«تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخَوان أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة إلى التعاون على تذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان: أولهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب».

(الكواكبي، 2006: 45).

مقدمة

يحتاج فهم التغيير المجتمعي إلى ثلاث مقاربات: الأولى، مقاربة ماركسية، تظهر التراتب الطبقي الاجتماعي، وكيف يمكن للظلم الطبقي أن يكون مولداً لحراكات اجتماعية ضد السلطات والطبقة المهيمنة؛ والثانية، مقاربة هوياتية، والتي تبين كيف تتشكل الهويات الاجتماعية، بما في ذلك الهوية الفردية؛ شوق الفرد والجماعات الإثنية إلى التحرر من هيمنة سلطات استبدادية، اشتهرت باستخدامها لأدوات المراقبة والسيطرة والسجن والتعذيب ومنع الحريات الفكرية، وفرض ثقافة واحدة باسم الأمة أو التاريخ أو الدين. أخيراً، هناك المقاربة الثالثة، وهي الفيبيرية المركزة على دور القيم في تنميط سلوك الفرد والجماعات، وتغيرها يدفع باتجاه تغيير في الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

لقد بينت الانتفاضات العربية أنها حملت بذور هذه المقاربات الثلاث ومطالبات ناشطيها في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولكن أيضاً قيماً معرفية جديدة كالنقاش حول الدولة المدنية وتطوير مفهوم المواطنة. في هذه الدراسة، سأركز على أهمية المقاربة الفيبيرية لفهم هذه الانتفاضات حيث تَمَّثَلَ الشباب العربي بقيم جديدة من فضاءات العولمة، وظهر دور لبعض النخبة الدينية والسياسية – الدينية في تبني ونشر فكر جديد، أقرب إلى مفاهيم بشرت بها الحداثة من عدالة اجتماعية ومواطنة وديمقراطية وتسامح وإنسانية. لقد شهد العقد الماضي في الوطن العربي تسارع حركة التجديد الإسلامي من قبل جيل جديد من المثقفين الذي كانوا على استعداد لسد الفجوة بين الدراسات الإسلامية التقليدية، والعلوم الاجتماعية والإنسانية. وهذا لم يأتِ من خلال الهياكل السياسية التقليدية المعمول بها، ولكن من خلال مبادرات جديدة من مؤسسات أكثر مرونة مثل مراكز تفكير ودراسات، وشبكات للأبحاث، ودور النشر. على الرغم من أن الكثير من هذه المبادرات، سبقت الانتفاضات العربية، فقد قدمت هذه الأخيرة لهم مزيداً من الوضوح وزيادة في جمهورهم.

ففي موضوعة الديمقراطية مثـلاً، ربما تكمن أهم تبعات الانتفاضات العربية على التيارات والحركات الإسلامية، في توضيح مواقفهم من هذه الموضوعة باعتبارها فلسفة وآليات. وفعـلاً، ظهرت وثائق وبيانات جلية بتبني النظام السياسي – الديمقراطي (حزب النهضة التونسي، وحزب العدالة والتنمية المغربي، وحزب الحرية والعدالة المصري، وحزب الإصلاح الجزائري واليمني، وحركة حماس، والبيان الختامي لجماعة الإخوان المسلمين السوريين في 2015، ووثائق الأزهر 2012، وغيرها). وظهرت تنظيرات وفتاوى جلية من بعض الرموز الإسلامية المؤثرة، كالشيخ يوسف القرضاوي، رغم أنه لم يقم بأي نقد ذاتي لكتاباته السابقة والمنددة بالليبرالية – الديمقراطية (ككتابيه: الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، والحل الإسلامي فريضة وضرورة). ولكن ثمة استثناء لهذا التطور المهم، إذ لم يشمل الاتجاه السلفي والذي أصبح الاتجاه الإسلامي الوحيد (إضافة إلى الإسلامية الجهادية العنيفة – القاعدة وأخواتها) الذي ما زال يحمل في أفكاره وممارسته الكثير من المراوحة بين الالتباس إلى الرفض التام والتكفير لمفهوم الديمقراطية.

تحاول هذه الدراسة رسم خريطة التكوينات الجديدة المساهمة في التجديد الإسلامي من الداخل، في حقبة ما بعد الانتفاضات العربية، وفحص الاستراتيجيات السياسية والفكرية المستخدمة، وإن كانت قد تفاعلت جدياً مع العلوم الاجتماعية والإنسانية.

بينما يدخل العالم العربي في السنة السابعة منذ بدء الانتفاضات، تظهر نتائج بالغة الخطورة؛ إذا كنا سننظر إليها وكأنها نهاية صيرورة التغيير، فهي كارثية وتقسيمية لفضاءات استبدادية التي كانت مستقرة سياسياً منذ استقلال الدول الوطنية، ولكن إذا اعتبرناها بداية مخاض وعملية انتقالية نحو مجتمعات يطوق أفرادها إلى المواطنة المتساوية والحرية والعدالة والكرامة‏[1]، فربما نصبح أقل صرامة في أحكامنا القيمية السلبية ويقظين للتغيرات البطيئة ولكن النوعية، على طريقة مفهوم آصف بيات (الزحف الهادئ) (Quiet Encroachment) (Bayat, 2010). في خضم ذلك تنقسم النخب، من جهة، إلى نخب متطرفة وعنيفة (عملياً أو نظرياً) منها الإسلامي المتطرف المتبني لفكر داعش أو لفكر سلفي رافض للتجديد، ومنها اليساري الليبرالي العلماني المتطرف المتحالف مع العسكر والاستبداد. ومن جهة أخرى، نخب إسلامية أو حداثية ليبرالية منفتحة اجتماعياً أو/وسياسياً على التجديد الفكري باتجاه مطالب العدالة الاجتماعية والديمقراطية والمواطنة.

لفهم هذه الأطروحة، هناك خمس قضايا لا يتسع هذا المقال لإثباتها، ولكننا سنتناولها كمنطلقات.

المنطلق الأول: وهو أن الحقل الديني يتمتع باستقلالية نسبية عن حقل السلطة السياسية. وقوة هذه النسبية تختلف من بلد إلى آخر. فلا يمكن مثـلاً، فهمُ ما يحصل في السعودية باعتبار أن السلطة السياسية والسلطة الدينية لهما توجهات دينية واحدة. هذا سيسمح بإمكانية إظهار كيف أن المناهج المُدَرَّسَة في جامعات المملكة والفتاوى الصادرة عن اللجنة الدائمة للبحوث الإسلامية والإفتاء تدفع باتجاهين اجتماعي وسياسي محافظَين، ليس بالضرورة ما تدفع به النخبة الحاكمة (حنفي، 2016). وكما تعمل هذه النخبة في تعبئة الإعلام والمجتمع في اتجاه ما، تقوم السلطة الدينية بالتحالف مع مؤسسات مدنية واقتصادية بتعبئة مضادة، أو على الأقل مغايرة لتوجهات الحكومة.

المنطلق الثاني: نحن نرفض استخدام مصطلح «الإسلام السياسي»: هناك فكر إسلامي – سياسي متعدد ومتنوع، منه الوسطي ومنه المتطرف، تحمله الأفراد أو الحركات الإسلامية أو الإسلام الرسمي. وغالبا ما استخدم تصنيف الإسلام السياسي باعتباره قدح بمجموعات حركية معينة، والإيحاء أن اتجاهها واحد يتألف من قارئي سيد قطب من الإخوان المسلمين إلى القاعدة. والطريف أن من يستخدم هذا النعت هم غالباً حاملو الإسلام الرسمي الذين يعتبرون إسلامهم ليس سياسياً.

المنطلق الثالث: لا يمكن فهم الحركات التجديدية الحالية القائمة على التجسير بين العلوم الاجتماعية والشرعية بدون استحضار دور أساسي، أدّاه بعض منتجات مشروع التأصيل الإسلامي للمعرفة الذي قاده المعهد العالمي للفكر الإسلامي والمساهمات المهمة لأساتذة العلوم السياسية في مشروع «العلاقات الدولية في الإسلام» (1986 – 1996) من قبل عبد الحميد سليمان، ومن ثم سيف عبد الفتاح وناديا محمود مصطفى وهبة رؤوف. (مصطفى، 2009). كما أن هناك مساهمات فردية فلسفية حاسمة في مسيرة التجديد، ومن هذه المساهمات أعمال رضوان السيد (لبنان)، وأبو يعرب المرزوقي (تونس)، وعبد الوهاب المسيري (مصر) وطه عبد الرحمن (المغرب) وعبد الله المالكي (المالكي، 2011) (السعودية)، وعلي شريعتي (إيران)، وآخرين.

المنطلق الرابع: هناك اختلاف على ما يمكن تجديده. في الحقيقة، إن الخلاف بين ما هو نصي لا يُمس، وغير نصي متغير هو قديم منذ موجة الإصلاح الديني في عصر النهضة من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وترتيب العلاقة بين أولية النقل على العقل أو العكس‏[2]. حديثاً، تتبنى المدرسة المغربية الرؤية المقاصدية التي تفرق بين الكليات وغيرها، وتعتبر أن الكليات تتمثل بشكل أساسي في العناصر العقدية الأساسية والعبادات، وتترك الباقي للاجتهاد. بينما يفرق الأزهر بين الثوابت الخالدة، والمتغيرات المتحركة، ويحدد الشيخ الأكبر للأزهر أحمد الطيب ثوابت الدين بـ «العقيدة، وأركان الإسلام الخمسة، وكل ما ثبت بدليل قطعي من المحرمات، وأمهات الأخلاق، وما يثبت بطرائق قطعية في شؤون الأسرة من زواج وطلاق وميراث، ومن الحدود والقصاص» (عطية، 2017).

المنطلق الخامس: مع أن العلوم الاجتماعية على مستوى العالم، وكذلك الفلسفة، هي من الأدوات الرئيسة المستخدمة في الإصلاح الديني، فالحال ليست كذلك في الوطن العربي‏[3]. على الرغم من الانطباع العام على قطيعة عقدية وفكرية بين السنّة والشيعة، فإن هناك تفاعـلاً مهماً وواضحاً بين فضاءات الاجتهاد لدى كلا الطائفتين؛ فكتاب اقتصادنا للشيخ المرحوم محمد باقر الصدر، كان قد كُتب بناءً على طلب من وزير الأوقاف الكويتي. كما أن هناك دلائل مهمة على التأثر المتبادل بين الشيوخ محمد مهدي شمس الدين، السيد محمّد حسين فضل الله، مع راشد الغنوشي وحسن الترابي (رحال، 2004).

في هذا المقال، سأتناول ثلاثة اتجاهات للتجديد من الداخل: اتجاه شبابي تجديدي، واتجاه تجددي اجتماعياً وسياسياً؛ واتجاه تجددي اجتماعياً ومحافظ سياسياً. وسأعطي أمثلة على هذه الاتجاهات. ولا أدعي على الإطلاق، أن هذه الأمثلة هي الأهم في مسيرة التجديد من الداخل، فالبحث ما زال في طوره.

أولاً: اتجاه شبابي تجديدي

هناك اتجاه شبابي تجديدي، حيث تنتمي غالباً قيادات هذه المبادرات إلى اتجاهات فكرية يمكن أن أسميها ما – بعد الإخوانية وما – بعد السلفية وما – بعد حركة الصحوة (السعودية). فهم قد درسوا أولاً الشريعة حتى مستويات عليا، ومن ثم تأثروا بفكر الإخوان والسلفية والصحوة. تنتشر هذه الاتجاهات بشكل أساسي في الخليج، ولكن لها امتدادات تتجاوز الحدود الوطنية، وبخاصة في مصر والمغرب. بعض هذه المبادرات بدأت في السعودية نذكر منها ثلاث مؤسسات: واحدة منها هي دار نشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ومركزان بحثيان أُسّسا حديثاً يهتمان بربط الفقه بالواقع بدرجات متفاوتة، وهما: مركز نماء للبحوث والدراسات، ومركز التأصيل للدراسات والبحوث. كما أن بعضها في قطر مثل مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق (يرأسه طارق رمضان) ومنتدى العلاقات العربية والدولية‏[4] (ويرأسه السعودي محمد حامد الأحمري)‏[5]، ومعهد المقاصد (يرأسه جاسر عودة)‏[6]. يبدو أن الجديد في الموضوع هو قيام بعض دول الخليج بالمبادرة في إنشاء مؤسسات لتأطير التجديد الإسلامي، ولكن دائماً باستخدام أدمغة من مصر والمغرب وتونس، وبشكل أقل من الجزائر وسورية ولبنان. وفي بعض الأحيان، يتم تمويل مراكز بحثية مقرها خارج الخليج، ولكن بتمويل خليجي كما هي الحال في مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث (تمويل إماراتي). طبعاً هناك مبادرات أخرى رائدة مصرية، مثل دار نشر «مدارات»‏[7] التي تنشر كتباً، تجمع بين العلوم الاجتماعية والدينية، وكذلك دور مغربية أخرى.

1 – الشبكة العربية للأبحاث والنشر

تأسست الشبكة العربية للأبحاث والنشر في العام 2007 على يد مجموعة من الباحثين المتميزين القريبين تاريخياً من حركة الصحوة السعودية، يديرها الباحث الإسلامي نوَّاف القُدَيْمي. لقد اتخذت الشبكة من بيروت مقراً لها لما تتمتع به هذه المدينة من حريات فكرية. وتكمن أهمية هذه الدار بالحجم الكبير من الكتب التجديدية التي قدمتها للقارئ العربي.

لنأخذ مثـلاً على ذلك كتاب الباحث السعودي نواف القديمي أشواق الحرية: مقاربة للموقف السلفي من الديمقراطية الذي أعتبره من أهم ما قرأت في الرد على كثير من السلفيين في مواقفهم المبهمة والرافضة للديمقراطية، وعدم اعتبارها موضوعاً ذا أولوية في أجنداتهم الدعوية والسياسية، وغياب مشروعات المطالبة بالاختيار والانتخاب، وتباري بعضهم بالتخصص في نقد دعاة الحقوق والشورى والديمقراطية. وبسبب تميز هذا الكتاب بلغته السهلة للقارئ غير المتخصص فقد طُبع ست طبعات، أولها قبل الانتفاضات العربية (2009)، ولكن بقي صالحاً لتغذية الجدل حول موضوع الديمقراطية. فعلى الرغم من بدء الحلحلة في بعض الأوساط السلفية بانخراطها في العملية الانتخابية (كحزب النور أو السلفية الثورية بقيادة حازم أبو إسماعيل في مصر)‏[8]، أو بتطوير خطاب متلعثم حول ضرورة الأخذ بخيارات الشعب لدى بعض الفصائل العسكرية السورية ذات الأصول السلفية (مثل حركة أحرار الشام وجيش الإسلام)، فما زال كثير من الحناجر التي تُنظِر للبحث عن «أهل الحل والعقد» وتصر على التفكير التبسيطي الثنائي في مقابلة بين النظام الديمقراطي والنظام الإسلامي، وتخشى أن يؤدي تطبيق حكم الشعب إلى مخالفة حكم الشريعة.

يقوم القديمي بتعبئة جهاز مفاهيمي من داخل الحقل الإسلامي مستخدماً الأدبيات الإسلامية في تفسير آيات القران الكريم والحديث الشريف لتفنيد الكثير من هذه الثنائيات. ويرى أن تطبيق الشريعة هو قرار الأمة وليس قرار حاكم مستبد، وتالياً، يجب عدم فرض أي تشريع بالقوة. كما قدم القديمي تحليـلاً مضموناً لعدد كبير من الدراسات والكتب السلفية، ليخلص إلى أن هناك ملامح منهجية مشتركة يمكن اختزالها في خمس نقاط: الأولى، أنهم يلازمون بين مفهومَي الديمقراطية والعلمانية ويستخدمون هذا الربط لنفي المشروعية الدينية عن الديمقراطية. الثانية، استحضار نماذج ديمقراطية مشوهة. الثالثة، سرد المطولات من أجل إثبات عدم جدوى النظام الديمقراطي، وذلك وفق معلومات انتقائية تفتقر إلى التماسك والدقة، وأغلبها منقول من كتابات غربية تمارس نقد هذا النظام بهدف إصلاحه لا إلغائه. الرابعة، الهوس بالنموذج الأمريكي حيث يتم تشريح عيوبه وتأثير الإعلام ولوبيات المال وشركات السلاح، بينما يتم تجاهل نماذج ديمقراطية أخرى. الخامسة، تدبيج المدائح للنظام السياسي – الإسلامي الذي يمثل كما يقولون، منتهى العدل والرحمة والتكافل، من دون بذل جهد لرسم ملامح لطبيعة هياكل السلطات وآليات الاختيار والمراقبة والمحاسبة في هذا النظام.

2 – مركز نماء للبحوث والدراسات

هو مركز بحثي غير ربحي، يديره ياسر المطرفي، يعمل في مجال البحث الشرعي والفكر الإسلامي، تأسس عام 2011 ومقره الرئيس في مدينة الرياض، وله فروع في القاهرة والرباط، حيث يهدف إلى «تنمية العقل الشرعي والفكري، وتطوير خطابه وأدواته المعرفية بما يُمكِّنه من الالتزام بالمحكمات والتفاعل مع حركة التنمية والانفتاح الواعي على المعارف والتجارب العالمية المعاصرة». إذا يتحدث مركز نماء في بيان رسالته عن الحاجة إلى دمج خطاب إسلامي وسطي في الخطاب الفكري وأدواته، من أجل «تطوير الوعي» والاطلاع على «معارف العالم المعاصر وخبراته»‏[9]. وبإلقاء نظرة فاحصة على أنشطة هذا المركز (دراساته ومحاضراته واستعراضاته للكتب)، يظهر بجلاء وجود هذا الربط والدمج من خلال أدوات فلسفية ومنطقية، وقليل من العلوم الاجتماعية، ذلك أن الباحثين المنخرطين في هذا المسعى، إما أنهم من المختصّين في الشريعة أو الفلسفة أو التاريخ، وإما أنهم مفكرون بكلّ بساطة. وهذه عناوين ثلاثة لدراسات تحمل دلالات واضحة على الموقع الإلكتروني: «الحرّية أو الشريعة؟»، و«مشكلات القيم بين الثقافة والعلوم»، و«مدرسة ابن رشد الفكرية وصلتها بالنهضة الأوروبية». إن الإشارة بإيجابية إلى مدرسة ابن رشد الفكرية أمر لم يحدث في الأمس القريب في دولة يهيمن عليها التيار السلفي الوهّابي. وقام هذا المركز بتسليط الضوء على الدور اللافت لثلاثة من الفلاسفة المغاربة هم، محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وعبد الله العروي، والذين قدموا مقاربات جيدة لتفسير التراث العربي والإسلامي، ولكن لم يتم استخدام العلوم الاجتماعية إلا بشكل هامشي جداً. ومثال ذلك أحد كتّاب مركز نماء، وهو عبد الله السُفَياني. وقد نال السفياني شهادة الدكتوراه في التعليم من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة في سنة 2014 في مسعى للربط بين التربية كعلم والفقه، وهو ما يلاحظه المرء في عنوان شهادة الدكتوراه التي نالها، وهي «نقد الأنظمة التربوية من خلال فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وتطبيقها في ميدان البحث التربوي». وفي محاضرة في «قراءة في المؤثرات الخفية على الخطاب الفقهي» لعبد الله السفياني، يطعن المحاضر في قدسية الفقهاء، مستخدماً الفلسفة وإشارات من العلوم الاجتماعية (فرويد وابن خلدون) (السفياني، 2014).

هذا، ويبدو أننا بصدد بدايات التعامل مع العلوم الاجتماعية بعد التعامل معها ليس كعلوم ولكن كدراسات فكرية، كما يوضح ذلك اسم الإصـدار الجديد للمركز وهو مجلـة نماء الفصليـة للدراسات الشـرعية والفكرية. (صدر العدد الأول في عام 2016‏[10]، والثاني في عام 2017)‏[11] وقد برر مركز نماء هذا الإصدار على أنه يهدف إلى «تنميةِ العقلِ الشـرعيِّ الفكريِّ، وتطويرِ خِطابِهِ وأدواتِهِ المعرفيَّةِ بما يُمكِّنه مِنَ الِالْتزامِ بالمُحكَّماتِ، والتفاعلِ مع حركةِ التنميةِ والانفتاحِ الواعِي على المعارفِ»؛ إذ يحتم تنزيل هذا الهدف فتح نافذة بحثية نقدية معمقة على الكسب المعرفي الذي أنتج في مسار التعاطي مع النص الشـرعي، والإفادة من المنهجية المعرفية التي أنتجت العلوم الشـرعية والفكرية، والاجتهاد في تطويرها واستئناف النظر فيها، وتنمية الحس المنهجي للإسهام في استكمال مسار التراكم العلمي المحصل في مختلف العلوم الشرعية والفكرية». هناك إذاً وعي لدى إدارة المركز بضرورة أن تصبح المجلة «جسـر التقاء مختلف مكونات المجتمع الأكاديمي المنشغل بإشكاليات البحث العلمي في مجال العلوم الشـرعية والفكرية، وبالأخص العلوم المنهجية التي تخدم هدف تطوير العقل الشرعي وتنمية ملكته التجديدية»؛ وكأنهم بذلك يريدون الاستفادة من منهجية العلوم الاجتماعية ولكن ليس منتجاتها. ولقد أثار انتباهنا الوجود المكثف لأساتذة العلوم الاجتماعية والفلسفية. فمثلاً رئيس التحرير عبد الرزاق بلعقروز (أستاذ فلسفة في جامعة سطيف 2 – الجزائر) ومدير التحرير هشام المكي (دكتوراه في التواصل والإعلام – المغرب). أما هيئة التحرير فتتألف، إضافة إلى عبد الله السفياني (كلية التربية – جامعة المجمعة – السعودية)، من باحثين شبان مهتمين بالشأن الإسلامي (أحمد سالم ومحمد توفيق من مصر؛ والحسان شهيد من المغرب). أما الهيئة الاستشارية، فمؤلفة من أساتذة من جميع الاختصاصات الشرعية والاجتماعية والإنسانية.

3 – مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق

تأسس مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق عام 2012، وهو عضو في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمَد بن خليفة – الدوحة. يطمح هذه المركز إلى «الريادة في إصلاح وتجديد الفكر التشريعي والأخلاقي الإسلامي، من خلال الإسهام في صياغة منهجية أخلاقية راسخة، وقادرة على مواجهة التحديات العالمية المعاصرة». وكأن مدير المركز طارق رمضان يهدف ليحول هذا المركز إلى مختبر لما نادى به وهو «الإصلاح الجذري»‏[12] (رمضان، 2016)، أي «معالجة مجموعة من القضايا المعاصرة، على وجه التحديد تلك القضايا المتعلقة بالأخلاقيات الإسلامية التطبيقية. وفي هذا الصدد، يتناول المركز من منظور إسلامي تلك العلاقة بين الإطار القانوني الشرعي والتعاليم الأخلاقية للدين الإسلامي. دائماً ما نجد العلماء في تناولهم لتفسيرات النصوص في إطار فقهي يركزون على الأحكام من دون الالتفات إلى المغزى الأخلاقي لتلك النصوص. وكأن الأخلاق الإسلامية معنية فقط بالسلوكيات القويمة دون التفكير في المعاني والأهداف. وهنا يأتي دور المركز في الموازنة بين الإطار الشرعي الفقهي والآفاق الأخلاقية، ومحاولة فهم العلاقة الضرورية بين حقلَي الدراسة. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، سوف يركّز المركز على مجالات بحثية محددة تشمل الفن، والاقتصاد، والتربية والتعليم، والبيئة، والتمويل، والغذاء، ودراسات النوع الاجتماعي، والإعلام، والطب، والأخلاقيات الحيوية، والسياسة، وعلم النفس، إلخ. وسوف يعالج المركز القضايا المعاصرة في كل حقل من هذه الحقول من خلال الاستعانة بعلماء النصوص وعلماء الواقع وتنظيم الندوات العلمية المتخصصة المغلقة التي تجمعهم ليتسنى لهم مدارسة القضايا والتشاور فيها والتركيز على الأسئلة الحساسة والدقيقة».

ولتحقيق المنهج التركيبي الذي يجمع علماء النص (من مختلف التخصصات التراثية الإسلامية) وعلماء السياق (من مختلف الخلفيات في العلوم الطبيعية والإنسانية)، قام المركز بتوظيف باحثين في العلوم النصية ولكن أيضاً باحثين في علوم الاجتماع والسياسة، يتبادلون الأفكار من حقل معرفي إلى آخر وإنتاج معرفة مشتركة.

4 – مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث

تعرف مؤسسة مؤمنون بلا حدود، التي تأخذ من الرباط مقراً لها، أنها تسهم في «خلق فضاء معرفي حر ومبدع لنقاش قضايا التجديد والإصلاح الديني في المجتمعات العربية والإسلامية، وتعمل على تحقيق رؤية إنسانية للدين منفتحة على آفاق العلم والمعرفة ومكتسبات الإنسان الحضارية، وخلق تيار فكري يؤمن بأهلية الإنسان وقدرته على إدارة حياته ومجتمعاته متخطياً الوصايات الإيديولوجية أو العقائدية». كما تهدف المؤسسة إلى «تهيئة الفرصة والبيئة الملائمة والدعم الذي يتيح لمختلف أنماط التعدد الفكريّ والثقافيّ ذي الطابع العقلانيّ والعلميّ أن تتفاعل في ما بينها وتتآلف جهودها، وتعزيز الدراسات والبحوث النقديّة والتحليلية لموروثنا الديني، وتفكيكِ الأُسس والقواعدِ الفكريةِ لظواهر الفكر والثقافة المغلقة والإقصائية، ودعم الدراسات والبحوث الاجتماعية والفكرية والدينية القائمة على أسسٍ علميةٍ وعقلانية، وبناء الكفاءات العلمية والكوادر البحثية القادرة على البحث العلمي في قضايا التجديد والإصلاح الثقافي والديني بشكلٍ مُعمقٍ ورصين، وتنسيق ودعم التواصل والتعاون بين الباحثين والمفكرين والمؤسسات الذين تتقاطع اهتماماتهم وأعمالهم مع رسالة المؤسسة، وإيصالُ صوت التيار التجديديّ الجادِّ لمختلف الشرائح الاجتماعية»‏[13].

وبخلاف المؤسسات السابقة ضمن الاتجاه الشبابي التجديدي الذي تبنى التجديد من داخل الحقل الديني، فإن هذه المؤسسة تحاول تفاعل بعض الاتجاهات الإسلامية مع اتجاهات حداثية، أي التجديد الذي نادى به مفكرون، مثل أركون والجابري ونصر حامد أبو زيد وغيرهم. وذكر بعض المطلعين على أدبيات ومنتجات هذه المؤسسة، أن هناك غياباً لكتّاب وباحثين من الإسلام الحركي التجديدي من الاتجاه الإخواني. وعندما سألت مدير المؤسسة، محمد العاني، عن ذلك، بيّن لي أنه قد اتصل ببعض مفكريهم للمشاركة في أنشطة المؤسسة، ولكنهم لم يستجيبوا. وفي مقابلات لنا مع شخصيات من حزب العدالة والتنمية، ذكروا أن لديهم شعوراً بإقصاء متعمد للإسلام الحركي، ناتج من أن أجندة دولة الإمارات السياسية ضد السلفية والإخوان ومروِّجة لإسلام صوفي مسيَّس. على الرغم من ذلك، تسهم مؤسسة مؤمنون بلا حدود فعـلاً في نشر فكر تجديدي جديد، وتثير جدلاً مهماً لدى الحقل الأكاديمي العربي في العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعية.

ثانياً: اتجاه تجددي اجتماعياً وسياسياً

في ما سبق تناولنا مبادرات تجديدية لها طابع مرن وليست مربوطة بأي جماعات سياسية إسلامية. في هذا الاتجاه الذي نسميه اتجاهاً تجددياً اجتماعياً وسياسياً هو أقرب لجهات حزبية، حيث لها ارتباطات بهيئات دينية أو دينية سياسية. وكما سنرى أنه بدأ باستخدام التجديد لخلق منظومة وسطية جديدة اجتماعياً وسياسياً.

سأبدأ من فضاءات جغرافية رحبة معروفة في حريات التعبير حيث نجد مجالس علمية للفتاوى، جسدت مفهوم فقه الواقع، وجسرت بين العلوم الاجتماعية والشرعية. ولذا فهي تنتمي إلى مدرسة سأسميها «المدرسة الإنسانية». وتعتبر فتاوى وقرارات مؤسسات، مثل المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ضمن هذه المدرسة. هناك منوال جديد للفقه من قبل هاتين المؤسستين. لقد أصدر المجلس الأول بيانين مهمين: واحدهما، بعنوان: أن تكون مسلماً مؤمناً وأمريكياً مخلصاً (اعتُمد في اجتماع الهيئة العامة في 24 – 25 أيلول/سبتمبر 2011)، والآخر، حول العلاقة بين المسلم وغير المسلم (ألفه عضو في اللجنة التنفيذية لهذا المجلس، جمال بدوي) ‏[14]. لقد أسس هذان البيانان فقهاً جديداً للأقليات، وأعطيا نموذجاً جديداً في كيفية أن يكون الإنسان مسلماً ومواطناً في المجتمعات غير الإسلامية. بالطبع، هناك بيانات قد أتت من مؤسسات في المنطقة، مثل إعلان مؤتمر مراكش حول حقوق الأقليات الدينية في المجتمعات ذات الأكثرية المسلمة (كانون الثاني/يناير 2016)، والذي نظمه منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة (أبو ظبي). سأركز في هذا المقال على مساهمة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.

1 – المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث

إذا كانت الثورة المعرفية قد حصلت في الوطن العربي قد ومضت إشراقاتها مع انطلاقة الانتفاضات العربية في عام 2011، فإن التحول المعرفي لدى مؤسسات الإسلامية الموجودة في المهجر، قد حصل قبل ذلك بعدة سنوات. فمنذ الدورة السادسة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في عام 2006، قدم عبد الستار أبو غدة تقريراً حول مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي (2006). وقدم المحدث عبد الله الجديع منذ بداية القرن الواحد والعشرين، دراسة في غاية الأهمية بعنوان: تقسيم المعمورة في الفقه الإسلامي (2008) وكذلك طه جابر العلواني (2004). إذا أخذنا موضوعات الهجرة: شروطها، وطريقة عيش المهاجر في المجتمع المستَقبِل، بما في ذلك الموضوعات المجاورة له من فقه الأقليات، يمكن ملاحظة النقلة النوعية، والانتقال من انقسام المعمورة من دور إسلام وكفر وأمان وحرب، إلى الحديث عن العيش المشترك، ويعترف بتعقيدات أن يعيش المسلمون في الدول التي تحكمها سيادة القانون، حيث يمكن أن تدخل بعض القوانين في تناقض مع تفسيرات معينة للفقه الإسلامي.

جاء في البيان الختامي للدورة العادية الـ 25 لهذا المجلس المنعقدة بمدينة إسطنبول في تركيا في الفترة من 6 – 10 تشرين الأول/أكتوبر 2015 تحت عنوان: «فقه العيش المشترك في أوروبا، تأصيـلاً وتنزيـلاً» مؤكداً التعايش والاندماج الإيجابي وتسليط الضوء على واجباتهم تجاه الأشقاء اللاجئين السوريين من حيث رعاية أسرهم وأطفالهم. ويرى المجلس أن متطلبات العيش المشترك تقوم على عشرة مبادئ يمكن تلخيصها على النحو التالي:

– التسليم بوحدة الأصل الإنساني؛ فلقد خلق الله عز وجل الناس جميعاً من أصل واحد. ويقتضي التسليمُ بوحدة الأصل الإقرارَ بمساواة الناس جميعاً في الاعتبار الإنساني والكرامة.

– احترام الكرامة الإنسانية ومراعاة حقوق الإنسان.

– التعامل بالعدل والإحسان والخلق القويم والبعد عن الظلم والجور، والتزام ما يؤلف بين فئات المجتمع المختلفة.

– الوفاء بالعهود والمواثيق، لأن هذا يبعث على الثقة والاطمئنان بين جميع الأطراف ويدعو إلى استقرار الحياة وحفظ الحقوق.

– التعاون الإيجابي لتحقيق المواطنة السليمة، ودرء المخاطر عن المجتمع، والحفاظ على البيئة، لما في هذا من الدلالة الواضحة على الحرص على التعايش والأخذ بالأسباب التي تعين على ذلك.

– القول بالتعددية وحرية الاعتقاد والعبادة، وهو من باب الإقرار بالحق في الاختلاف الذي يتيح للأطراف المتعددة العيش في أمن وأمان، في ما يرتضونه لحياتهم.

– اعتماد الحوار في التواصل وحل المشكلات، وهذا هو الأسلوب الأمثل الذي يهيئ الأذهان للالتقاء على الحق.

– العمل على كل ما يؤدي إلى التصالح وتحقيق السلم الاجتماعي، وحسن التواصل والتراحم والرفق المتبادل، ونبذ التشدد والعنف؛ لما يعود به من الخير وتحقيق الغايات والمقاصد الاجتماعية.

– احترام المقدسات وعدم الاعتداء والاستهزاء أو المساس بها.

– رفض كل ما يؤدي إلى العنف أو التطرف أو الإرهاب قولاً أو سلوكاً، ويجب أن يجرَّم حسب النظم والقوانين، فإن الله قد حرم قتل الأنفس والظلم والبغي بغير الحق‏[15].

ويضيف البيان قراراً مؤكداً عدم التفريق بين المسلمين وغيرهم في المواساة: «من أسس العيش المشترك عدم التفريق بين المسلم وغير المسلم في المواساة والدعم أثناء الكوارث الطبيعية أو مساعدة اللاجئين وإغاثتهم، فالتفريق بين المسلم وغير المسلم في هذه الصور يخالف الأصول التي دلت عليها نصوص القرآن.» (المصدر نفسه).

كما ترون من هذا البيان، هناك مصطلحات جديدة (مواطنة، مساواة، تعددية، حرية الاعتقاد، حقوق الإنسان، تواصل، عدل،…) تستخدم في هذا البيان ومفهوم جديد للعلاقة بين المهاجرين والمجتمعات المضيفة التي سوف نناقشها في الفقرة المقبلة.

إذاً، يدعو المجلس إلى ضرورة أن يتجاوز الطرفان الأيديولوجيات الأخلاقية والدينية المتشددة، وأن يمد كل واحد يده إلى الآخر. وينادي بالمسؤولية المزدوجة: سماح الأغلبية بالتنوع واستيعاب الاختلافات الثقافية، وتحلي الأقلية بالإبداع في التعامل مع التناقضات بين القوانين الوطنية والمعتقدات الدينية. وباستحضار مفهوم الاندماج الإيجابي، يصر المجلس الأوروبي وقبله طارق رمضان (Ramadan, 2005) (وهو من أهم نشطاء هذا المجلس) على ضرورة تحويل رأس المال الإثني (بالمعنى الذي يعطيه بيير بورديو لهذا المفهوم) المسلم إلى رأس المال الاجتماعي من خلال تحديد سعر صرف عالٍ لرأس المال الإثني من أجل ضمان الأساس البنيوي للعيش المشترك. ويدعو رمضان (Ramadan, 2009) من سماهم «مسلمو الغرب» (Western Muslims)، أن يسهموا بشكل إيجابي في تطوير مجتمعاتهم لتكون أفضل، بدلاً من التفكير في ازدواجية «نحن» و«هم». وهذا ما يسميه مقاربة ما بعد الاندماج (Post-integration). لقد وجدت بين الكثير من المشايخ الأوروبيين من أصل مسلم مثل هذا النوع من الدعوة. (انظر على سبيل المثال الشيخ مرشد معشوق الخزنوي 2016). إذاً، نحن على أعتاب فقه جديد تؤسسه هذه المدرسة، والذي سماه جميل حمداوي فقه التعارف (حمداوي، 2013)، كونه يبين علاقة المسلم بالآخر الأجنبي على مستوى المعاملات والعبادات والتفاعل الأخلاقي. ويتطلب أن يكون تعامـلاً إنسانياً إيجابياً، قائماً على التفاهم والتسامح والتعارف والتعايش والصداقة والمودة والمحبة مصداقاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].

أخيراً، ينافس هذا المجلس مجلس آخر في أوروبا، وهو المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة. يعنى هذا المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة بالشؤون الدينية والفكرية للمغاربة والمسلمين المقيمين بأوروبا. ووضع نصب عينيه تثبيت مرجعية دينية تعزز سبل الحوار والتواصل بين مختلف الديانات والثقافات داخل المجتمعات الأوروبية. ويقوم هذا المجلس بربط الأئمة بالإسلام المغربي الوسطي ويدربهم.

2 – الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

هو مؤسسة إسلامية تأسست عام 2004 يرأسها الشيخ يوسف القرضاوي (مصر/قطر)، وأمينها العام علي محي الدين القره داغي (سورية/قطر). ولها ثلاثة نواب من بينهم أحمد الريسوني (المغرب). وهي تضم 41 عضواً من كثير من الدول العربية والإسلامية. بينهم امرأتان فقط (من المغرب واليمن) وفيه شيخ شيعي من إيران (محمد واعظ زاده الخراساني) ومن الإباضية مفتي عمان الشيخ أحمد الخليلي. تأسست في لندن، ولكن مقرها الحالي هو دولة قطر هذا.

يختلف الاتحاد أنه يريد أن يرقى إلى العالمية والاستقلالية عن السلطات الزمنية، وتالياً، فهو يختلف عن المجامع الفقهية المعروفة: مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ومجلس المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي. وبعض هذه المؤسسات يتبع الدولة التي نشأ فيها، وهي التي تعين أعضاءه، وهي التي تنفق عليه. وفي مقابلة مع بعض أعضاء الاتحاد، تبين لي أن فكرته الأساسية كانت أن يقوم مجمع فقهي يتبنى الإسلام الوسطي المعتدل، ويتم اتخاذ فتواه جماعياً. وقد ذكر أحدهم أنهم كانوا يأملون في الحصول على مصادر مالية كافية لتأمين الاجتماعات الدورية الضرورية للإفتاء الجماعي، لكن ذلك لم يحصل. لذا، أصبحت أغلب الفتاوى يصدرها الشيخ القرضاوي بعض الأحيان بعد مشورة الهيئة التنفيذية، وفي أحيان أخرى بدون مشورتها‏[16].

نحن نعتبر أن هذا المجلس هو تجديدي اجتماعياً وسياسياً، بسبب وجود كَمٍّ مهم من الفتاوى التي تتبنى مبادئ فقه الواقع التي نظّر لها الشيخ القرضاوي، والفقه المقاصدي الذي نظّر له الشيخ الريسوني. هذا، وينتقد البعض تسيس الاتحاد وتأثير حركة الإخوان المسلمين فيه، بسبب البيانات الصادرة عنه المؤيدة للانتفاضات العربية (ماعدا انتفاضة البحرين). وربما كانت استقالة الشيخ عبد الله بن بيه، نائب رئيس الاتحاد، بسبب هذا التسييس.

ومن وحي هذا الاجتهاد، قام الاتحاد بتحليل القروض السكنية الربوية في أوروبا، ومن ثَمَّ أجازها في المغرب. كما قام الشيخ يوسف القرضاوي، باستخدام الاجتهاد حول سؤال سئل حول «حضانة الأطفال واليافعين اللاجئين في أوروبا الذين وصلوا عن طريق البحر إلى أوروبا بدون والديهم. وأن لدى العائلات المسلمة المستقبلة أبناء مما يسمح استقبالهم حصول حالات خلوة»، فكان جوابه على النحو التالي: «[إذا] لجأ السوريون لبلاد غير المسلمين، كما نرى الكثيرين اليوم في أوربة، فعلى الجالية المسلمة هناك أن تقوم بواجب أخوة الدين، وأن يضموا أبناء المسلمين وبناتهم إلى أبنائهم وبناتهم، ويحفظوهم كما يحفظون ذريتهم، ليحفظوا عليهم دينهم وحياتهم وأعراضهم. ولا ينبغي أن تحول خشية المفسدة المحتملة دون ضم المسلمين في هذه البلاد لإخوانهم من اللاجئين السوريين، فإن في تركهم هلاكاً لهم، أو تضييعاً لدينهم وأعراضهم»‏[17]. وقد تبنى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث هذه الفتوى. تعتبر مثل هذه الفتوى مثالاً جيداً لفقه الواقع، ذلك المفهوم العزيز على القرضاوي منذ أمد طويل. وقد بدأت بعض المؤسسات الفقهية بتبنيه في بعض فتاويهم. فعلى سبيل المثال، قدم مجمع الفقه الإسلامي الدولي‏[18] مساهمة مهمة في فقه الأقليات، مشيراً إلى أن غير المسلمين هم مواطنون لهم الحقوق والواجبات نفسها كما للمسلمين، وأنهم يتمتعون بقوانين خاصة للأحوال الشخصية الخاصة بهم‏[19].

3 – حزب العدالة والتنمية المغربي

نشأ هذا الحزب في أجواء من الإسلام المغربي المالكي والأشعري ذي النفحات الصوفية والمتميز تاريخياً بوسطيته وتأثير فلاسفة وفقهاء الأندلس فيهم (ابن رشد، الشاطبي…) وانتشار الفكر المقاصدي. والأهم من ذلك، هو امتياز المغرب منذ منتصف التسعينيات بهوامش مهمة من حريات الرأي. لقد تحلق حول حزب العدالة والتنمية المغربي نخبة فكرية، استطاعت التنظير لقضايا مهمة، مثل الدين والدولة، بما في ذلك الدولة المدنية وتدبير الحقل الديني؛ علاقة الدين بالمجال العام، توظيف الاستبداد السياسي للدين والطائفية والحداثة، الديمقراطية التوافقية والتشاركية وتحديات الانتقال الديمقراطي، الحريات الفردية، المواطنة والهوية وتدبير التنوع والتعددية. وهنا سأشير إلى أعمال مفكرين: الأول، سعد الدين العثماني، والذي أصبح منذ بداية 2017 الوزير الأول في الحكومة المغربية. وكان العثماني أول من نظر بوضوح إلى التمييز بين السياسة والدين من دون فصل بينهما. وتالياً، بنى نظرية بأن العقل الدعوي مختلف عن العقل السياسي: «الدِّين حاضِرٌ في السِّياسة كمبادِئَ موجَّهةٍ، وروح دافِقةٍ دافِعةٍ، وقوَّةٍ للأمَّةِ جامعةٍ، لكنَّ الممارَسة السِّياسية مستقِلَّة عن أيِّ سُلطة بِاسم الدِّين أو سلطة دينية» (العثماني، 2009: 113). وأن السياسي يتبع منطقاً له علاقة ببناء التحالفات وخلق أكثرية وعلاقة البلدان ذي الأكثرية المسلمة بالنظام العالمي. وبذلك يصبح السياسي ذا استقلال مهم عن الفضاء الدعوي‏[20]. وبتعبير الباحث سلمان بن نعمان، قام العثماني بتدنيس العمل السياسي من خلال فك ارتباطه بالأنشطة الدعوية، واستبدال شعار «الإسلام هو الحل» بـ «الإسلام هو حركة حق وهدى»، والتركيز على إقامة الدين في مقابل تطبيق الشريعة، والانتقال من منطق الهوية إلى منطق التدبير.

أما المفكر الثاني، فهو الشيخ أحمد الريسوني، والذي كان يشغل منصب رئيس حركة الإصلاح والتوحيد والذي تم الضغط عليه للاستقالة من منصبه بسبب نقده اللاذع لدستور 2011، وكون ملك المغرب يتمتع بوظيفة دينية (أمير المؤمنين). كما يشغل الريسوني حالياً منصب نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وبذلك فتأثيره التجديدي يتجاوز الفضاء المغربي. اشتهر الريسوني بآرائه الفقهية المتميزة المناهضة لحكم الردة، مستخدماً حجتين أساسيتين: الأولى، أن قتل المرتد مناهض لكلية في القرآن وهي ﴿لا إكراه في الدين﴾. أما الثانية، بأنه يسمح الآن في المعمورة كافة التحول من دين إلى آخر. وقدم رأياً آخر على جواز السماح للدعوات التبشيرية بممارسة عملها في الدول ذات الأغلبية الإسلامية، طالما تسمح الدول ذات الأغلبية المسيحية للمسلمين بأن يقيموا دعوتهم هناك. ومن الجدير بالذكر، أنه غالباً ما يتم تقديم مؤسسات الإفتاء الرسمية على أنها وسطية، وأن الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية على أنها متطرفة. ففي كلا الرأيين الفقهيين للريسوني، هما وسطيان أكثر من المجلس العلمي الذي يرأسه العاهل المغربي الملك محمد السادس الذي كان له موقف متشدد من هاتين القضيتين. وليس من نافلة القول، أن نذكر أن هذا المجلس قد غيّر فتوى حد الردة تحت ضغط السلطة السياسية (الفتوى الأولى في 2011 والثانية في 2017) التي رأت في هذه الفتوى تسويداً لسمعة المغرب على أنه منفتح مع الاختلاف الفكري والعقائدي. وقد علق الريسوني على ذلك أن «المجلس قد سئل فأجاب، ومن ثم أمر فأطاع»، مشيراً بذلك إلى التدخل السياسي في الإفتائي أو الدعوي. وربما يكون الموضوع أعقد من ذلك، بحيث كان الضغط أيضاً من مجموعات حقوقية مغربية.‏[21]

يمكن أيضاً تناول مسيرة حزب النهضة التونسية، وما تخللها من آراء دينية وفكرية للشيخ راشد الغنوشي من تنظير لمفاهيم الشورى والديمقراطية وحقوق الأقليات والدولة المدنية، وحتى العلمانية الجزئية.

تنبع أهمية هذا التوجه التجديدي اجتماعياً وسياسياً من أن الاجتماعي مرتبط بشكل وثيق بالسياسي؛ فقضايا الأسرة وحقوق المرأة والمواطنة بشكل عام، هي دائماً ذات بعد سياسي. والعكس أيضاً صحيح. من هنا، سنجد أن الاتجاه التجديدي اجتماعياً والمحافظ سياسياً، هو تجديد إشكالي، كما سنجد في المبحث الثالث.

ثالثاً: اتجاه تجددي اجتماعياً ومحافظ سياسياً

هناك كثير من المؤسسات الدينية التي تؤدي دوراً رائداً في تجديد الفكر الإسلامي اجتماعياً، ولكن بسبب ضعف استقلالها عن السلطة السياسية، فهي غالباً ما تكون ذات طبيعة محافظة سياسياً. وأعني بالمحافظة هنا هو غياب التجديد أو/والامتناع عن إعطاء أي رأي يزعج السلطة السياسية، حتى لو كانت هذه السلطة مستبدة ومنتهكة للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان. سأعطي في هذه السياق مثالين، وهما: مؤسسة الأزهر، والمجلس العلمي الأعلى المغربي، وهو إحدى مؤسسات الإسلام الرسمي المغربي.

جدير بالذكر، أن ثمة في كل بلد عربي مؤسسة، قد تكون مهمة، يحاول النظام السياسي تشجيعها وتمويلها للتجديد الاجتماعي والصمت السياسي. من هذه، يمكن ذكر منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة (أبو ظبي)، ومؤسسة طابة. وقد نشطت مثل هذه المؤسسات في مكافحة الإرهاب والتطرف، ولكن من خلال مقاربة ماهوية اختزالية، تعتبر أن السبب شبه الوحيد للإرهاب، هو استشراء التطرف الفقهي والعقدي، ويتم الصمت الكامل عن دور الأنظمة الاستبدادية والفاسدة اقتصادياً واجتماعياً وحارمة للحريات الأساسية. فمنع حق الاختلاف وإلغاء الفضاءات العامة للحوار وسجن المعارضين واستخدام التعذيب الممنهج، هي مما يشكل الأرضية التي تترعرع فيها ثقافة التطرف.

1 – الأزهر الشريف

أدت مؤسسة الأزهر تاريخياً دوراً رئيساً في مصر وخارجها من طريق نشر فكر وفقه إسلامي وسطي ومجدد اجتماعياً ومحافظ سياسياً، بمعنى إما مناصرة السلطات السياسية في الحكم‏[22]، وإما السكوت عنها. وقد مر الأزهر بمراحل متعددة من الإصلاح والجمود، بدأت من تجربة الإمام محمد عبده (1849 – 1905م)، رغم أن عبدو قد أنشأ «كلية علوم الدين» ككلية مستقلة خارج الأزهر نظراً إلى استيائه من جمود مشايخ الأزهر. هذا، وقد تابع تلميذه الشيخ مصطفى المراغي (1881 – 1945م) الإصلاح. يتم تعيين شيخ الأزهر من قبل السلطة السياسية. وقد كان الشيخ أحمد الطيب، الشيخ الأكبر الحالي للأزهر، عضواً في لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم أيام الرئيس حسني مبارك. ويجاوز تأثير الأزهر مصر، بحيث تتوزع كلياته الدينية أو جامعاته في كثير من الدول العربية.

في عام 2011، أصدر الأزهر الشريف وثائق مهمة وكثيرة ذات طبيعة استرشادية: وثيقة «مستقبل مصر» (حزيران/يونيو 2011)، وثيقة «الربيع العربي» (تشرين الأول/أكتوبر 2011)، وثيقة «الحريات والفن والإبداع» (كانون الثاني/يناير 2012)، فوثيقة نبذ العنف (كانون الثاني/يناير 2013). (عبد السلام وعبد الوهاب، 2016). هذه الوثائق هي عرض لمبادئ توجيهية وسطية بارزة في الأخلاق الإسلامية. وعلى سبيل المثال جاء في وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر: «من هنا نعلنُ توافقنا نحن المجتمعين على المبادئ التالية لتحديد طبيعة المرجعية الإسلامية النيرة، التي تتمثل أساساً في عدد من القضايا الكلية، المستخلصة من النصوص الشرعية القطعية الثبوت والدلالة، بوصفها المعبرة عن الفهم الصحيح للدين، ونجملها في المحاور التالية:

أولاً: دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة. ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب؛ بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح، حيث لم يعرف الإسلام لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف في الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلطت على الناس، وعانتها البشرية في بعض مراحل التاريخ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية.

ثانياً: اعتماد النظام الديمقراطي، القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذي هو الصيغةَ العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلي الشعب، وتوخي منافع الناس ومصالحهم العامة في جميع التشريعات والقرارات، وإدارة شؤون الدولة بالقانون – والقانون وحده – وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة وحرية الحصول على المعلومات وتداولها.

ثالثاً: الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، وتأكيد مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة منوط المسؤولية في المجتمع.

رابعاً: الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، مع اعتبار الحث على الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة في حق الوطن، ووجوب اعتماد الحوار المتكافئ والاحترام المتبادل والتعويل عليهما في التعامل بين فئات الشعب المختلفة، من دون أية تفرقة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين» (عبد الرحيم، 2016).

إذاً، هناك وضوح رؤية حول تبني نظام الديمقراطية واحترام التعدد والحريات الشخصية، بغض النظر عن بعض التفاصيل التي يمكن أن تظهر انفتاحاً سياسياً حذراً جداً. وقد ظهر ذلك جلياً في رد فعل الأزهر تجاه ثورات الربيع العربي؛ مواقف فيها الكثير من التناقضات، بحيث غلب عليها المنحى الترددي إزاء الأحداث، ما انعكس سلباً في تأخر الإعلان عن دعم الانتفاضات، أو اللجوء إلى اتخاذ معايير مزدوجة في الحكم عليها (عبد الرحيم، 2016). هذا، وقد شارك الأزهر في مؤتمر إسلامي، يعقد في غروزني عاصمة الشيشان، إحدى الولايات التابعة لروسيا الاتحادية، يحمل عنوان: من هم أهل السنّة والجماعة؟ والذي يقصي السلفية من تعريف أهل السنة والجماعة. وفي آخر بيان له في 8 حزيران/يونيو 2017، تبنى الأزهر في بيان له موقف حكومات مصر والسعودية والإمارات من حصار قطر‏[23]، وهو ما يدل على ارتباط وثيق بالسلطة الزمنية المصرية.

2 – المجلس العلمي الأعلى المغربي

كما ذكرنا سالفاً، أن هناك إسلاماً تاريخياً في المغرب، قد اتسم باتّباعه للمذهب المالكي‏[24]، وفيه روح صوفية، وامتاز بوسطيته وتأثير فلاسفة وفقهاء الأندلس فيهم، وبخاصة ابن القيم الجوزي والشاطبي ونظريته في مقاصد الشريعة. كما ينتهج هذا الإسلام عقيدة الإمام أبو الحسن الأشعري؛ فمن العقيدة الأشعرية يستمد الفكر المغربي تصوراته واختياراته، فالأشعري هو أول من تصدى لتحرير عقائد أهل السنة وتلخيصها، ودفع الشكوك والشبه عنها، وإبطال دعوى الخصوم، وجعل ذلك علماً مفرداً بالتدويـن. ويظهر كثير من المراقبين أن هذا الإسلام قد استمر لتتبناه أغلبية ساحقة من الشعب المغربي. ولعل هذا ما دفع الفيلسوف المغربي عبدو فيلالي – أنصاري للحديث عن إسلام قد فصل، بدون أن يعي ذلك، بين الديني والزمني (Filali-Ansary, 2002). مؤسساتياً، ثمة موجتان من إعادة الهيكلة: الأولى، متعلقة بالحقل الديني، بعامة (بداية من 2004) والثانية، بمجال تعليم العلوم الشرعية وإعادة هيكلة جامعة القرويين، بخاصة (2015).

تم إعادة هيكلة الحقل الديني بالمغرب من المخزن، بحسب حياة زلماط، بدءاً بعام 2003 تحت إكراهات خارجية وداخلية (زلماط، 2016). خارجية، متمثلة بأحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، وأحداث 16 أيار/مايو 2003 التي هزت الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمغرب. تمثل ذلك بتنظيم جديد لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وذلك بإحداث مديرية المساجد ومديرية لتعليم العتيق وهيكلة المجلس العلمي الأعلى (2004) وإحداث الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء (2004)، وكذا إعادة هيكلة رابطة علماء المغرب بالرابطة المحمدية لعلماء المغرب (2004). ثم بعد ذلك، تم خلق إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم (2004). وبعد ذلك بسنة، تم إطلاق قناة محمد السادس للقرآن الكريم (2005) وهما القناتان اللتان تشهدان نسبة سماع ومشاهدة عاليتين. وتم تنظيم مؤسسة دار الحديث الحسنية لتصبح معهد دار الحديث الحسنية (2005) وتأسيس مركز تأهيل وتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات (2006)، وإطلاق خطة ميثاق العلماء (2009). وتقوم وزارة الأوقاف بتمرير خطبة الجمعة على الأئمة، وهم ملزمون بقراءتها. في الخارج، تم إحداث المجلس العلمي المغربي بأوروبا (2008) ومن ثَمَّ في ما بعد، المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة‏[25] الذي يهتم بالشؤون الدينية والفكرية للمغاربة والمسلمين المقيمين بأوروبا.

أما الهيكلة الثانية، فقد صدر مرسوم ملكي بإعادة تنظيم جامعة القرويين، وتحديد مهامها وتحديد المعاهد التابعة لها، وكيفيات سيرها، ونظام الدراسة والتكوين بها (2015). وتم إتباع الجامعة إلى وزارة الأوقاف بدلاً من وزارة التعليم العالي. وبحسب هذا المرسوم، يناط بجامعة القرويين القيام بالمهام التالية: «تكوين علماء وباحثين متخصصين في الدراسات القرآنية والعلوم الشرعية والدراسات الإسلامية المعمقة، وتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، وإعداد برامج خاصة للتكوين والتأهيل والتكوين المستمر في مجال التأطير الديني والسهر على تنفيذها، وتنمية البحث العلمي في مجال الدراسات القرآنية والحديثية والعقدية والفقهية وقضايا الفكر الإسلامي المعاصر، والإسهام في التعريف بالعلوم الإسلامية وتاريخها والعمل على نشر الدراسات والأبحاث والمصادر المتعلقة بها، والإسهام في التعريف بتاريخ المغرب وتوثيقه وإنجاز الدراسات والأبحاث المتعلقة به، والإسهام في التعريف بالتراث الفقهي الإسلامي، وبالفقه المالكي منه على الخصوص، والعناية بمصادره، والعمل على نشره». هذا، وتضم جامعة القرويين المعاهد والمؤسسات التالية: مؤسسة دار الحديث الحسنية؛ معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية بالرباط؛ معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات؛ المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب؛ معهد الفكر والحضارة الإسلامية بالدار البيضاء، جامع القرويين للتعليم النهائي العتيق (أي المعاهد الشرعية) بفاس.

إذاً، نظم المغرب التعليم الديني بشكل هرمي، بحيث يسعى إلى نشر الفكر الوسطي تنظيراً، ونشر فقه المقاصد والمآلات والنوازل. على الرغم من وسطية هذا الإسلام في القضايا الاجتماعية، فهو يبقى محافظاً ومسيطَراً عليه سياسياً، مما شكل ذلك سبباً لاستياء بعض الحركات الاحتجاجية في المغرب. ففي شهر أيار/مايو 2017، أدت احتجاجات اجتماعية في مدينة الحسيمة، شمال المغرب، إلى إنزال الخطيب من المنبر، إثر رفض بعض نشطاء الحراك، ما جاء في خطبة الجمعة التي تحدثت عن نعمة الاستقرار في البلاد وضرورة تفادي كل ما من شأنه إحداث الفتنة. مع العلم أن الخطب تلقى بإشراف من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية‏[26].

هذا، وقد تم إنزال خطيب آخر في فاس، بعد أن قامت وزارة الأوقاف بتوقيف إمام المسجد، محمد أبياط، وهو أستاذ جامعي بكلية الشريعة بالمدينة ذاتها، وهو عضو بالمجلس العلمي المحلي فيها، عن إلقاء خطبة الجمعة عام 2016 . هذا، وقد رفع المصلون، فور نهاية أذان صلاة الجمعة، شعارات تهاجم قرار وزارة الأوقاف‏[27].

طبعاً، رغم الأهمية السوسيولوجية للإسلام الرسمي في المغرب، فإن هناك فاعليين آخرين، كالعلماء والخطباء والحركات الإسلامية والزوايا والطرائق الصوفية، وهم تارة في حالة تعاون، مع هذا الإسلام، وتارة أخرى في تنافس معه.

في ما يتعلق بالمجلس العلمي الأعلى، فهو إذاً مؤسسة دينية حكومية مغربية تُعنى بالإفتاء، يترأسها الملك محمد السادس، ويضم في عضويته سبعة وأربعين عالماً وعالمة، معينين جميعاً من المخزن، ويتألف بشكل أساسي من وزير الأوقاف ورؤساء المجالس العلمية في المدن والأقاليم المغربية. وكما نلاحظ، فإنه يكاد يكون هو المجلس الإفتائي الوحيد في الوطن العربي الذي يتألف من رجال ونساء، إضافة إلى الاتحاد العلمي للعلماء المسلمين. ورغم أن أعضائه معينون إلا أنهم يعتبرون شخصيات توافقية في المجتمع المغربي. من الجدير بالذكر، أن هذا المجلس يحتكر الإفتاء وينتقد أي فتوى قد تأتي من الخارج، أو الداخل المغربي. ولعل المثال الأبرز على ذلك، هو رد المجلس العلمي الأعلى ببيان شديد اللهجة ضد فتوى، أصدرها الشيخ القرضاوي حول الاقتراض الاضطراري لأجل السكن، قرر فيها جواز اقتراض أهل المغرب من البنوك التقليدية (الربوية) استناداً إلى الآية: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْه﴾، وعلى غرار هذه الآية، قرر في الشريعة الإسلامية القاعدة المعروفة «الضرورات تبيح المحظورات». فاعتبر المجلس العلمي فتوى القرضاوي‏[28] تعدياً على اختصاص العلماء المغاربة، ومساً بصلاحية الملك، رغم أن رد المجلس لم يتعرض لأسس وأدلة الفتوى، بل حصر الرد في الجانب السياسي والاستنكار. هذا، وقد احتجت حركة التوحيد والإصلاح في المغرب على بيان المجلس العلمي الأعلى ورفضته، كونه «شديد اللهجة ضد عالم كبير ولخلو البيان من حجج علمية».‏[29]

خاتمة

لا يمكن فهم صيرورة التغيير بدون المقاربات الثلاث المذكورة في المقدمة. فبحسب نوَّاف القُدَيْمي، لفهم الإصلاح والتغيير، «ينبغي أن ننظر إلى الحركات الإسلامية ضمن السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. على سبيل المثال، الحركات السلفية في مصر. لأكثر من أربعين سنة، والحركات السلفية في مصر تعتبر الديمقراطية نظام كفر والمشاركة السياسية فيها محرَّمة، ولكنها غيرت رأيها للمصلحة السياسية المحضة في غضون شهرين. وكان كل ذلك ضمن الحديث النظري. ولكن، بعد الربيع العربي، برز واقع جديد وبالتالي، قامت الحركة السلفية فوراً بتغيير موقفها القديم ذي الأربعة عقود، وتبنت رأياً أكثر انفتاحاً.»‏[30] فقط الانفتاح السياسي (على عكس التسلط) هو أفضل ميسِّر للإصلاح الحقيقي والعملي. وفي الوقت الذي نعيش فيه بثورات مضادة تدعمها بشكل أساسي بعض دول الخليج، نرى هناك دعوة من قبل بعض حكام الاستبداد بالتجديد، ولكن غالباً لدعم سياسات استبدادية وسجن المجددين المعارضين (مثل الشيوخ السعوديين إبراهيم السكران، سليمان الدويش ومحمد الحضيف). (جريدة العربي الجديد 2017)

في هذا المقال، حاولت استحضار أمثلة من ثلاثة اتجاهات تجديدية مولدة من داخل الحقل الديني: اتجاه شبابي تجديدي؛ اتجاه تجددي اجتماعياً وسياسياً؛ واتجاه تجددي اجتماعياً ومحافظ سياسياً. إن التحدث عن اتجاهات لا يعني أن هناك تماسكاً مفاهيمياً لدى كل اتجاه أو داخل كل مؤسسة تم ذكرها. فالبعض قد يبدو مثـلاً محافظاً سياسياً في بعض القضايا، وتجديدياً في قضايا أخرى. لكن كل هذه التجديدات هي من الداخل كون أصحابها هم من أولئك الذين درسوا الشريعة وحفظوا القرآن عن ظهر قلب، وامتهن كثير منهم العمل الدعوي أو الدعوي مخلوطاً بالسياسي. وهذا لا يعني بأي حال تهميش دور أهمية التجديد من خارج الحقل الديني. وبحسب تعبير عبد الغني عماد «لا نستطيع أن نفصل بين المحاولات الداخلية والخارجية للتجديد لأنهما يكملان ويبلغان بعضهما البعض»‏[31].

إن التاريخ حافل بالتجاهل المتبادل بين من هم داخل الحقل الديني ومن هم خارجه، ولعل أكبر مثال على ذلك، هو كتاب عبدو فيلالي – أنصاري الذي سرد في كتابه اصلاح الإسلام مسيرة المصلحين للإسلام معدداً 16 مصلحاً (Filali-Ansary, 2003)، ليس منهم إلا واحد في داخل الحقل الديني (علي عبد الرازق). ولكن على الرغم من ذلك، فالبعض قد استفاد من محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، ومحمد شحرور ووائل حلاق وغيرهم، أو على الأقل قد تحفزوا من خلال مناقشة فكرهم للشروع بالتجديد.

كما أن الجديد في هذا التجديد هو ربط التجديد بقضايا يومية، تمس حياة الناس؛ ليس في التعبد والطقوس الدينية، ولكن في مسيرتهم نحو الإصلاح السياسي والاقتصادي والتنموي‏[32]. وبحسب تعبير علي فهد الزميع، رئيس مجلس أمناء وقف «نهوض» لدراسات التنمية، لقد كانت المشكلة الرئيسة في المشاريع التجديديَّة الصادرة من الخارج، فإنها نخبويَّة إلى حد كبير ومفصولة عن المجتمع وواقعنا‏[33]. كما رأينا في الأمثلة المذكورة في هذا المقال، أن ذلك قد اختلف حالياً. وهذه الأيام نُفاجأ من ظهور شخصيات رئيسة كانت جزءاً من الإكليروس الرسمي المحافظ في الخليج بآراء تجديدية مهمة. وربما آخرها، هو تصريح الشيخ عادل الكلباني إمام الحرم السابق بأن «داعش نبتة سلفية» أو «داعش سلفيّة، ليست إخوانية ولا صوفية ولا أشعرية، ويجب مناقشة فكرها بدلاً من نقاش أفعالها فقط»‏[34].

 

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #دراسات #دين #الإسلام #التجديد_الإسلامي #التطرف #التجديد_الديني

قد يهمكم أيضاً  الحوار الإسلامي – العلماني في الوطن العربي بين أزمة التواصل وانتعاش العنف