنان، وخوفاً من أن يتوجه هذا السلاح يوماً نحو تحرير الإنسان في لبنان بعد تحرير الأرض، فهذه الطبقة تخاف من السلاح في يد الشعب المستغَل والمقهور، ولا تخاف السلاح الذي في يد العدو المتربص بالوطن.

وترفض هذه الطبقة تحديث النظام على الصعد السياسية والإدارية والاقتصادية كافة، وعملت على محو آثار وإنجازات العهد الشهابي لعقلنة النظام وتحديثه، وهي تمارس ديمقراطية شكلانية كواجهة لنظام استبدادي شامل.

هناك تناقض أساسي بين الأنظمة الليبرالية المنفلتة وبين النظام الديمقراطي، وبخاصة بين نظام الليبرالية الجديدة والديمقراطية. كان الموجه الفكري لكل من الرؤساء الأمريكيين، ولسن، وروزفلت، وكندي، كما يقول تشومسكي، وولتر ليبمان الذي يسمي الجماهير بـ «الجهلة» و«العابثين الخارجيين». وبحسب ليبمان، «لهؤلاء دور في أن يراقبوا ما يجري وليضغطوا على رافعة بعد كل حين (الاقتراع)، ثم يعودوا إلى منازلهم. ولكنّ المشاركين هم نحن، أصحاب الامتيازات، الأذكياء»؛ ويصح هذا القول على الواقع اللبناني.

فتغيير قانون الانتخابات لا يغير حقيقة أن هذا النظام اللبناني الذي يعمل بشتى الوسائل على إسكات أي صوت معارض لمصالحه في مجلس النواب أو مجلس الوزراء، هو مستعد دائماً لتجاوز كل القوانين والأنظمة لحماية مصالحه الطبقية؛ فهذه الطبقة متضامنة جداً عند تهديد مصالحها، لا تهزها الفضائح، ولا تكيفها القوانين، ولا يخيفها صراخ الجياع والبائسين.

«طبقة الواحد في المئة» الحاكمة في هذا البلد، لا تؤمن بالديمقراطية، ولا تمارس الديمقراطية، لا تؤمن بالإصلاح، ولا تسمح بالإصلاح، وليس أمام الجماهير اللبنانية إلا إسقاط هذه الطبقة للخروج إلى الحرية الحقيقية، والانطلاق على طريق التنمية وتحقيق العدالة، وجماهير تونس ومصر رسمت لنا الطريق.

يبقى ضرورة بناء أداة التغيير وإقامة تحالف طبقي واسع يجمع أكثرية العاملين من كل الطبقات والقطاعات برؤية واحدة للواقع، ورسم طريق للمستقبل الذي ترغب فيه أكثرية الجماهير.