أولاً: حرب الروايات
صاحبت الحربَ الإسرائيلية على غزة حربٌ إعلامية ونفسية استُخدِمَت فيها الرواية والترويج بوصفهما أداتين من أدوات الحرب، فقد روّجت إسرائيل رواياتها عبر الإعلام والدوائر الدبلوماسية من أن دوافعها تتصل بمقتل ثلاثة من المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية (قرب الخليل) في 12 حزيران/يونيو 2014، على أيدي فلسطينيين يُعتَقَد أنهم ينتمون إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، حيث اعتبرت ذلك عدواناً يستحق منها الرد والمواجهة بوصفه «عملاً إرهابياً».
وقد عبّر جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة عن قناعته بالرواية الإسرائيلية في حينها، وهو ما دفع الدولة العبرية إلى شنّ حملة اعتقالات واسعة في الضفة الغربية في صفوف المتعاطفين مع حركة حماس، بمن فيهم من أُفرج عنهم بصفقة تبادل الأسرى (شاليط) بين حماس وإسرائيل، ثمّ شنّت الأخيرة اعتداءات على قطاع غزة «لتأديب حماس» – على حد قولها – بترجيحها أن التعليمات التي صدرت لمنفذي الحادث جاءت من قطاع غزة.
غير أن تطور الأحداث وسياقها دحض هذه الرواية من أساسها ووضّح أن إسرائيل وسياساتها في كلٍّ من الضفة الغربية وغزة هي ما يشكل عدواناً واضحاً متواصلاً على الفلسطينيين، وهي سياسات وإجراءات طابعها الأساسي العقوبات الجماعية لمجمل الفلسطينيين، ويرقى بعضها إلى جرائم الحرب.
ففي الضفة الغربية التي تعاني وطأة الاحتلال استُشْهِد منذ بداية العام 2014 وحتى بداية حزيران/يونيو من العام نفسه خمسة أطفال فلسطينيين على أيدي قوات الاحتلال، فضلاً عن استمرار إسرائيل في مصادرة الأراضي الفلسطينية، وتوسيع عمليات الاستيطان والتهويد، وتقييد حركة التنقل، واستمرار عمليات التوغل والاعتقالات وتوسيعها، خاصةً عقب إعلان خبر اختفاء المستوطنين الثلاثة.
أما في قطاع غزة، حيث تفرض إسرائيل حصاراً اقتصادياً خانقاً على الفلسطينيين منذ العام 2007، فقد استمرت دولة الاحتلال في إغلاق المعابر وتقييد حركة الفلسطينيين براً وبحراً، كما شنت أكثر من خمس حملات عسكرية وحروب منذ ذلك العام، في محاولة منها لإفشال حركة حماس في غزة وإخضاعها، فضلاً عن أنها لم تلتزم بتفاهمات القاهرة عام 2012، والتي كانت تتضمن رفع الحصار الإسرائيلي عن غزة وتسهيل حياة الفلسطينيين في القطاع.
بدأت إسرائيل حربها على قطاع غزة باستهداف ستة من أعضاء حركة حماس في منطقة رفح يوم 6/7/2014، ما أدى إلى مقتلهم جميعاً، ولتُضم الحادثة إلى حوادث سابقة أقل أهمية في خرق التفاهمات التي وُقِّعت بين الطرفين عام 2012، وفي ظل رد فلسطيني محسوب على هذا العدوان أطلقت عدة رشقات من الصواريخ استهدفت المدن الإسرائيلية، وإثر ذلك قامت الطائرات الحربية الإسرائيلية بشن سلسلة من الغارات على قطاع غزة يوم 7/7/2014، لتبدأ إسرائيل حربها العدوانية مستندة إلى فرضيتين: أولاهما أن حركة حماس تعاني وضعاً صعباً نظراً إلى اعتبارات إقليمية على رأسها تغيير نظام الحكم في مصر وتوقّف الدعم الإيراني، وثانيتهما أن هذا الوضع يُشكّل فرصةً لإسرائيل لاستعادة «قوة الردع». ومن هنا بدأت إسرائيل الحرب وفي تقديرها أن حماس لن تصمد أكثر من أيام عدّة.
وخلال الحرب روّجت إسرائيل كثيراً من الروايات الكاذبة أو المحرَّفة، أهمها أن المقاومة الفلسطينية هي من يرفض وقف القتال، غير أن من يراقب الوضع السياسي في إسرائيل يجزم بأنه لم يكن ممكناً وقف هذه الحرب من قِبل إسرائيل التي كانت تُعِدّ لتوجيه مزيد من الضربات، خاصةً في ظل تأييد الرأي العام الإسرائيلي للمضي قُدُماً في الحرب، وبوجود المزايدات في سياق اليمين المتطرف الإسرائيلي الحاكم، وعلى رأسه ليبرمان وبينيت.
ثانياً: الظروف والتحديات في ضوء الحرب
خاضت إسرائيل والمقاومة الفلسطينية حرب غزة 2014 في ضوء عدد من الظروف والتحديات التي واجهت كل منهما، فضلاً عن عناصر القوة التي يتمتع بها كل طرف.
1 – عناصر القوة لدى الطرفين
تبني إسرائيل نظريتها الأمنية على ثلاثة عناصر رئيسة: أولها القوة الذاتية، وهي قوة الدولة المادية والبشرية، وثانيها قوة الحليف الاستراتيجي، وثالثها القوة التي تكتسبها من تشتيت قوى العدو أو تحييدها. وللتأكيد، فإن إسرائيل تمتلك قوة عسكرية كبيرة ذات إمكانات تنظيمية وتسليحية وتدريبية وتكنولوجية متطورة، فهي تعد أكبر قوة إقليمية، وتضاهي قوات الدول العظمى، واستطاعت بهذه القوة في حروب سابقة التفوق على مجموع القوى العسكرية العربية الرسمية.
أما المقاومة الفلسطينية التي تتمركز بشكل رئيس في قطاع غزة، فقد استطاعت السياسة الإسرائيلية التي تتصف بـ «قوة السياسة عالمياً، وسياسة القوة إقليمياً» أن تحقق إنجازاً في حصر الجغرافيا التي تتحرك المقاومة الفلسطينية ضمنها وتحجيمها، من خلال الضغط على دول الطوق العربي بشكل خاص، وتحميلها مسؤولية أي عمليات عسكرية تنطلق عبر حدودها أو أراضيها ضد إسرائيل، وهو ما عبّر عنه نتنياهو في كتابه وطن تحت الشمس عندما أكد أن القوة العسكرية الإسرائيلية هي التي أجبرت النظام الرسمي العربي على التخلي عن المواجهة العسكرية وترك خيار المقاومة واللجوء إلى عقد الاتفاقات السلمية مع إسرائيل.
ولذلك، فإن تخلي النظام الرسمي العربي عن واجباته القومية تجاه القضية الفلسطينية وانحسار الصراع في الإقليم ما بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، هو الذي أدى بقوى المقاومة الفلسطينية أن تبقى وحيدة في مسرح العمليات، وأن تقع عليها وحدها مسؤولية إدارة الصراع العسكري مع إسرائيل، وهذا ما جعلها تعتمد على قدراتها الذاتية.
ورغم صعوبة الظروف المحيطة فإن المقاومة استطاعت أن تؤمِّن مجموعة من عناصر القوة لتعتمد عليها، ومن أبرزها: شرعية مقاومة المحتل، ورفع كلفة الاحتلال مادياً وبشرياً، وكشف الأمن الإسرائيلي على مستوى الدولة والفرد، وهو ما يمكن أن يشكل ضغطاً على إسرائيل باتجاه إعطاء الفلسطينيين حقوقهم أو جزءاً منها مقابل الحصول على الأمن والاستقرار.
ونتيجةً للظروف المحيطة بقطاع غزة المشار إليها فإن المقاومة الفلسطينية وجدت نفسها للاعتماد على قدراتها الذاتية، الأمر الذي انعكس إيجابياً على التصنيع العسكري من ناحية، وعلى ابتداع أساليب عسكرية لمواجهة قوات الاحتلال من جهة أخرى، حيث أوقعت بها خسائر كبيرة على المستوى العسكري بلغت أكثر من 1636 ضابطاً وجندياً جريحاً و74 قتيلاً عسكرياً حسب المصادر الإسرائيلية الرسمية.
2 – الظروف الإقليمية والدولية
يمكن القول إن الوضع الإقليمي والدولي بدا مناسباً جداً لشنّ عمليات عسكرية من قبل إسرائيل على المقاومة الفلسطينية والانفراد بها ضمن جغرافيا محددة، ففي الوقت الذي تنشغل فيه كثير من دول العالم بقضاياها الداخلية المختلفة، وبعض القضايا الإقليمية والدولية الأخرى، وجدت إسرائيل الفرصة سانحةً، حيث شجّعها هذا الظرف والتقدير السياسي العام والوضع العربي على شنّ حربها على قطاع غزة وتكثيف الإجراءات الأمنية والعسكرية المختلفة في الضفة الغربية.
كما أن إسرائيل حاولت افتعال الأحداث وتطويرها لتبرير حربها على المقاومة الفلسطينية، حيث لم يكن الحليف الاستراتيجي لإسرائيل، والمتمثل بالإدارة الأمريكية، بحاجة إلى مبررات لدعم مواقف إسرائيل في ظل غياب موقف عربي موحد يمكن أن يردع إسرائيل، إضافة إلى محدودية جغرافيا عمليات المقاومة العسكرية، ومحدودية عمقها الاستراتيجي، وقطع خطوط إمدادها، وتضييق الحصار على قطاع غزة، وبشكل خاص بعد أحداث 3 يوليو/تموز 2013 في مصر.
ونظراً إلى هيمنة الإدارة الأمريكية على مجلس الأمن والهيئات والمنظمات الدولية، فقد جاءت قرارات المجلس باهتة وغير ملزمة، بل وكانت أحياناً كثيرة تصب في المصلحة الإسرائيلية عندما تساوي بين الطرفين (المعتدي والمُعتَدى عليه).
ورغم ذلك فإن التحرك الشعبي على مستوى العالم كان لافتاً لناحية إدانة استهداف إسرائيل الواضح للمدنيين والبنى التحتية، وبشكل خاص مدارس الأنروا ودور العبادة، كما أن بعض دول أمريكا الجنوبية استدعت سفراءها تعبيراً عن استنكارها للعدوان الإسرائيلي.
3 – الموقف العربي
يمكن وصف موقف النظام العربي الرسمي تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة بتعبير «اللاموقف»؛ فهذه الحرب، غير المبررة سياسياً ولا عسكرياً ولا أخلاقياً، تعدّ الأشرس والأشدّ تدميراً ودموية مقارنةً بسابقاتها، حيث لم تعمد البلدان العربية إلى دعوة مجلس الجامعة العربية لعقد قمة طارئة ولو شكلياً لمناقشة الحرب والعدوان الإسرائيلي.
ويمكن تلخيص مواقف البلدان العربية بما يلي:
أ – جاءت مواقف الدول الموقعة على اتفاقيات تسوية سلمية مع إسرائيل (السلطة الفلسطينية ومصر والأردن)، وكما هو متوقع، متأثرة بنصوص اتفاقاتها الثنائية مع إسرائيل، والتي تتطلب منها أشكالاً من العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية مع إسرائيل، وإن كانت مواقف الدول المشار إليها متفاوتةً في التعامل مع العدوان، حيث كانت مصر ضاغطةً على حركة حماس باتجاه الموافقة على المبادرة المصرية، أما السلطة فانتظمت في وفد موحد للتفاوض حول التهدئة، بينما قدمت الأردن مساعدات إغاثية عاجلة.
ب – حاولت قطر، وبالتشارك مع تركيا، وقف العدوان الإسرائيلي وتجريمه، وكان لها جهود واضحة على المستوى الإقليمي والدولي والعربي من خلال المساعدات التي قدمتها، إضافة إلى الموقف الإعلامي من خلال فضائية الجزيرة، والموقف السياسي الرسمي.
4 – موقف الشعوب العربية
جاءت مواقف الشعوب العربية داعمة للمقاومة من خلال التظاهرات والفعاليات اليومية المتجددة، إلا أنها لم تتمكن من التأثير في قرارات الأنظمة العربية ومواقفها، بسبب اختلاف القوى السياسية فيما بينها لاعتبارات أيديولوجية، وبسبب ضعف التفاعل الجماهيري معها، رغم بعض الاستثناءات المحدودة.
ثالثاً: إدارة المستوى السياسي للحرب
1 – إدارة المستوى السياسي الإسرائيلي للحرب
بعد توقف الحرب التي استغرقت أكثر من خمسين يوماً، بات من الطبيعي أن تبدأ إدارة إسرائيل في تحليل نتائجها، وعمّا إذا كانت قد حققت الأهداف التي تحدثت عنها في الأيام الأولى. ومن خلال البحث والتحليل تتضح عدة حقائق، أهمها:
أ – لم يتحقق الهدف الرئيسي للحرب بردع حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، وهو ما صرّح به القادة الإسرائيليون وعلى رأسهم رئيس الوزراء نتنياهو، وهو ما قاله المحلل الصهيوني شمعون شيفر: «بعد 51 يوماً من العدوان الذي قُتِل فيه عشرات الجنود الإسرائيليين، إلى جانب تدمير أسلوب حياتنا اليومية، ووضع البلاد في محنة اقتصادية، كنا نتوقع أكثر من إعلان وقف إطلاق النار… إذ كنا نتوقع أن يذهب رئيس الوزراء إلى مقر الرئيس ويبلغه بقرار الاستقالة من منصبه».
ب – ظهر التخبط في إدارة الحرب من قبل الحكومة الإسرائيلية وعدم التنسيق في التصريحات التي خرجت من قبل نتنياهو ووزرائه والقادة العسكريين، وظهر نتنياهو وكأنه يريد إخفاء الحقائق عن الإسرائيليين والخسائر التي تكبدها الجيش الإسرائيلي، ما جعل الجمهور الإسرائيلي يفقد ثقته بتصريحات هؤلاء المسؤولين ولا يميل إلى تبني الرواية الرسمية، وتنتشر هذه الأجواء بصورة خاصة وسط قاعدته الانتخابية وفي أوساط اليمين الإسرائيلي، وليس في صفوف المعارضة، الأمر الذي شكل له – أي نتنياهو – تحدياً سياسياً كبيراً لم يكن يتوقعه، ووصل إلى الحدّ الذي جعل بعض المعلقين الإسرائيليين يقولون إن غزة ليست وحدها التي تحتاج إلى إعادة إعمار من جديد، بل صورة نتنياهو أيضاً، والتي عُمِل عليها لسنوات طويلة بوصفه السياسي الذي سيقضي على حركة حماس والمقاومة في قطاع غزة.
ج – أحدثت الحرب شرخاً في مواقف أعضاء الائتلاف في حكومة نتنياهو المكوّنة من أقصى أطراف اليمين الإسرائيلي، ولم ينتظر وزراء الحكومة الإسرائيلية وقف الحرب لكي ينتقدوا المعركة العسكرية التي خاضها الجيش الإسرائيلي وأداءه فيها، بل ظهرت الخلافات التي تحدّث عنها الإعلام الإسرائيلي منذ الأسبوع الأول للعدوان، خاصة بين زعيمي حزب البيت اليهودي نفتالي بينت، وحزب إسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان، ووزير الدفاع موشيه يعلون، ما أثّر في شعبية تلك الأحزاب في الانتخابات الإسرائيلية التالية. وقد أظهرت الحربُ إسرائيل منقسمة إلى معسكرين: معسكر الذين يعتقدون أن العملية حققت نجاحاً كبيراً وأن إنجازاتها المستقبلية ستتضح بعد انقشاع غبار المعارك، ومعسكر الواثقين بأن العملية كانت تضييعاً كبيراً للفرصة وأن إسرائيل ستدفع ثمنها غالياً. وينتمي قادة العملية نتنياهو ويعلون وغانتس والقيادة العليا للجيش الإسرائيلي وقيادة الشاباك إلى المعسكر الأول، أما المعسكر الثاني فيضم المعارضين ليبرمان وبينت والصقور في الليكود، وكان أغلب المعلقين والمحللين من خارج المعسكرين.
د – لم تنجح الحكومة الإسرائيلية في إفشال المصالحة الفلسطينية، بل إنها أُجْبِرت على التفاوض غير المباشر مع وفد فلسطيني موحد، وهي التي عملت على إفشال المصالحة منذ الأيام الأولى للتوقيع عليها، وظهرت الجبهة الفلسطينية موحدة، بينما كانت الجبهة الإسرائيلية خلاف ذلك، وزادت شعبية حماس وقادتها، بينما تراجعت شعبية الليكود الإسرائيلي بزعامة نتنياهو.
هـ – أدّى فشل الحكومة الإسرائيلية في إدارة الحرب إلى توتر العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة، وإلى تسريب الاتهامات الشخصية بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونتنياهو، وتأجيل موعد وصول شحنات السلاح من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، وعكس ذلك مدى عمق التوتر في العلاقات؛ حيث تباينت التقديرات بين الطرفين حول الحرب واتجاهاتها وأهمية وقفها وكيفية الخروج منها.
و – رفعت الحكومة الإسرائيلية شعار عدم التفاوض قبل أن تُوقف حماس صواريخها باتجاه إسرائيل، ولكنها – أي إسرائيل – اضطرت إلى التفاوض على وقف النار تحت النار، وهو ما لم يكن ليتم في حروب إسرائيل السابقة مع البلدان العربية.
مما سبق يبدو واضحاً أن إسرائيل فشلت في إدارة الصراع مع الفلسطينيين خلال عدوانها على قطاع غزة، وأن إدارتها للحرب عانت كثيراً الارتباك والارتجال، ما أثر في الأداء الميداني العسكري لتبقى قوات الجيش الإسرائيلي في المعركة تقدِّم الضحايا بلا تحقيق أهداف عملية سوى قصف المدنيين وقتلهم وتدمير المساكن والمؤسسات.
2 – إدارة المستوى السياسي الفلسطيني للحرب
أ – أوضاع سياسية معقدة
انطلقت المواجهة الأخيرة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة في ظل أوضاع معقدة، ويمكن إبراز ملامح البيئة السياسية القلقة إقليمياً ودولياً.
فعلى المستوى الإقليمي سادت المنطقة حالة من التفكك والانقسام والضعف عقب الصراع بين مؤيدي الربيع العربي ومحور ما سُمِّي بالثورة المضادة، والتي أفضت إلى أوضاع صعبة في أكثر من دولة عربية، وعزّزت حالة الاستقطاب والتوتر بين المحاور الإقليمية في المنطقة، حيث تبلور محوران: الأول يضم السعودية ومصر والإمارات العربية ولا يقف مع المقاومة، والآخر يضم قطر وتركيا ويتمتع بعلاقات وثيقة مع الحركات الإسلامية وحركات المقاومة الفلسطينية، وقد أدت تداعيات المواجهة الأخيرة في غزة إلى زيادة حالة التوتر والاستقطاب بين المحورين.
وعلى المستوى الدولي استحوذ تصاعد الخلاف الروسي – الغربي بخصوص الأزمة في أوكرانيا على الاهتمام طيلة فترة المواجهة في غزة، قبل أن تقفز قضية مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية وحشد تحالف دولي للتعامل مع تهديدها إلى صدارة المشهد السياسي إقليمياً ودولياً.
ب – تباين موقف السلطة عن موقف فصائل المقاومة
تباين الموقف السياسي لقيادة السلطة الفلسطينية إزاء الضغط الإقليمي والدولي عن موقف فصائل المقاومة في بداية الحرب، وتجلّى ذلك بصورة واضحة حين سارعت السلطة إلى الترحيب بالمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار فور إعلانه، في الوقت الذي رفضت فيه كل فصائل المقاومة تلك المبادرة.
وفي وقت لاحق حصل تطور في موقف المؤسسات القيادية في السلطة ومنظمة التحرير باتجاه تبني مطالب المقاومة كمطالب وطنية للشعب الفلسطيني، وتبع ذلك تشكيل وفد فلسطيني موحد للتفاوض بصورة غير مباشرة مع الجانب الإسرائيلي في القاهرة.
ورغم التباين في وجهات النظر داخل الوفد الفلسطيني الموحد أثناء عملية التفاوض، فإن الوفد نجح في الحفاظ على قدر معقول من المواقف المشتركة، وأسهم ذلك في تعزيز الموقف الفلسطيني في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والإقليمية وفي تمسك فصائل المقاومة بمطالبها وشروطها لوقف إطلاق النار، ما أتاح تحصيل سقف معقول من تلك المطالب أعلى بكثير من المبادرة المصرية الأولى.
ج – الوساطة بين الطرفين
شهدت قضية الوساطة للتوصل إلى وقف إطلاق نار بين إسرائيل وفصائل المقاومة تنافساً إقليمياً عبّر بصورة واضحة عن تجاذبات المواقف بين المحاور الإقليمية، ولا سيّما بين مصر من جهة، وكلٍّ من قطر وتركيا من جهة أخرى، لكن موقف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الرافض لأي وساطة غير مصرية أسهم في نهاية المطاف في حسم الجدل حول هوية الوسيط.
وقد شكلت الوساطة المصرية تماساً اضطرارياً بين حركة حماس التي كانت تفضل وساطةً قطريةً أو تركيةً أو دوليةً، والسلطات المصرية التي كانت تتخذ موقفاً متشدداً وتتمنّع عن التواصل مع حركة حماس. حيث وجدت القاهرة نفسها مضطرةً إلى استقبال قيادات الحركة ضمن تشكيلة الوفد الفلسطيني المفاوض، كما لم تجد حماس مناصاً من التعاطي مع الوساطة المصرية، ولكن وفق شروط جديدة، وساعدها في ذلك موقفها السابق في التحفظ عن مضمون المبادرة المصرية لا عن الدور المصري.
الموقف من مضمون اتفاق وقف إطلاق النار ومن جهود الوساطة أظهر تبايناً في الموقف بين حكومة نتنياهو وإدارة أوباما التي سعت منذ الأيام الأولى إلى وضع حد للمواجهة، وتواصلت مع قطر وتركيا لتحقيق ذلك، ما أفضى إلى تفاهمات طرحها فيما بعد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في مبادرته التي سارع الجانب الإسرائيلي إلى رفضها، ولم يخلُ الأمر من توجيه انتقادات علنية لكيري، وأدى ذلك إلى تراجع دور واشنطن في جهود الوساطة لوقف إطلاق النار وإلى قبول واشنطن بدور هامشي في مفاوضات القاهرة، وتركيز الوساطة في مصر دون غيرها، وبرغم تسريبات عن استياء نتنياهو من الدور المصري في غياب الإرادة عنده لوقف المعركة التي وصلت فيها إسرائيل إلى حد النزف بقوات جيشها، غير أن دور مصر قد فُرِضَ فعلاً، بل وبقي المرجعية لاستكمال المفاوضات على القضايا المتبقية وعلى تطبيق الاتفاق بين الجانبين.
رابعاً: إدارة المستوى العسكري للحرب
1 – إدارة المستوى العسكري الإسرائيلي للحرب
تمتلك إسرائيل واحدةً من أفضل وأقوى الترسانات العسكرية على مستوى العالم، مستفيدةً من الدعم العسكري التسليحي والتجهيزي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الأوروبية الغربية. ولذلك تُعدّ الدولة العبرية الأقوى على مستوى الإقليم من حيث العدد والنوع وفي كافة المجالات والصنوف؛ حيث إن الاستراتيجيا العسكرية الإسرائيلية تقوم من جهة على التفوق المطلق جواً، ومن جهة أخرى على التفوق القادر على إحداث الفرق المطلوب لتحقيق الأهداف العسكرية والسياسية في كل حرب تخوضها من جهة أخرى، وصولاً إلى تحقيق أهداف المشروع الصهيوني.
وإضافةً إلى التفوق العددي والنوعي المطلق للقوات الإسرائيلية فإن الاستراتيجيا العسكرية الإسرائيلية تتمتع بحرية العمل العسكري والاعتماد على منظومات عمل استخبارية استراتيجية وميدانية معززة بكافة الإمكانات الاستخبارية من الأقمار الصناعية إلى العملاء الأرضيين، إضافةً إلى التعاون الأمني والاستخباري العالمي والإقليمي الذي يجعل إسرائيل في وضع تخطيطي يخدم العمليات العسكرية.
كما أن الإعداد والتخطيط للعمليات العسكرية حالة دائمة ومستمرة في الاستراتيجيا العسكرية الإسرائيلية، خصوصاً ضد المقاومة الفلسطينية في غزة التي باتت تشكل عقبةً حقيقيةً أمام تحقيق أهداف المشروع الصهيوني، حيث تعرّض قطاع غزه الحاضن للمقاومة لحالة حصار خانق وحروب متكررة منذ العام 2007، فضلاً عن عمليات الاغتيال والتدمير الانتقائي للأهداف.
حشدت إسرائيل في الحرب الأخيرة أفضل ما لديها من قوات برية على مستوى قيادة المنطقة الجنوبية، وأربع قيادات فرق مدرعة وآلية بما لدى هذه القيادات من إمكانات قيادة وسيطرة وأسلحة إسناد ناري وإداري، وكذلك حشدت سبعة ألوية مدرعة وآليّة وخاصّة تضم قوات النخبة الإسرائيلية جولاني وجفعاتي وكفير والمظليين، كما حشدت أربعة ألوية مدفعية متوسطة وثقيلة ووحدات إسناد هندسي وإلكتروني وإداري، حيث يُقدّر عدد القوات التي تم حشدها بحوالى 70 – 80 ألف مقاتل، وتم استدعاء أكثر من 80 ألفاً من قوات الاحتياط على دفعات، كما تم حشد قواعد سلاح الجو الإسرائيلي وقاذفاته الاستراتيجية، وطائراته الهجومية العمودية والطائرات المُسيّرة القاذفة، وقد تم حشد القطع المدمرة البحرية للمشاركة بتدمير الأهداف في غزة، إضافةً إلى تشغيل كافة بطاريات القبة الحدودية المضادة للصواريخ؛ البالغة سبعة بطاريات، فضلاً عن حشد القدرات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية والإقليمية والدولية. بعد وقوع العدوان يومي 6 و7 تموز/يوليو عملت إسرائيل على وضع الدولة والجيش والجبهة الداخلية في حالة حرب من الدرجة الأولى، لا تحشد إسرائيل مثلها في كثير من الحروب التي خاضتها سابقاً. فأصبحت حرباً مقصودة لتحقيق أهداف حربية حسب الأعراف العسكرية العالمية.
2 – إدارة المستوى العسكري الفلسطيني للحرب
أما المقاومة الفلسطينية في غزة على اختلاف فصائلها والتي تتفاوت تقديراتها العددية بين المئات والآلاف بمجموع لا يتجاوز 20 ألفاً من الرجال المسلحين، فقد أظهرت الحرب الأخيرة أنها أعدت نفسها على كل الأصعدة للمواجهة الشاملة مع إسرائيل منذ زمن، ويبدو أنها قد أخذت العبر من الحربين السابقتين 2009 و2102 واستعدت لجولة حتمية كانت قادمة مع الاحتلال، فلما فرضت عليها الحرب في تموز/يوليو 2014 تعاملت معها بجاهزية عالية.
فبالرغم من سنوات الحصار الخانق وضعف الإمكانات، إلا أن المقاومة نجحت في تطوير النظام العسكري لقواتها ليصبح نظاماً متكاملاً من حيث القيادة والسيطرة والأدوات والتنظيمات العملياتية واللوجستية الداعمة، وكذلك من حيث البنى التحتية اللوجستية والدفاعية والهجومية؛ لا سيّما بناء شبكة الأنفاق، إضافةً إلى بناء أنظمة دفاعية استخبارية وأنظمة اتصال وتكنولوجيا معلومات.
كما نجحت المقاومة في تطوير قدراتها التصنيعية العسكرية لتصبح منتجةً لمنظومات الصواريخ بمديات مختلفة قريبة واستراتيجية، وأسلحة فردية وأنظمة إلكترونية لخداع أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي والطائرات المسيّرة، والتي حلّقت أثناء الحرب. والأهم من كلّ ذلك كان حالة الإعداد النفسي والمعنوي للمقاتلين وللشعب، ما انعكس إيماناً بالقضية وعقيدةً قتاليةً راسخةً، وكذلك حالة التنسيق والتواصل الميداني والعملياتي والإعلامي والاجتماعي البَيْنِي بين مُقاتلي المقاومة وبين المقاومة والشعب.
استطاعت المقاومة الفلسطينية في الساعات الأولى من العدوان استيعاب الصدمة الأولى وانتزاع زمام المبادرة الاستراتيجية باستهدافها مراكز الثقل الاستراتيجي في تل أبيب والقدس وبئر السبع في اليوم الثاني للحرب، فكانت هذه هي المفاجأة الاستراتيجية الأولى، تبعتها مفاجآت ميدانية بدأت بعمليات التسلل عبر البحر والساحل ووصولها إلى قاعدة عسكرية برية بحرية في العمق الإسرائيلي، ثم القصف المؤثر لتل أبيب، وتحليق الطائرات المسيرة، والنجاح في مواجهة صواريخ القبة الحديدية وإفشالها في كثير من الحالات (بلغت كفاءة القبة الحديدة حسب المصادر الإسرائيلية 16 بالمئة فقط)، ثم توالت المفاجآت الميدانية بالقدرة على تنفيذ عمليات ناجحة خلف خطوط العدو، ثم استدراج العدو إلى مواجهات برية قريبة وصفرية كبدته خسائر كبيرة لم يعهدها من قبل (1636 جريحاً و74 قتيلاً من العسكريين كما سبقت الإشارة). وهو ما يؤكد أن إدارة المقاومة للمعركة والعمليات وكل النشاطات الملازمة للحرب كانت على مستوى عالٍ من التكامل والتنسيق المبرمج، كما أن الشعب في غزة حقق المفاجآت الأهم من حيث قدرته على استيعاب الآلام والأحزان والدمار والتشرد وتوظيفها لتعزيز ودعم المقاومة.
كان الأداء القتالي للمقاومة محطّ تقدير الخبراء؛ حيث نجحت في إدارة الحرب من لحظتها الأولى وهو ما أربك خطط إسرائيل التي لم تنجح بفرض إيقاعها العملياتي، بل تحولت إلى رد الفعل، وظهر ذلك جلياً في نهاية الأسبوع الأول عندما نجحت المقاومة في استدراج الجيش الإسرائيلي إلى المرحلة الأولى من المعارك البرية، والتي كشفت عن كفاءة المقاومة في إدارة الحرب والقتال من خلال عمليات تسلل ومواجهة التحامية نوعية. كما قامت بعمليات إطلاق الصواريخ إلى الأهداف القريبة والبعيدة وتوقيتاتها وتجاوزت إمكانات القبة الحديدية وهو ما حوّل هذه الصواريخ إلى ذراع استراتيجية مقابل للقوة الاستراتيجية للردع الإسرائيلي.
وأثبتت المقاومة أنها تعمل بإدارة وتخطيط موقوت بعيدٍ من الارتجال أو الانفعال، حيث حافظت على ثبات أدائها ونجحت في تأسيس اتصال إيجابي ذي صدقية مع الرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي. وانعكس كلّ ذلك إيجاباً على الأداء الإعلامي المقاوم والمؤيد للمقاومة، والذي جاء مُكمِّلاً ومنسجماً مع الأداء الميداني، وحقق نتائج إيجابية على صعيد اختراق الرأي العام الإسرائيلي الذي فقد ثقته بإعلامه، وقد تجاوز الإعلام بتغطيته وانتشاره وتأثيره الإقليمي ليصل إلى أنحاء مختلفة من العالم، واستقطب الاهتمام وردود الفعل الداعمة للمقاومة، وقد أثبتت المقاومة أن الإعلام والحرب النفسية جزء أساسي من خطتها في الحرب الأخيرة، وأنها تستخدمها بكفاءة وذكاء وبالشكل والحجم والكيف المناسب غالباً.
نجحت المقاومة في المحافظة على وتيرة الاشتباك القريب والبعيد مع الطرف الإسرائيلي حتى اللحظة الأخيرة، الأمر الذي يعكس إدارة عمليات متميزة لقوة ومخزون استراتيجي مريح لم تتمكن الحرب الأخيرة من إلحاق ضرر كبير به، وظهر ذلك برشقات الصواريخ المركزة على المستوطنات المحيطة بغزة إضافةً إلى قاذفات الهاون التي أجبرت سكان المستوطنات على الرحيل عن أكثر من 38 مستوطنة حسب المصادر الإسرائيلية في الأيام الأخيرة للحرب، وقد يكون هذا المؤشر الأهم لفشل الحرب على غزة؛ حيث حافظت المقاومة على بناها اللوجستية والعملياتية ومخزونها من الصواريخ والأسلحة واستوعبت الخسائر المحدودة التي لحقت بها، ما يجعل احتمالات المواجهة العسكرية قائمة وغير بعيدة من حيث الزمن، وخصوصاً أن المقاومة أرسلت رسائل عسكرية هامة تشكل قاعدة مخاوف من إمكانات للمقاومة لم يتم استخدامها بعد. وكذلك فإن نجاح المقاومة في إنشاء شبكة الأنفاق الدفاعية والهجومية التي خدمت خطة العمليات الأخيرة يُشير إلى قدرة المقاومة على تطوير هذه المنظومة وتعديلها بما يخدم خطط العمليات القادمة، والتي من المؤكد أن المقاومة بدأت بالإعداد لها من لحظة انتهاء الحرب، والتي تُشير بعض الدلائل والوسائل العسكرية إلى أنها ستكون مختلفةً عن الحرب الأخيرة.
كما ظهرت خلال الحرب الأخيرة حالة من صراع الإرادات والتحدي المتبادل بين قيادة المقاومة والقيادة الإسرائيلية، فقد ظهر بوضوح سواءٌ من حيث تطور العمليات الميدانية أو أعمال إطلاق الصواريخ أو قرارات الموافقة على التهدئة أن المقاومة أظهرت قدرة عالية على فرض وجهة نظرها طوال فترة العمليات.
خامساً: الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين بعد الحرب
شكلت الوحدة الميدانية لمعظم فصائل المقاومة مَعْلَماً مهماً من معالم الحرب على الصعيد الفلسطيني، ولا شك في أنه سيكون لها انعكاسات مهمة على المرحلة القادمة أقلها أن هذه الفصائل لن تقبل أن يكون سلاحها موجهاً إلى الداخل الفلسطيني، وكان من المفترض أن يمثل الوفد الفلسطيني الموحد في المفاوضات مع إسرائيل رافعةً سياسيةً للوحدة الوطنية الفلسطينية تتجاوز سلبيات الماضي من جهة، وتُحمِّل الطرف الإسرائيلي مسؤولية استمراره في احتلال الأراضي الفلسطينية من جهة أخرى. غير أن التراشق الإعلامي على الساحة الفلسطينية عقب الحرب على غزة كشف عن الأزمة العميقة التي تعيشها القيادة الفلسطينية وعدم قدرتها على تحقيق الوحدة الوطنية بأي مستوى ممكن بعيداً من عقلية افتعال الأزمات لإرضاء الخارج برسائل على حساب الوضع الفلسطيني.
1 – أبرز الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين على الصعيد الفلسطيني
الخيار الأول: استكمال شروط تحقيق الوحدة الوطنية والمصالحة الشاملة بين مختلف الفرقاء ببرنامج سياسي للحد الأدنى وفق وثيقة الوفاق الوطني أو حتى من دونه، حيث إن تطبيق اتفاق المصالحة الموقع بين فتح وحماس، وتوحد فصائل المقاومة المسلحة في الحرب الأخيرة في غزة، ودخول مفاوضات وقف النار مع إسرائيل بوفد فلسطيني موحد، تشكل مدخلاً أساسياً لتحقيق الوحدة الوطنية في هذه الظروف المتغيرة في المنطقة، لكن التجربة التي عاشتها حكومة التوافق الوطني (حكومة الكفاءات من دون فصائل) خلال الشهور الثلاثة 6 – 8/2014 كشفت عجزها عن التعامل مع الأزمات، سواء ما يتعلق بأزمة الحملة الإسرائيلية الأمنية في الضفة الغربية إثر مقتل المستوطنين الثلاثة في حزيران/يونيو 2014، أو ما يتصل بمواقف الحكومة خلال الحرب الإسرائيلية على غزة.
وبرغم هروب الفصائل الفلسطينية من الاتفاق على حكومة ببرنامج سياسي محدد، غير أن اعتماد وثيقة الوفاق الوطني التي تم التوصل إليها سابقاً بين الفصائل مع بعض التعديلات، حيث لزم، ربما يسهل الذهاب إلى هذا الخيار، حيث يمثل هذا الخيار عندها المصالح الفلسطينية ومتطلبات حماية الشعب الفلسطيني، كما أنه يوفر للفلسطينيين جميعاً العمل معاً وبشراكة حقيقية على كل الصعد.
الخيار الثاني: استمرار الانقسام، والاتفاق على إدارة الخلافات والتقاطعات بأدنى حد من الصدام السياسي والإعلامي والأمني. يعمل هذا الخيار في حال فشلت الحوارات والمفاوضات الفلسطينية الداخلية بالتوصل إلى آليات عملية وفاعلة لإنهاء الانقسام، ويتضمن هذا الخيار اللجوء إلى توافقات على إدارة الخلافات والتعارضات بين البرامج والمواقف والمصالح بين الفصائل بالحد الأدنى، وأن يُتَفق على منع التراشق الإعلامي أو الحرب السياسية والتحريضية المفتوحة، إنْ عبر الاحتلال أو أي أطراف خارجية، كما يتم التوافق خلالها على خفض منسوب التنسيق الأمني مع الاحتلال ووقف عمليات الملاحقة الأمنية من قبل أجهزة السلطة لفصائل المقاومة في الضفة الغربية وغزة والخارج على حد سواء.
لا يُعدّ هذا الخيار حلاًّ للأزمة الفلسطينية القائمة، ولكنه يعالج جزءاً منها، وهو أقرب إلى تمرين على تحقيق نوع من التوافقات نحو التوصل إلى اتفاقات أشمل وأدوم في المستقبل، وهو هروب مناسب بمسمى وطني من استحقاقات إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية على أساس الثوابت الفلسطينية المعتمدة.
الخيار الثالث: استمرار حالة الاستقطاب وانفصال الضفة عن غزة، والتعامل مع القضية كل من زاويته ورؤيته. وهو ما يُعدّ خياراً محتملاً في حال عدم تمكن الأطراف من الوصول إلى خيارات مرحلية أقل مستوى من المصالحة التامة، وفق الخيار الثاني أعلاه أو الخامس من خلال التوصل إلى استراتيجيا فلسطينية عامة، أو الرابع في الاحتكام إلى الشعب ليُصار إلى إعادة بناء الوضع الفلسطيني الداخلي بكامله.
ويُعدّ خيار استمرار الانقسام وانفصال الضفة عن غزة خياراً لا يسعى إليه أي من الأطراف الفلسطينية لأنه لا يُمثّل مصلحةً وطنيةً، فضلاً عن أنه خيار لا تؤيده الأطراف العربية الأساسية المعنيّة بالقضية الفلسطينية.
الخيار الرابع: الذهاب إلى انتخابات مضمونة النزاهة لاختيار قيادة جديدة لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، حيث يمكن للجهة المنتَخَبَة تطبيق البرنامج الذي ترى أنه الأفضل. فالذهاب إلى الانتخابات المباشرة بقدر من الضمانات ترتضيها الأطراف هو السبيل الأكثر حسماً لتوجهات الشعب الفلسطيني، وهو الأكثر عمليةً بعيداً من المناكفات، ولتجاوز إشكاليات عجز حكومة التوافق.
ويُعدّ هذا الخيار الأفضل فلسطينياً في ضوء الجمود الذي يحيط باتفاق المصالحة، وتزايد التدخلات الخارجية لمنعها من الإقلاع لا سيّما مع تغيّر التحالفات الإقليمية، وربّما الدولية بخصوص متغيرات الربيع العربي وتعثراته وتنامي الجماعات المتطرفة، ما يجعل القضية الفلسطينية تتأخر كثيراً عن الأجندة العربية والإقليمية والدولية، بعد أن أعادتها الحرب الأخيرة إلى المقدمة بشكل مؤقت.
ويعني هذا الخيار تعديل لجنة الانتخابات المستقلة بتوافق وطني، وتوفير الوسائل اللازمة لها للتحقق من النزاهة وضماناتها، وأن تكون هذه الانتخابات بإشراف ورقابة دولية، وأن تشمل عملية الانتخاب كامل مؤسسات السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة والقدس وكذلك انتخاب كامل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية في الداخل والخارج بالتزامن.
ويمكن أن ينجح هذا الخيار في حال توافقت عليه القوى الفلسطينية مع أطراف عربية ذات صلة بالملف الفلسطيني، لتشكل حالة ضغط على المجتمع الدولي يجبر إسرائيل على تسهيل إجراء هذه الانتخابات كما حصل عام 2006، وربما تكون القناعة الأمريكية هي الأساس في ذلك.
لذا فإن هذا الخيار وبرغم أنه الأكثر ديمقراطية، غير أنه ليس خياراً فلسطينياً مستقلاً بالكامل، ويحتاج إلى دعم عربي ودولي وتجاوب إسرائيلي خاصة في الضفة الغربية والقدس. ويشكل هذا الخيار مصلحة مشتركة لكل من فتح وحماس، مع فوارق في الدوافع والتقديرات لكل منهما، كما يشكل فرصة جديدة للمجتمع الدولي ليختبر حقيقة التوجهات الفلسطينية في هذه المرحلة.
ورغم تفاوت حماسة الأطرف الفلسطينية حيال هذا الخيار، فإن التفكير بالمصلحة الوطنية وفق نظرية الشراكة التي تسبب غيابها في البلدان العربية بأزمات وصلت إلى حد الحرب الأهلية، ربما يمثل ضمانة للطرف الفلسطيني الأقل حماسة لهذا الخيار للخروج من حال الجمود إلى الفاعلية السياسية في إطار شراكة وطنية وبإطار فلسطيني أوسع.
الخيار الخامس: التوصل إلى استراتيجيا فلسطينية عامة، والعمل على تشكيل قيادة وطنية موحدة بالتوافق للإشراف على تحقيق هذه الاستراتيجيا التي تعدّ مرجعية لأي خلاف فلسطيني. ويمكن تحقيق هذا الخيار من خلال المفاوضات بين فتح وحماس وبقية الفصائل للتوصل إلى هذه الاستراتيجيا وبمشاركة خبراء فلسطينيين، ومن ثم تشكيل إطار وطني مرجعي للإشراف على تطبيقها. ويمكن لهذا الخيار أن يحقق الحد الأدنى من الوفاق الوطني المطلوب في هذه المرحلة بانتظار ظروف أكثر مواءمة ونضجاً لتحقيق مزيد الوحدة المؤسسية والفصائلية. كما يُعتبر هذا الخيار مخرجاً لكل من فتح وحماس يحول دون تقديمهما أي تنازلات تعتقدان بأنها كبيرة، كما يتيح المجال لمزيد من الوقت يعمل خلاله الطرفان على المسائل محل الخلاف ما قد يشكل بيئة أكثر صلاحية لبناء علاقات متماسكة، ويُقدَّر بأنه لو أعْطِيَ لهذا الخيار فرصة عامين من العمل أن يكون مجدياً، يمكن التوصل بعدها إلى رؤى خلاقة تضمن تقديم تنازلات فصائلية متبادلة بسهولة أكبر نحو وحدة وطنية أكثر تكاملاً.
2 – أبرز الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين في التعامل مع إسرائيل
الخيار الأول: استكمال المفاوضات حول التهدئة إلى حين تطبيق شروط الشعب الفلسطيني من الحرب الأخيرة. ويعدّ هذا الخيار محل توافق فلسطيني، وهو ما تحاول الفصائل الفلسطينية تفعيله، غير أن نتائجه محفوفة بالمخاطر لأسباب كثيرة من بينها: طبيعة وموقف الوسيط وقناعاته، والتحولات الكبيرة في البيئة الإقليمية لمصلحة إسرائيل، وأيضاً إظهار إسرائيل نوعاً من عدم الجدية في التوصل إلى اتفاق محدد ينهي الحصار، وعدم استعجال إسرائيل للتفاوض حول الأسرى في هذه المرحلة، يُضاف إلى ذلك أن إرادة رفع الحصار كلياً عن القطاع قد رُبِطت للمرة الثانية في مؤتمر إعادة الإعمار الذي انعقد في القاهرة 12 تشرين أول/أكتوبر بالموقف السياسي والأمني على الأرض، وهو الشرط المصري الذي رفضته فصائل المقاومة سابقاً لوقف إطلاق النار ورفع الحصار.
ولذلك فإن مسار التفاوض هذا لا يعطي مؤشرات إيجابية، لكنه فقط يُبقي الباب مفتوحاً على فرصة قد تتحقق، وهو بحاجة إلى دعائم أخرى ليس أقلها التحول الإيجابي في موقف الوسيط أو التغيرات في داخل إسرائيل بما يحرك مسألة الجنود الأسرى، ولذا فإن تحقق هذه الشروط لتحقق الخيار لا تبدو قريبة المنال لأنها تقع في دائرة معقدة من المصالح المتقاطعة والمتضاربة بين الفرقاء.
الخيار الثاني: في حال فشل المفاوضات يمكن الذهاب إلى مواجهة عسكرية محدودة أو شاملة تعيد إسرائيل إلى المربع الأول. يعتقد الإسرائيليون – كما الفلسطينيون – أن الجولة القادمة من المواجهة لا مفرّ منها في ظل المعطيات القائمة اليوم، وأن اتخاذ خط التفاوض على بقية القضايا والمطالب المتبادلة اعتُبر سبيلاً إلى ضمان تأخير هذه المواجهة؛ لكن بطء التعامل مع الشروط التي اتفق عليها بشأن المعابر وإعادة الإعمار والأزمة الاقتصادية في القطاع، وعجز حكومة الوفاق عن القيام بجهود حقيقية لإغاثة غزة، يدفع باتجاه تزايد التذمر من هذه الحال، ليكون من الطبيعي دخول مواجهة عسكرية محدودة سبيلاً إلى تنفيسها سواء بفعل بعض فصائل المقاومة أو بفعل الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة بشكل محدود كنوع من الرد عليها، وهو ما قد يطورها إلى حرب استنزاف تهرب إسرائيل من التعايش معها على حدودها الجنوبية، ولكن تحقق شروط هذا الخيار تتضمن عدداً من المتغيرات المتحركة التي لا تزال بحاجة إلى وقت حتى تستقر خلال الأشهر القادمة، وأهمها مآلات عمل التحالف الدولي ضد تنظيم داعش وتداعياته على المنطقة.
الخيار الثالث: الاتجاه لإطالة الخلافات في إطار المفاوضات مع إسرائيل بشأن اتفاق وقف إطلاق النار وانتظار قرار أممي بهذا الخصوص. ثمة توجه إسرائيلي مبكر يؤمن بأن الحرب الإسرائيلية وحدها غير قادرة على كبح جماح المقاومة الفلسطينية، ونظراً إلى تحقق هذه التوقعات العسكرية والأمنية لدى إسرائيل بعد انتهاء الحرب؛ فقد ظهرت توجهات لم تطالب بتحريك الملف على مستوى مجلس الأمن الدولي لإصدار قرار بخصوص وقف إطلاق النار يتضمن نزع سلاح المقاومة أو وضعه تحت الرقابة أو توحيده مع سلاح السلطة، وتشكيل لجان دولية للإشراف على ذلك مثلما حصل في حرب عام 2006 مع المقاومة اللبنانية بقرار من مجلس الأمن يحمل الرقم 1701. ويلزم لنجاح هذا التوجه عدم التوصل إلى نتائج مهمة بالمفاوضات الثنائية عبر الوسيط المصري في القاهرة لاستكمال شروط وقف إطلاق النار، كما يلزم ذلك بيئة دولية مواتية غير منشغلة بحرب عالمية على ما عرف بتنظيم الدولة الإسلامية التي حشد لها المجتمع الدولي والعربي والإقليمي قوته، والتي قد تُفضي إلى الضغط على حركة حماس في النهاية لوضع السلاح أو تحجيمه.
الخيار الرابع: اتجاه المقاومة إلى جر إسرائيل إلى حرب استنزاف دائمة بمستوى محدود لا يسمح لإسرائيل بالتصعيد الكارثي، لكنه لا يوفر لها الأمن في المستوطنات الجنوبية. في ضوء بقاء الحصار على غزة الحقيقة الأبرز بعد انتهاء الحرب؛ سواء أدارته الأمم المتحدة أو إسرائيل أو السلطة الفلسطينية أو مصر، فإن الفلسطينيين سوف يسترجعون ثقافة المقاومة لإنهاء الاحتلال وفك الحصار. ونظراً إلى حرص فصائل المقاومة على نزع الذرائع الإسرائيلية، وللتخفيف على سكان القطاع من نتائج الاعتداءات الإسرائيلية، يُتوقع أن يتجه التفكير لدى هذه الفصائل إلى جر إسرائيل إلى حرب استنزاف دائمة ومفتوحة، لا تسمح بالتصعيد الساخن جداً ولكنها لا توفر الأمن لإسرائيل، ما يجعل وضع إسرائيل قلقاً وغير آمن ويحفز الضغوط المجتمعية والأمنية على قيادتها من جديد، فيدفعها إلى فتح ملفات التفاوض بشأن استكمال شروط التهدئة وفك الحصار من جهة، وبشأن الأسرى الإسرائيليين مقابل الأسرى الفلسطينيين من جهة أخرى، وربما يجد هذا المسار تشجيعاً أمريكياً عندها لمنع الأعمال العسكرية من التفاقم والتصاعد لدرجة إرباك البرنامج الأمريكي وحلفائه في إعادة ترتيب أوراق المنطقة وهيكلة أنظمتها بما يحجِّم أفكار وتوجهات القوى الثورية في دول الربيع العربي والدول الأخرى ذات الثقل.
3 – الخيارات الفلسطينية على الصعيد العربي
– أنْ تتحرك فصائل المقاومة لإعادة ترتيب علاقاتها العربية والإسلامية والدولية دبلوماسياً وشعبياً.
– أن تقدم الفصائل الفلسطينية رؤية سياسية مرنة للوضع الفلسطيني ولوقف إطلاق النار القابل للحياة، إضافة إلى استجلاب المساعدات الدولية والعربية لإعادة الإعمار في غزة.
– أن تستمر المقاومة الفلسطينية في الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، وألّا تنجرّ إلى الحروب المحلية أو الإقليمية التي لا علاقة مباشرة لها بالقضية الفلسطينية.
– العمل على الاستفادة من الحرب الأخيرة بنشر الوعي والثقافة التي تستند إليها المقاومة، والعمل على حشد الجهود لدعمها إلى حين إنهاء الاحتلال، بما في ذلك إعادة تسييل المساعدات العربية والإسلامية للشعب الفلسطيني ودون شروط سياسية.
4 – التعامل الإسرائيلي مع هذه الخيارات
لم تمثل الحرب الأخيرة على غزة حلاّ ناجعاً لـ «معضلة غزة» كما تراها إسرائيل، وإنما شكلت حلقة إضافية في سلسلة الحملات والحروب والحصار، والتي شكلت العناوين الأبرز للتعامل الإسرائيلي مع غزة منذ العام 2007. ولذلك فإن إسرائيل تجد نفسها من جديد أمام هذه المعضلة في ضوء صمود المقاومة الفلسطينية، وتعاظم شعبيتها وفعالية خياراتها فلسطينياً عقب الحرب من جهة، وعدم وجود حلول إسرائيلية لوقف تسليح المقاومة مستقبلاً، فضلاً عن نزع سلاحها من جهة أخرى.
تقرأ إسرائيل جيداً بأن حماس ستحاول السير على خيط رفيع، بحيث تُرسِي توازناً بين حاجتها الخارجية إلى التعاون مع السلطة الفلسطينية (حكومة التوافق) ومصر من جهة، ومصالحها الداخلية في الإبقاء على المقاومة وحماية سلاحها من جهة أخرى. ومن هنا يأتي أحد الخيارات الإسرائيلية بتخفيف القيود والحصار على غزة، والترتيب مع المجتمع الدولي لوضع آلية دولية لتمويل إعادة الإعمار في القطاع ومراقبته (عن طريق السلطة الفلسطينية وحكومة التوافق)، وتمكين غزة اقتصادياً وتمكين حكومة الوحدة سياسياً، وبالتالي العمل على إضعاف حماس بطريقة غير مباشرة حيث ربما تعدّ هذه المقاربة أفضل من محاولة الضغط العسكري أو الاقتصادي المباشر على غزة.
5 – محددات الخيارات
يمكن رصد أهم محددات هذه الخيارات كما يلي:
أ – قدرات المقاومة على المواجهة والصمود أمام العدوان الإسرائيلي.
ب – استعداد قوى مهمة داخل حركة فتح لإحداث تغيير على مستوى السياسات والقيادات.
ج – تحقق الاستقرار في الظروف العربية بعيداً من الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية.
د – توافر المساعدات المالية والدعم لإعادة الإعمار في غزة.
هـ – قدرة الطرف الفلسطيني على ممارسة الضغط السياسي والقانوني والإعلامي ضد إسرائيل وممارساتها، ورفع منسوب الاهتمام بالقضية الفلسطينية على جدول أعمال قادة العالم ومؤسسات المجتمع المدني.
و – القدرات الدبلوماسية والسياسية لدى فصائل المقاومة بما يمنع ذوبانها في دولاب الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية التي أوصلت الوضع الفلسطيني إلى آفاق مسدودة.
6 – ترجيح الخيارات
أ – على الصعيد الفلسطيني الداخلي
تُظهر قراءة شروط تحقق الخيارات السابقة وفرص نجاحها بأن الخيارات على المستوى الفلسطيني الداخلي تترتب كما يلي: الخيار الأول هو الأفضل للفلسطينيين بالتوصل إلى اتفاقات لتحقيق الوحدة الوطنية وبالحد الأدنى إنهاء الانقسام والاتفاق على حد أدنى من التفاهمات وإدارة الخلافات والابتعاد عن الصدام كليّاً. ومن هنا يجدر التعامل مع الخيارات على الترتيب: الأول، ثم الخامس، ثم الرابع، وعدم دفع الأمور إلى تحقيق الخيارين الثاني أو الثالث.
ب – على صعيد التعامل مع إسرائيل
يظهر من التحليل أن التعامل مع إسرائيل محصور بين الخيار الأول بالتوصل إلى اتفاق تهدئة كامل ينهي الحصار عن قطاع غزة ويُحرّر جزءاً كبيراً من الأسرى، والخيار الرابع الذي يعيد لإسرائيل وضعها الاستراتيجي المهزوز ليجبرها أن تقبل باتفاق ينهي الحصار كلياً، وذلك عبر خوض حرب استنزاف فلسطينية مدروسة جيداً. ولا يستبعد في هذه الحال الذهاب إلى حرب جديدة مثل حرب 2014، ولكن يبدو أن الكل يعمل على الابتعاد عنها في المدى المتوسط سواء أكانوا من الفلسطينيين أم الإسرائيليين.
سادساً: توصيات وخلاصات
- ثبت أن التهدئة مع إسرائيل لا يضمنها أحد، وأنها يمكن أن تخرقها بسبب تقديرات أمنية تخصها دون تقدير عواقبها السياسية، ولذلك فإن المقاومة معنية بالاستعداد بالكامل للمواجهة القادمة والتي قد تكون في أقل من عامين بسبب التحولات السلبية تجاه المقاومة في الإقليم.
- أثبتت الحرب أن المقاومة المسلحة تشكل الأداة الأكثر فاعلية في إخضاع إسرائيل والتأثير في جبهتها الداخلية، ولذلك فإن الذهاب إلى المفاوضات السياسية دون غطاء من المقاومة هو عملية انتحار سياسي.
- أثبتت الحرب أن الوضع الإنساني والحقوقي والقانوني لإسرائيل، إضافةً إلى الوضع الإعلامي، قابل للاهتزاز تبعاً لجهود الفلسطينيين والعرب والمؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية في أوروبا وأمريكا اللاتينية وغيرها من المناطق.
- يُستخلَص من وحدة المقاومة الميدانية بفصائلها المقاتلة ووحدة موقفها السياسي اللاحق في التفاوض أن الشراكة الوطنية في إدارة القرار الفلسطيني سلماً وحرباً إنما تمثل أعلى درجات الاستثمار للقوة الفلسطينية في مواجهة إسرائيل.
- إن تجربة خوض المعركة «منفردين» من قبل المقاومة في غزة، أكد نظرية أن العمل الوطني من الداخل هو الأساس، وأن العامل الفلسطيني هو العامل الحاسم، غير أن هذا لا يلغي بالتأكيد ما للخارج الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي من عمق استراتيجي ودور في الإسناد السياسي والإعلامي والإغاثي.
- أثبتت الحرب التخوفات الإسرائيلية الهائلة من اندلاع انتفاضة فلسطينية قوية في الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948.
- على الجانب الفلسطيني أن يُعيد النظر في سياسات تعامله مع الجانب الإسرائيلي، وخاصة في ما يتعلق بالتنسيق الأمني الذي أصبح قيداً على التحرك الشعبي في الضفة الغربية.
- على الموقف العربي الرسمي أن يتعلم درسه من التجربة من زاويتين: الأولى أن المقاومة الفلسطينية يمكن الاعتماد عليها لإشغال إسرائيل وإضعافها وتخفيف ضغطها الأمني على البلدان العربية، والثانية أن الرهان على كسر شوكة المقاومة بكل تياراتها وعلى سقوط برنامجها في غزة والضفة ثبت فشله مراراً.
- إن الخوف من إسرائيل والاتجاه نحو التنسيق معها لا يخدم الأمن القومي العربي، ولا الأمن القُطْرِي للبلدان العربية، ومن هنا يُوصي التقرير بالحذر من الفخاخ الإسرائيلية بحجة التنسيق في مواجهة خطر الإرهاب والتطرف الديني بشكل مشترك مع إسرائيل.
- من المهم الإبقاء على الموقف العربي والإسلامي بشأن التفريق بين ما يُسمى بالإرهاب والمقاومة المسلحة الفلسطينية المشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي العسكري، وضرورة استمرار الدفاع عنها في المحافل الدولية على هذا الأساس.
- ضرورة أن تعمل المقاومة لاستعادة نفوذها وعلاقاتها العربية والإسلامية التي تأثرت بسبب التحولات في المنطقة، وأن تسعى إلى تحقيق ذلك من واقع الحرص والمصلحة والعقلانية والانتماء الوطني والقومي، وليس من واقع الحاجة والضعف، وخاصةً أنها قاتلت وصمدت وحدها وبدعم شعبي ورسمي محدود.
قد يهمكم أيضاً هل تجتاح إسرائيل لبنان؟! المفاعيل الإقليمية لحرب إسرائيلية محتملة ضد حزب الله
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #تقارير #قطاع_غزة #فلسطين_المحتلة #العدوان_الإسرائيلي_على_غزة #الحرب_الإسرائيلية_على_غزة #الحرب_على_غزة_2014
المصادر:
(*) نُشر هذا التقرير في مجلة المستقبل العربي العدد 431 في كانون الثاني/ يناير 2015.
(**) فريق الأزمات العربي: مركز دراسات الشرق الأوسط – عمّان.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.