القاهرة في 22 أيلول/سبتمبر 2018

 

فى عام 1975 اجتمع اثنان وثلاثون مثقفا بارزا ينتمون لأربع عشرة دولة عربية على هدف محدد هو تكوين مركز بحثى يضع كل إمكاناته فى خدمة قضية الوحدة العربية. أطلق المؤسسون على المركز الناشئ اسم مركز دراسات الوحدة العربية، واتفقوا على أن يكون مقره بيروت، أما الإعلان الرسمى عن بدء نشاطه فكان من الكويت. تمثلت أهم المبادئ الحاكمة لعمل المركز فى التأكيد على طابعه البحثى ونفى اشتغاله بالسياسة أو كونه يمثل تجمعا حزبيا، وتخصيص أبحاثه لتشخيص معوقات الوحدة وآليات تذليلها والدراسة المعمقة لمختلف الأشكال الوحدوية. كانت فكرة المركز البحثى قبل ثلاثة وأربعين عاما لاتزال محدودة الانتشار جدا فى الوطن العربى فلم يكد يُعرَف قبل هذا المركز الوليد إلا مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية فى الأهرام، لكن بؤرة اهتمام المركزين كانت مختلفة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن لحظة ميلاد مركز دراسات الوحدة العربية كانت مُحمّلة بالعديد من التحديات، ففى عام نشأته اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، وبعد ثلاثة أعوام تم توقيع اتفاقيتى كامب ديفيد، ومع بداية الثمانينيّات وقعت حرب الخليج الأولى ثم توالت التحديات وتضخمت وصولا للصراعات التى فجرها الربيع العربي، هكذا أصبحت الفكرة القومية غريبة فى محيطها العربي، وأدى تزايد الاختراق الإقليمى والدولى إلى ارتباك شديد فى السياسات وأنماط التحالفات.

هذه الظروف الصعبة كانت بالتأكيد من معوقات عمل المركز, لكنها لم تحمله على التوقف حتى فى غمار الحرب اللبنانية، وبعض مراحلها كان بالغ الشراسة، فلم يُغلق المركز أبوابه أبدا. وعلى مدار كل هذه السنين أنجز المركز الكثير من المشروعات البحثية الكبري، وأصدر المئات من الكتب والدراسات فى مختلف فروع العلوم الاجتماعية وأحيانا العلوم الطبيعية، ونشر العديد من رسائل الدكتوراة وبعض رسائل الماجستير، وترجم إلى اللغة العربية بعض أهم الأعمال التى تخدم هدفه، بحيث يصعب القول إن أيا من الباحثين فى قضايا المنطقة لم يقتن كتابا للمركز أولم يقرأ مجلته الشهرية أو لم يشارك فى ندوة عقدها, ففضله فى هذا الجانب غير مردود. قد يقال إن المركز حاد عن بعض المبادئ التى وضعها لنفسه فاشتغل بالسياسة وتحول إزاء بعض القضايا كقضية احتلال العراق مثلا من منتج للأبحاث إلى صانع للسياسات، أو أنه لم يتفاعل بالقدر الكافى مع مستجدات العصر ولا اقترب كما يجب من قضايا الشباب، هذا صحيح لكن المركز ظل وفيّا لهدفه الأساسي: الوحدة، وخرّج أسماء كبيرة فى مشرق الوطن العربى ومغربه، وأرسى تقاليد بحثية نقلتها عنه كل المراكز التالية على نشأته.

ظل الدكتور خير الدين حسيب رجل الاقتصاد المرموق ومحافظ البنك المركزى العراقى السابق مديرا عاما للمركز ورئيس لجنته التنفيذية ومجلس أمنائه حتى منتصف مايو 2017، وذلك أن كل التجارب التى استهدفت تدوير هذا المنصب والفصل بين المهام الثلاث لمدير عام المركز ورئيسى لجنته التنفيذية ومجلس أمنائه إما أنها كانت قصيرة الأمد جدا أو أنها أُجهضت قبل أن تبدأ. ومثّل هذا تحديا داخليا لعمل المركز مع التحديات الخارجية التى سبق ذكرها، فضلا عن الأزمة المالية التى تسببت فيها عوامل مختلفة بعضها داخلى والآخر خارجي.

لكن فى منتصف مايو من العام الماضى بدأت بواكير مرحلة جديدة من عمر المركز كانت أبرز ملامحها: تعيين السيدة لونا أبو سويرح مديرة عامة للمركز، تعديل النظام الداخلى بما يؤكد الفصل بين المواقع الإدارية الثلاثة، إعمالا للديمقراطية وتوازن السلطات، والتوسع فى الاعتماد على الوسائل التكنولوچية الحديثة سواء فى تسويق إصدارات المركز وتسهيل تصفحها أو فى التفاعل مع جمهور القرّاء عبر صفحة المركز على الفيسبوك وحسابه على الإنستجرام، والاهتمام أكثر بإيصال صوت المركز للخارج عن طريق التطوير الشامل لمجلة المركز التى تصدر فى لندن باللغة الإنجليزية حتى لا يحتكر الآخرون حق الحديث عن قضايا منطقتنا من منظورهم الخاص، وبطبيعة الحال فإن كل تطور من هذه التطورات فيه تفاصيل كثيرة لا يسمح بها حيّز المقال.

إن وجود لونا أبو سويرح على رأس المركز وهى ذات الخبرة الطويلة فى العمل الإدارى فى برامج الأمم المتحدة للتنمية، وابنة المناضل الفلسطينى البارز مفلح أبو سويرح، هذا الوجود يتجاوز المعنى المباشر لترؤس امرأة أعرق مركز بحثى عربي، فهو يؤشر إلى المنزلة الكبيرة التى يوليها المركز للقضية الفلسطينية بوجود أحد رموز القضية فى أعلى منصب فيه، كما أنه يضخ دماء شابة وأفكارا جديدة فى شرايين هذه المؤسسة وعقلها. وهاهى المرحلة الانتقالية التى بدأت بتولى الدكتور أحمد يوسف رئاسة مجلس الأمناء واللجنة التنفيذية بصفة مؤقتة تصل إلى نهايتها، فيتم قبل أيام انتخاب المثقف البwحرينى الكبير دكتور على فخرو رئيسا لمجلس الأمناء، كما يتم انتخاب لجنة تنفيذية جديدة ستختار رئيسها من بين أعضائها. وعلى هذا النحو يواصل مركز دراسات الوحدة العربية رسالته فى تنشئة أجيال متتالية من الباحثين العرب ينتمون للوطن العربى الذى يعيشون فيه وينفتحون على العالم المحيط بهم، وهذه رسالة جديرة بكل الدعم والمساندة.

    بقلم الدكتورة نيفين مسعد