مدخل إشكالي:

إن ارتباط مفهوم حقوق الإنسان بعصر الحداثة الفكرية، لا يعني أنه وليد لحظة الحداثة، حيث نجد له جذوراً تاريخية في الأفكار اليونانية عن الإنسان الفرد، وفي النظرية الرومانية عن القانون والحقوق، وقبل ذلك في التأملات الدينية المختلفة عن الإنسان، وبالأخص عن المسؤولية الإنسانية تجاه الآخرين، من خلال تعبيراتها المختلفة بواسطة نصوصها ووصاياها وشرائعها وطقوسها.

ومع ظهور الحداثة الحقوقية، اقترن خطاب حقوق الإنسان باللحظة النضالية، المعبَّر عنها بالنضال ضد كل مظاهر الظلم والاستبداد والتمييز، والدفاع عن حقوق الأفراد والجماعات ضد أساليب الاضطهاد والتعسف، بداية من اللحظة الإنكليزية التي فرض فيها «الميثاق الأعظم» أو «الماجنا كارتا» على الملك سنة 1215 بضغط من بارونات إنكلترا بحيث ساعد على وضع قيود على سلطات الحكومة الملكية وضرورة احترام الملك للحقوق والحريات، ثم اللحظة الأمريكية في «إعلان الاستقلال» مع توماس جيفرسون سنة 1776، مروراً باللحظة الفرنسية الفارقة «حقوق الإنسان والمواطن» سنة 1789، ولحظة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» سنة 1948، ثم توالت الإعلانات والبيانات الشارحة والمفصلة لحقوق الإنسان، وتكاثرت الجماعات والتنظيمات التي كرست جهدها لخدمة حقوق الإنسان انطلاقاً من النزعة التعبوية الحاشدة للمشاعر والمجيِّشة للعواطف، إلى درجة أن هذه اللحظة تكاد تغيب وتخفي الجوهر الفلسفي لحقوق الإنسان، لأن قبل اللحظة التشريعية والسياسية التي تحيل فقط على ما هو إجرائي وقانوني، توجد اللحظة الفلسفية التأسيسية لخطاب حقوق الإنسان وهي لحظة سابقة تاريخياً ومحايثة لتطور هذا الخطاب عبر أجياله المتتابعة تاريخياً والمختلفة ثقافياً وأيديولوجياً؛ فروح حقوق الإنسان هي فلسفة حقوق الإنسان، ومواثيق حقوق الإنسان ومعاهداتها وإعلاناتها واتفاقياتها هي جسدها.

بمعنى آخر إن فلسفة حقوق الإنسان هي أسس هذه الحقوق وأصولها وما تستند إليه من تصورات حول الإنسان والحق والحرية والعدالة والمساواة. فموضوع حقوق الإنسان يتناول أسئلة قديمة عن العلاقة بين الأفراد فيما بينهم من جهة وبين الأفراد والحكام من جهة أخرى، ولذلك فهو موضوع أثير عبر الأزمان وعبر الثقافات.

والتشديد على المدخل الفلسفي لخطاب الحداثة الحقوقية عمل ضروري في كل جهد للنهوض بثقافة حقوق الإنسان، وبخاصة في زمن العولمة والإرهاب، وتمكين قيم المواطنة والمساواة والتسامح في الجسد الاجتماعي، لأن ذلك يضفي على حقوق الإنسان صبغة عقلانية قوية ويجعلها تستند إلى جهد نظري وتأسيس فلسفي عميق. فالإنسان يكون أكثر إخلاصاً للقانون عندما يستوعب المبررات الفلسفية والدواعي الأخلاقية والمشروعية النظرية التي بُني عليها هذا القانون، والعمل في مجال حقوق الإنسان «يتطلب إعادة بناء تصورات جديدة في موضوع الإنسان والطبيعة والعقل والتاريخ والحرية، كما أن الأبحاث القانونية والنضالات الميدانية لن تسمح بالتقدم في ميدان حقوق الإنسان، ما لم تتم إعادة بناء جديدة لهذه التصورات»‏[1].

بمعنى آخر، فإن حقوق الإنسان تطرح الحاجة الملحّة إلى التفكير الفلسفي من خلال الاشتغال على المفاهيم وإعادة صوغها وتضمينها بدلالات جديدة بناء على التطورات الحاصلة في عصر الحداثة، وطرح إشكاليات مستجدة تحتاج بدورها إلى جهد فلسفي تساؤلي وبناء نظري جبار، كما هو الحال بالنسبة إلى المفهومين المركزيين وهما مفهوم الإنسان ومفهوم الحق والمفاهيم المتصلة بهما: مثل الحرية والقانون والكرامة والحياة والموت والعدالة… إلخ. فظهور إشكالية حقوق الإنسان لا تنفصل عن نظرية الحق، وهي التي انطلقت مع التفكير في الحق الطبيعي في علاقته بالسيادة والقانون والمجتمع والدولة والحق والواجب، وهو التفكير الذي دشّنه هوبز ولوك ومونتسيكيو وسبينوزا، وهو ما ساهم في تقديم معالجة جديدة لإشكالية حقوق الإنسان، وهي المعالجة السياسية والقانونية بدل المعالجة الأخلاقية والميتافيزيقية.

وهذا ما جعل أحد المهتمين بالتأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان يقول: «قد لا يوجد موضوع في السياسة العامة في العالم أكثر إثارة لأسئلة فلسفية شديدة الصعوبة من موضوع حقوق الإنسان»‏[2].

فحقوق الإنسان تختزن في جوهرها أسئلة فلسفية كبرى، من خلال عملها على صقل المفهوم وبيان تناقضاته المفهومية، ومنها: ما يتعلق بتحديد مفهوم حقوق الإنسان، وأسس هذه الحقوق، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ومنها ما يتعلق بمصادر ومرجعيات هذه الحقوق، وهل تُستمد من مرجعيات مفارقة للإنسان أم من إرادته وطبيعته؟ ومنها ما يتعلق بمطلقية حقوق الإنسان أم هي مشروطة بظروف ثقافية وسياسية متغيرة؟ وطبيعة العلاقة بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة، بين حقوق الفرد وحقوق الدولة وهل يحق للفرد باسم الحق في الحرية أن يتصرف كما يحلو له أم أن تصرفاته محكومة بخطوط حمر لا يمكنه تجاوزها؟ فهل يحق له على سبيل المثال باسم الحق في الحرية كحرية التعبير أن يمس بالمقدسات ويكرس ثقافة الحقد والكراهية بين الديانات والطوائف، أو يؤجج عدم التسامح الديني أو التحريض على العنف؟

وهل يمكن أن نتكلم على حقوق الإنسان قبل عصر الحداثة؟ أو نجد لحقوق الإنسان منطلقات أولى في الرؤى الدينية؟ أم أن الأمر تبلور في رؤى الحداثة الفلسفية؟ وما هي الانتقادات التي وجهت لنزعة المركزية الإنسانية في فلسفات ما بعد الحداثة؟ وكيف انتهت تلك المركزية بالنظر إلى الإنسان نظرة جزئية معزولة عن النظام العام الطبيعي والثقافي الذي يعيش فيه؟

إن هذه الأسئلة الفلسفية تحيلنا على البحث في العلاقة المضطربة بين الفلسفة وحقوق الإنسان، وعلى الجذور المؤسِّسة لحقوق الإنسان، ومساءلة خطاب حقوق الإنسان من جديد عن غاياته ومراميه، وبخاصة أن حقوق الإنسان تحولت اليوم إلى فلسفة قائمة بذاتها في زمن انتهت فيه الفلسفة إلى القول بموت الإنسان ونهاية التاريخ وأفول العقل، وتبخر الحلم في الحرية والحق والعدالة، وهذا ما يتصدى له الخطاب الجديد لحقوق الإنسان سواء في المجال الثقافي أو السياسي وحتى في المجال البيولوجي والعلمي.

أولاً: في قلق العلاقة بين الفلسفة وحقوق الإنسان

إن المتأمل في تاريخ الفلسفة لا يجد تناغماً كامـلاً ومنسجماً بينها وبين حقوق الإنسان، بالرغم من أن مفاتيح حقوق الإنسان هي فلسفية المنشأ؛ بل على العكس، نعثر في تاريخ الفلسفة على أفكار ونزعات فلسفية لا تتورع عن إعلان معارضتها للحركة الحقوقية، وقبل ذلك ومنذ الفلسفة اليونانية دأب التفكير الفلسفي على تعريف الإنسان بأنه «حيوان عاقل»، وهو ما يدل على عدم التمييز بين العبد والسيد، ولكن على المستوى العملي، كما هو الحال عند أرسطو وأفلاطون، فإنها تضع فوارق كبرى بين العبد والسيد، بين المواطن والأجنبي، بين الرجل والمرأة.

وفي العصر الحديث نجد بعض الفلاسفة يسخرون من حقوق الإنسان، فـ «جيرمي بنتام» يرفض القانون الطبيعي قائلاً: «لا توجد أي «وصايا»، أي شيء «يتعين» على الإنسان بموجبه أن يقوم بأي من الأفعال التي يُزعم أن قانون الطبيعة الزائف يسمح بالتمتع بها. إذا علم أي إنسان بشأن أي منها فليطرحه أمامنا. وإذا كانت قابلة للطرح، فلا حاجة بنا إذن إلى أن نجهد أنفسنا في محاولة «اكتشافها» […] الحقوق الطبيعية هي مجرد هراء: الحقوق الطبيعية التي لا يجوز المساس بها هراء منمق وجعجعة فارغة»‏[3]. وكانت كثيراً ما تزعجه البيانات عن الحقوق الطبيعية الخيالية لأنها ستكون مصدراً للقوانين الخيالية.

كما دافع «توماس هوبز» في كتابه ليفيتان «عن السلطات المطلقة للحاكم وغير القابلة للتقسيم، وعلى الرعايا الطاعة وتسليم أنفسهم للشخصية القوية للملك والدولة، وليس من حقهم الاحتجاج أو تغيير النظام أو التمرد على الحاكم أو المطالبة بالحقوق الفردية، حتى ينعموا بالسلم ولا يعودوا إلى حالة «حرب الجميع ضد الجميع»».

أما كارل ماركس فقد كانت له رؤية مغايرة لخطاب حقوق الإنسان؛ فهي من منظوره لا تتحقق من خلال المساواة أمام القانون وإنما من خلال تحرير الإنسان من المجتمعات البرجوازية، وما تتمتع به الملكية الخاصة من حصانة قانونية.

فلا يمكن فصل حقوق الإنسان عن الشروط الاقتصادية للفرد البشري؛ فماذا تعني حقوق المواطن التي لا يجوز المساس بها مثلما كتب «تشارلز فورييه» عندما «لا يملك الفقير الحرية ليعمل ولا السلطة ليطلب وظيفة».

وعلق ماركس على «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» في مقال نشره سنة 1843 قائلاً: «لا يتعدى أي حق من الحقوق المفترضة للإنسان حدود الإنسان الأناني، فتلك الحرية المزعومة تنظر إلى الإنسان وكأنما هو مخلوق منعزل، وليس جزءاً من طبقة أو مجتمع، وحق الملكية لا يضمن سوى الحق في السعي وراء المصلحة الذاتية دون اعتبار للآخرين، وحقوق الإنسان تكفل حرية الاعتقاد واختيار الدين، في حين أن ما يحتاجه الإنسان هو التحرر من الدين، وهي تؤكد على الحق في اقتناء الممتلكات في حين أن ما يحتاجه الإنسان هو التحرر من الممتلكات»‏[4]؛ بمعنى أن حقوق الإنسان تكرس حق الملكية الخاصة، وهذا ما ظل ماركس يحاربه، كما تكرس الحق في الاعتقاد الديني على الرغم من أن الدين استلاب لحرية الإنسان حسب ماركس.

يضاف إلى ذلك أن أغلب الأيديولوجيات السياسية التوتاليتارية من مثل النازية والفاشية والنزعات القومية والعرقية الشوفينية كانت ولا تزال تدافع عن عدم المساواة في الحقوق، و«أن الحقوق تخص أعراق البيض المثابرين النشطاء فكرياً، والمغامرين الذين امتلكوا توازناً بين «غريزة غير عادية للنظام وولع واضح بالحرية»‏[5]. من هنا ظهر مذهب معاداة السامية، وكل الأيديولوجيات الاستعمارية التي باركها كبار المفكرين والفلاسفة الفرنسيين.

فهذا «ألكسي دي توكفيل» في كتابه الديمقراطية في أمريكا حسب ما يذكر إدوارد سعيد، يوجه انتقاداً حاداً للسياسة الأمريكية تجاه السود والهنود الأصليين، وبالمقابل رأى أن تقدم الحضارة الأوروبية يقتضي بالضرورة ابتلاء المسلمين بالقسوة والفظاظة، وأن بسط السيطرة الفرنسية على الجزائر في نظره معادل للعظمة الفرنسية، حيث نجده منخرطاً في السياسة الكولونيالية الفرنسية في شمال أفريقيا، نظراً إلى كونه عضواً في البرلمان الفرنسي، وبرر أسوأ الانتهاكات والمجازر التي ارتكبها الفرنسيون في الجزائر.

ويذكر «بول جوردون لورين» في كتابه نشأة وتطور حقوق الإنسان الدولية: الرؤى أمثلة كثيرة عن المفارقات الصارخة بين الخطاب والممارسة، بين النظرية والتطبيق في نصوص أعظم فلاسفة التنوير، فهذا «مونتيسكيو» المدافع الفصيح عن كرامة الفرد، يعلن في نفس الوقت، أن الأفارقة السود «متوحشون وبرابرة، ومجردون من أي سمات إنسانية». وقد أعرب «ديدرو» عن نفس الآراء رغم أنه كان يعارض نظام الرقيق نظرياً، وكان «لوك» فيلسوف حرية الإنسان الشهير يمتلك بالفعل أسهماً في الشركة الملكية الأفريقية، كما كان لـ «فولتير» أيضاً مصالح مالية في شركة الهند، التي كانت ثروتها تأتي جزئياً من تجارة الرق، وكتب أن السود لا يملكون إلا أفكاراً أكثر قليـلاً من الحيوانات، وأنه نتيجة للنظام الطبقي للأمم، فإن الزنوج هم عبيد الرجال الآخرين‏[6].

كما كان كل من «جورج واشنطن» و«توماس جيفرسون» يمتلكان العبيد ويمارسان تجارة الرق. وهذا يدل على أن نظرية حقوق الإنسان كانت وربما لا تزال تعكس رؤية أكثر منها واقعاً وأنها حقوق لا تخص النوع الإنساني ككل بقدر ما تخص الإنسان الغربي المتحضر بالدرجة الأولى، وأن المسافة بين الرؤية والواقع كانت ولا تزال شاسعة. وأن الفلسفة لم تكن دائماً على وئام مع حقوق الإنسان، وهناك من الفلسفات ما أعلنت عداءها لحقوق الإنسان على رؤوس الأشهاد، ولكن رغم ذلك تبقى الفلسفة أكثر أوجه التفكير تناغماً وخدمة لخطاب حقوق الإنسان. بل لا يمكننا التفكير في حقوق الإنسان من دون العودة إلى أهم الأفكار الفلسفية المؤسسة للحق ومنها النزعة الإنسانية وفلسفة الحق وفلسفة الأنوار.

ثانياً: النزعة الإنسانية

هي مذهب ارتبط بعصر الإصلاح الديني وعصر النهضة في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، الذي مهد الطريق للتحرير الفكري للفرد والتعبير عن الذات، وترافق ذلك مع انهيار الإقطاع والتوسع في التجارة، وهو ما أعطى قوة اقتصادية وسياسية للطبقة المتوسطة الآخدة في الظهور والحريصة على الحرية الفردية، وهي الحرية التي عمّت أرجاء أوروبا في عصر النهضة والتي جعلت الاهتمام بالإنسان وحفظ كرامته وصون حريته هدفها الأسمى، وتبلور ذلك مع جهود كثير من الفلاسفة ورموز الإصلاح الديني، وهي – النزعة الإنسانية – كما عرفها «أندري لالاند» في قاموسه الفلسفي: «مركزية إنسانية متروية تنطلق من معرفة الإنسان، وموضوعها تقويم الإنسان وتقييمه واستبعاد كل ما من شأنه تغريبه عن ذاته، سواء بإخضاعه لحقائق ولقوى خارقة للطبيعة البشرية، أم بتشويهه من خلال استعماله استعمالاً دونياً، دون الطبيعة البشرية»‏[7].

بمعنى أن الهيومانيزم تقوم على الاعتراف بأن الإنسان هو مصدر المعرفة، وأن خلاصه يكون بالقوى البشرية وحدها، حتى تصان كرامة الإنسان ويعامل كغاية في ذاتها، ومعنى استقلالية الذات كما يقول علي حرب «تعامل الإنسان مع نفسه كذات واعية سيدة، ومريدة وفاعلة، وهذا هو مبدأ الذاتية»‏[8].

وبذلك يتحقق إنسان الأنوار وهو «الإنسان الذي تخلى بلا تحفظ عن كل مدد من الغيب وهو الذي شق طريقه بنفسه وبقدراته الذاتية نحو اكتشاف الحقيقة، وهو الذي آمن في قرارة نفسه أنه ما كان شأن الحقيقة أن توهب إليه وهباً، وإنما الشأن فيها أن تنتزع انتزاعاً وذلك بالتعويل على قوى الإنسان وقواه وحدها»‏[9].

والحداثة الحقوقية هي استكمال للنزعة الإنسانية، لأنها جاءت لتحدث الانتقال من مرحلة الشخص المخلوق من قبل الله من طريق مديونية المعنى إلى مرحلة الشخص الفرد المواطن المرتبط بالدولة الحديثة عن طريق عقد اجتماعي قانوني، أي أن العقد في الخطاب الديني هو بين الإنسان والله، بينما العقد في خطاب الحداثة القانونية هو بين الإنسان والدولة.

وهذا ما يشير إليه الجابري عندما يعيد صوغ مفهوم الإنسان في الفكر المعاصر فيقول: «إن مفهوم الإنسان في نصوصنا الدينية والتراثية لم يكن يحمل المضامين نفسها التي يفكر بها فيه اليوم، في عالمنا المعاصر، والتي تجد مرجعيتها في عصر النهضة الأوروبية وبالخصوص في تصورات ما يسمى «النزعة الإنسانية»، ذلك أن مفهوم الإنسان في المرجعية الأوروبية قد شيّد وفكر فيه على أساس إعادة الاعتبار للفرد البشري بتحريره من الشعور بوزر «الخطيئة الأصلية (خطيئة آدم الذي لم يعمل بأوامر ربه..) من جهة، وبإعادة الوحدة له بوصفه كائناً يتألف من نفس وجسد متحدين اتحاداً لا انفصام له، وذلك بتحرير نفسه (أو حياته الروحية) من سلطة الكنيسة، وبتحرير جسده أو حياته المادية من سلطة الأمير، ومن هنا كان أول حقوق الإنسان في المرجعية الأوروبية، هو حقه في جسده في ملكيته والتمتع به وتمتيعه، وانطلاقاً من هذا الحق صار يُنظر للإنسان لا على أنه الكائن المدنس بل على أنه القيمة العليا التي تخدمها جميع القيم الأخرى»‏[10].

لقد مكَّنت النزعة الإنسانية من موضعة الإنسان المعاصر في مركزية الكون والوجود بعد أن كان على هامشه، من خلال إعادة ترتيب العلاقة بينه وبين ما هو ميتافيزيقي أو أسطوري، وبينه وبين أقرانه، سواء كانوا حكاماً أو محكومين. بغض النظر عن تحقق ذلك في الواقع بشكل كامل أو بقائه بشكل جزئي. بمعنى آخر، لم يعد الإنسان يتحدد بما هو مفارق من سلطات أو مرجعيات، بل أصبح هو مرجعية ذاته بما يملكه من نباهات وقدرات مكنته من تحديد خيره وشره.

ثالثاً: فلسفة الحق

إن النزعة الإنسانية التي كرست الإنسان داخل الكون كقيمة عليا ربطت ذلك بفكرة الحق، فالإنسان وحده هو محط الحق، فتعريف «الإنسان بأنه حيوان عاقل، لم يعد كافياً ولا مقنعاً، مما أوجب إعادة تعريف الإنسان بالحق، بوصفه حقاً في الحرية، ما يعني أن الحق أوسع من العقل، وأنه لا يمكن استنباط كل الحقوق من العقل… الانقلاب الأول الذي قامت به الفلسفة الحديثة بصدد نظرتها إلى الإنسان، إذاً، هو ترجمتها لمفهوم العقل بالحق، والحق بالحرية. هكذا أصبح التلازم بين الإنسان وحقوق الإنسان تلازماً ذاتياً، فالإنسان له حقوق لأنه إنسان، أي أن الكلام عن الحق لا يمكن أن يكون إلا بالنسبة إلى الإنسان»‏[11]. والإنسان المقصود هنا بالدرجة الأولى هو الإنسان الفرد. لأن الحداثة أنتجت الفردية ومكنت الإنسان من أن يفعل ويفكر ويسلك وفقاً لقناعاته وأقرت تنظيماً قانونياً يحمي هذه الفردية، ويحمي الحقوق الذاتية الملازمة للطبيعة البشرية.

وهكذا مع الحداثة الحقوقية أصبحت مشكلة الحق مشكلة فلسفية بامتياز بسبب ارتباطها بالوجود الإنساني وبحقيقة هذا الوجود الحر، بل أصبحت مشكلة فلسفة الحق هي جوهر الفلسفة السياسية من خلال بحث علاقة الحق بوصفه حقاً طبيعياً قبلياً لا يمكن المساس به والقوانين بوصفها السلطة التي تضفي المشروعية من عدمها على حقوق وأفعال الأفراد، وهذا ما ظهر جلياً عند كانط في نظريته عن الحق من خلال إعادة بناء العلاقة بين الحق والقانون على أساس التكامل، لأن القانون في ذاته إنما يستمد شرعيته من الواجب أو الأمر الكلي المستند بدوره على الحق.

ومن هنا لم يعد مفهوم المشروعية بعيداً أو منفصـلاً عن مفهوم الذاتية، لأن مشروعية القوانين تنبثق من الذوات العاقلة التي تخضع بدورها لسلطة تلك القوانين التي أقرتها.

والذات أو فلسفة الذاتية تعني الفلسفة التي تنظر إلى الإنسان بوصفه كائن الوعي والحرية، وهو ما جعل «حقوق الإنسان لا تسند إلى كل إنسان وتضاف إليه، وإنما تستخلص من طبيعته، وتتولد عن ماهيته، فكما لو أنها نسيج وجوده، ففي استقلال عمّن ولدوه، وبعيداً عن ما هو منوط به، فبما هو إنسان، له حقوق، وهي حقوق يستمتع بها مدى الحياة مهما فعل ولم يفعل، خيراً كان أو شراً»‏[12]؛ ففي فلسفة الحق يصبح «الحق شيئاً يصدر عن الفرد، وعن إرادته، وحاجاته، ورغباته، فلن تعود هناك حدود ممكنة لذلك، من جانب الفرد الذي تنطلق منه كنقطة ثابتة ويقينية»‏[13].

وتجد فلسفة الحق أصولها النظرية في مدرسة الحق الطبيعي وفلسفة الأنوار، فمع توماس هوبز بدأ التمييز بين الحق والقانون، فالحق الطبيعي بات مصدراً لشقاء الإنسان لأنه لا يحقق للإنسان السلم ولا يضمن له الحرية والعدالة، سواء كان حق البقاء المتمثل باستخدام الإنسان كل قدراته لضمان بقائه؛ إذ ليس مما يتعارض والعقل في أن يبدل الإنسان كل ما في وسعه للمحافظة على جسمه وأعضائه من الموت، أو كان الأمر يتعلق باستعمال الإنسان لكل الوسائل الضرورية واللازمة التي تكفل تلك الغاية، وما يرتبط بذلك من حق الإنسان في تقرير ما هي تلك الوسائل. أي أن الحق الطبيعي عند هوبز هو الحرية الممنوحة لكل فرد في الطبيعة للحفاظ على وجوده، في حين أن القانون الذي يرتبط بالعقد الاجتماعي هو الذي ينظم ويحدد ذلك الحق، «فالحق تعبير عن النشاط البشري بصفة عامة، في حين أن القانون تقييد وتحديد لهذا النشاط»‏[14]. من هذا الوجه «يمكن اعتبار لحظة العقد هي لحظة ميلاد الحق بمعناه الحق، أي بمعناه المدني والإنساني، إنه اللحظة التي يصير فيها الحق حقاً إنسانياً، حقاً متفقاً عليه ومقنناً بمراسيم ونصوص مستمدة من روح العقد، هكذا يكون حق المحافظة على الحياة هو المحرك المباشر للإنسان (عن طريق الإحساس بالرعب من الموت المباغت) لكي يمضي عقد إنشاء الجسم السياسي»‏[15]. ويربط «ليو ستروس» هذا التطور من الحق الطبيعي إلى القانون الطبيعي، أو من الحالة الطبيعية إلى العقد الاجتماعي ومن ثم الحياة المدنية بحقوق الإنسان فيقول في مقاله «موجات الحداثة الثلاث»: «في الوقت الذي فهم فيه القانون الطبيعي سابقاً على ضوء تراتبية غايات الإنسان، والتي تحتل فيها مسألة الحفاظ على الذات مرتبة أدنى، فهم هوبز القانون الطبيعي بصيغة الحفاظ على الذات، وبارتباط مع ذلك فالقانون الطبيعي أصبح مفهوماً بالأساس في صيغة الحق في الحفاظ على الذات كشيء متميِّز عن أي ضرورة أو واجب، وهو تطور يبلغ ذروته مع حلول حقوق الإنسان محل القانون الطبيعي (عوضت الطبيعة بالإنسان وعوض القانون بالحقوق).

وعليه، يمكن اعتبار توماس هوبز أحد مؤسسي التفكير في حقوق الإنسان على الرغم من إقراره الحكم المطلق، لأن الحاكم ليس طرفاً في العقد الاجتماعي وله سلطة مطلقة مقابل تحقيق الأمن والسلم للناس، وذلك هو جوهر الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة السياسية، طبعاً نقول هذا الكلام مع مراعاة الفرق الشاسع بين ما كان عليه تفكير هوبز وما أدركته الفلسفات الحقوقية اليوم، لأن الدولة في تصور هوبز التهمت كل الحقوق السياسية للفرد ما عدا الحق في الحياة الآمنة.

ومع «جون لوك» تم الإقرار بأن كل شخص في حالة الطبيعة يمتلك حقوقاً طبيعية معينة قبل وجود أي شكل من الأشكال التنظيمية للمجتمعات، فقد ولد الناس كما أعلن «لوك» في حالة من المساواة الكاملة حيث لا يوجد طبيعياً أي امتياز أو سلطان لأحد على آخر «فهم يمتلكون الحق في الحرية الكاملة، والحق في الملكية وغيرها من الحقوق».

وبالحصيلة فإن فلسفة الحق تؤكد أن ما هو جوهري بصورة ثابتة هو أن للإنسان حقوقاً لأنه إنسان فقط، وعلى رأس تلك الحقوق، الحق في الحرية، أي أن يكون حراً وأن تتساوى حقوق الناس في الحرية. «إن الحق، بوصفه هذا، يحدد صفة الإنسان، إنه ينظر إلى الإنسان على أنه واقعة، على أنه المعطى العام الموجود في كل إنسان، وبما أنه ينظر إليه كحائز للحقوق ويمنحه قيمة قانونية ويسبغ على أفعاله صفة قانونية، فهو يقبل جميع التفسيرات لما هو إنساني نوعياً. وقلما يهمنا ما قد يكون عليه الإنسان، أو الطريقة التي نتصوره بها، فالمهم أن له حقوقاً»‏[16] فمفهوم الحق انتقل من حق طبيعي موضوعي إلى حق طبيعي ذاتي يوضع ويحدد من طرف العقل والإرادة، وليس حقاً يتضمنه بصيغة مسبقة نظام محايث يكمن في طبيعة الأشياء، أو نظام مفارق للعالم يكمن في الله. أو لا يهم الكيفية التي نستدل بها على حقوق الإنسان وهل الطبيعة هي التي كفلتها له أم الديانات السماوية أم القوانين أم طبيعته هو، بقدر ما نقر بشكل ثابت ونهائي بأنه موضوع للحقوق بغض النظر عن كل شيء آخر، وهذه الحقوق هي ما يسميه جون لوك «الخيرات المدنية» وهي الحق في الحياة والحق في الحرية والحق في الملكية، وأن السلطة السياسية لها وظيفة الحفاظ على تلك الخيرات المدنية وحمايتها وتنميتها.

رابعاً: فلسفة الأنوار

من بين موضوعات فلسفة التنوير التي تهمنا في سياق الحديث عن حقوق الإنسان، إلى جانب موضوع الإنسان الذي تحدد عند كانط كما هو ذائع في الأدبيات الفلسفية بضرورة الخروج عن القصور الذي فسره كانط بسببين وهما: الكسل والجبن، ولذلك رفع شعار التنوير الذي ينص على: تجرأ على استخدام عقلك.

قلت إلى جانب هذا الموضوع هناك موضوعات أساسية في فلسفة التنوير منها: الحرية والتسامح، وهما موضوعان بعضهما يكمل بعضاً، وذلك ما اهتم به كل من سبينوزا في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة، وكذلك فولتير في رسالة في التسامح وجون لوك في الحكومة المدنية، وكل ذلك بسبب التعصب الديني وإرغام الناس على الإيمان بالإكراه، وهو الذي من شأنه أن لا يكون إلا بالإقناع، حيث إنه «ليس لأي إنسان السلطة في أن يفرض على إنسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة روحه هو، وذلك لأن هذه المسألة شأن خاص ولا يعني أي إنسان آخر. إن الله لم يمنح هذه السلطة لأي إنسان، ولا لأي جماعة، ولا يمكن لأي إنسان أن يعطيها إنساناً آخر فوقه إطلاقاً»‏[17].

فكل ما يتعلق بقضايا العقيدة والإيمان إنما هي قضايا تخص الفرد لوحده، وهو وحده من يملك السلطة العليا في أمور دينه. وفي نفس السياق انبرى فولتير مدافعاً عن التسامح، حيث حرر أشهر مقالة عن التسامح بمناسبة موت «جون كالاس» و«استخدم فيها أول مرة مصطلح «حق الإنسان» وكان جوهر حجته أن التعصب محال أن يكون حقاً من حقوق الإنسان»‏[18]. وكما هو معلوم، فإن «جون كالاس» أدانته المحكمة بقتل ابنه لمنعه من التحول إلى المذهب الكاثوليكي وحكم عليه بالإعدام بعد تعذيب شديد. ومنذ قصة «جون كالاس» بدأ تحريم التعذيب باسم حقوق الإنسان، حيث تم تحريم الإعدام بواسطة الكسر على عجلة السحق، واقتصر الإعدام على قطع الرأس فقط، وهي الطريقة التي اقتصرت على النبلاء وحدهم فيما مضى، وبدأ العمل باستخدام المقصلة التي اخترعت لجعل قطع الرأس بلا ألم قدر المستطاع في عام 1792 بحسب ما تذكر «لين هانت» في تأريخها لحقوق الإنسان. إلى جانب ذلك، بدأ الاعتراف بحقوق البروتستانت واليهود في ممارسة شعائرهم الدينية واعتبرت حرية المعتقد الديني من أكثر الحقوق قداسة، فقبل مرسوم التسامح الذي صدر عام 1787 لم يكن مسموحاً للبروتستانت قانونياً أن يمارسوا دينهم أو يتزوجوا أو يورثوا ممتلكاتهم، وبعد عام 1787، بات بمقدورهم ممارسة عبادتهم الدينية والزواج أمام المسؤولين المحليين، وتقييد أبنائهم في سجل المواليد.

والتسامح هو «الاعتراف للفرد المواطن بحقه في أن يعبر داخل الفضاء المدني عن كل الأفكار الدينية أو السياسية أو الفلسفية التي يريدها. ولا أحد يستطيع أن يعاقبه على التعبير عن آرائه اللهم إلا إذا حاول أن يفرضها بالقوة والعنف على الآخرين. لا يوجد سجناء رأي في المجتمعات الحرة الديمقراطية التي تطبق التسامح بالمعنى الحديث للكلمة، ولا يسجن أحد بسبب معتقداته الدينية أو السياسية أو الفلسفية»‏[19].

وهكذا شكل التسامح ركيزة من ركائز حقوق الإنسان، لأنه يكرس حق الفرد المواطن في جملة من الحريات الشخصية المتعلقة بالتفكير والاعتقاد والممارسة السياسة، بشرط واحد وهو عدم استعمال العنف بغرض فرضها على الآخرين.

وعليه فإن دينامية الفكر الأوروبي وتحولاته بداية من عصر النهضة والإصلاح الديني ومشروع التنوير، إضافة إلى التجارب السياسية الثورية في أمريكا وفرنسا وإنكلترا كل ذلك ساهم في بلورة حقوق الإنسان، وهذا لا يعني أن حقوق الإنسان لم تعرف مخاضات مبكرة لها في العصور القديمة، أو أن الديانات السماوية لم تنص على كرامة الإنسان ولم تقدس حياته، ولكن «تحول الحريات والحقوق الفردية والجماعية من دائرة الأخلاق إلى دائرة القانون لم يتم إلا ابتداء من القرن السابع عشر الميلادي»‏[20] أي أن خطاب حقوق الإنسان هو خطاب محايث لمشروع الحداثة وليس سابقاً عليه.

خامساً: حقوق الإنسان من التأسيس الفلسفي إلى النقد الفلسفي

انطلاقاً من الخاصية التساؤلية للخطاب الفلسفي يتم اليوم في خطابات ما بعد الحداثة مراجعة المسلّمات التي انبنى عليها خطاب حقوق الإنسان منذ عصر النهضة والأنوار؛ فمع بداية عصر ما بعد الحداثة تحولت حقوق الإنسان إلى مادة للسؤال وموضوع للمراجعة والنقد والتفكيك، حتى لا تسقط في حبال الأيديولوجيا وتتحول إلى نقيض ما تدعو إليه وتبشر به، ففي التاريخ الحديث والمعاصر طغت مشاريع تحررية على السطح، ولكن سرعان ما انقلبت إلى أضدادها، فمشروع التنوير على ما يرى فلاسفة ما بعد الحداثة سرعان ما أفل، وبدلاً من العقل طغت الأسطورة، وعوضاً من السلم عرفت البشرية أبشع المآسي في تاريخها، وبدلاً من الحرية والتحرر استفحلت الظاهرة الاستعمارية.

وعليه، المطلوب الكفّ عن التعامل مع حقوق الإنسان كشعار فوق النقد، بل التفكير في خطاب حقوق الإنسان والتأمل في مسلماته ومصادراته، وهذا الجهد النظري عبّرت عنه تيارات فلسفية معاصرة تشترك في وصفها بأنها تيارات ما بعد حداثية.

وما يجمع هذه التيارات هو نقدها للنزعة الإنسانية، لما أبانت عنه من توجهات وميول تضر بالإنسان، لأنها تكرس مركزية الإنسان ونرجسيته، فما «تتأسس عليه وتحجبه الأنسنة بما هي دفاع عن القيم الإنسانية، هو أن الإنسان أحق بالوجود وأعلى قيمة من بقية الكائنات، الأمر الذي يجعله يتعامل مع نفسه بوصفه مالك الملك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء، هذه الفكرة هي أساس الدمار الذي تشهده الطبيعة والمسوغ الذي يعطي للإنسان الحرية في الاعتداء على الكائنات»‏[21].

فالنزعة الإنسانية تكرس المركزية البشرية، الغربية تحديداً، وتقنن لثنائية البشرية – الطبيعة، وهي بذلك ترى «في البشر وحدهم أصل ومقياس كل قيمة، ومثل هذه النظرة تولد غطرسة تدفع الناس إلى التعامل مع الكائنات غير البشرية على أنها مجرد مواد خام مركونة لإشباع الحاجات والرغبات البشرية»‏[22]. وحسب «لوك فيري» و«ألان رونو» فإن فكرة التنصيب الرسمي للإنسان كقيمة مركزية تستند إلى مبدأين هما:

1 – تفترض فكرة الإنسان بما هو إنسان، أي فكرة تسلّم بامتلاك الإنسان طبيعة أو ماهية.

2 – تنصب هذه الفكرة كأساس وكمصدر للقيم الحقوقية، وهذا ما يجعل الإحالة إلى حقوق الإنسان، فيما يبدو، تنتمي بطريقة مباشرة إلى ما ينبغي تسميته بالنزعة الإنسانية‏[23].

ومن بين الفلاسفة ما بعد الحداثيين الذين عملوا على تفكيك ونقد الخطاب الفلسفي الحداثي لحقوق الإنسان نجد الفيلسوف الألماني «مارتن هايدغر» حيث فكك المرتكزات الفكرية الأساسية للتاريخ الثقافي الغربي، والذي يقوم برأيه على محاولة الذاتية الإنسانية إخضاع الواقع والسيطرة عليه بصورة تامة.

فالنزعة الإنسانية من منظور هايدغر هي نوع من الميتافيزيقا، وذلك ما عبّر عنه في رسالة في النزعة الإنسانية، فالميتافيزيقا إغفال للوجود ونسيان له، ينكشف نسيان الوجود كون الإنسان لا يعتبر إلا الموجود ولا يتعامل إلا معه‏[24].

أي «أن النزعة الإنسانية صادرة عن ميتافيزيقا الذاتية كإعلاء من قيمة الإنسان واعتباره مركزاً مرجعياً، وعموماً كتقويم ما دام كما نعلم أن كل تقويم هو نوع من الذاتية»‏[25]؛ فهايدغر يحرص على الطبيعة الإنسية لحقوق الإنسان من دون أن تتحول إلى ميتافيزيقا ساذجة للذاتية كما حصل مع هيغل، حيث أصبح الأنا يشكل «كل الواقع» من خلال بلورة منطق التطابق بين ما هو واقعي وما هو عقلي. وذلك حتى لا نسقط في منطق النسيان الميتافيزيقي، لأن موضوع الفكر عنده هو الاختلاف بما هو اختلاف، وليس هو الفكر الكلي كتصور مطلق كما هو الأمر بالنسبة لهيغل.

أما «ميشيل فوكو» فقد رد على مركزية النزعة الإنسانية بتصورين للذات: الذات بوصفها جوهراً يتميز بالسيادة والكونية، والذات بوصفها شكـلاً متغيراً ومتحولاً «فليس غياب الله أو موته هو المؤكد بقدر ما هي نهاية الإنسان، فالإنسان اختراع تظهر إركيولوجيا فكرنا بسهولة حداثة عهده وربما نهايته القريبة»‏[26]، كما يقول إنه «يجب أن نميِّز، بداية، بأن ليس هناك ذات سيدة ومؤسسة لها شكل كوني، يمكن أن نجده في كل مكان، إنني أشك في وجود هذا التصور وأناهضه، وأرى العكس من ذلك»‏[27]، فلا توجد حسب فوكو ذات مكتملة بل إنها تتشكل من خلال ممارسات الإخضاع والتحرر والحرية.

وفي السياق التفكيكي نفسه يشير «جاك دريدا» إلى العلاقة الباروكية والغريبة وغير المتناسقة بين النزعة الإنسانية الحديثة وخطاب حقوق الإنسان، ويؤكد ضرورة نقد وتفكيك النزعة الإنسانية التي تقدَّم على أنها الأساس الفلسفي لحقوق الإنسان.

سادساً: الخطاب الجديد لحقوق الإنسان وتحديات الراهن

يعتبر الحق في الحياة هو حق الحقوق، لأنه أساس باقي الحقوق الأخرى، أي لا معنى للحقوق الأخرى، سواء كانت اجتماعية أو ثقافية أو سياسية، من دونه. ومع التطور الحاصل اليوم في حقول الطب والبيولوجيا والهندسة الوراثية أصبح النوع البشري بأكمله مهدداً بمخاطر جديدة في تاريخ البشرية، وهي المخاطر الناشئة عن بعض التطبيقات العلمية البيولوجية على جسد الإنسان، لذلك نجد الجمعية العامة لمنظمة اليونسكو في 11 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1997 صادقت على «الإعلان العالمي حول الجينوم البشري وحقوق الإنسان» وورد فيه ما يلي:

المادة الأولى: «التركيبة البشرية للإنسان تشكل الوحدة الأساسية لكل أفراد العائلة البشرية، وكذا الاعتراف بالكرامة الصميمية وبالتنوع الخاص بها. وبمعنى رمزي، فإن الجينوم هو التراث المشترك للبشرية جمعاء». كما تدعو المادة 19 إلى ضرورة «تقويم المخاطر والمكاسب المرتبطة بالبحث العلمي حول التركيبة الوراثية للبشر، وحماية هذه الأخيرة من أشكال التجاوز وإساءة الاستعمال «لأن التصرف التقني في الجينوم البشري للإنسان إذا لم يضبط ويقنن قد يؤدي إلى كوارث تعصف بالنوع البشري بأكمله، وعليه المطلوب هو رسم الحدود بين الممكن وغير الممكن علمياً، لأن الثقة بالعلم ليست دائماً محمودة العواقب وخاصة في مجال الهندسة الوراثية وعلوم الصحة بشكل عام لأنها قد تؤدي إلى تغيير في طبيعة الأحياء عن طريق الاستنساخ وتحسين النسل وزرع الأعضاء إلخ.

وعليه يجب ضمان حق كل فرد في أن تُحترم كرامته وحقوقه بغض النظر عن خصائصه الوراثية.

يمكننا على سبيل التوضيح الوقوف على المبررات الأخلاقية والحقوقية التي استند إليها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في رفضه لتحسين النسل الليبرالي وذلك ما وضحه في كتابه مستقبل الطبيعة البشرية، حيث ينبري للدفاع عن الطبيعة البشرية وطالب بالحفاظ عليها خوفاً من الوقوع في كوارث غير محسوبة، فهو مع حق الإنسان في طبيعة مستقرة وضد تعديل المعطيات الوراثية للإنسان، وبخاصة التعديل الوراثي الذي لا يوجه لأغراض علاجية. بمعنى آخر، فهو يرفض تحسين النسل الذي يكون من أجل تطوير أو تغيير السلالة البشرية، والذي يكون استجابة لرغبة الأفراد والفاعلين في سوق الإنجاب والوراثة البشريين. «إن الانتقاء الجيني والبرمجة المسبقة للجنين البشري، التي تتم استجابة لرغبات حرة يعبر عنها الآباء من اختيار ما يرونه أفضل تشكيلة جينية لأبنائهم من حيث الخصائص الجسمية والنفسية والقدرات والاستعدادات، هو بمثابة انتهاك خارجي لحرمة الفرد، ومساس باستقلاليته، وإنكار لحقه في اختيار مصيره»‏[28].

كما يشير هابرماس إلى الحالة النفسية للطفل المنجب عن طريق الانتقاء الجيني عندما يكبر ويعرف أن خصائص شخصيته ليست منتوجاً خالصاً للطبيعة البيولوجية، وإنما هي نتيجة برمجة جينية تلبي نزوة وطموح الآباء، وقد لا يكون راضياً عن ذلك، لفقدانه الاستقلالية والذاتية في حياته، وسيؤثر ذلك في التطور الطبيعي لحياته. وغير ذلك من الحجج التي يسردها هابرماس، التي تتمحور حول كرامة الفرد واستقلاليته المهددتين من طريق التقنيات والتكنولوجيات الجديدة في حقول الطب والبيولوجيا المختلفة، لأن الإنسان يعتبر كائناً متفرداً وكل انتهاك لطبيعته البيولوجية هو انتهاك لحرمة الطبيعة البشرية. لذلك إن أياً كان ليس له الحق في التدخل والتصرف في الجينوم البشري.

ومن بين الحقوق الجديدة ما يعرف اليوم بالحق في بيئة نظيفة، وهو الحق الذي يرفعه الفكر الفلسفي البيئي الذي يحلل جوانب الأزمة البيئية التي يشهدها العالم اليوم، من مثل الإفراط في استغلال الموارد الطبيعية غير المتجددة، والتلوث البيئي، وحدوث التغيرات المناخية الجديدة التي تلحق الأضرار بنوعية الحياة، والنقص في التنوع الحيوي بسبب انقراض الكثير من الأنواع الحية وارتفاع درجة الحرارة… إلخ.

هذه الأزمات البيئية عجلت بظهور فاعلين جدد يقترحون سياسات بيئية جديدة ويرفعون خطاب حقوق الطبيعة وحقوق الحيوان، والعمل على زحزحة الفكر المتمركز حول الإنسان الذي يجد تبريره الأنطولوجي والميتافيزيقي في الفلسفة والدين، حيث تسوق الطبيعة على أنها موجهة للاستغلال البشري، لأن الإنسان في الخطاب الديني يحظى بأهمية قصوى في العالم الأرضي، فالأرض بكل خيراتها، ببرها وبحرها وجوها، مسخرة للإنسان، وهذا ما يشجع الإنسان أنطولوجياً ودينياً على استغلال الطبيعة الاستغلال الذي يتحول في بعض الأحيان إلى تدمير يعجّل بتدهور بيئي كبير يعانيه العالم.

لذلك، يحظى العالم الطبيعي غير البشري في خطاب حقوق الطبيعة باحترام واعتبار كبيرين، لأن ذلك لا يكون إلا في خدمة الإنسان، كما أن الأمر يتعلق أيضاً بحقوق أجيال المستقبل، وبالتالي هناك فلسفة جديدة تتصور الإنسان في وضع ثقافي وبيئي متأزم، وتعمل على تقديم رؤية جديدة للإنسان في علاقته بمحيطه البيئي. وما هو أساسي في هذه الرؤية الفلسفية الجديدة، هو ضرورة إعادة النظر في علاقة الإنسان بالطبيعة، فإذا كان جوهر هذه العلاقة منذ آلاف السنين هو أن الطبيعة هي خادمة الإنسان، فإن العالم الطبيعي غير البشري اليوم هو بدوره يمتلك قيمه الخاصة في استقلال عن نفعها للبشر، أي أن للأرض وللحيوان أيضاً قيماً وحقوقاً على البشر، وذلك من خلال زحزحة المركزية البشرية وإحداث ثورة على غرار الثورة الكوبرنيكية، فلم يعد الإنسان هو المركز والمرجعية بل الطبيعة والحياة.

وهذا ما نقف عليه في أدبيات أخلاقيات الفلسفة البيئية؛ فهذا «هانز يوناس» في كتابه مبدأ المسؤولية، يكرّس فكرة اتخاذ الطبيعة موضوعة حقوق بالمعنى الصحيح، والأمر نفسه بالنسبة إلى «ميشيل سر» في كتابه العقد الطبيعي، لأن العقد الاجتماعي الذي وضع للإنسان في علاقته بأبناء جنسه ليس كافياً. ويمكن أن نضيف إلى ذلك الحق في التمتع بالحياة الخاصة والعاطفية، فأمام التطور الحاصل في وسائل الإعلام والاتصال أصبحت الحياة الخاصة للأشخاص معرضة للانتهاك والتنصت من قبل جهات إعلامية وسلطوية معيّنة. فالخطاب الجديد لحقوق الإنسان يواجه اليوم تحديات جديدة، منها: التحدي البيولوجي والتحدي البيئي والتحدي الإعلامي وغيرها من التحديات.

إن حقوق الإنسان مفتوحة على التطورات الحاصلة في حياة الإنسان الجديد، وإنسان ما بعد الإنسان، بسبب المخاطر التي تحدق بحياته وطبيعته وكرامته، وتبقى مفاهيم الحرية والاستقلالية والكرامة هي المؤطرة لهذا الخطاب. وهي مفاهيم فلسفية ونظرية تبلورت في فلسفة الأنوار ونظريات الحق كما سبق توضيح ذلك.

خاتمة

بناء على ما سبق يتبدى لنا بوضوح أن حقوق الإنسان ليست قوائم مطلبية تتسع وتضيق حسب الشروط الاجتماعية والسياسية المستجدة في حياة الإنسان، كما أنها ليست مباحث معرفية للعلوم السياسية والقانونية تدرسها من خلال تحليل مواثيقها ومعاهداتها، والمقارنة بين أجيالها ومراحلها، وليست أيضاً مجالاً فقط لنشاط الحركة الحقوقية التي تراقب واقع حقوق الإنسان في العالم وتنذر الحكومات وتشهر بالانتهاكات التي تتعرض لها من جراء الحروب والصراعات الطائفية والدينية والعرقية والسياسية.

إنها إضافة إلى كل ذلك اشتغال نظري على مفهوم الإنسان وإبراز الشروط النظرية والعملية التي لا يستقيم إلا بها، من مثل الحق والحرية، «مما يعني أن الحركة الحقوقية الحديثة هي التي أثرت في فلسفة الحق. لكن الفكر الفلسفي بدوره عمل على صقل المفهوم وإثارة الانتباه إلى تناقضاته الداخلية، مما أثر في الحركة الحقوقية إثراء وتوجيهاً وإلهاماً»‏[29]. فالمشهد الغالب والطاغي في تاريخ الفلسفة هو خدمتها لحقوق الإنسان، سواء من المنظور الحداثي أو المنظور ما بعد الحداثي. وتبقى حقوق الإنسان هي موضوع للتأمل الفلسفي من خلال أشكلة التصورات المرتبطة بمفهومَي الحق والانسان، وبيان حدودهما وتناهيهما، حتى لا تتغوَّل الحقوق على حساب الطبيعة والحياة والإنسان نفسه. وتظل حقوق الإنسان هي الحصن الأخير ضد كل الشرور التي يمكن أن تمس الإنسان، من دون أدلجة أو توظيف لخدمة أغراض سياسية أو أيديولوجية أو فئوية أو عنصرية، كما هو حاصل في أغلب الأحيان حيث تستخدم ورقة حقوق الإنسان لأغراض لا تخدم الإنسان.