تُعد مصر واحدة من أكبر وأهمّ دول القارة الأفريقية، ثانية كبرى قارات العالم من حيث المساحة وعدد السكان، إذ تأتي في المرتبة الثانية بعد قارة آسيا بمساحة تبلغ 30.2 مليون كيلومتر مربع، وبعدد سكان يبلغ 1.2 مليار نسمة. كما تُعد من أغنى القارات بالموارد الطبيعية من مياه وأراضٍ زراعية، وبترول ومعادن، وموارد بشرية، فضـلاً عن موقع استراتيجي يتوسط الكون تقريباً.
أدرك الغرب الأهمية الاستراتيجية لأفريقيا منذ وقت مبكر جداً، فبدأت غزواته تهدد أرضها ومواردها عبر التاريخ، ثم تعززت هذه الغزوات باحتلال دولها في القرن التاسع عشر، وتقاسم الغرب النفوذ فيها بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا، فنهبت هذه الدول ثرواتها، وألسنتها، وعقولها، ورجالها، وسيادتها، ومن فرط إدراك الغرب بأهمية أفريقيا في الميزان الجيوستراتيجي بأبعاده كافة، فقد جعل أفريقيا واحدة من ثلاثة خيارات لإقامة الكيان الصهيوني على أراضيها في ما عرف بمشروع أوغندا (Uganda Project)، وقد كانت الموارد والثروات الطبيعية بصفة عامة، والأراضي والمياه والأسواق بصفة خاصة، معياراً مهماً في الاختيار لإقامة هذا الكيان الذي يُعتبر في وجهٍ من أوجهه، قاعدة إنتاج صناعي وزراعي غربي متقدمة خارج أراضي الغرب وحدوده السياسية.
لقد أدركت الدبلوماسية المصرية في فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر الأهمية الاستثنائية للقارة الأفريقية الأم، وأدركت أهمية الدور الطليعي لمصر في هذه القارة، ومن هذا الوعي والإدراك ولدت استراتيجية الدبلوماسية المصرية تجاه أفريقيا، وبُنيت الرؤية الاستراتيجية لتحقق دور ريادي مصري. بينما تحددت الأهداف الاستراتيجية للدبلوماسية المصرية في أفريقيا في ما يلي:
– صون الأمن القومي المصري.
– تحقيق المصالح الاستراتيجية المصرية ومصالح دول القارة الأفريقية.
– المساهمة في دفع جهود حركة التحرر الأفريقي.
– محاصرة التغلغل الصهيوني في أفريقيا.
– تعزيز العلاقات العربية – الأفريقية.
– حشد الطاقات السياسية الأفريقية لصالح القضية الفلسطينية.
وسعياً إلى تنفيذ هذه الاستراتيجية برؤيتها وأهدافها، بادرت الدولة المصرية إلى دعم حركات التحرر الأفريقية، فامتدَّ دعمها لحركات التحرر المناهضة للاحتلال الغربي للدول الأفريقية، ولم يكن هذا الدعم مقتصراً على الدول العربية الأفريقية شمال الصحراء، لكنه امتد ليبلغ حركات التحرر في كل دول أفريقيا تقريباً. وقد استعانت مصر بالسودان في هذا المسعى ليصل دعمها إلى أقصى الجنوب الأفريقي لتدعم النضال الذي قاده الزعيم الجنوب الأفريقي نلسون ماندلا الذي منحه السودان جواز سفر دبلوماسياً تيسيراً لحركته.
اتصلت جهود الدولة المصرية بحركات المقاومة والتحرر الوطني في الدول الأفريقية، فأقامت مصر علاقات دبلوماسية مع كل دولة نالت استقلالها وتحررت من الاحتلال الغربي، وتوسع الوجود الدبلوماسي المصري في القارة السمراء وهو يسعى لاستكمال دور مصر الكبير في دعم الجهود الهادفة لنيل الحرية وتحقيق الاستقلال من خلال ترسيخ عُرى العلاقات الثنائية، والبحث عن المصالح المشتركة التي تسهم مباشرة وغير مباشرة في تعزيز الحكم الوطني وصون الاستقلال وتحقيق المصالح المشتركة. وقد أبرمت مصر اتفاقات متعددة مع دول أفريقية وضعت عبرها علاقاتها مع هذه الدول في مسارات واضحة ومؤطرة، وتُعدّ اتفاقية مياه النيل الموقعة بين مصر والسودان في عام 1959 مثالاً لثمار الجهد الدبلوماسي الذي يعمل وفق مرئية استراتيجية واضحة وصارمة.
أسهم الحضور الدبلوماسي المصري الكبير في أفريقيا في الدفع بالجهود الأفريقية المبذولة لتأسيس إطار إقليمي يجمع دول القارة وينسِّق جهودها ويوحد كلمتها، فكان مولد منظمة الوحدة الأفريقية في 25 أيار/مايو 1963، وقد سبقت جهود تأسيس هذه المنظمة جهود أخرى هدفت لبناء حركة دول عدم الانحياز بدأت في نيسان/أبريل 1955 واتصلت حتى عام 1961 موعد قيام المؤتمر الأول لهذه الحركة الذي انعقد في بلغراد.
كان للرئيس جمال عبد الناصر دور عظيم في بناء حركة عدم الانحياز عزز دور رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو، ودور الرئيس اليوغسلافي تيتو. وقد شاركت دول أفريقية كثيرة في تأسيس هذه الحركة وفي بنائها بفضل الدور والتأثير المصريين. وقد كان من بين الدول الأفريقية التي شاركت في هذه الحركة واكتسبت عضويتها، كل من: السودان والجزائر والمغرب وإثيوبيا وغانا وتونس والصومال وغينيا، وغيرها من الدول الأفريقية.
لم تكتفِ الدولة المصرية بدور سياسي فاعل فقط في أفريقيا لكنها عمدت إلى تحقيق حضور ودور مصري متعدد الأبعاد، فأولت الجانبين الثقافي والديني اهتماماً كبيراً، وعياً منها بدورهما الحضاري الكبير الذي يتوجب عليها القيام به لتضع لبنات راسخة في عمليات إعادة البناء الحضاري في أفريقيا القائم على قاعدة التلاقح والتثاقف في قارة عُرفت بالتنوع الثقافي والاجتماعي والديني والسياسي.
وفي هذا السياق فتحت مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر جامعاتها لكل أفريقي يرغب في الدراسة الجامعية، فكان الأزهر وجامعة القاهرة وغيرها من الجامعات المصرية حواضن معرفة للطلاب القادمين من كل دول أفريقيا، فعاملت هذه الجامعات الطلاب الأفارقة كما تعامل طلابها المصريين، فخرّجت آلاف الطلاب الذين عادوا إلى بلادهم يحملون بين عقولهم معارف وعلوماً أسهمت في تطوير مجتمعاتهم وبلدانهم، مثلما حملوا في قلوبهم وأنفسهم تشبُّعاً باللغة العربية ومحبةً للثقافة العربية بآدابها وفنونها. وقد كان لهذا الصنيع العظيم أثر تعدى الحالة السياسية المتغيرة بتغيُّر الزمان والحقب السياسية إلى الحالة الوجدانية التي ترسم نسيج المجتمع وتوجهاته الثقافية والاجتماعية والسياسية.
واكب هذا الجهد الثقافي في بعده العلمي والمعرفي جهد آخر تمثل بإقامة إذاعات أفريقية ناطقة ببعض اللغات الأفريقية لتبشر الشعوب الناطقة بها بالثورة على الاحتلال الغربي لأوطانهم، وتبني في نفوس هذه الشعوب الثقة بالذات واقتراب موعد التحرير الذي لا بد أن تنجزه سواعدهم وتكلله وحدتهم. لكن رسالة هذه الإذاعات لم تنتهِ في الحض على الثورة وضرورة المضي في طريق الاستقلال، إنما قدمت لهم المزيد، فبثت مع أشواق الاستقلال معاني تتصل بمفهوم الاستقلال ومقوماته وفرائضه. وقد كان لب هذا الجزء المهم من الرسالة الإعلامية مصوباً نحو الثقافة واللغة والعمل والإنتاج والحرية كمفردات ذات صلة مباشرة بالاستقلال الوطني، يتحدد من خلالها مدى تحرر الإنسان من ثقافة المحتل الذي أصاب بعض المجتمعات في لسانها وثقافتها وأنماط وطرق تفكيرها؛ هذا الاحتلال الذي خرجت جيوشه من بعض الدول وترك خلفه من يقوم مقامه ويخدم مصالحه من أبناء هذه المجتمعات.
وليس بعيداً من الدور الثقافي والتعليمي الذي قامت به مصر إبان حكم الزعيم عبد الناصر هو الدور الديني لها في أفريقيا حيث رسخت علاقات التعاون بين المؤسسات الدينية المصرية ونظيراتها الأفريقية. فقد تعززت العلاقة بين الكنيسة المصرية ونظيرتها الأثيوبية، وزالت الجفوة التي نشأت في ظروف تاريخية بينهما، وذلك بفعل اتفاقية 1959 الموقعة بين الجانبين المصري والإثيوبي، والتي تمَّ بمقتضاها جعل رئيس الأساقفة الإثيوبي بمرتبة بطريرك على الكنيسة الإثيوبية تكون له المرتبة الثانية في الكرازة المرقسية استجابةً لتطلع إثيوبيا إلى تولي إثيوبيين مراتب دينية في بلادهم. ثم انطلقت الكنيسة المصرية نحو باقي دول القارة الأفريقية تقدم الدعم والتأهيل وكل ما من شأنه دفع جهود الكنيسة لتحقيق دورها الديني والحضاري.
وبجوار ذلك تطورت العلاقة بين الأزهر كمؤسسة دينية وبين المؤسسات الدينية الأفريقية الحكومية منها والشعبية، وأصبح الأزهر مرجعاً دينياً معتبراً لكثير من هذه المؤسسات. وقد أعان الأزهر على القيام بهذا الدور التنوع المذهبي المتعمد للدراسة فيه. كما عبّرت الأروقة الأفريقية التي تأسست داخل الأزهر عن عمق العلاقة التي تربط بينه وبين الدول الأفريقية، ومن هذه الأروقة: رواق المغاربة الذي يمثل المغرب العربي؛ رواق السنارية الذي يمثل السودان؛ رواق الحبرتية الذي يمثل إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي والصومال؛ رواق البوروندية الذي يمثل تشاد وجوارها الإقليمي؛ ورواق التكرور الذي يمثل غرب أفريقيا، وغيرها من الأروقة.
لقد نجحت الاستراتيجية المصرية تجاه أفريقيا وحققت أهدافها جيداً. فعلى صعيد الأمن القومي المصري والمصالح الاسترتيجية المصرية، استطاعت مصر أن تحقق مكاسب كبيرة في ملفات في غاية الأهمية مثل ملف المياه الذي أبرمت فيه اتفاقية مياه النيل مع السودان وحصلت بموجبه على ثلثي المياه المتدفقة من دول المنبع مقابل ثلث للسودان، ثم الدعم السياسي الذي توفر لها في مقابل التحدي الذي شكله قيام دولة للكيان الصهيوني في فلسطين، وفي مشروع التعاون الأفريقي – الآسيوي الذي تبلور بقيام حركة عدم الانحياز، ووقوف معظم الدول الأفريقية إلى جانب مصر والعرب في مجلس الأمن وفي المنظمات الإقليمية والدولية. ولعل المقاطعة الأفريقية لإسرائيل ووقوف الدول الأفريقية إلى جانب مصر والعرب في حربي 1967 و1973 خير شاهد على ذلك.
وقد كان من ثمار هذه الاستراتيجية على الصعيد الأفريقي نيل عدد كبير من الدول الأفريقية استقلالها، وكان من الثمار أيضاً قيام منظمة الوحدة الأفريقية. أما على الصعيد الثقافي فقد تعزز حضور الثقافة العربية في كثير من الدول الأفريقية جنوب الصحراء، وترسخت قيم التسامح والتعايش والمحبة بفضل دور المؤسسات الدينية المصرية الإسلامي منها والمسيحي.
بيد أن العلاقات العربية – الأفريقية بصفة عامة، والعلاقات المصرية – الأفريقية بصفة خاصة بدأت في التراجع في عهد الرئيس أنور السادات.، وقد تسارع تراجعها بعد توقيع اتفاقية كامب دايفيد بين مصر و«إسرائيل»، حيث عادت إسرائيل إلى أفريقيا محمولة على هذه الاتفاقية التي صنعت تاريخاً جديداً على صعيد الصراع العربي – الاسرائيلي، وعلى صعيد العلاقات العربية – الأفريقية، والعلاقات المصرية – الأفريقية، بل على مستوى الالتزام بالقضايا والمبادئ.
ولئن كانت الحقبة التي تلت عهد الرئيس جمال عبد الناصر هي حقبة ضياع المكاسب والمصالح المصرية الأفريقية، وبداية حقبة التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا، فإن فترة الحكم التي تلت هذه الحقبة كانت أشد ضرراً بعلاقات مصر الأفريقية حيث تراجع الدور المصري إلى أدنى مستوياته وانحسر في أفريقيا برغم الانتشار الدبلوماسي الواسع لمصر في أفريقيا. ففي علم العلاقات الدولية تؤثر التوجهات الاستراتيجية للدول في مصالحها وأدوارها سلباً وإيجاباً بحسب طبيعة تلك التوجهات، لكن الخسارة التي تحققت بفعل هذا التراجع لم تنحصر آثارها على صعيد علاقات ثنائية بين مصر وأي من الدول الأفريقية، إنما طالت مجمل العلاقات العربية – الأفريقية التي دخلت في مرحلة بيات امتد في كل الفصول، وترك أبواب الساحة الأفريقية مشرّعة أمام كل طارق باب.
وها هي القوى الإقليمية والدولية تحيي صراعاتها في أفريقيا من أجل تحقيق مصالح استراتيجية لم تسقطها من ذواكر هذه القوى حالة المد والجزر التي تحكم العلاقات الدولية في العصر الحديث، لأن هذه القوى تعرف جيداً أهمية أفريقيا السياسية والاقتصادية، وتعرف موقعها الاستراتيجي، وقدرتها على المساهمة في صناعة مستقبل كوني جديد. لذلك تصارع على أرض أفريقيا من ينتمون إلى حلف سياسي وحضاري واحد؛ فطردت أمريكا بريطانيا ثم إيطاليا ثم فرنسا من هذه القارة أو كادت تفعل، وتتصارع أمريكا مع الصين ومع روسيا على ذات الجغرافيا، وبين هذا الصراع وذاك كان الكيان الصهيوني حاضراً بعدما هيّأت له اتفاقية كامب دايفيد المسرح، وعبدت له الطريق.
أما العرب – الأفارقة منهم كما الآسيويون – فلم يكملوا مسيرة علاقات تأسست قبل الأخدود الأفريقي – الذي يفصل بين أفريقيا وآسيا – واتصلت في كل الحقب التاريخية قبل وبعد الميلاد وفي العصر الحديث، لم يحمل العرب تفكيرهم في تحقيق مصالحهم الوطنية للاتجاه نحو أفريقيا بكل ثرواتها وإمكانياتها وفرصها، فتركوها عقوداً من الزمان ثم عاد بعضهم إليها وكيـلاً عن الغرب والكيان الصهيوني ليستأثروا بشواطئها وموانئها وأراضيها وثرواتها لمصلحة غيرهم.
إنًّ التفكير السليم في مستقبل العرب ومشروعهم يفرض توجهاً استراتيجياً نحو أفريقيا التي هي عمق العرب الاقتصادي والسياسي والجغرافي والديمغرافي؛ فمعظم سكان الأمة العربية أفارقة، ومعظم أراضي العرب في أفريقيا.
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 479.
(**) محمد حسب الرسول: نائب الأمين العام للمؤتمر القومي العربي.
البريد الإلكتروني: rassoul63@yahoo.co.uk

بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.