– 1 –

مذ وُجدت إسرائيل في سنة 1948 حتى يومنا الحاضر، وهي تعرض نفسها في العالم على أنها ظاهرة خارقة تحقق المعجزات. فطوال الخمسينيات حتى منتصف الستينيات من القرن الماضي كانت موطن «المعجزة الزراعية» التي حوّلت الصحراء إلى جنة خضراء (Making the Desert Bloom)‏[1]، وبعد حرب 1967 أصبحت «معجزة حربية»: البلد الصغير الذي استطاع جيشه أن يهزم جيوش ثلاث دول كبيرة وفي ستة أيام فقط (David and Goliath)‏[2]، ومنذ نهاية القرن الماضي أصبحت «معجزة اقتصادية»: الاقتصاد الصغير الذي أصبح مركزاً عالمياً لصناعة التقنية العالية، أو وادي السيليكون الإسرائيلي بعد وادي السيليكون الأمريكي (Silicon Valley) في كاليفورنيا[3].

وفي الأعوام الماضية صدرت عشرات الكتب والدراسات الأكاديمية والمقالات الصحافية التي تتحدث عن الإعجاز الإسرائيلي في صناعة التقنية العالية، ويُعتبر كتاب أمّة البدايات: قصة المعجزة الاقتصادية في إسرائيل[4] لمؤلفَيه دان سينور[5] وسول شاؤول سينغر[6] من أشهر ما كُتب عن الموضوع، وظل يحتل مكانة طليعية لأسابيع كثيرة في قائمة «الكتب الأكثر مبيعاً» لصحيفتَي النيويورك تايمز ووول ستريت جورنال، وحصل على شهرة عالمية، وتمت ترجمته إلى أكثر من عشرين لغة[7].

والكتاب يشرح الأسباب وراء تمكّن إسرائيل، الدولة التي يبلغ عدد سكانها 7,1 ملايين نسمة، من أن تتفوق في صناعة التقنية العالية على بلاد كاليابان والهند والصين وكوريا، ذلك بأن عدد شركاتها المسجلة في سوق الأوراق المالية في نيويورك «ناسداك» (NASDAQ)‏[8] هو الأعلى في العالم بعد الولايات المتحدة، كما أن مقدار ما تجذبه سنوياً، لكل فرد، من رأس المال المجازف (Venture Capital) هو الأعلى في العالم. وأشارت تقارير صحافية إلى أن كثيراً من صنّاع القرار في بلاد عديدة قرأوا الكتاب كأنه الدليل الذي سيرشدهم إلى الخطوات التي يجب اتباعها كي تحاكي بلادهم «المعجزة الإسرائيلية».

– 2 –

بعد مرور عقود من الزمن، حدث في العالمَين العربي والغربي وفي إسرائيل ذاتها، تقويم موضوعي لحقيقة «المعجزة الزراعية» و«المعجزة الحربية». ومن الممكن القول إن ما رشح من هذه التقويمات يمكن عرضه كالآتي:

  •  ممّا لا شك فيه أن إنجازات إسرائيل في الزراعة هائلة ومثيرة بكل المقاييس، فالزراعة فيها تؤمّن الجزء الأعظم أكثر من 90 بالمئة من حاجات الإسرائيليين الغذائية، وهي تقوم بتصدير منتوجات زراعية، وخصوصاً إلى أوروبا وأمريكا، بأكثر من مليارَي دولار سنوياً[9]. وتُعتبر الزراعة في إسرائيل رائدة عالمياً في الأبحاث العلمية الزراعية التي تمكنت بواسطتها من تعظيم كمية الإنتاج الزراعي ومن تحسين نوعيته، كما أنها تُعتبر من المراكز الرئيسية في العالم التي طورت تقنيات «الري المقطر» (Drip Irrigation) الذي أصبح يتم بكفاءة عالية بفضل تنظيمه وفق برمجيات الكومبيوتر المتقدمة. لكن من ناحية أُخرى، فإن من الأمور المسلّم بها الآن أن الزراعة كما كانت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، والتي كرست مقولة «إسرائيل حوّلت الصحراء إلى جنة خضراء» كانت زراعة لا تتمتع بالكفاءة الاقتصادية – الإنتاج بأقل التكاليف الممكنة، وإنما على العكس من ذلك، كانت في الواقع زراعة تتم بدعم حكومي مرتفع، أي أنها كانت تتم بخسارة، ولا سيما أن استعمالها الماء كان فيه هدر كبير لهذا المورد ذي الندرة الاقتصادية في المنطقة كلها، لكن بعد حرب 1967 تحولت آلية هدر المياه في الزراعة الإسرائيلية من الدعم الحكومي إلى سرقة مياه الضفة الغربية. وتبيّن في فترة الجفاف النسبي لأعوام 2004 – 2008 أن الزراعة الإسرائيلية بالأسلوب المتبع غير قابلة لأن تدوم، حتى إن مجلة الإيكونمست البريطانية لاحظت في سنة 2008 أن «الفكرة الرئيسية عند الصهيونيين الأوائل، في تحويل الصحراء إلى جنة خضراء، لم تكن فكرة ذكية»[10]، فالزراعة تستهلك نحو 60 بالمئة من موارد إسرائيل المائية مع أن مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي لا تتجاوز 2 بالمئة.

 

  •  لا شك أيضاً في أن إسرائيل تمكنت من بناء جيش عصري يُعدّ من ناحية التدريب والسلاح والجاهزية والاستعمال التقني للاتصالات والمعلومات أقوى من الجيوش العربية كلها مجتمعة، كما أن له مميزات مهمة فهو، كمؤسسة، أقل بيروقراطية وهرمية من معظم الجيوش في العالم، فضلاً عن أنه أهم مؤسسة في إسرائيل تمارس مهمات تشكيل الهوية الإسرائيلية وتطويرها وصقلها، أو ما يُعرف بعملية «أسرلة المجتمع»، لأنه المؤسسة الوحيدة التي يخدم فيها الأفراد جميعاً ثلاثة أعوام للرجال وعامَين للنساء. هذا كله مهم ومعروف، إلّا إنه تم نسج «أسطورة الجيش الذي لا يُهزم» حوله، وهي في الواقع أسطورة حاكتها أجهزة الدعاية الصهيونية وحلفائها في العالم الغربي، وخصوصاً في الولايات المتحدة، كما أن الإعلام العربي، عن غير قصد أحياناً وعن سابق تصميم وإرادة في أحيان أُخرى، ساهم في تكريسها كأنها حقيقة أكيدة، أو كأنها من حقائق الطبيعة. وابتدأ نسج الأسطورة مباشرة بعد حرب 1948 التي تم تصويرها على أنها هزيمة لسبعة جيوش عربية كبيرة أمام جيش إسرائيل الصغير الذي كان في طور التكوين من «منظمة الدفاع اليهودية» الهاغاناه، مع أن الواقع كان شيئاً مختلفاً تماماً. ففي حرب 1948 قاتل نحو 60.000 جندي إسرائيلي، بعضهم كان قد حارب في الحرب العالمية الثانية مع الحلفاء، وكان له قيادة مركزية واحدة، بينما كان عدد مقاتلي الدول العربية السبع لا يتجاوز 40.000 جندي[11] لم تكن لديهم قيادة مركزية إلّا قيادة الملك عبد الله الذي كان جيشه بقيادة بريطانية، وكان متفقاً مع الحركة الصهيونية على الدور الذي سيقوم به خلال الحرب[12]. وقد تدعمت الأسطورة في ما بعد بحرب 1956 وما زعمه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يومذاك، موشيه دايان، من أنه هزم الجيش المصري وطرده من سيناء في أقل من 100 ساعة، وهو زعمٌ أيدته ماكينة الإعلام الغربي، وتبنّته بعض وسائل الإعلام العربية التي صورت نتائج حرب 1956 بالنسبة إلى مصر على أنها «هزيمة عسكرية وانتصار سياسي». والواقع أن ما حدث كان شيئاً آخر، فالجيش الإسرائيلي لم يهزم الجيش المصري في سيناء، وإنما تمكنت ستّ فرق عسكرية مصرية من وقف الهجوم الإسرائيلي حتى صدرت الأوامر إليها بالانسحاب بعد شنّ الهجوم البريطاني – الفرنسي على السويس[13].

 

بعد ذلك جاءت حرب 1967 واحتلال الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية وقطاع غزة وصحراء سيناء ومرتفعات الجولان في ستة أيام فقط، فبدت تلك الحرب، ولعدة أعوام، كأنها تكريس نهائي وعالمي لأسطورة جيش إسرائيل الذي لا يُقهر، حتى إن الصحافي الأمريكي المشهور توماس فريدمان وصف تلك الأعوام بقوله: «في الحقيقة، كانت المدرسة الثانوية بالنسبة إليّ، وأقولها الآن بخجل، احتفالاً واحداً كبيراً بانتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة»[14]. فقد برهنت حرب الاستنزاف، ثم حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، أن ما حدث في تلك الأيام الستة من حزيران/يونيو 1967، كان، في الواقع، تعبيراً عن ضعف عربي أكثر من كونه الانتصار الإسرائيلي المدوّي، كما أن أحداث العقدين الماضيين، وما خاضته إسرائيل من حروب على لبنان وقطاع غزة، برهنت أن الجيش الإسرائيلي غير قادر على هزيمة المقاومة على الرغم من تفوّقه العسكري، ومن الدعم غير المحدود وغير المشروط من طرف الولايات المتحدة، وعلى الرغم من معاداة أنظمة عربية كثيرة للمقاومة.

  •  ومع ذلك، فإن هاتين «المعجزتين» اللتين لم تكونا، في الحقيقة، كذلك، قامتا، وعلى أكمل وجه، بالدور الذي صُنعتا من أجله. فعندما كانت إسرائيل تصدّر الحمضيات إلى الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، كانت عملية التصدير تتم بخسارة اقتصادية، فما كانت تجنيه إسرائيل من بيع الحمضيات في الولايات المتحدة كان أقل من التكلفة الحقيقية لزراعتها وتصديرها، لكن تكريس معجزة «تحويل الصحراء إلى جنة خضراء» كان يعود على إسرائيل بأضعاف تلك الخسارة عبر بيع «سندات إسرائيل» (Israel Bonds)، وعبر جمع التبرعات والهبات وكسب الأصدقاء والمؤيدين. وبشكل أخطر وأكثر أهمية، فإن المعجزة الحربية التي تم نسج أساطيرها في عقدين من الزمن 1948 – 1968لم تفقد سحرها وبريقها طوال العقود الخمسة التي تلتها، والتي لم تتمكن إسرائيل خلالها من تحقيق نصر حاسم واحد في جميع الحروب التي خاضتها خلال هذه العقود، في حرب الاستنزاف 1968 – 1970، أو حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، أو في اعتداءاتها على لبنان 1973؛ 1978؛ 1982؛ 1993؛ 1996؛ 2006، أو اعتداءاتها على غزة 2008 – 2009؛ 2012، حتى يمكن القول إن مجرد الحديث عن الحرب مع إسرائيل أصبح من المحرمات لدى جميع الأنظمة العربية، وعند قطاع كبير من النخب السياسية العربية، وخصوصاً في بعض أطيافها الليبرالية واليسارية والإسلامية، وإلى أن أصبحت جملة: «أنا طبعاً لا أدعو إلى الحرب مع إسرائيل»، لازمة أساسية وضرورية لبدء أي نقاش سياسي على الفضائيات العربية.

 

  •  بناء على ما تقدم، نستطيع أن نقول إن هناك ثلاثة عناصر تشكل ماهية ما يسمى «معجزة إسرائيلية»: الأول هو الإنجاز الحقيقي الكبير والمهم الذي يؤدي دور «النواة الصلبة» لموضوع المعجزة؛ الثاني هو الرداء أو الثوب غير الحقيقي الذي يتم إلباس النواة الصلبة به كي تكتسب صفة الإعجاز، وعادة ما يتم نسجه من بعض أنصاف الحقائق ومن تجاهل حقائق أُخرى، ومن ادعاء حقائق وهمية؛ الثالث هو الهدف الذي من أجل تحقيقه يتم صوغ المعجزة. ومن هذا المنظور، فإن الهدف من هذا البحث هو «تفكيك» معجزة صناعة التقنية العالية في إسرائيل عبر تحليل عناصرها الثلاثة: الحقيقي والأسطوري والهدف، وذلك لقناعتنا التامة بأن أي معالجة للموضوع لا تشمل هذه العناصر الثلاثة تكون ناقصة وغير مجدية، وفي بعض الأحيان خادعة.

 

طبعاً، ليس هناك جدال بشأن ضرورة تحليل مكونات العنصر الأول، فإعطاء صورة حقيقية واقعية وموضوعية لنشأة وتطور صناعة التقنية العالية في إسرائيل وما هو دورها الحالي بالنسبة إلى الاقتصاد الإسرائيلي من ناحية، وإلى علاقات إسرائيل في المجالَين الإقليمي والدولي من ناحية أُخرى، ضرورة ملحة لأي مهتم بالشأن الإسرائيلي. غير أن هذه الصورة وحدها لا تكفي لتكوين توقعات عقلانية بشأن مستقبل هذه الصناعة، فالمستقبل لا تصنعه «الحقائق» وحدها، بل يشترك في صناعته أيضاً «فهم الناسِ هذه الحقائقَ.» فعلى سبيل المثال، قد يُعرض أسلوب تقنية عالية جديد في أحد المجالات، ثم يقال إن هذا الأسلوب تم ابتكاره في إسرائيل، وإنه أفضل من جميع الأساليب الأُخرى في ذلك المجال، لكن هذا القول ربما يكون أو لا يكون صحيحاً، لأن من الممكن فحص مدى صدقيته، غير أن الادعاء أنه كان من المستحيل اختراع هذا الابتكار في أي بلد آخر، لأنه تم بفضل عوامل موجودة في إسرائيل وغير موجودة في أي بلد آخر، هو ادعاء مشكوك فيه لأنه لا يمكن إثبات مدى صدقيته. وإذا اعتقد أصحاب الشأن في بعض البلاد بصحة هذا الادعاء فإنهم سيحجمون عن محاولة محاكاة ذلك الأسلوب في صناعتهم المحلية وسيقومون باستيراده من إسرائيل، وبالتالي، يساهمون في تعزيز وتعظيم «النواة الصلبة» لصناعة التقنية العالية في إسرائيل. ما نريد قوله هو أن «النواة الصلبة» ليست وضعاً ساكناً يعيد إنتاج ذاته على أساس مكوناته الموضوعية، وإنما هي في الواقع كينونة متحركة يتم تطورها على أساس الجدلية المستمرة بين مكوناتها الموضوعية من ناحية، وفهم الناس وإدراكهم وتوقعاتهم بالنسبة إلى هذه المكونات من ناحية أُخرى. أمّا أهمية فهم «الهدف» الذي تسعى النخب الإسرائيلية إلى تحقيقه من وراء نسج أسطورة «معجزة التقنية العالية»، فتظهر بصورة واضحة عندما ندرك أن إسرائيل دولة غير عادية من حيث التزامها مشروعاً أيديولوجياً تتحكم أولوياته في جميع نشاطات المجتمع الإسرائيلي الاقتصادية والسياسية. وقد تم صوغ «المعجزات الإسرائيلية» تاريخياً من أجل توظيفها في خدمة التوسع الصهيوني السكاني والجغرافي. ومن المفيد، في وقتنا الحاضر، أن يتم تحديد الدور الذي تقوم به «المعجزة الاقتصادية» في سياق التوسع الصهيوني، ذلك بأن هذا يلقي ضوءاً على أهداف الاستراتيجيا الإسرائيلية على الأمد الطويل.

بكلمة أُخرى، سنعمل في هذا الكتاب على «تفكيك معجزة التقنية العالية في إسرائيل» ليس بهدف نفيها أو التقليل من شأنها، وإنما على العكس من ذلك تماماً، سنفعل ذلك كي نؤكد أن خطورة موضوع التقنية العالية في إسرائيل لا تكمن في «حقيقة» هذه الصناعة فقط، بل في «الأسطورة» التي يتم نسجها حول تلك الحقيقة أيضاً. ففي الوضع الإسرائيلي، ليست صناعة الأساطير دليلاً على ضعف، وإنما هي في الواقع دليل على القوة. فصناعة الأسطورة لا تهدف إلى حجب الحقيقة، بل إلى تقويتها وجعلها قادرة على تحقيق نتائج أكبر ممّا تسمح به إمكاناتها الذاتية. وفي الفقرات التالية سيتم التعرض بشكل مكثف ومقتضب لنتائج بحثنا بشأن طبيعة العناصر الثلاثة للمعجزة الاقتصادية في إسرائيل.

– 3 –

بالنسبة إلى الواقع الموضوعي، أو ما أطلقنا عليه تعبير «النواة الصلبة» للمعجزة الاقتصادية في إسرائيل، فإنه يمكن تسجيل الحقائق التالية:

  •  أصبحت صناعة التقنية العالية هي عجلة النمو في الاقتصاد الإسرائيلي لأنه أصبح لها دور رئيسي في الإنتاج والتوظيف والتصدير، وفي جذب الاستثمارات الأجنبية. وكان لهذا الدور مساهمة فاعلة ومحورية في تحويل الاقتصاد الإسرائيلي، في العقد الماضي، إلى «اقتصاد متقدم» (Advanced Economy) مكّن إسرائيل من الانضمام إلى نادي الدول الغنية المعروف باسم «منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية» (Organization for Economic Cooperation and Development/OECD).

 

  •  تمَّ هذا النجاح الكبير بفضل قدرة الدولة في إسرائيل على الحصول على موارد خارجية هائلة مكّنتها من:

1 – التزام أولوية الاستثمار في تراكم رأس المال البشري عبر رعايتها المؤسسات التعليمية والخدمات الصحية.

2 – التزام أولوية الإنفاق على مؤسسات البحث العلمي ونشاط «البحث والتطوير» (R&D)، حتى إن نسبة الإنفاق على هذا النشاط من الناتج المحلي الإجمالي في إسرائيل هي الأعلى في العالم.

3 – تبنّي سياسات وبرامج دعم الشركات المبتدئة في صناعة التقنية العالية على مستوى هو الأعلى في العالم.

4 – الانفتاح على الأسواق العالمية في سياق حركة العولمة ونهج الليبرالية المحدثة.

  •  ابتدأت الإرهاصات الأولى لصناعة التقنية العالية في إسرائيل في رحم الصناعات العسكرية، واستمرت وتطورت هذه الصلة بشكل عضوي وقوي وفاعل حتى يومنا الحاضر، ذلك أن أكثر الابتكارات التقنية الجديدة في إسرائيل تبدأ في مجال صناعة الأسلحة، ثم تنتقل إلى مجال التطبيقات المدنية، كما أن العلاقة بين النخب الإدارية في الصناعة المدنية والصناعة العسكرية هي علاقة قوية تشبه العلاقات العائلية. وما يميز الصناعة الحربية في إسرائيل، ويجعلها واحدة من أهم عشر دول مصدّرة للسلاح في العالم، هو ريادتها في تطعيم الأسلحة التقليدية وتطويرها بقدرات تقنية حديثة، ولذلك فإنها تقوم بعمليات ترقية وتحسين لأنظمة صواريخ وطائرات مقاتلة ودبابات ورادارات لدول كثيرة منها الهند وتركيا والصين وكندا. وفي الوقت نفسه، تمكنت الصناعة الحربية في إسرائيل من احتلال مركز عالمي رائد في صناعة الطائرات بلا طيار، حتى إن أكثر من دولة من دول منظمة الناتو تستعمل هذه الطائرات الإسرائيلية في حربها في أفغانستان.

 

  •  من صناعة الأسلحة، ومن صناعة التقنية الحديثة، ومن تجربة إسرائيل الطويلة في قمع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، نشأت وتطورت في إسرائيل صناعة «الأمن الوطني والمراقبة» (Homeland Security and Surveillance)، وهي الصناعة التي تختص بإنتاج الأجهزة والأساليب التي تُستعمل في التنصت ومراقبة الأشخاص وتحليل المعلومات، وفي السيطرة على الحشود الجماهيرية وحماية المنشآت العامة والخاصة ومكافحة الأعمال المعادية «الإرهابية». وقد ابتدأت إسرائيل بتأسيس هذه الصناعة منذ قيامها وانتهاجها سياسة معادية للأقلية العربية الفلسطينية التي لم يتم طردها في سنة 1948، ثم حدث تطور كبير في هذه الصناعة بعد حرب 1967 وصراع إسرائيل مع المقاومة الفلسطينية، فوضعت إسرائيل تجربتها في قمع الفلسطينيين والتجسس على ناشطيهم وتصفية قياداتهم في خدمة جميع الحكومات الدكتاتورية اليمينية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وشرق آسيا وبعض البلاد العربية طوال النصف الثاني من القرن العشرين. وفي مطلع القرن الجديد، وبعد الهجوم الإرهابي في 11 أيلول/سبتمبر 2001، حدثت نقلة نوعية في تطور هذه الصناعة في إسرائيل، وفي إقبال دول كثيرة ومؤسسات عامة وخاصة على التعاقد مع الشركات الإسرائيلية الأمنية التي طرحت نفسها في الأسواق العالمية على أنها تملك «أهم تجربة في مكافحة الإرهاب»، حتى إن الصحف الأمريكية أطلقت على إسرائيل لقب «عاصمة صناعة الأمن الوطني والمراقبة في العالم». والواقع أنه لا يوجد أي مبالغة في هذا الوصف، إذ يكفي أن نلاحظ أنه في سنة 2006 قامت شركة إسرائيلية ببناء جدار مجهز بمعدات إلكترونية على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، شبيه بجدار الفصل العنصري الذي ابتدأت إسرائيل ببنائه في الضفة الغربية في سنة 2002. وأنه في سنة 2008 قامت شركات إسرائيلية بعملية المراقبة والسيطرة الأمنية في الألعاب الأولمبية في الصين، وأن دوائر الشرطة في نيويورك ولوس أنجلوس تستعمل في اتصالاتها الهاتفية تقنيات وبرمجيات قامت بتركيبها شركات إسرائيلية.

 

  •  حققت صناعة التقنية العالية للاستعمالات المدنية في إسرائيل إنجازات كبيرة حازت شهرة عالمية وذلك في ثلاثة مجالات:

1 – في الاستعمالات الزراعية تتفوق إسرائيل عالمياً في تقنيات «الري المقطر» التي يتم فيها تنظيم عملية السقاية ببرمجيات حاسوب متقدمة، كما أنها تفوقت في تطوير نوعية بعض الخضار والفواكه وقدرتها على البقاء طازجة لفترة طويلة، وفي تقنيات التربة وتحلية المياه المالحة.

2 – حقق بعض الشركات الإسرائيلية في الاستعمالات الطبية، سواء على مستوى صناعة الأدوية أو صناعة الأجهزة الطبية، وجوداً قيادياً في الأسواق العالمية، وخصوصاً أسواق أمريكا الشمالية والأسواق الأوروبية، وقد أصبحت هذه الشركات العملاقة من نوع شركات متعددة القومية (MNEs) التي لها مئات الشركات الأجنبية التابعة على امتداد العالم. كما أن كثيراً من «الأساليب الطبية الحديثة» التي تُستعمل في أرقى المستشفيات الأمريكية والأوروبية تم ابتكاره في إسرائيل.

3 – تحتل الشركات الإسرائيلية مكانة مرموقة عالمياً في استعمالات الكومبيوتر والبرمجيات وتقنية المعلومات والاتصالات، حتى إن عددها المسجل في سوق الأوراق المالية «ناسداك» هو أكبر من عدده في أي بلد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية. وتحتل إسرائيل المرتبة الأولى في العالم بالنسبة إلى كمية ما يتم استثماره من «رأس المال المغامر» في صناعة التقنية العالية سنوياً بالنسبة إلى الفرد.

  •  تحققت هذه النجاحات والإنجازات كلها في سياق «ثورة صامتة» ابتدأت منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي وما زالت مستمرة حتى اليوم، وتم في هذه الثورة الانتقال بنظام الاقتصاد السياسي في إسرائيل من نظام «الديمقراطية الاشتراكية» الذي كانت الدولة تلتزم فيه ببرامج «دولة الرفاه» (Welfare State) فتعمل على تقليص فجوة الدخل والثروة بين الفقراء والأغنياء، إلى نظام الرأسمالية النيوليبرالية التي تتحكم فيه آليات السوق المعولمة في توزيع الدخل القومي لمصلحة رأس المال وأصحاب القوة الاقتصادية في المجتمع. ونتيجة ذلك حدث تغيير هائل في توزيع الدخل القومي حتى أصبحت إسرائيل تحتل المكانة الثانية في البلاد الغنية، بعد الولايات المتحدة، في حجم التفاوتات الاجتماعية وحجم فجوة الدخل والثروة بين الأقلية والأكثرية. وصاحب ذلك طبعاً، اتساع مساحة الفقر حتى إن هناك دراسات تشير إلى أن ربع أطفال إسرائيل يعيش تحت خط الفقر. وهكذا تغيرت بشكل صارخ ملامح الحياة الإسرائيلية في جميع أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية، فبعد أن كان المجتمع الإسرائيلي في نصف القرن الأول من عمر إسرائيل مجتمعاً تتكون فيه النخب السياسية الاقتصادية في مناخ التعاونيات الزراعية (الكيبوتسات)، وتتمركز فيه عناصر القوة السياسية في مناخ اتحاد العمال (الهستدروت)، أصبح الآن مجتمعاً تتكون نخبه في الأحياء الثرية التي تعيش في قلاع ناطحات السحاب الشامخة اللامعة والبراقة إلى جانب أكواخ العمالة الإسرائيلية والأجنبية الفقيرة من تركيا وشرق أوروبا وآسيا والبلاد العربية.

 

– 4 –

ما جاء في الفقرة السابقة كله هو من الحقائق التي، كما قلنا سابقاً، تشكل «النواة الصلبة» التي تم استعمالها لصوغ أسطورة «المعجزة الاقتصادية» في إسرائيل في الوقت الحاضر. ومن أجل التعرف إلى مقومات هذه «الأسطورة» وركائزها، فإنه يكفي أن نتعرف إلى مقومات وركائز أهم وثائق الأسطورة وهو كتاب أمّة البدايات: قصة المعجزة الاقتصادية في إسرائيل الذي أحدث ضجة إعلامية هائلة، كما ذكرنا سابقاً.

تساءل الكتاب عن سر تفوّق إسرائيل في صناعة التقنية العالية، وهي البلد الصغير بعدد سكان 7,1 ملايين فقط، الذي لا يملك موارد طبيعية، والمحاط بالأعداء من كل جانب، والذي لا يكاد ينتهي من حرب حتى تلوح أمامه مقدمات حرب جديدة، فكيف تمكّن هذا البلد من التفوق على بلاد يتجاوز عدد سكانها مليار نسمة، كالهند والصين، وتعيش في سلام وأمن واستقرار؟

للإجابة عن هذا السؤال قام المؤلفان بتحليل عدة عوامل مرشحة لأن تفسر أسباب التفوق الإسرائيلي الإعجازي، فتحدثا عن عامل «التميز اليهودي»، وعامل البيئة الإسرائيلية التي ينمو فيها الشباب وعندهم شعور بعدم الرضى بالواقع، وبنزعة إلى تغييره إلى وضع أفضل، وعامل ثقافة مجتمعية مبنية على أساس التعامل الدائم مع الأساليب التقنية في المجالات كافة، وعامل الدعم الحكومي لشركات التقنية العالية الناشئة. ويؤكد المؤلفان أن هذه العوامل، على أهميتها، لا تفسر التفوق والإعجاز الإسرائيلي في صناعة التقنية العالية، ويشددان على أن هناك سببين رئيسيين وراء التفوق الإسرائيلي:

الأول هو الخدمة الإجبارية في الجيش الإسرائيلي.

الثاني يتعلق بحقيقة أن إسرائيل مجتمع مهاجرين. بالنسبة إلى الخدمة الإجبارية في الجيش التي يؤديها كل شاب وفتاة لعامَين على الأقل، يؤكد الكتاب أنها تحقق فائدتين تساهمان، بصورة فاعلة، في خلق البيئة التي تنمو وتتطور فيها ثقافة تأسيس شركات جديدة لصناعة التقنية العالية، وهما:

– يوجد في الجيش الإسرائيلي، طبعاً، بعض الفرق المختصة باستعمال وتطوير أساليب تقنية حديثة في الاتصالات وجمع المعلومات وتحليلها، وجنود هذه الفرق يصبحون، عندما ينهون خدمتهم العسكرية، أصحاب مهارات كبيرة تؤهلهم على الفور لاستعمال هذه المهارات في منشآت مدنية. أمّا الجنود في الفرق الأُخرى فإن تدريبهم على السلاح يعطيهم مهارات مهمة أيضاً، ذلك أن الجيش الإسرائيلي من أكثر جيوش العالم استخداماً للأسلحة الحديثة التي يتطلب استعمالها إلماماً كبيراً ببعض الأساليب التقنية المتطورة.

– يؤكد الكتاب أن الجيش الإسرائيلي هو أقل جيوش العالم بيروقراطية وهرمية (Hierarchical)، ولذلك فإن كل مَن يخدم فيه يتعلم عادات العمل الجماعي وتحمّل المسؤولية وتقديم الحلول العملية للمشكلات المستجدة، وأخذ المبادرات الشخصية وعدم انتظار الحلول من أعلى، كما أن جنوده يمارسون أعمالهم في جو يسمح بالمناقشة والحوار وعدم القبول بالأوامر كأنها مقدسة، وهذا كله يربّي لدى الجنود روح الابتكار والمغامرة اللذين هما أهم متطلبات النجاح في مجالات تأسيس وتطوير منشآت صناعة التقنية العالية. أمّا حقيقة أن شعب إسرائيل هو من المهاجرين، فالكتاب يرى أن كل مهاجر ما هو إلّا مشروع «رجل أعمال ريادي» (Entrepreneur)، لأن المهاجر، بحكم طبائع الأمور، مغامر ومستعد للمجازفة وتحمّل الأخطار والعمل الجاد المتعب، كما أن آخر موجة من الهجرات، والتي كانت هجرة اليهود الروس في مطلع التسعينيات، زادت عدد السكان بنحو 20 بالمئة، وفي الوقت ذاته، رفعت من مستوى التعليم والخبرات لأن المهاجرين كانوا في وضع ثقافي أفضل من بقية السكان. ويشير المؤلفان إلى أن هذين العاملين الأساسيين، الخدمة الإجبارية والمهاجرين، تضافرا لإشاعة جو من الـ «حوتسباه» (Chutzpah)، وهي كلمة عبرية ليس لها كلمة مماثلة في أي لغة أُخرى، لكنها تعني القول أو الفعل الذي يروّع الآخرين، أي أنها قول أو فعل يعبّران عن جرأة أو ثقة بالنفس تصل إلى حد الوقاحة، ويعتقد المؤلفان أن ثقافة الحوتسباه، بمعنى «الوقاحة الخلاقة»، مفيدة في خلق أجواء المغامرة والابتكار في إسرائيل.

وهكذا نرى أن الكتاب نجح في اكتشاف المادة التي يمكن بواسطتها نسج أسطورة التفوق الإسرائيلي، فقد وجد أن سبب التفوق الإسرائيلي في صناعة التقنية العالية يعود إلى عوامل موجودة في إسرائيل حصراً (Israeli Specific). فالخدمة الإجبارية لكل فرد وفي جيش له الصفات المميزة التي يتوسع الكتاب في وصفها، غير موجودة في أي بلد آخر، كما أنه ليس هناك بلد من البلاد المتقدمة في هذا العالم يفتح أبوابه أمام الهجرة من دين معين كما تفعل إسرائيل. وبالتأكيد فإن الحوتسباه ميزة إسرائيلية بامتياز. وفي هذا السياق علينا أن نلاحظ النقاط التالية:

  •  الخدمة الإجبارية في الجيش، والمهاجرون، موضوعان مهمان في المشهد الإسرائيلي، ولهما علاقة مباشرة بنشأة وتطور صناعة التقنية العالية فيه، لأنهما يندرجان تحت عنوان «رأس المال البشري». فالخبرة التي يحصل عليها الشخص الإسرائيلي في أثناء تأديته أعوام الجندية الإجبارية، والصفات التي يتمتع بها المهاجر، كلها أمور تتعلق بكمية ونوعية رأس المال البشري الذي هو عامل مهم وضروري لإقامة صناعة تقنية عالية ناجحة. وقد تناولنا الموضوع في الكتاب الذي صدر حديثاً بالتفصيل، سواء من الناحية النظرية، أو الناحية التطبيقية في إسرائيل، وبينّا أن توفر رأس المال البشري شرط أساسي لقيام صناعة ناجحة، لكنه بالتأكيد ليس شرطاً كافياً كما يصوره الكتاب، أي أنه لا يمكن إقامة صناعة تقنية عالية من دون توفر عامل رأس المال البشري. غير أن توافر هذا العامل لا يضمن النجاح في إقامة الصناعة، فهناك عوامل أُخرى لا بد من توافرها كي يصبح ممكناً استغلال رأس المال البشري بشكل فاعل وكفء. وأهم هذه العوامل هو رأس المال المادي الذي يتم بواسطته توظيف رأس المال البشري واستخدامه. ويفترض كتاب أمة البدايات: قصة المعجزة الاقتصادية في إسرائيل أن رأس المال المادي ليس مشكلة فهو موجود بوفرة وكفاية، بل إن المشكلة هي فقط في وجود رجال الأعمال المغامرين، والعلماء والخبراء، وكمية كبيرة من الحوتسباه. وأكثر من ذلك، يفترض الكتاب أيضاً أن رأس المال هذا، المادي وغير المحدود، موجود أيضاً بالنوعية الملائمة لصناعة التقنية العالية. فمن المعروف أن صناعة التقنية العالية تحتاج إلى نوعين من رأس المال:

 

الأول يأتي من الدولة للإنفاق على نشاط «البحث والتطوير» الخاص بإنتاج المعارف الجديدة، لأن القطاع الخاص لا يرى فائدة ربحية في هذا النشاط.

الثاني هو رأس المال الذي يأتي من القطاع الخاص للاستثمار في إنشاء منشآت جديدة تهدف إلى المغامرة في عملية تحويل «المعارف الجديدة» إلى «سلع جديدة»، والذي يُدعى «رأس المال المغامر»، أو «رأس المال المجازف».

  •  كيف يمكن لدولة ذات اقتصاد صغير، كالاقتصاد الإسرائيلي، أن تنفق على نشاط «البحث والتطوير» ما تعجز عن إنفاقه دول لها اقتصاد يساوي حجمه أضعاف حجم الاقتصاد الإسرائيلي؟ هذا سؤال محدد يتعلق بالأرقام، فمصادر إنفاق الدولة هي ثلاثة: ما تجنيه من الضرائب؛ ما تستدينه من مواطنيها؛ ما تستدينه من العالم الخارجي. وعندما ندقق في البيانات الإسرائيلية نكتشف أن لإسرائيل مصدراً رابعاً غير موجود في أي بلد آخر، وهو المساعدات والهبات التي تأتيها من الولايات المتحدة الأمريكية، فأغلبية نشاطات «البحث والتطوير» التي تشرف عليها الدولة في إسرائيل، سواء في المجالات الحربية أو المدنية، تشرف عليها مشاركة مع الطرف الأمريكي الذي يقوم بدفع أكثر من نصف تكاليف هذه النفقات الأمريكية وهي خارج إطار المساعدات الأمريكية السنوية. وما تقوم الدولة بدفعه من ميزانيتها الخاصة هو جزء بسيط ممّا تحصل عليه من المساعدات الأمريكية الأُخرى، كما أنه أقل من الموارد الاقتصادية التي تحصل عليها إسرائيل من احتلال الضفة الغربية وهضبة الجولان السورية. وهكذا يتضح لنا أن «معجزة» الاقتصاد الإسرائيلي الصغير ليست في «خبرات الجندية الإجبارية» و«مغامرات المهاجرين»، وإنما في قدرته على استعمال موارد أكبر اقتصاد في العالم.

 

  •  كيف يمكن للقطاع الخاص في بلد صغير كإسرائيل أن يوظف سنوياً في استثماراته أعلى نسبة استثمار بالنسبة إلى الفرد من رأس المال المغامر؟ مرة أُخرى، عندما نعود إلى الأرقام نجد أن معظم رأس المال المغامر هو مال أجنبي بعضه، طبعاً، عربي، وما يجذبه إلى الاستثمار في الاقتصاد الإسرائيلي هو وجود شركات تقنية عالية أمريكية عملاقة، فعلى سبيل المثال، عدد موظفي فرع شركة إنتل (Intel) الأمريكية في إسرائيل هو أكبر عدد لأي شركة من شركات القطاع الخاص الإسرائيلي. وتدفّق هذه الاستثمارات الأجنبية على إسرائيل لم يبدأ إلّا منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. ففي خلال العقود الأربعة الأولى من عمر إسرائيل، باءت جميع جهود مراكز الضغط الصهيونية في أمريكا وأوروبا لإغراء رأس المال بالاستثمار في إسرائيل بالفشل، فأجواء «المعجزة الزراعية» وأجواء «المعجزة الحربية» لم تكن ملائمة للاستثمار الأجنبي، أمّا ما جعل أجواء «المعجزة الاقتصادية» مغرية للاستثمار فهو ما يُطلَق عليه لقب «العملية السلمية» في الشرق الأوسط. فهناك انطباع شائع بأن العملية السلمية أغرت المال الأجنبي بالاستثمار في إسرائيل لأن أجواء السلام ساعدت على تقليص أوضاع عدم الاستقرار وعدم اليقين، وبالتالي قلصت من مخاطر الاستثمار. وهذا الانطباع غير صحيح، فأوضاع عدم الاستقرار وعدم اليقين لم تتراجع بتأثير العملية السلمية، وإنما العكس صحيح، ازدادت سوءاً، وخصوصاً بعد سنة 2000 وما شهدته المنطقة من «انتفاضة الأقصى»، وحرب 2006 في لبنان، والحروب على غزة في سنتَي 2008/2009 و2012، ثم ثورات «الربيع العربي»، وتهديد إسرائيل الدائم بحرب على إيران. لكن ما شجّع الاستثمار الأجنبي على القدوم إلى إسرائيل هو أن العملية السلمية عززت إمكان أن تصبح إسرائيل المركز الاقتصادي في الشرق الأوسط، الأمر الذي يقودنا مباشرة إلى العنصر الثالث من عناصر «المعجزة الاقتصادية» في إسرائيل، وهو هدف المعجزة.

 

– 5 –

يبدو، ظاهرياً، كأن «المعجزة الاقتصادية» حققت أهدافها كاملة، إذ أصبح العمل في إحدى شركات التقنية العالية مدعاة فخر الشباب في إسرائيل، تماماً مثلما كانت الخدمة في إحدى فرق الجيش الإسرائيلي في أيام «المعجزة الحربية» مدعاة فخر الشباب الإسرائيلي لجيل سابق، ومثلما كان العيش في إحدى التعاونيات الزراعية (الكيبوتسات) أيام «المعجزة الزراعية» مدعاة فخر شباب الجيل الأسبق. لكن أهداف «المعجزة الاقتصادية» الحقيقية، أهم من ذلك كثيراً، ولفهم هذه الأهداف وتقويم أبعادها ومراميها لا بد من فهم دور هذه المعجزة في تاريخ المشروع الصهيوني. وفي هذا السياق يمكن القول إن هذا المشروع مر بثلاث مراحل:

أولاً مرحلة الاستيطان 1882 – 1948.

ثانياً مرحلة الدولة 1948 – 1993.

ثالثاً مرحلة المركز العالمي 1993.

وفي ما يأتي عرض مكثف ومقتضب لهذه المراحل:

1 – ابتدأ المشروع الصهيوني في فلسطين كمشروع استيطاني استعماري، وهو لا يملك أياً من شروط المشاريع الاستعمارية الأوروبية التقليدية في أمريكا وأستراليا وأفريقيا. فالأرض الفلسطينية لم تكن «أرضاً حرة» ليس فيها نظام الملكية الخاصة، وليس فيها شعب له المقومات القومية، كما أن الحركة الصهيونية لم تكن تمثل دولة استعمارية بأساطيل وجيوش. وقد تمكنت الحركة الصهيونية من ابتكار أسلوب تمكّن من إعادة إنتاج الشروط الاستعمارية عبر تحالف مزدوج بين «رأس المال والعمال» داخل الحركة الصهيونية، وعبر تحالف الحركة الصهيونية كلها مع النظام الاستعماري، وهذا الأسلوب المبتكر نجح بشكل كامل.

  •  ابتدأت عملية بناء الدولة في سنة 1948، وترتّبت أولويات هذا البناء وفق هدفين اثنين: الأول، تأسيس جيش عصري له قوة عسكرية تتفوق على جميع الجيوش العربية مجتمعة، والثاني، تأسيس اقتصاد قوي قادر على النمو المتسارع الذي يرفع مستوى المعيشة بصورة متواصلة، وعلى التزايد المستمر في عدد السكان عبر جذب واستيعاب المهاجرين اليهود من بلاد العالم كافة وفق الاعتبارات الأيديولوجية ومن دون الاهتمام باعتبارات الربح والخسارة الاقتصادية. وقد تم صوغ استراتيجيات وسياسات بناء هذه الدولة أيضاً في سياق تحالف مزدوج، ففي المجتمع الإسرائيلي قادت الأحزاب العمالية تحالف رأس المال والعمل والدولة في إطار نظام «الديمقراطية الاشتراكية» الذي كان سائداً في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وفي السياسة الخارجية تحالفت إسرائيل مع المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، وجنّدت إمكاناتها كلها ضمن هذا التحالف للصراع ضد حركة التحرر العربي، وضد جميع حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ومع أن هذا التحالف نجح إلى حد بعيد في تحقيق أهدافه، إلّا إن الاحتفاظ به في ظل تطور النظام الرأسمالي من نظام «دولة الرفاه» إلى نظام «النيوليبرالية» لم يعد ممكناً، فسقط التحالف الداخلي بين العمل ورأس المال، وتهمّش دور الأحزاب العمالية، وسيطر على السياسة الإسرائيلية تحالف واحد بين رأس المال الإسرائيلي ورأس المال العالمي في إطار الهيمنة الأمريكية.

 

  •  بعد أن تمكنت إسرائيل من هزيمة حركة التحرر العربي من خلال توقيع اتفاقية السلام مع مصر عام 1979، وبعد أن تمكنت من هزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية عبر توقيع اتفاقية الاعتراف المتبادل مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، أصبح الهم الشاغل لإسرائيل هو العمل على إقامة ترتيب دائم للمنطقة تتكرس فيه الهيمنة الاقتصادية، فما تريده إسرائيل هو تطوير أوضاع المنطقة في إطار تأسيس نظام تكون هي فيه «المركز»، وتؤدي فيه البلاد العربية دور «الأطراف». وقد حققت إسرائيل في العقدين الماضيين إنجازات مهمة في هذا الطريق من أهمها:

* قامت إسرائيل بعملية دمج اقتصادها في الاقتصاد العالمي، وأصبحت لها علاقات قوية مع جميع مراكز القوة الاقتصادية في العالم: فبينها وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اتفاقيات منطقة تجارة حرة، وفي الأعوام الماضية شهدت علاقاتها الاقتصادية مع الصين والهند تطوراً متسارعاً سيؤدي إلى علاقات منطقة تجارة حرة في المستقبل غير البعيد. ولا يوجد أي دولة عربية لديها مثل هذه العلاقات، أو مرشحة في المستقبل القريب لتكوين مثل هذه العلاقات.

* أصبحت إسرائيل مركزاً لكثير من الشركات العالمية العملاقة عابرة القارات، أو متعددة القومية، وخصوصاً في صناعة التقنية العالية، وفي الوقت ذاته، أصبح لها عشرات الشركات عابرة القارات الموجودة في جميع الأسواق العالمية، ولديها مئات الفروع التابعة، وليس هناك أي دولة عربية لها مثل هذا الوضع، أو مرشحة في المستقبل غير البعيد للوصول إلى مثل هذا الوضع.

* تمكنت إسرائيل في الأعوام الماضية من إعادة هيكلة البنى التحتية بشكل يؤهلها لأداء دور المركز في المنطقة. ومن أهم ما قامت به في هذا السياق، هو بناء شارع عابر إسرائيل الذي بُدئ العمل به في سنة 2000 وما زال مستمراً، ومن المخطط له أن يكون بطول 300 كم يمتد من أقصى الشمال في منطقة الجليل الغربي في محاذاة الحدود مع لبنان إلى منطقة النقب ومدينة بئر السبع، ويتفرع في منطقة غربي المثلث إلى شقين: واحد يصل إلى شمال غرب إسرائيل في منطقة مدينة نهاريا، والآخر يصل إلى مدينة بيسان المحاذية لغور الأردن. ويبدو أن التخطيط الإسرائيلي هو أن يكون هذا الشارع العمود الفقري للشرق الأوسط في عهد السلام، إذ إن المخطط له هو ربطه بـ عابر لبنان في الشمال، وبسورية عن طريق بيسان من منطقة جنوبي بحيرة طبرية، وبمصر بواسطة شق الشارع الجنوبي الذي يلتف حول بئر السبع ويستمر غرباً في اتجاه مدينة الإسماعيلية وقناة السويس.

هذا كله يؤكد أن التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي يتمحور حول عملية فرض واقع اقتصادي يتم فيه، من خلال إسرائيل وعبرها، تنظيم علاقات المنطقة الاقتصادية مع العالم، وخصوصاً في ما يتعلق بعلاقات صناعة التقنية العالية. فالذي يريد أن يقيم علاقات مع الشركات العالمية الكبرى عليه أن يقصد «وادي السيليكون» الإسرائيلي فهو مركز هذه الشركات، والذي يريد أن يوجد في الأسواق العالمية عليه أن يقصد الشركات الإسرائيلية عابرة القارات الموجودة في تلك الأسواق. وإذا كان هناك مَن هو ساذج بدرجة كافية فيسأل لماذا لا يقوم الذي يريد إقامة علاقات اقتصادية مع شركات صناعة التقنية العالية بالذهاب مباشرة إلى «وادي السيليكون» في كاليفورنيا وهو الأصل والأهم؟ ولماذا لا يسعى الذي يريد تحقيق اختراق في الأسواق العالمية إلى الذهاب المباشر إلى تلك الأسواق؟ فالجواب، طبعاً، هو أن ذلك سيكون أكثر تكلفة. ولا يستطيع أحد في هذا العالم المعولم أن يتجاهل معايير التكلفة الاقتصادية. فهذا هو معنى محاولة إسرائيل فرض واقع اقتصادي يتم فيه دمج اقتصاد المنطقة في الاقتصاد العالمي من خلال البوابة الإسرائيلية وعبرها.

– 6 –

ممّا لا شك فيه أن إسرائيل حققت إنجازات كبيرة على الطريق الذي يؤدي في النهاية إلى أن يتكرس في منطقة الشرق الأوسط، نظام «المركز والأطراف» الذي تحتل فيه إسرائيل دور المركز. وكما سنرى فإن نجاحات إسرائيل في هذا السياق لا تعتمد على قدراتها الحقيقية فحسب، بل على قدراتها المتخيلة أيضاً، أي أن نجاحاتها تتحقق بفضل «الأسطورة» كلها، وليس فقط بفضل «النواة الصلبة» للأسطورة. فالدور الذي يقوم به كتاب مثل كتاب أمّة البدايات: قصة المعجزة الاقتصادية في إسرائيل، هو إقناع العالم بأن النجاح الإسرائيلي عائد إلى صفات لا يملكها إلّا الإسرائيليون، وأن ما تنتجه إسرائيل هو الأفضل والأكفأ والأرقى، وإذا اقتنع كثيرون بذلك وفضلوا شراء المنتوجات الإسرائيلية أكثر من غيرها، فإن ذلك يقود إلى تزايد حجم الإنتاج الإسرائيلي، الأمر الذي يفعّل آلية «وفورات الحجم» (Economies of Scale)، ويؤدي مع الوقت إلى أن تصبح السلع الإسرائيلية هي الأرخص والأكفأ. بكلمة أُخرى، إن دور «الأسطورة» هو تحقيق الظاهرة التي تؤكد أنه إذا تصرف كثيرون على أساس أن نبوءة معينة ستحدث، فإن تصرفهم هذا يحقق النبوءة (Fulfilling Prophecy).

وهناك دور آخر تقوم به «الأسطورة»، ومن أهم الأمثلة الصارخة لذلك هو الشكل الذي نجحت فيه إسرائيل في إقناع دول العالم الثالث ونخبه بطبيعة علاقاتها بالولايات المتحدة. فالنواة الصلبة لتلك العلاقة هو التزام أمريكي مطلق بحماية إسرائيل، وحماية التوسع السكاني والجغرافي الإسرائيلي، وتشمل تلك الحماية الجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية كافة. لكن إسرائيل قامت بإلباس هذه النواة الصلبة أردية ملونة مزركشة حتى بات كثيرون مقتنعين بأن إسرائيل تستطيع أن تتحكم في القرار الأمريكي في أي موضوع، وفي أي مجال. والواقع أن هذا الاعتقاد غير منطقي وغير صحيح، ذلك بأن القرار الأمريكي يخضع لاعتبارات المصالح الأمريكية، ويكون متفقاً مع الرغبات الإسرائيلية عندما يكون هناك تطابق بين مصالح الطرفين، أمّا عندما تتباعد المصالح فالقرار الأمريكي يكون مخالفاً للرغبات الإسرائيلية. وتاريخ الشرق الأوسط شاهد على صحة هذه المقولة المنطقية، ففي سنة 1956 اختلفت المصالح الأمريكية عن المصالح الإسرائيلية في حرب السويس، فاتخذت إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور قراراً معاكساً للرغبات الإسرائيلية. وفي سنة 1992 اختلفت المصالح الأمريكية عن المصالح الإسرائيلية في موضوع الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، فاتخذت إدارة الرئيس جورج بوش الأب قراراً مخالفاً للرغبات الإسرائيلية في قضية ضمانات قرض العشرة مليارات دولار، وفي سنة 2013 اختلفت المصالح الأمريكية عن المصالح الإسرائيلية في تداعيات ثورات «الربيع العربي» فاتخذت إدارة الرئيس باراك أوباما قراراً مخالفاً للرغبات الإسرائيلية في موضوع توجيه ضربة عسكرية أمريكية إلى سورية، وفي موضوع المفاوضات النووية مع إيران وفي هذا المجال، يجب أن نبادر على الفور إلى تأكيد أن المصالح الأمريكية، مثل أي مصالح أُخرى، ليست شيئاً محفوراً في الصخر، أو منقوشاً في لوح محفوظ، وإنما هي آراء ومفاهيم ومقولات يتم صوغها من النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية وفق تصورات ومعتقدات وتخيلات لها جانب عام وآخر شخصي. ولذلك فإن صوغها في أي وقت، وفي أي مكان، يخضع لاعتبارات وتأثيرات منها ما هو حقيقي، ومنها ما هو وهمي صاغته أجهزة الإعلام ومراكز الضغط، فالدور الذي يقوم به مركز الضغط اليهودي في الولايات المتحدة لا يتوقف عند إقناع المواطن الأمريكي بأن المصلحة الإسرائيلية والمصلحة الأمريكية هما مصلحة واحدة، وإنما يتعداه إلى معاقبة كل مَن لا يعتقد ذلك. كما أن نجاح مركز الضغط اليهودي في أداء دوره لا ينعكس على العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية فحسب، بل يتجاوز ذلك أيضاً إلى علاقات الدول الأُخرى بإسرائيل، وخصوصاً دول العالم الثالث، وبشكل أكثر تحديداً الدول العربية. وقد تصرّفت معظم الدول العربية في الأعوام الماضية على أساس أن القرار الأمريكي يمر من البوابة الإسرائيلية، وكان الرئيس المخلوع حسني مبارك، في أعوام حكمه الأخيرة، يتفاخر في مجالسه الخاصة بأنه عندما يريد شيئاً من الولايات المتحدة فإنه يتحدث به مع الإسرائيليين، وفي خلال أربع وعشرين ساعة يحصل على الذي يريده من الولايات المتحدة. وكم من مئات المليارات، دفعتها حكومات دول العالم الثالث لشراء أسلحة وأجهزة أمنية من شركات إسرائيلية ليس لأنها الأفضل أو الأرخص، وإنما لأن التقرب من إسرائيل يفتح أمام تلك الدول بوابة الرضى والتأييد السياسي الأمريكي. غير أن تفضيل التعامل مع الشركات الإسرائيلية وفق معايير «سياسية» لا «اقتصادية» يزيد في حجم إنتاج تلك الشركات، الأمر الذي يفعّل آلية «وفورات الحجم»، ويقود الشركات الإسرائيلية إلى وضع الإنتاج الأكفأ والأرخص. بكلمة أُخرى، إن دور «الأسطورة» هنا هو تفعيل ظاهرة حدوث «العواقب غير المقصودة» (Unintended Consequences).

– 7 –

من الصعب أن ننهي هذا البحث من دون تناول صناعة التقنية العالية في الوطن العربي، ولا نجد في هذا السياق أفضل من الاستشهاد برأي الدكتور أنطوان زحلان الذي هو من أفضل الخبراء العرب في موضوعات «البحث العلمي والتقدم التقني»، وهو يؤكد مقولتين: الأولى تتعلق بعجز العرب منذ منتصف القرن الخامس عشر عن التجاوب مع التغيرات التقنية التي حدثت في أوروبا، وأن هذا العجز كان مسؤولاً إلى حد بعيد عن تفكيك الأساس الاقتصادي في الوطن العربي، وأن التجزئة السياسية والتشرذم والتبعية وفقدان الاستقلال السياسي كانت من نتائج هذا التفكيك. أمّا المقولة الثانية فهي أنه في وقتنا الحاضر، وعلى عكس قادة البلاد الأُخرى، فإن القادة العرب، في معظمهم، ينظرون إلى العلوم والتقنية كمتغير عرضي أو دخيل يمكن استيراده من الخارج، وليس من الأهمية إلى حد تطويره من الداخل. وإذا كان من الضروري عرض فحوى المقولة الأولى في إطار البحث التاريخي الذي قام به الدكتور زحلان كي يتم فحص مدى صحتها التاريخية، وهو موضوع لا يتسع له هذا المجال، فإن المقولة الثانية لا تحتاج إلى أي تدقيق أو فحص، إذ يكفي أن نلاحظ كم تنفق الحكومات العربية على أنشطة البحث العلمي مقارنة بالإنفاق على القصور والطائرات الخاصة واليخوت في عرض البحار، وعلى الخدم والحشم وأجهزة الاستخبارات وأدوات القمع وأجهزة التعذيب ووسائل الإعلام المضلل، كي نتأكد من أن تلك الحكومات تعيش في عالم له منطق يتناقض كلياً وبصورة مطلقة مع المنطق العلمي. وأكثر من ذلك، فإن المنطق الذي يحكم تصرفات أغلبية الحكومات العربية قادها، بحكم طبائع الأمور، إلى أن تتصرف وفق أخطر أبعاد «المعجزة الاقتصادية» الإسرائيلية، إذ أصبح عالم هذه الحكومات هو العالم الذي تحتل فيه إسرائيل عاصمة صناعة «الأمن الوطني والمراقبة»، ولذلك تمت دعوة رئيس دولة إسرائيل شمعون بيريس إلى الحديث، عبر الأقمار الصناعية، في مؤتمر يبحث في أمن المنطقة، وقد حضره 29 وزيراً للخارجية لدول عربية وإسلامية، وعُقد في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 في دولة الإمارات العربية المتحدة. فعالم هذه الحكومات لا يسمح لها بالتعامل مع الجانب الحقيقي للمعجزة الاقتصادية الإسرائيلية، لأن ذلك يتطلب تغييراً في الأولويات وتغليباً للمصالح العامة على المصالح الخاصة، وإنما هو في الواقع يفرض عليها التعامل مع الجانب «الأسطوري» الذي يكرس التبعية التي هي جوهر عالم هذه الحكومات.

أمّا على مستوى الشعوب فهناك، طبعاً، مَن يتعامل مع «الجانب الحقيقي» للمعجزة الإسرائيلية، وهو بذلك يعمل على تحطيم «الجانب الأسطوري» منها، وهذا ما أنجزته المقاومة اللبنانية عندما تمكنت من اختراق أنظمة المراقبة الإلكترونية الإسرائيلية، أو عندما تمكنت من اختراق الأجواء الإسرائيلية بطائرة من دون طيار.

– 8 –

في ختام هذا البحث نعرض مع القارئ موضوعات فصول الكتاب الذي صدر مؤخراً حول هذا الموضوع:

يتطرق الفصل الأول إلى تفصيلات المنظور النظري للبحث، وهو يتألف من جزأين: الأول يخص المفاهيم الأساسية التي تميز صناعة التقنية العالية من الصناعات التقليدية، وهي علاقة الصناعة بإنتاج المعرفة التي هي أقرب إلى السلع العامة من السلع الخاصة، واعتمادها المحوري على رأس المال البشري، ثم يتم شرح كيف أن هاتين الصفتين هما اللتان تستوجبان دوراً للدولة يختلف بشكل جذري عن دور الدولة في الصناعات التقليدية. أمّا الجزء الثاني من الفصل، فيتناول بالتحليل الدور التاريخي لصناعة التقنية العالية في سياق تطور النظام الرأسمالي، وهذا التحليل يتم عبر محورين متداخلين أحدهما في الآخر: الأول هو الانتقال من نطاق الإنتاج الفوردي إلى نظام الإنتاج «بعد الفوردي» في إطار نمط التنمية المعلوماتي وتراكم رأس المال المرن، والثاني هو الانتقال من نظام «دولة الرفاه» إلى نظام «الرأسمالية النيوليبرالية». وفي نهاية الجزء الثاني من الفصل يتم شرح أهمية النظر إلى دور صناعة التقنية العالية من منظور مكانة إسرائيل الدولية في إطار «نظرية المنظومة العالمية».

يتناول الفصل الثاني وبشيء من التفصيل التحليلي، تطور بنية الاقتصاد السياسي في إسرائيل وهيكلته عبر خمس فترات هي: فترة تكريس الاستيطان اليهودي على أرض فلسطين 1882 – 1914؛ فترة الانتداب البريطاني 1922 – 1948؛ فترة بناء الدولة 1948 – 1973؛ فترة الأزمات الاقتصادية 1974 – 1985؛ فترة الإصلاح والتوسع والتمركز ما بعد سنة 1985. والهدف من هذا التحليل التاريخي هو: أولاً، توضيح حقيقة تشكل أهم صفات المشروع الصهيوني وهي أنه، وعلى امتداد قرن ونصف قرن، احتفظ بأهداف أيديولوجية ثابتة لم تتبدل ولم تتغير، كما أن الأساليب التي تبنّاها لتحقيق هذه الأهداف كانت، في الوقت ذاته، أساليب براغماتية مرنة لا تخضع إلّا لمعايير «التجربة والخطأ»؛ ثانياً، الاستفاضة في تحليل الفترة الأخيرة التي تم فيها حدوث «الثورة الصامتة» التي تغيرت فيها بنية المجتمع الإسرائيلي وهيكليته، فانتهى نظام «الديمقراطية الاشتراكية» الذي شكّل البيئة التي تأسست فيها «الدولة»، وحل محله نظام «الرأسمالية الليبرالية» الذي يتم في مناخه بناء «دولة المركز».

أما الفصل الثالث فيشكل الجزء الأول منه عرضاً للمحطات التاريخية التي مرت بها صناعة التقنية العالية في إسرائيل حتى وصلت إلى وضعها الحالي الذي أصبحت فيه عجلة النمو موازية لمستويات الإنتاج والتوظيف والتصدير. أمّا الجزء الثاني فيتناول بالتفصيل التحليلي عناصر البيئة التي احتضنت مراحل نشوء هذه الصناعة وتطورها، وهذا التحليل يركز على ثلاثة عناصر هي: رأس المال البشري؛ دور الدولة؛ دور الدعم الأمريكي. ويتضح من هذا التحليل أن وجود رأس المال البشري، بفضل نظام التعليم والخدمات الصحية وأنظمة الضمان الاجتماعي، شكّل الشرط الأساسي لتطور الصناعة وتقدمها، لكنه لم يكن كافياً وحده من دون دور الدولة المحوري في الرعاية والدعم والترشيد، والذي هو بدوره دور أساسي، غير أنه من دون الدعم الأمريكي لم يكن بالتأكيد ليتمكن من تحقيق النجاحات والإنجازات التي تحققت فعلاً.

ويقدم الفصل الرابع بشيء من التفصيل صورة للقطاع الاقتصادي الذي يضم جميع نشاطات صناعة التقنية العالية، ويعرض هذه الصورة من خلال أربعة عناوين رئيسية هي:

1 – الصناعة الحربية التي شكلت ولا تزال تشكل الأب الشرعي لفروع صناعة التقنية العالية كلها في إسرائيل، فأغلبية الابتكارات التقنية الجديدة التي أُنجزت في إسرائيل تمت في مختبرات ومراكز أبحاث الصناعة الحربية، ثم وجدت طريقها بعد ذلك إلى التطبيقات المدنية، كما أنه على مستوى القيادات أيضاً، فإن كثيرين من مدراء شركات القطاع الخاص جاءوا من شركات القطاع العام الحربية. أمّا على مستوى التدريب والخبرة فإن الفصل يفرد جزءاً خاصاً لوحدة 8200 في الاستخبارات العسكرية، وماهية دورها كقاعدة تدريب يتخرج فيها قادة المستقبل لشركات صناعة التقنية العالية.

2 – صناعة «الأمن الوطني والمراقبة»، وهي صناعة جديدة نسبياً تنتج السلع والخدمات التي تُستعمل في أنشطة التنصت والتجسس والمراقبة وحفظ الأمن وضبط التجمعات ومحاربة الإرهاب. وقد أصبحت إسرائيل تُعرف على أنها عاصمة هذه الصناعة في العالم لأن أجهزتها الإعلامية تمكنت من تكريس صورة إسرائيل كصاحبة أهم تجربة في مكافحة الإرهاب، وهذا الفصل يتناول هذه التجربة الإسرائيلية بالتفصيل بدءاً من تجربتها مع الفلسطينيين، مروراً بتجربتها مع حركات التحرر كلها في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، ووصولاً إلى تجربتها في الأسواق العالمية بعد الحادثة الإرهابية في 11 أيلول/سبتمبر 2001. كما يقدم صورة تفصيلية للاختراق الذي حققته هذه الصناعة الإسرائيلية في الأسواق العالمية.

3 – صناعة التقنية العالية المدنية التي تشمل صناعة كل من تقنية المعلومات والاتصالات، وعلوم الحياة، والتقنية الطبية، سواء على مستوى صناعة الأدوية أو الأجهزة الطبية أو خدمات الرعاية الصحية، وصناعة التقنيات الزراعية.

4 – يتناول هذا العنوان الشركات الأجنبية ودورها في نشاط «البحث والتطوير» ونشاط التصدير، كما يهتم بوضع «الملكية الفكرية» في إسرائيل.

ويتطرق الفصل الخامس إلى مجمل التغييرات الهائلة التي حدثت في المجتمع الإسرائيلي في ربع القرن الأخير، سواء تلك التي مهدت وساعدت في نشوء صناعة التقنية العالية وتطورها، أو تلك التي حدثت نتيجة نجاح صناعة التقنية العالية وتبوئها المركز الريادي الحالي كرافعة نمو الصناعة الإسرائيلية. ويبتدئ الفصل بإعطاء لمحة تاريخية سريعة عن ظهور عنقود صناعة التقنية العالية، وتكوّن «وادي السيليكون» حول مدينة تل أبيب محاكياً الوادي المشهور الذي يحمل الاسم نفسه في كاليفورنيا. ويتناول الفصل أيضاً عملية تطور مدينة تل أبيب في اتجاه أن تصبح «مدينة عالمية» (Global City) تضم كثيراً من الشركات العالمية متعددة القومية وأحياء السكن البرجوازية بأبراجها العالية إلى جانب أحياء العمال الفقيرة، كما يفرد جزءاً خاصاً بعملية إعادة تأهيل البنى التحتية في إسرائيل كي تواكب عملية اندماج الاقتصاد الإسرائيلي في الاقتصاد العالمي من ناحية، وتلبية لطموح إسرائيل في أن يشكل اقتصادها مركز اقتصاد الشرق الأوسط الجديد من ناحية أُخرى. ويتم عرض تفصيلات هذه التغيرات كلها في سياق التحول السياسي – الاجتماعي – الاقتصادي الذي ابتدأ منذ منتصف الثمانينيات، وتم فيه تراجع دور القطاع العام وتقليص دور نقابات العمال والأحزاب العمالية وتبنّي سياسات الخصخصة وتحرير التجارة ورفع القيود عن حركة رأس المال، الأمر الذي نجم عنه تراكم في الثروات السريعة من ناحية، وزيادة في مساحة الفقر من ناحية أُخرى.

يتعلق الجزء الأول من الفصل السادس بدور صناعة التقنية العالية في إسرائيل في دمج اقتصاد هذه الأخيرة في الاقتصاد العالمي وتعزيز مكانتها العالمية. وفي هذا السياق يتم التركيز على ثلاثة محاور هي: شركات إسرائيل عابرة القارات؛ حجم وتركيب الصادرات والواردات الإسرائيلية؛ دور الصناعة الحربية الإسرائيلية في علاقات إسرائيل العالمية. أمّا دور صناعة التقنية العالية في مكانة إسرائيل الإقليمية فيتم معالجته أولاً من خلال فحص العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل ومحيطها العربي لمعرفة مدى تطابقها مع نظام «المركز والأطراف»، وثانياً من خلال فحص ثلاث تجارب في علاقات إسرائيل الاقتصادية بالعرب وهي:

1 – علاقتها الاقتصادية بالأقلية الفلسطينية العربية.

2 – علاقتها الاقتصادية بالفلسطينيين من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة.

3 – علاقتها الاقتصادية بمصر والأردن.

ويخلص هذا الفحص إلى الاستنتاج أن التجارب الثلاث تؤكد أن مستقبل العلاقات الإسرائيلية – العربية، في المستقبل المنظور، سيكون مقيداً بإطار نظام «المحور والأضلاع» (Hub and Spokes)، وذلك لحجم الفجوة التقنية بين إسرائيل والعرب من جهة، ولمركز إسرائيل العالمي من جهة أُخرى.

 

قد يهمكم أيضاً  واقع الصناعة الدوائية في البلدان العربية للفترة (2006–2015): دراسة تحليلية باستخدام نموذج SWOT

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التقنية_العالية #صناعة #صناعة_التقنية_العالية_في_اسرائيل #إسرائيل #الاقتصاد_الاسرائيلي #الاقتصاد_السياسي #إقتصاد #دراسات