مقدمة:
تنوعت الإسهامات المقدمة من الباحثين في علم الاجتماع ومن خارجه، ومن المشتغلين بعلوم اللغة والنقد والجماليات في تشكيل ما يعرف اليوم بعلم اجتماع الأدب. والعلم له إرهاصات متعددة في السياق الغربي والعربي، وكانت البداية كما هو معروف في الاتجاهات المعنية بالتطور التاريخي للأنواع الأدبية والدراسات المهتمة بالعلاقة بين الأدب والبيئة الاجتماعية. وتبلور هذا الاهتمام بالعلاقة بين الأدب والمجتمع في اتجاهات متباينة. منها الاتجاه الإمبيريقي الذي يهتم بالأدب والفنون كظواهر إمبيريقية قابلة للقياس بمؤشرات ميدانية، وتمثله أعمال ويليام بومول، وألفونس زلبرمان، وروبير سكاربيت وآسيل أبركرومبي وهافلوك آليس وديبوي([1]). كما تمثل أعمال الناقد المجري جورج لوكاتش أبلغ تعبير عن الاتجاه الانعكاسي الذي يبرز مفهوم الانعكاس، والتعامل مع الأدب كمرآة للمجتمع. هذا إلى جوار إسهامات كل من يوري لوتمان وبيير زيما وميخائيل باختين التي تهتم بلغوية النص وتكوينه الجمالي الداخلي. كذلك توجد جهود السوسيولوجي الفرنسي لوسيان غولدمان في ما يعرف بالبنيوية التكوينية التي أسس لها عبر عدة أعمال مهمة. علاوة على إسهامات بيير بورديو في بنيويته التكوينية التي تختلف عن رؤية غولدمان، وتواصلت بشكل متميز في أعمال تلميذته ومترجمة بعض أعماله الفرنسية جيزل سابيرو التي اهتمت بموضوعات عديدة لفتت انتباه أستاذها وقامت هي بتطويرها.
لقد بدأ الاهتمام في النقد العربي وعلم الاجتماع المصري بعلاقة الأدب/اللغة بالمجتمع، وتمثلت البدايات في النقد البلاغي القديم؛ بالاهتمام بالعلاقة بين الشعر والبيئة الاجتماعية، بعلاقة الشعر بالقبيلة وصراعاتها، وتواصل فيما بعد بجهود طه حسين في كتابه الأدب الجاهلي. وربما نجد البداية بين علماء الاجتماع المصريين بالاهتمام بعلاقة اللغة بالمجتمع، كما في مؤلف على عبد الواحد وافي اللغة والمجتمع. ولقد تبلور هذا كله في صيغة صراع كبير بين أنصار التوجه الاجتماعي وأنصار التوجه الجمالي في الحقل الثقافي، وكان جيل الستينيات قد بلور تصورًا أكثر جدلية بشأن علاقة الشكل بالمحتوى. ووصل هذا التصور إلى ذروته في اهتمام جيل السبعينيات بدور الشكل في إنتاج المعنى كما تبدى واضحًا لدى الشكلانيين الروس. وانتهى المآل برفض جذري لمفهوم الالتزام لدى جيل التسعينيات.
ورغم وجود بدايات لاتجاه دراسة العلاقة بين الأدب والمجتمع، عرف باسم “النقد الاجتماعي” أو الاتجاه الاجتماعي في النقد، إلا أن أحدًا لم يقم بالتعريف بعلم اجتماع الأدب كعلم مستقل، له قواعده المنهجية، ومجالاته البحثية، وإشكالياته النظرية والتطبيقية. ولقد استطاع السيد يسين أن يبلور ذلك من خلال كتابه التعريفي “التحليل الاجتماعي للأدب”.
وكأغلب المعنيين بهذا المجال البحثي، مارس السيد يسين الكتابة مبكرًا، وكان مهتمًا بالشعر خاصة، وترجم صغيرًا قصيدة ت. س إليوت الشهيرة “الأرض اليباب”، واطلع بفضل مكتبة البلدية بمدينته الإسكندرية على أشعار بعض شعراء المدرسة الرومانسية الإنكليزية. ثم قرر الابتعاد عن الكتابة والإبداع الأدبي فور تعيينه بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ليتفرغ لتكوينه العلمي والمنهجي. ولكنه واصل الاطلاع على الإبداع الأدبي، حتى كتب بعد خمس سنوات من تعيينه مقالًا حول روايتَي العيب والحرام ليوسف إدريس. وبعدها سافر إلى فرنسا في إجازة دراسية للقيام بدراسات عليا في العلوم الجنائية، وأمضى ثلاث سنوات. وبدلًا من التفرغ لما سافر إليه انتهز الفرصة للاطلاع الوافي على مراجع علم اجتماع الأدب، وبناء عليها قدم كتابه موضوع اهتمام هذا الفصل.
والكتاب عبارة عن سلسلة من المقالات التي كتبها عقب عودته من فرنسا نهاية عام 1967. وقد نشرت المقالات جميعها باستثناء اثنتين في مجلة الكاتب خلال عام 1968. وهاتان المقالتان هما: “التصوير الأدبي للانحراف الاجتماعي و”نحو الدراسة الاجتماعية للظواهر الأدبية”. نشرت الأولى في مجلة المجلة وضمنها فيما بعد بكتابه دراسات في السلوك الإجرامي ومعاملة المذنبين. أما المقالة الثانية فنشرها في مجلة الفكر المعاصر. وتكون الكتاب من إثني عشرة فصلا. وقام بنشره في عدة طبعات عن عدد من دور النشر.
ويحاول هذا الفصل أن يلقي الضوء على رؤية السيد يسين للتحليل الاجتماعي للأدب، وذلك بدراسة السياق التاريخي لإنتاج الكتاب في إطار التحولات التي عاشها جيل الستينيات وبزوغ اتجاه ما عرف بالنقد الاجتماعي، ثم الوقوف على الرؤية ومعالمها، بالنظر في قواعد المنهج في علم اجتماع الأدب والمجالات البحثية فيه، وأخيرًا تقديم تحليل نقدي واستلهام فكرة “الغائب السوسيولوجي”.
أولًا: جيل الستينات والنقد الاجتماعي
1- التعريف بالجيل وهمومه
هو الجيل الذي قضى شبابه في حقبة الستينيات، وآمن بأحلام الثورة وآمالها، وعمل في ركبها، ثم انهار ما كان يطمح إليه مع نكسة 1976. عرف بجيل النكسة، أو جيل الثورة، أو جيل الهزيمة. جمع في رؤيته بين اتجاهين: اتجاه الانحياز إلى الديمقراطية، الذي ورثه من المناخ الثقافي للفترة شبه الليبرالية، واتجاه الانحياز للعدالة الاجتماعية. ولذلك وقف إلى جوار نظام يوليو في انحيازه للعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، وانحاز ضد النظام في لجوئه إلى الممارسات الاستبدادية. فقد كان أبناء هذا الجيل لا يرى فاصلًا بين العدالة والديمقراطية. فتوزيع الثروة لا يفترق عن توزيع القوة توزيعًا عادلًا.
شمل أعضاء هذا الجيل أسماء جمال الغيطاني، وصنع الله إبراهيم، وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي وبهاء طاهر، وأحمد الشيخ، ومجيد طوبيا، وإبراهيم عبد المجيد، ويوسف القعيد، ويحيى الطاهر عبد الله، وخيري شلبي، وعبد الوهاب الأسواني في الرواية والقصة القصيرة، وأمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودي، ومحمد إبراهيم أبو سنة، وفاروق شوشة، وسيد حجاب، في شعر الفصحى والعامية، وعز الدين إسماعيل، وعبد القادر القط، وعلي الراعي، ومحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، وإبراهيم فتحي، ولطيفة الزيات، ونبيلة إبراهيم، في النقد الأدبي، وسيد عويس وعلى فهمي، والسيد يسين، ومحمد نور فرحات، وعبد الباسط عبد المعطي، وحامد عمار، وعلى الدين هلال، وسعد الدين إبراهيم، في العلوم الاجتماعية، وآخرون.
لقد شهدت حقبة الستينيات ظهور مجموعة كبيرة من المجلات الثقافية كانت لها دورها في نشر أعمال أبناء هذا الجيل، وهي مجلة الكاتب التي صدرت في نيسان/أبريل 1961، ورأس تحريرها أحمد حمروش ثم أحمد عباس صالح، وفيها نشر السيد يسين جملة المقالات التي شكلت فيما بعد كتابه المعروف التحليل الاجتماعي للأدب. وصدرت أوانها مجلة المسرح في يناير 1964، ورأس تحريرها رشاد رشدي، ثم صلاح عبد الصبور، والقصة والشعر في كانون الثاني/يناير 1964، والكتاب العربي والطليعة والفكر المعاصر وغيرها من المجلات التي ساهمت في إثراء الحركة الثقافية وازدهار معظم اتجاهات النقد الأدبي ([2]).
2- الاتجاه الاجتماعي ورؤية العلاقة بين الأدب والمجتمع
يوضح صبري حافظ أن النقد الأدبي قد شهد في السنوات الممتدة من عام 1927 وحتى عام 1952 تبلور مجموعة من الاتجاهات النقدية، تأثر معظمها بطبيعة الحال بالمدارس المختلفة للنقد الأوروبي. وتمثلت هذه الاتجاهات في: الاتجاه التاريخي، ومثله أسماء أحمد حسن الزيات وزكي مبارك وأحمد أمين، والاتجاه الأكاديمي وعبرت عنه أسماء طه حسين وأحمد أمين ومصطفى عبد الرازق وأحمد ضيف وعبد الحميد حسن وعمر الدسوقي ومحمد حسين هيكل ومهدي علام. وكذلك الاتجاه النفسي الذي تبلور بفضل جهود مدرسة الديوان في أعمال عبد الرحمن شكري وعباس محمود العقاد، ومحمد أحمد خلف الله وسيد قطب وأمين الخولي ومحمد النويهي. وأخيرًا الاتجاه الاجتماعي الذي يهتم بعلاقة الأدب والواقع الاجتماعي والحضاري. وقد بدأت بذور هذا الاتجاه في صحيفة الفجر عام 1925. ثم استمر الاتجاه في النمو والتطور بفضل أعمال شبلي شميل وسلامة موسى وأحمد الشايب وإسماعيل مظهر. وقد تسببت الأوضاع التاريخية ووجود طلب اجتماعي وثقافي في تصدر هذا الاتجاه للمشهد النقدي، وبخاصة في أعمال اثنين من أبرز أقطابه في الأربعينيات وهما: محمد مندور، ولويس عوض([3]).
وفي هذا الإطار، يشير محمود أمين العالم إلى أن رؤية جيل الخمسينيات غلب عليه الاهتمام بالتفسير المضموني بل والاجتماعي الخالص للأدب. كانت المرحلة التاريخية التي ترعرع فيها هذا الجيل تعبر عن تيار في النقد الأدبي العالمي عامة، ولم يكن يقتصر الأمر على الأدب العربي وحده. وشهد الأدب العربي ثورة على التفسيرات والتحليلات الأكاديمية والوصفية والانطباعية والتذوقية – والنفسية إلى حد ما – التي سيطرت بصيغة أو بأخرى على النقد الأدبي. وتواكب مع ذلك مرحلة النهوض الوطني والقومي والاجتماعي حيث احتدم الصراع بين القوى الوطنية والديمقراطية وقوى الاستعمار. ولم يكن التوجه النقدي بين أبناء هذا الجيل مهملًا للجانب الفني أو الجمالي أو الشكلي في التطبيقات النقدية. بل كانت هناك اجتهادات برأي أمين العالم لاكتشاف العلاقة العضوية بين الأبنية الفنية والدلالات أو المضامين الاجتماعية والطبقية. بل كان هناك وعي كامل بأن الدلالات والمضامين إنما تنبع من البنية الفنية نفسها. ولم تكن المرحلة دعوة إلى دراسة مضمونية خالصة للأدب، بل كانت من الناحية النظرية أو التطبيقية، تحرص على التحليل الداخلي –الخارجي، الفني –الدلالي، للعمل الأدبي([4]).
ما يعنيه محمود أمين العالم أن جيل الستينيات قام بنقلة نوعية داخل الاتجاه الاجتماعي في دراسة الأدب، حيث حاول أن يقيم الصلة بين الشكل والمحتوى، ولم يجعل الأمر مقتصرًا على تحليل المضمون، بالتركيز على الأفكار الجوهرية التي يحملها النص، والميل إلى أيديولوجيا بعينها. حاول جيل الستينيات أن ينقل النقد برأيه كأحد أبناء هذا الجيل من الانطباعية التي شابته إلى العلمية. وهو ما نلحظه في إلحاح السيد يسين في تأكيده أهمية علم اجتماع الأدب، باعتباره علمًا موضوعيًا، له منهجه المنضبط، وقواعده المنهجية، وموضوعاته المحددة التي يسعى لبحثها ودراستها.
ويعتبر الصراع داخل الحقل الأدبي بين تيار الدراسة الاجتماعية للأدب وتيار الدراسة الجمالية، واحدة من أبرز الصراعات التي شهدها هذا الحقل، وهو ما بلور ما عرف بمفهوم “الالتزام الأدبي”، وظل المفهوم موضوع صراع دام حتى حقبة التسعينات لدرجة أن إحدى الدوريات العربية وهي دورية نزوى خصصت عددًا كاملًا للقضية واستطلعت آراء عدد من أبناء جيل الستينيات وأبناء جيل التسعينيات.
وقد بدت معالم هذا الصراع في المعركة النقدية التي دارت حول مفهوم النقد الأدبي وموقفه من العمل الفني، بين كل من محمد مندور ورشاد رشدي عام 1961، واستمر أثرها حتى عام 1964. وانتهى الصراع إلى انقسام المجال النقدي إلى فريقين: فريق تيار الالتزام ويضم أسماء محمد مندور ولويس عوض وعبد القادر القط ومحمد القصاص ومصطفى ناصف وأنور المعداوي، وفؤاد دوارة، وإبراهيم حمادة. ويرى أنصار هذا الفريق أن العمل الأدبي له محتوى فكري وموقف سياسي، من القضايا المثارة في الواقع، وأن العلاقة بين الشكل والمحتوى علاقة جدلية. وعبر هذا الفريق عن نفسه بتشكيل “جماعة النقاد العرب”. وفي المقابل نشأت جمعية النقاد وضمت رشاد رشدي وعددًا من تلاميذه مثل سمير سرحان ومحمد عناني وفاروق عبد الوهاب وعبد العزيز حمودة. وتبنت هذا الفريق الرؤية الجمالية للعمل الفني. وتبنت آراء مدرسة النقد الأمريكية التي ترى ضرورة الاهتمام بجمالية العمل الفني، بمبناه على حساب معناه، دون السعي للوصول للمحتوى، لن محاولة من هذا القبيل، ليست سوى نوع من الإسقاط المستهجن لرؤى الناقد الأدبي وتصوراته الذاتية على العمل الأدبي([5]).
لقد كان لهذه المعركة أثرها في إنتاج جيل الستينيات وفي رؤيتهم لطبيعة الإبداع الأدبي ودوره في الحياة العامة، وآليات التفسير، وكيفياته. ولعلنا نلحظ هذا الأثر في لغة محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وهما يصفان الأعمال الروائية الأولى لطه حسين وتوفيق الحكيم، ولسوف نجد صدى لهذه اللغة في كتاب التحليل الاجتماعي للسيد يسين، كما سيتبين لاحقًا: “إن الأعمال الأدبية الأولى لطه حسين وتوفيق الحكيم هي، فوق كل شيء، وثيقة اجتماعية مصرية خطيرة، لا من حيث أنها تقدم قطاعًا مستعرضًا دقيقًا للحياة المصرية في هذه المرحلة فقط، بل من حيث إنها موقف اجتماعي محدد لكل كاتب منهما. فأنت تستطيع أن تقرأ الأيام فتدرك عن القرية المصرية دقائق كثيرة، وتلمس في وصف طه حسين صدقًا وافيًا وتفهم أمور التعليم في القرية … وشخصيات اجتماعية ذات دلالة وجلال… هذه الشخصيات التي هي أقرب إلى النماذج البشرية منها إلى أفراد عاشوا في قرية طه حسين”([6]).
سوف نلحظ على الفور في هذا النص التناغم بين نص السيد يسين الذي يحتفى فيه بالمؤلف أو بـ”الخالق الأدبي” على حد تعبيره، هذا المؤلف الذي يقدم وثيقة قادرة على نقل التفاصيل الدقيقة، التي تفوق في قدرتها نقل الواقع الاجتماعي وحيويته ما يقوم به الباحث الاجتماعي المتخفي خلف الأرقام والإحصاءات والتعليقات التافهة وفق تعبيره.
ثانيًا: معالم الرؤية: سوسيولوجيا الأدب وقواعده المنهجية ومجالاته
آثر السيد يسين أن يمارس دورًا مهمًا في الحياة الثقافية المصرية. وهو دور “حارس البوابات الثقافية”، وحراس البوابات يقومون بعدة أدوار: أولها من جهة الكتابة، يحاولون التفتيش عن موضوعات جديدة وعرضها أمام القراء والمتخصصين لينهلوا منها، ويوسعوا من مجالاتها، أي أن أنهم يشيرون إلى مستجدات الفكر العالمي، لكي لا يبتعد الباحثون عن مدار هذا الفكر ورحابه. بل ويدرسون مجالات جديدة، لم يفطن إلى الاهتمام بها أحد من قبلهم، حتى يتسنى البناء على هذه المقدمة الموجزة. ومن جهة الممارسة يسعى حراس البوابات لفتح الأبواب أمام الباحثين الجدد الذين يظن فيهم القدرة على تقديم إضافات قيّمة لمجالات عملهم واشتغالهم البحثي. كما أنهم يثيرون انتباه القراء إلى جديد المطابع العربية والأجنبية لينهل منها الباحثون. وفي هذا الإطار يعتبر كتاب السيد يسين حول التحليل الاجتماعي للأدب هو ضرب من ضروب ممارسات حراس البوابات الثقافية حيث يفتح مجالًا جديدًا أوانها وهو الدراسة الاجتماعية للأدب، واستغلال أدوات ومعارف العلوم الاجتماعية في تفسير الإنتاج الإبداعي والأدبي. وقد استطاع السيد يسين خلال قيامه بتأليف أول كتاب فعلي في الموضوع أن يستخلص مجالات أساسية للدراسة السوسيولوجية للأدب، بل والفنون، وهي دراسة المؤلف/المنتج، والمنتج الأدبي/الفني، والجمهور. الأمر الذي يبدو واضحًا إذا تتبعنا الأعمال التي أشرف عليها السيد يسين، وبخاصة أعماله مع نسرين البغدادي حول المسرح، حيث نجد ذات الثلاثية قائمة، إذ قام المركز القومي للبحوث الاجتماعية بإجراء مشروعين بحثيين حول مسرح البالغين، ومسرح الأطفال، اتبع ذات المنهجية في اختيار مجالات البحث.
لقد استخلص السيد يسين هذا التصنيف مما قدمه ألبير ميمي حول علم اجتماع الأدب. وألبير ميمي هو روائي وعالم اجتماع تونسي، جمع بين الفرنسية والعربية في كتاباته، ويصنف كواحد من أعلام دراسات ما بعد الاستعمار. ولعلنا نجد نقط التقاء عديدة تجمع السيد يسين به. وعلى الرغم من أن الدارسين عندما يريدون التأريخ للعلم فهم يقومون عادة بالتعريف بجهود أسماء بعينها تعد على البنان منهم، على سبيل التمثيل، مدام دوستال، وجورج لوكاتش، ولوسيان غولدمان، إلا أن السيد يسين قد اعتمد على ألبير ميمي تحديدًا ليكون مصدره في تحديده للقواعد المنهجية ومجالات البحث. والواقع أن الاهتمام بما قدمه تيار ما بعد الاستعمار هو اهتمام ضعيف باستثناء ما ورد في أحدث المراجع في الموضوع وهو كتاب سوسيولوجيا الأدب لجيزل سابيرو.
ومع ذلك فإن الالتفات لألبير ميمي له وجاهته، وبخاصة أن توجه ما بعد الاستعمار ذو صلة وثيقة بالدراسة السوسيولوجية للأدب، انطلاقًا من عدة اعتبارات. أول هذه الاعتبارات أن المشتغلين بهذا الاتجاه يعالجون الاستعمار لا باعتباره ممارسة سياسية اقتصادية، بل باعتباره بنية ذهنية، وهنا نقطة التقاء أساسية مع المعالجة السوسيولوجية للأدب، بالتعامل مع البنى الذهنية وتأسيسها الاجتماعي والتاريخي. والأمر ذاته ينطبق على كتابات كثير من أبناء هذا الاتجاه. وثاني الاعتبارات هو أن أنصار هذا الاتجاه ينطلقون من تصور إيبيستيمولوجي أساس ينظر للاستعمار كمؤسسة، ما يشير للترابط القوي بين النص وسياق الإنتاج، وإغفال أولوية المؤلف الفرد. وثالثها هذا الاهتمام بدنيوية النص بتعبير إدوار سعيد. ولعل هذا الاهتمام الذي أولاه إدوار سعيد بعلم اجتماع الأدب واضح من خلال ما سبق أن قدمه من تحليل لواحد من أعمال لوسيان غولدمان في مقال له([7]).
ويمكن النظر في طرح السيد يسين للتحليل الاجتماعي للأدب، من خلال ما رآه من قواعد منهجية حاكمة، ومجالات الدراسة المفترضة التي استخلصها من كتابات ألبير ميمي، أو بالأدق التي أفاد منها واقتبسها منه:
3- قواعد المنهج في التحليل الاجتماعي للأدب
تأسيا بإميل دور كايم في صياغته للقواعد المنهجية الحاكمة لعلم الاجتماع في مؤلفه الشهير، قدم السيد يسين قواعد محددة رآها تحكم سوسيولوجيا الأدب، مستندًا إلى ألبير ميمي، وصاغها على النحو التالي([8]):
أ- ينبغي النظر للوقائع الأدبية بحسبانها وقائع اجتماعية، ومعنى ذلك أن نضع الوقائع الأدبية في منظور علم الاجتماع. ولكن ذلك ليس معناه التعامل مع علم الاجتماع على أنه العلم الوحيد القادر بمفرده على دراسة الأدب، بل إن الأمر متاح لبقية العلوم الاجتماعية الأخرى، وفق أطرها المرجعية.
ب- لا ينبغي رد الوقائع الأدبية لشيء آخر غير ذاتها. وهو أساس مكمل لسابقه، بحيث يتم الحفاظ على خصوصية واستقلالية الأدب. إذ يخلط بعض النقاد بين الوقائع الأدبية وغيرها من الوقائع، وهذا معناه أن دراسة الأدب تتطلب الكشف عن العوامل الاجتماعية التي تحيط به، بحيث يمكن التأكد بأن الواقعة الأدبية لا تختلط بشروطها التكوينية، ولا بالظروف التي تحيط بها، ولا بالمقاصد التي كان يهدف خالقها إلى تحقيقها ولا إلى أصدائها الاجتماعية والنفسية. وإذا كانت كل هذه الاعتبارات لها أهمية كبرى في رصد الوقائع الأدبية وفهمها، إلا أنه من الضروري عدم الخلط بينها وبين الوقائع الأدبية.
ج- الواقعة الأدبية واقعة قيمية. وهذا المبدأ يضع الحدود بين العمل الأدبي بمعناه الحقيقي وبين أعمال أخرى قد تنتمي إلى عالم الكتابة والفكر، ولكن لا يمكن اعتبارها أعمالًا أدبية على الإطلاق.
د- الواقعة الأدبية ليست محض واقعة معرفية. وهذا المبدأ يترتب عليه اعتباران: الأول عدم التعامل مع الواقعة الأدبية كوثيقة أو باعتبارها نتيجة بحث ما. والثاني عدم النظر للواقعة الأدبية باعتبارها مجرد دلالات اجتماعية أو نفسية. ذلك أن الرهان على الدلالة الفكرية قد يؤدي إلى إعلاء شأن عمل أدبي ضعيف المستوى على حساب عمل أدبي أكثر جودة، لمجرد تقديمه لأفكار وأيديولوجيا مرضي عنها.
هـ- الواقعة الأدبية ليست أداة عمل: وهنا يشار إلى علاقة الأدب بالواقع، من حيث كون الأول وسيلة للثاني. وهنا يتولد تصوران، أحدهما يرى أن العمل الأدبي ليس له وظيفة أيديولوجية، بل وظيفته جمالية، وثانيهما يرى أن العمل الأدبي الخالي من التوجه الأيديولوجي لا قيمة له. فالعمل الأدبي بحسب هذا التصور ليس وسيلة دعائية، ولا أداة لعمل سياسي.
لقد صاغ ألبير ميمي هذه القواعد الحاكمة لتكون في الواقع خروجًا عن الأدبيات السابقة عليه. حيث كان يرى أن هذه الأدبيات لم تستطع أن تدرك فرادة وخصوصية العمل الأدبي، وابتعدت كثيرًا عن عمقه، بل اتسمت بالهشاشة والسطحية، للدرجة التي تبعدها عن تشكيل رؤية علمية واضحة للعمل الأدبي. وهو ما يجعله لا يعتد بالأدبيات السابقة عليه عن مدام دو ستال وتين وبعض المقتطفات الماركسية، باعتبارها تنجز بذاتها حقلًا مستقلًا يمكن تسميته بعلم اجتماع الأدب.
والواقع أن القواعد المنهجية التي يدرجها ألبير ميمي تجعله أبعد من أطروحة لوسيان غولدمان التي يبدو بالفعل عند المطالعة المتعمقة لها أن الرجل قد أهمل الجمالية لحساب الدلالة الفكرية، على الرغم من تشديده على الربط بين الشكل والمحتوى. الأمر الذي جعل ميمي وهو يعرض لمبدأ عدم إيلاء الدلالة أولوية في التحليل، بل الجمالية، يشير إلى وعيه بما قدمه غولدمان، وإن كان يوحي بأن ما يطرحه غولدمان يمكن تطبيقه على أي نص غير أدبي، ما يفقد النص الأدبي خصوصيته. وبهذا المعنى فإن الأدبية، أي القواعد الحاكمة للعمل الأدبي هي الحاكمة لسوسيولوجية النص، وصلته بالواقع الاجتماعي. ودون فهم الجمالية، ودون إدراك القواعد والمكونات اللغوية والبلاغية الحاكمة للنص الأدبي، وحسن الوعي بها، وبتفاصيلها الدقيقة، تظل أي محاولة لفهم المعنى الأدبي، إن وجد، عملًا بلا جدوى.
4- مجالات الدراسة
إن التحديد الدقيق للمجالات الأساسية يوضح تصور السيد يسين لهذا التخصص الدقيق. فمن الواضح أنه يسعى نحو التوليف بين اتجاهين متعارضين، على مختلف المستويات، الإيبيستيمولوجية، والفلسفية، والأيديولوجية، والمنهجية. إذ يلاحظ السيد يسين أن هناك تصورين يقام من خلالهما التمييز بين مجالات البحث وموضوعات الدراسة. التصور الأول يطرحه ألبير ميمي، ويقسم فيه المجالات إلى ثلاثة: المؤلف والعمل والجمهور. بحيث يدرس في الأول المؤلف ووضعه الاقتصادي والمهني، وطبقته الاجتماعية. أما بالنسبة إلى العمل فيرى ضرورة الدراسة السوسيولوجية لأمور أربعة: الأجناس والأشكال الأدبية، والموضوعات والطباع والشخصيات، والأساليب. وأخيرًا يقترح دراسة الجمهور، وعملية الاتصال ونجاح العمل الأدبي والنقد. فيما يقدم إسكاربيه تصورًا ثلاثيًا قائمًا على: إنتاج الأدب، وتوزيعه واستهلاكه. ويناقش في عملية الإنتاج الأجيال والفرق الأدبية، والكاتب في المجتمع، ومناطق الكتاب، ومشكلة التمويل، ومهن الأدباء. ويهتم اسكاربيه أكثر بمشكلة النشر، على حساب دراسة الإنتاج الأدبي نفسه، فيناقش علاقة النشر بالإبداع ودوائر النشر، ويهتم بدلالة نجاح العمل الأدبي، ودوافع استهلاك الأدب وظروف مطالعة الأعمال الأدبية.
ويشير السيد يسين إلى أن الإطار الذي يقترحه أكثر اشتمالًا لاحتوائه على العناصر الثلاثة. إذ يرى ألّا انفصال بينها: يقول:”مهما تعدد الزوايا التي ندرس من خلالها الواقعة الأدبية. فلا بد أن يكون تكامل نظرتنا شرطًا أساسيًا من شروط بحثنا… فالدراسة السوسيولوجية للجمهور إن أريد لها أن تكون ذات قيمة، لا بد أن تسهم في تحديد الملامح الحقيقية للموضوع الأدبي وفهمه. بعبارة موجزة لكي نفهم أحد أطراف الثلاثية “المؤلف – العمل الأدبي – الجمهور، لا بد من فهم الأطراف جميعًا”. هذا معناه أن فهم المؤلف لا يتم بمعزل عن فهم عمله الأدبي وفهم جمهوره وعلاقته به.
إن الباحث في سوسيولوجيا الأدب يدرك الفارق الجوهري بين رؤيتين نظريتين حاكمتين للعلم طوال تاريخه: الرؤية الوضعية التي تعتمد في تحليلها للظاهرة الأدبية على قراءة المحتوى، والنظر إلى الأدب كواقعة إمبيريقية، قابلة للعد والتكميم. ولذلك ليس مستغربًا أن يهتم إسكاربيت بالنشر على حساب العمل الأدبي نفسه. ومن ثم يكون التلقي هنا عملًا خارج النص نفسه. فعلًا يمكن الوقوف على أبعاده التفصيلية، بالنظر إلى احتياجات القراء، لما يرونه مناسبًا لرؤيتهم. فيما تهتم الرؤية المقاربة بالتعامل مع خصوصية العمل الأدبي، كعمل تتطلب الموضوعية لدراسته، النظر في تكوينه الداخلي، والاعتبار بمبدأ استقلاليته. ولا يكون الحرص كبيرًا على النظر باعتبار إلى الجمهور، بل إلى المتلقين. وهنا نجد فارقًا جوهريًا. ففي الحالة الأولى، لا يعدو القراء للعمل الأدبي سوى “جمهور”، يتلقى العمل الأدبي ويتأثر به، بل ويحاكيه. فيما الرؤية الثانية تنظر للقراء باعتبارهم “متلقين”، لهم استقلالية، تضارع استقلالية النص الأدبي. فالقارئ ليس سلبيا بالضرورة، لكنه بالأحرى قادر على إنجاز المعاني بعيدًا من سطوة المؤلف وقصديته. كما أنه أصل المعانى الواردة بالنص.
كذلك ينبغي التشديد على التمييز أيضًا بين قصد المؤلف ودلالة النص الأدبي. ففي الرؤية الإمبيريقية، يعتبر محتوى النص هو قصد المؤلف. أي أن هناك قصدًا بعينه للمؤلف، يمكن الاستدلال عليه من قراءة النص والتدليل عليه من السيرة الذاتية للمؤلف، انطلاقًا من أن النص هو في النهاية انعكاس لرؤية المؤلف. فيما الرؤية النقدية، لا تنظر باهتمام كبير لقصد المؤلف، بل لدلالة النص. وهو تمييز مهم ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار([9]).
ثالثًا: نقد الرؤية: إشكاليات أساسية وإضافات ملهمة
إن المعالجة السوسيولوجية للأدب كما توخاها السيد يسين تنطوي على عدد من الإشكاليات المهمة، التي تمثل محور اهتمام الباحثين أيضًا في الموضوع، أهمها إشكالية العلاقة بين علم الاجتماع والأدب، وتحليل العمل الأدبي. بينما قد السيد يسين إضافات تستحق النظر، تحديدًا دراسته لما هو غائب في المجالات الأساسية للدراسة، وهو مجال النشر. وانطلاقًا من هذا الطرح الجديد الذي قدمه السيد يسين يمكن طرح موضوعات جديدة تمثل هي الأخرى مجالات جديدة في الدراسة السوسيولوجية. وإن هذا الطرح بحد ذاته سوف يسهم في تفكيك التصورات التقليدية عن العلم وعلاقة الأدب بالواقع، وغير ذلك من القضايا ذات الصلة.
1- عالم الاجتماع والأدب: نقاط الاتفاق والافتراق
يمثل موضوع العلاقة بين علم الاجتماع والأدب موضوعًا رئيسيا بالنسبة لمن اهتموا بدراسة علم اجتماع الأدب، فنجده حاضرًا في أعمال عديدة، منها ما قدمه عبد الباسط عبد المعطي في كتاب أعده لطلابه كمحاضرات تدريسية جمع فيه مجموعة من المقالات التي كتبها في الموضوع، وكان فيها قد عرض لتصوره عن علاقة عالم الاجتماع بالأديب، من حيث مناطق الاتفاق والاختلاف. ومنها كذلك ما طرحه عالم الاجتماع البولندي زيغمونت بومان في أحدث مؤلفاته، وهو كتاب في مديح الأدب. والكتاب يشمل مجمل حواراته مع ريكاردو مازيو حول رؤيته للأدب ودوره في حركة المجتمع. ولقد حاول بومان أن يقدم تصورًا قريبًا مما سبق أن طرحه عبد الباسط عبد المعطى والسيد يسين. فهو يستعمل مجازًا دالًا في هذا الصدد. إذ يصف العلاقة بأنها علاقة الأختين. حيث إن التشابه بين الطرفين كبير([10]).
وعند النظر في رؤية السيد يسين في علاقة الأدب والعلم الاجتماعي، تبدو اللغة الساخرة واضحة من المذهب الوضعي وتصوره للعلاقة بين الأدبي والاجتماعي، ينقل سخريته اللاذعة بمعجمية ومفردات القهر، حول قوة تمارس “الاعتقال” و”التطهير”، بما يشير ضمنًا إلى التماهي بين المذهب الوضعي والأنظمة القمعية، يقول السيد يسين: “كانت التقاليد العلمية وما زالت تفرض علينا كباحثين أن نخفي مشاعرنا الذاتية وأن نضبط انفعالاتنا وأن نعتقل آراءنا الشخصية”([11]). وتارة أخرى، يقول: “أما الموضوعية فشرطها – كما علمنا أساتذتنا وفق المنهج الوضعي الوظيفي – أن يتخلى الباحث عن نزعاته وأهوائه وآرائه الخاصة حين يتصدى لبحث مشكلة ما، أو “يعقم” نفسه تمامًا قبل أن ينزل إلى الميدان!”([12]).
بل وتصل السخرية إلى ذروتها في لغة تقريعية، يقول: “هؤلاء الباحثين (كذا) الذين يظنون وهما أنه يمكنهم أن يختزلوا الظاهرة الاجتماعية في رقم، أو يمكن أن ينفذوا إلى أعماقها من خلال ملاحظة سطحية أو أسئلة تافهة تلقي كما اتفق، وتصاغ الإجابات بعد ذلك في تقرير علمي ضحل، لا يضيف شيئًا إلى معلوماتنا، ولا يرهف إحساسنا بنبض المجتمع”([13]).
ولذلك يضع السيد يسين الأديب في وضعية ينتصر له فيها على عالم الاجتماع: “لأن الخالق الأدبي لا يقل أهمية عن العالم الاجتماعي، بل إنه يفوقه بمراحل في كثير من الأحيان، بحكم حساسيته المرهفة، وقدرته على التقاط جزئيات الحياة الاجتماعية، وعلى تشريح نفسيات الأفراد، وعلى تعقب مراحل التغيير الاجتماعي وانعكاساتها على القيم والسلوك والتوجهات”، كما أنه “يستطيع إن كان موهوبًا أن نعتبره مؤرخًا اجتماعيًا من ناحية، وناقدًا اجتماعيًا من ناحية أخرى”([14]).
من الواضح أن الصورة التي يقدمها للأديب هي صورة الأديب المتبني لمذهب الواقعية في الكتابة، كما ترد لدى نجيب محفوظ. إنما محفوظ – إذا شئت الدقة – هو تجسيد للنموذج المثالي، لمؤرخ وناقد، إنه الأخ الشقيق لباحث يستعمل “منهج النقد التاريخي المقارن”؛ في استعراضه الدقيق لأوجه الحياة الاجتماعية للطبقة الوسطى في تقلباتها المتباينة، عبر تاريخ صعودها وانهيارها، بل ويعقد المقارنات بين أجيالها المتتابعة، بحياد وموضوعية، لا يتورط في إصدار الأحكام القيمية العامة. وكأنما يرى السيد يسين ذاته فيما ينتهجه نجيب محفوظ باعتباره الأب الروحي، أو النموذج الأعلى لأبناء جيله.
ولقد انشغل باحثون آخرون بهذه العلاقة بين السوسيولوجيا والأدب، ومنهم زيغمونت بومان الذي يعالج الموضوع معالجة تقترب من رؤية السيد يسين وتتجاوزها قليلًا.
إن دور الأدب بحسب زيغمونت بومان هو الكشف عن جوانب النفس البشرية المخبوءة، فالفعل الإبداعي هو فعل معرفة، فعل يخترق ستار الأحكام المسبقة، وصولًا إلى الجوهر الحقيقي. ويرى كذلك أن عمل السوسيولوجي يتشابه مع عمل الروائي/الأديب، فكلاهما يسعى لإعادة تفسير الواقع، ويفتح الباب أمام فحص العالم المصنوع من البشر، ومن ثم يرسم حدود الإمكانات البشرية ليخرجها من ظلماتها، ويوسع مجال الحرية البشرية([15]).
ومع ذلك فإن بومان يلفت الأنظار إلى جانب مهم، وهو الاختلاف في أساليب الكتابة. فكتابة الرواية تختلف عن كتابة عمل سوسيولوجي. فلكل منهما تقنياته ومعاييره وأساليبه في العمل. ولكنه يراهما متقاربان، وعلاقتهما مزيج من الدعم المتبادل والتنافس، حيث يجمعهما أب واحد، ولديهما تشابه عائلي لا تخطئه العين([16]).
يقترب التصور الذي يقدمه الناقد الثقافي تزتيفان تودروف عن الأدب ووظيفته من نفس التصورات التي يطرحها الباحث السوسيولوجي في رؤيته لدور ووظيفة الأعمال الأدبية. فالأدب يؤدي عدة أدوار مهمة: فهو يعين القراء على فهم الحياة، والتواصل الخلاق مع الآخرين، وعلاج آلام الروح، ويغير الذوات من دواخلها، ويحرر الأفراد من الأفكار الشائعة، والآراء المسبقة وعادات الفكر، ويعالج الفرد من عبادة الذات([17]).
2- موقع الجمالي
هناك مواضع عديدة يتناول فيها السيد يسين موقع “الجمالي”، والدور الذي يقوم به السوسيولوجي في معالجته له، معتمدًا كما سبق القول على طرح ألبير ميمي. فالواقع أن سؤال الجمالي حاضر في اهتمامه بالتغير الاجتماعي، وهو الموضوع الأثير لديه، وربما يكون الموضوع الأثير لسوسيولوجي الأدب. ذلك أن تغير الأشكال الأدبية برأيه، مثله مثل تغير الأذواق مرهون بروح العصر، وما يلحق بجهاز القيم من تغيرات. فالحاجات والمطالب المترتبة على التغير الاجتماعي والثقافي، تفرض بحد ذاته ابتداعًا لأشكال أدبية جديدة، للتعبير عن “الوجدان الجمعي”. وهذا التجديد ليس مرهونًا بفرد، وإنما يتم في “معية”. إن حتمية التغيير حتمية موضوعية، تتلاقى فيها “ذوات” متعددة في نفس الوقت ولو بدون اتفاق مسبق. وهكذا تقوم جماعة من الأدباء بابتداع الأشكال الجديدة، بحيث لا يمكن تحديد مؤلف واحد من بين أعضاء هذه الجماعة باعتباره المؤسس للشكل الجديد. فالركون إلى فكرة “الفرد العبقري”، هو معيار زائف للتاريخ لتطور الأشكال الأدبية.
ويبدو هذا صحيحًا إذا جاز تطبيقه على الشعر الحر، أو بحسب بعض الأدبيات شعر التفعيلة. إذ لا يوجد اتفاق على البداية الفعلية لهذا الشكل الفني الجديد. فقد تداولت الأقلام أسماء عديدة كرواد له، منها بلند الحيدري، ومحمود حسن إسماعيل، وبدر شاكر السياب، ونازك الملائكة. وجميعهم في فترة واحدة متزامنة.
ومن هذه المواضع أيضًا على المستوى التطبيقي، ما قدمه من تحليل لعدد من أعمال الروائي المصري جمال الغيطاني. حيث يضع عنوانا لافتًا، يبين به موقفًا سلبيًا من الجمالي، من السعي للتجريب الفني، إذ يرى انتقال الغيطاني من “التجريب الشكلي إلى الصدق المضموني”. إن القراءة الفاحصة تبين التعارض الذي يراه بين التجريب الشكلي التجريب غير المغرق في الشكل: “في الزيني بركات نلمح بوادر التجريب في الشكل، ولكنه تجريب بغير إغراق، لا يبتعد فيها الشكل كثيرًا عن المضمون، إن صحت هذه التفرقة، وإنما يحس القارئ أن الروائي المبدع قادر على أن ينسج نسيجًا متماسكًا، يلتحم فيه الخطاب التاريخي بالخطاب الروائي التحامًا عميقًا”. ثم يؤكد الفكرة حين يتناول مجموعة “رسالة البصائر في المصائر”، معتبرًا إياها نقطة التوازن بين الشكل والمضمون، بل وإن “صدق المضمون، والقدرة الفذة للروائي على النفاذ إلى قاع المجتمع المصري العربي، من خلال قلم قادر على التشريح والكشف يجعل الشكل يتوارى، وتصل الرسالة العميقة إلى القارئ بيسر”.
بهذا المعنى فإن ثمة قسمة ثنائية شكل بدون محتوى، وشكل له محتوى، ولكن ثمة سؤال مضمر، هل هناك محتوى دون شكل. إذا تم الدفع بهذا السؤال فإن ذلك يجذب الثنائية المفترضة إلى نهايتها: فلا شكل دون محتوى، كما لا محتوى دون شكل وقالب. هذا القانون النصي هو الذي جعل السيد يسين يتردد وهو يصف نص الزيني بركات فيقول “إن صحت هذه التفرقة”.
ولعل الدارس لتطور الجمالي في تاريخ الرواية الأوروبية قد يقف عند محاولة جورج لوكاتش في التأريخ للتحولات الشكلية التي شهدتها الرواية، وما قام به أيضًا لوسيان غولدمان في دراسته للرواية الجديدة، وتبرير نشأتها.
فيما لم يحاول السيد يسين أن يمارس هذه المغامرة بالتمييز بين التحولات الجمالية للشكل الروائي. فكيف يمكن أن نفهم تحول الروائي أو الشاعر من شكل جمالي إلى آخر طوال تاريخه الفني، أو كيف حدث تحول من كتابة نوع بعينه إلى كتابة نوع آخر. وهنا يمكن ذكر مثل أتى عليه حافظ دياب. إذ يبين أن الكتابة الشعرية عند أحمد عبد المعطي حجازي كانت مرهونة بالخطاب القومي. ولقد توقف حجازي في مرحلة من المراحل عن الكتابة، وظل كذلك حتى الآن، فيما واصل غيره الكتابة حتى آخر رمق. لقد انتقل حجازي من القومية الناصرية إلى الليبرالية، الأمر الذي يتطلب تعديلًا جماليًا موازيًا. فالرؤية الجمالية القائمة على استعادة المعجمية التراثية للعصر العباسي، في صيغتها القتالية والذكورية، ورمزيتها واستعاريتها المعتمدة على الخيال التاريخي لفترات التغلب العربي، هي رؤية جمالية يتطلب الاندفاع بعيدًا منها أن يحدث تحول يتجاوز مرحلة صوت الشاعر المتفرد، صوت الفارس النبي الملهم.
إن الفرضيات النظرية التي طرحها السيد يسين أمام الباحثين، كقواعد منهجية معتمدة عند معاينة النص الأدبي، سرعان ما يفقدها عند التطبيق. من قبيل ذلك، أن قاعدة استقلالية العمل الأدبي وخصوصيته لا تجد مكانًا له في واحد من الفصول التطبيقية، إذ يصهر الحدود بين السوسيولوجي أو الروائي يوسف إدريس في تحليله لرواية العيب. حيث ينبري في التشديد على إبداعية المؤلف من خلال إبراز قدرات هي أولى بباحث سوسيولوجي ودارس للجريمة، منها إلى روائي وقاص كإدريس. بدا الأمر كأنه يعالج نصًا في علم الجريمة أو اجتماع الجريمة، أكثر من كونه عملًا أدبيًا. يقول السيد يسين عن رواية العيب ورواية الحرام بأنهما “دراستان متكاملتان، تصور إحداهما المجتمع الحضري، وتصور الأخرى المجتمع الريفي… وفي هذا الضوء يحلل المؤلف – باعتباره باحثًا علميًا في السلوك الإنساني – رواية العيب”. ويصف رواية العيب تارة أخرى بأنها “أشبه ما تكون بدراسة علمية منهجية منظمة، من النوع الذي يطلق عليه بمصطلحات العلوم الاجتماعية “دراسة الحالة””، ثم يقول أخيرًا: “غير أن أحدًا (من النقاد) – في ما نعلم لم يدرك إدراكًا كاملًا ما تزخر به الرواية من تحليل علمي عميق“ ([18]).
الأمر ذاته يعيده في سعيه لتدارك تطور الكتابة الروائية عند نجيب محفوظ. فعلى الرغم مما حدث من تحولات شهدتها كتابة محفوظ طوال تاريخه وتطوره؛ باللعب على مختلف تنويعات الواقعية: الواقعية التاريخية، والواقعية الجديدة، والواقعية السحرية، إلا أن السيد يسين لا يسعى لتفسير أسباب هذه التحولات الجمالية ومسوغاتها الفكرية، بل يفضل أن يقدم عمل الروائي باعتباره يعكس تحولات المجتمع طوال الفترة الممتدة من الثلاثينات حتى فترة الانفتاح، بما يلغي ضمنًا دور الجمالي في الحقيقة الروائية، وخصوصية التركيبة الفنية، عند التطبيق العملي للمفاهيم والتصورات النظرية المطروحة على ريادتها وتميزها.
3- سوسيولوجيا الغائب: إضافة واستلهام
إن العلاقة التي يبنيها السيد يسين بين الثلاثي: المؤلف والنص والجمهور، هي علاقة يمكن تفكيكها وفق منطق الغياب، بحيث يمكن إعادة النظر في سوسيولوجيا الأدب لديه مرة أخرى. وقد استطاع هو نفسه إجراء مقاربة من هذا النوع، يمكن البناء عليها. وذلك عندما قام بطرح إمكانية دراسة “الأدب غير المنشور”. وخصص لأجل هذا الهدف فصلًا كاملًا من كتابه. وانطلق ضمنًا من فكرة دراسة التغير الاجتماعي. ولعل هذا بارز في الدراسات التاريخية التي اهتمت بالنصوص غير الرسمية، النصوص التي لم تجد طريقها للنور، كالمذكرات الشخصية، والخطابات، والمراسلات السرية، والبرقيات. ويشير السيد يسين نفسه إلى هذا النمط من الدراسة لنصوص منتجة في زمن ويتم دراستها في زمن آخر. حيث يرى أن هذه الدراسة مهمة للكشف عن التغير الاجتماعي، وخصوصًا في المراحل التاريخية التي انقضت ويصعب على الباحثين دراستها بطريقة مباشرة. بل والتعرف أيضًا إلى الطوابع القومية للشعوب. وهو ما يوجد بوضوح في ما عرف بدرس الصورة، أو دراسات التاريخ الثقافي الذى يهتم بدور الآداب في بناء الصور الذهنية الثابتة للشعوب وتبادلها، كان من رواده جويب ليرسين (J.Leerssen)، الذى يعرفه بأنه دراسة: “الصور النمطية المتعددة والفرضيات ذات الصلة بالخصوصيات القومية”([19])، حيث تركز الدراسات – مثلًا – على صورة الشعب الإسبانى في الرواية الأمريكية، أو دراسة صورة البريطانيين في الرواية المصرية، وهو اتجاه وجد صداه في دراسات مصرية وعربية عديدة، بحثًا عن الصراع الثقافي بين الشرق والغرب.
لقد انطلق السيد يسين في رؤيته للأدب غير المنشور من أنه أقدر على الكشف عن الاتجاهات الأساسية السائدة في حقبة ما لدى أفراد المجتمع، أو لدى أعضاء بعض الطبقات أو الفئات الاجتماعية. فالاتجاهات التي يحملها الأفراد تجاه السلطة، ونحو المحرمات التي يفرضها المجتمع، وإزاء بعض النظم الاجتماعية الأساسية، كالدين أو الأسرة، قد تكون كامنة في عديد من الأعمال الأدبية ولا يمكن معرفتها إلا بتحليل هذا الأعمال التي لا تجد سبيلها للنشر([20]).
ومع ذلك يطرح سؤالًا مهمًا للغاية، وهو هل يعتبر هذا الأدب الذي يصفه بالأدب السري كمقابل للأدب الرسمي المنشور، أدباً بالفعل؟ فيرى أن ما يجعل عملًا ما عملًا أدبيًا من عدمه هو قدرته على التأثير الاجتماعي واسع المدى، وبتأثيره في وجدان أعداد لا نهاية لها من القراء. وأن الأدب غير المنشور هو أدب في حالة كمون، وإذا زالت أسباب التقييد على نشره، سيجد طريقه إلى النجاح إذا كان من النماذج الفنية الرفيعة، وخضع بذلك لحكم التاريخ([21]). وبهذا، فإن أدبية النص محكومة بتلقي الجمهور وبقدرة النص على التأثير، إنها محكومة بقدرة النص على التأثير في الوجدان وتغيير الاتجاهات والتصورات والقيم السابقة.
إن هذا التصور في تعريف الأدب هو تصور التوجه الإمبيريقي على نحو ما يرد مثلًا عند هانز نوربرت فوجين، اعتبارًا من أن مادة أو موضوع أبحاث علم الاجتماع هي الفعل الاجتماعي، أي الفعل المتبادل بين الذوات، بحيث لا يعتبر العمل الأدبي كظاهرة جمالية، لأن معنى الأدب يتجلى، فحسب، في الفعل المتبادل بين الذوات. هذا على غير التوجه النقدي الجدلي الذي يهتم بنوعية النص الأدبي([22]).
ومن جهة أخرى، فإن هذا التصور يتعارض ضمنا مع مفهوم “حراس البوابات”. وهذا معناه أن هناك نقادًا قادرين على الفرز والتمييز، وإبراز الأعمال المتميزة وتقديمها للجمهور العام، على نحو ما كان يقوم به النقاد العموم كما هو بارز في حالة على الراعي ورجاء النقاش.
بيد أن الرهان على حراس البوابات بمفردهم، أو “الرأي الأدبي العام” إذ صح التعبير، له خطورته على محاولات إضفاء صفة الأدبية على النصوص المنشورة وغير المنشورة. فمن ناحية لو تم الاعتماد على حراس البوابات بمفردهم، فإن ذلك سينتج في النهاية سلطة أدبية على العملية الإبداعية، تتكلس مع الزمن، إذا لم تتجدد، ولم يتوافر مناخ كامل للتنافس فيما بين حراس البوابات، مناخ لا يؤدي إلى بناء رؤية منحازة لاعتبارات جمالية صرف على حساب الرؤية الفكرية، والتأثيرات الفلسفية.
كذلك فإن التعويل على ما أسميه “الرأي العام الأدبي”، باعتبار الانتشار، والقدرة على التأثير القيمي والفكري والوجداني، قد يؤدي في النهاية إلى تغليب الأعمال ضعيفة المستوى ذات الأفكار الجاهزة على حساب الأعمال المتميزة ذات الرؤى المغايرة والتصورات الجمالية المتجددة. ما يؤدي في النهاية إلى فوضى وتضييق على محاولات التجديد وحرية المبدعين.
ومع ذلك يمكن القول بأن طرح الغياب السوسيولوجي يمكنه أن يسهم في إعادة النظر في أطراف العملية الإبداعية: المؤلف والنص والجمهور. فغياب أي طرف من هذه الأطراف سوف يعني معاودة النظر في إمكان دراسته وفهمه والاستدلال عليه، أو التشديد على مدى جدواه أو الاستعاضة عنه.
ولذلك ألا يأخذنا سؤال الغياب نحو التساؤل عن كيف يمكن دراسة الجمهور المحتمل للنصوص غير المنشورة. ما هو هذا الجمهور المحتمل، وهل إذا وجدت هذه الأعمال طريقها للنشر أن تخلق أثرا عند متلقيها، هل تجد صدى يمكن بحثه ودراسته والعمل على فهمه. هل ستجد أفقًا جديدًا لها لتأويلها على نحو يجدد حضورها، أم أنها ستجد ذات المصاعب بحيث يصعب نشرها، ما يؤسس للقول بأن جمهور هذه الأعمال، أو سياق تداولها لم يوجد بعد، ومن ثم يمكن البحث عن السبل التي تعين على إيجاده وتفعيله، ومن بإمكانه أن يلفت الانتباه إلى هذه الأعمال، ومن يستطيع صناعة هالة تلقيها، ونشرها، وفتح أبواب تلقيها، رغم مخالفتها للمتوقع والمعتاد لصيغ التلقي الجاهزة.
وانطلاقًا مما يطرحه اسكاربيت من أن “أي أديب عندما يكتب يستحضر في وجدانه جمهورًا ما”([23])، فإن السؤال المهم هنا كيف يمكن دراسة هذا الجمهور المجهول، جمهور النصوص غير المنشورة، والتعرف إلى ملامحه، أي كيف يمكن التعرف على الجمهور دون أن يكون له وجود في نص لم يجد طريقه للنشر، لأسباب تتصل بالصعوبات التي أوردها السيد يسين. وما هي النصوص التي يغيب عنها جمهورها. هل يوجد بالفعل هذه النوعية من النصوص. هناك حقًا مجموعة من النصوص التي تفتقد إلى جمهورها، يمكن تحديدها على النحو التالي:
- النصوص التجريبية التي تتجاوز بنيتها وجمالياتها ولغويتها وأسلوبيتها ما استقر في الأذهان واعتادت عليه المؤسسة الأدبية من تصورات قارة حول ما يجب أن يكون عليه الأدب. إنها النصوص التي تعيد طرح ذات الأسئلة القديمة مرة أخرى، وتجيب عنها بطريقتها. فما الأدبي، وما الجميل، وما دور الأدب، وأين موقعه من الجمهور، وما النقد، وما دوره… إلخ.
- النصوص المنتجة بمكان وتستهدف جمهورًا ومتلقين بعينهم، ولا تجد جمهورًا في موطن إنتاجها، فيما تجد هذا الرواج والعناية والاهتمام في مكان آخر، بالإقبال عليها بالقراءة والنقد والدعم الأدبي.
- النصوص العابرة لأزمان إنتاجها، حيث تتعرض للإهمال في زمنها الخاص، ويهملها التاريخ الأدبي، بينما يتم استعادتها في زمن آخر، وإعادة توظيفها، بكل الطرق والأساليب المختلفة. كما هو الحال مثلًا مع المجموعة القصصية “حيطان عالية” لإدوار الخراط، التي أنتجت في الخمسينيات، وأعاد أبناء جيل الستينيات اكتشافها مرة أخرى، واعتبارها سندهم في رؤيتهم. والأمر ذاته ينطبق على محاولات التأصيل لقصيدة النثر، أو التأصيل للحداثة الأدبية والنقدية، باستعادة النصوص الأدبية والنقدية كما هو الحال مع نصوص عبد القاهر الجرجاني، وأبي نواس، وأبي نواس، ونصوص المتصوفة، كابن عربي والنفري.
- النصوص العابرة للأنواع الإبداعية بحيث يمكن تعديلها وتكييفها في حدود النوع المستعملة فيه، وحدود التصورات المسبقة عن جمهوره والمتلقين المحتملين. فهل يمكن مثلًا التمييز بين جمهور نص العذراء والشعر الأبيض لإحسان عبد القدوس، وهو عمل قصصي مكتوب، وجمهور ذات النص وهو عمل سينمائي. كذلك هل يمكن التمييز بين جمهور نص زقاق المدق لنجيب محفوظ وهو عمل روائي، وجمهوره وهو عمل سينمائي أجنبي كما هو الحال في الفيلم المكسيكي الذي حمل نفس العنوان.
- النصوص المترجمة من ثقافة إلى ثقافة أخرى. حيث أن الجمهور الذي قرأ النص في صيغته الأصلية، يختلف في تلقيه اللغوي والذوقي والجمالي وظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن الجمهور الذي يتلقى ذات العمل بلغة أخرى لها جمالياتها ورؤيتها، وله هو ذاته سياقه وأوضاعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
علاوة على ذلك، هناك إمكانية لغياب المؤلف، ما يجعل من الصعوبة بمكان الحديث عن فاعلية المؤلف وقصديته. إذ يوجد نصوص بلا مؤلفين، ويصعب في الحقيقة التعرف إلى المؤلف الأصلي لها. ويبدو مستحيلًا على الباحث السوسيولوجي التعرف كما أراد السيد يسين على المؤلف أو النظر في أصوله الاجتماعية والطبقية، ناهيك بما ارتبط بمطلب المؤلف ومقولته من مراجعات نقدية عديدة، والتشكيك في جدواه كمقولة علمية قابلة للتحليل. ولا يقتصر الأمر على النصوص المجهولة مؤلفها، بل والنصوص متعددة المؤلفين، ويمكن تمييزها إلى أشكال:
- النصوص الشفوية الشعبية كالأمثال والنكات والقصص والأساطير، وما يتم تناقله على شبكة الانترنت من نصوص تجمع بين الصوت والصورة، والشائعات التي تحاك حول أحداث حقيقية. وقد بذلت محاولات لرد هذه النصوص للطبقة أو لشعب من الشعوب، أو للفئات المحرومة أو المستبعدة.
- النصوص مختلقة المؤلف، حيث قام مؤلفها بالتوقيع عليها باسم مغاير غير اسمه الحقيقي، لأسباب تتصل بصعوبة إعلانه لهويته. والأمثلة على ذلك كثيرة. منها أمثلة لكاتبات عربيات مارسن الكتابة بأسماء رجال، كما فعلت مي زيادة في مرحلة من مراحل حياتها الصحافية، أو نجدها آلية متبعة في بعض الصحف.
- النصوص متعددة المؤلفين، على نحو ما نجد في النصوص المؤلفة من أكثر من مؤلف. منها نصوص غير أدبية ككتاب في الثقافة المصرية لأمين العالم وعبد العظيم أنيس، وأعمال قصصية وشعرية. منها أحد النصوص التي جمعت بين زهير ابن أبي سلمى وابنه كعب، وآخر أورده الأنثربولوجي الأمريكي شيلكه حول أحد الشعراء المتصوفة الذي حلم بمريديه يروي عليه نصًا شعريًا.
اقرؤوا أيضاً أدب الطفل العربي: المفهوم وتاريخه وسمات النوع
قد يهمكم أيضاً دور التراث الثقافي في تحقيق التنمية السياحية المستدامة – مقاربة أنتربولوجية
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الأدب #السيد_يسين #النقد_الأدبي #التحليل_السوسيولوجي_للأدب #علم_اجتماع_الأدب #سوسيولوجيا_الأدب
المصادر:
(*) محمود أحمد عبد الله: مدرّس (خبير) في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية – مصر.
البريد الالكتروني: mandourway@yahoo.com
المراجع
([1]) محمد حافظ دياب، سوسيولوجيا الأدب: مسألة نقدية، مجلة (المنار)، العدد (57)، 1989، مطبعة الأهرام التجارية، القاهرة، ص31.
([2]) صبري حافظ، أفق الخطاب النقدي: دراسات نظرية وقراءات نقدية، القاهرة، دار شرقيات، 1996، ص ص 137-138.
([3]) المرجع السابق، ص ص 137-138.
([4]) محمود أمين العالم، ثلاثية الرفض والهزيمة: دراسة نقدية لثلاث روايات لصنع الله إبراهيم، القاهرة، دار المستقبل العربي، ص ص 9-10.
([5]) صبري حافظ، مرجع سابق، ص 141.
([6]) محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، في الثقافة المصرية، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، الطبعة الثالثة، 1989، ص108.
([7]) Edward Said, A Sociology of Mind, Partisan Review 33, no. 3, Summer 1966, PP.444-448.
([8]) السيد يسين، التحليل الاجتماعي للأدب، القاهرة، دار العين، الطبعة الثالثة، 2007، ص ص 89-94.
([9]) يراجع التمييز بين القصد والدلالة في :
بول ريكور، من النص إلى الفعل، ترجمة محمد برادة وحسام بورقية، القاهرة، عين للدراسات والبحوث، 2001.
([10] )zygmunt Bauman and Riccardo Mazzeo, In Praise Of literature, USA, Polity Press, 2016, PP.
([11]) السيد يسين، مرجع سابق، ص 7.
([12]) المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
([15]) Zygmunt Bauman, What use is sociology, Cambridge, Polity Press, 2014, PP.24-25.
[16]) Ibid, P.26.
([17]) تزفيطان طودروف، الأدب في خطر، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، المغرب، دار توبقال للنشر، ص ص 43-48.
([18]) السيد يسين مرجع سابق، ص ص. 125-126.
([19]) J.T. Leerssen, Imagology: History and method, In:” Imagology: The cultural construction and literary representation of national characters. A critical survey”, Edited by J.T. Leerssen and M. Beller, Amsterdam, Studia Imagologica, 2007,P.19.
Available at: http://www.imagologica.eu/pdf/historymethod.pdf
([20]) السيد يسين، مرجع سابق، ص 168.
([22]) بيير زيما، النقد الاجتماعي، ترجمة عايدة لطفي، القاهرة، دار الفكر، 1991، ص 42.
([23]) روبير إسكاربيت، سوسيولوجيا الأدب، بيروت، عويدات للنشر والطباعة، الطبعة الثالثة، 1999، ص105.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.
مقالات ذات صلة
0 Comments
Add comment إلغاء الرد
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.
شكرا على كرمكم المعرفي.
شكرا
طيب
تمام