بلاد العرب ساحات يتبارى فيها لاعبون من غير العرب، لاعبون كبارٌ وصغار. الكبار خمسة: أمريكا وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل. الصغار كثر، هم العرب أنفسهم: حركة بلا بركة.
شعوب العرب غفيرة، كثيفة. أغلبيتها متفرجة، أقليتها مشاركة في حركات مقاومةٍ مدنية وميدانية لمخططات صهيوأمريكية للتمزيق والتقسيم والهيمنة.
تجري، على ما يبدو، ترجمة هذه اللوحة السوريالية إلى خريطة جيوسياسية جديدة خلال العام 2018 على النحو الاتي:
أمريكا يرأسها رجل أعمال نَزِق، هوايته إطلاق تغريدات أقرب ما تكون إلى نزوات وأهواء وردود أفعال، يسارع بعدها وزراؤه ومساعدوه إلى تهذيبها وترصينها ووضعها في السياق العام لسياساتٍ مرسومة تتعهدها مؤسسات وأجهزة متمرسة. صحيح أن دونالد طرمب نسيج وحده في فرادته التعبيرية، لكنه أيضاً ناطق صريح بلسان تيار عريض من الأمريكيين المحافظين الأنغلوساكسونيين البيض والمتبرِّمين بغيرهم من الجماعات ذات الأصول الأفريقية، والأمريكية اللاتينية، والآسيوية، ولا سيَّما منها ذات الديانة الإسلامية. إلى ذلك، يستشعر قادة الرأي بين هؤلاء المحافظين المتوترين خطراً على مكانة أمريكا ومصالحها من قوى صاعدة أبرزها الصين وروسيا وإيران والاتحاد الأوروبي. في وجه هؤلاء جميعاً يرفع طرمب وعصبته شعار «أمريكا أولاً».
يجد هذا الشعار ترجمته السياسية في تدابير ثلاثة رئيسة: تقليص مساهمة أمريكا السياسية والمالية والعسكرية في منظمات دولية كانت تعمل لعقود في خدمتها، أبرزها الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وتدفيع بعض الدول المحمية أجور حمايتها الأمنية كالسعودية التي غرّمها طرمب إتاوةً لا تقلّ عن 500 مليار دولار، ومحاربة الإسلام والمسلمين بدعوى أنهم منبع الإرهاب والإرهابيين ودعاته ومنفذوه.
في عالم العرب والمسلمين تتبدّى سياسة أمريكا الطرمبية أكثر ما يكون في الاحتضان العضوي للكيان الصهيوني، وفي العداء الغريزي لإيران بما هي التجسيد الأبرز لما تُسمّيه «الإسلام الإرهـــابي». في هذا السياق جرى الإعـــلان عن القـدس عـاصمــةً لـِ «إسرائيل» ونقل السفارة الأمريكية إليها، والضغط على بعض دول الخليج لمباشرة مسارٍ من التطبيع معها، وتكثيف الحضور العسكري الأمريكي في سورية لضمان احتضانِ الكرد السوريين عسكرياً وسياسياً كي يكونوا مرتكزاً وذريعة لإطالة أمد الحرب في سورية وعليها، ولعرقلة تواصلها الجغرافي والسياسي والعسكري مع العراق، ولخدمة «إسرائيل» المتخوّفة من إقامة جسر بري يمتد من طهران إلى بيروت، وربما إقامة قواعد عسكرية إيرانية في العمق السوري و/أو على ساحلها المتوسطي.
في مقابل أمريكا، وليس في وجهها بالضرورة، تنشط روسيا لتركيز ودعم حضورها ونفوذها في منطقة غرب آسيا الممتدة من شواطئ بحر قزوين إلى شواطئ البحر المتوسط. تسعى موسكو، في مقاربتها السياسية والميدانية للأحداث، لدعم سورية في جهودها الرامية إلى استعادة وحدتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني، وذلك من خلال قاعدتيها الجوية في حميميم والبحرية في طرطوس، ودورها النافذ في مؤتمرات جنيف وأستانة وسوتشي، وتعاضدها السياسي واللوجستي مع إيران، وتعاونها السياسي والدبلوماسي مع تركيا، وتنسيقها الميداني مع أمريكا لتفادي مصادامات عسكرية. إلى ذلك، تطمح روسيا إلى تعاون اقتصادي، نفطي وغازي، مع إيران والعراق وقطر وسورية ولبنان، غايته التحكم في نقل النفط والغاز إلى دول أوروبا.
إيران ماضية في ثورتها السياسية والإنمائية والتكنولوجية. هي تستشعر عداء أمريكا وإسرائيل الغريزي لها وتتحسب لعدوان مرتقب. الحرب الأمريكية الناعمة عليها قائمة منذ قيام ثورتها عام 1979، لكنها ستتصاعد بأوجه متعددة خلال ولاية طرمب. لا تستبعد طهران هجوماً إسرائيلياً، بالتواطؤ مع أمريكا وربما بمشاركتها، يستهدف بالصواريخ والقاذفات الاستراتيجية مراكز صناعتها النووية ومواقع إنتاج نفطها وتصديره، بقصد شلّها اقتصادياً وعسكرياً. لذا تقوم إيران بدعم وسائل أمنها القومي من خلال خطة استراتيجية ذات أهداف ثلاثة: تسريع ثورتها التكنولوجية ومضاعفة إنتاجها وفاعليتها في ميادين الصواريخ الباليستية والطائرات الحربية المتطورة والاتصال السيبراني؛ وتوسيع دعمها الفني واللوجستي لحلفائها، ولا سيَّما قوى المقاومة العربية المشتبكة مع إسرائيل؛ والسعي للاقتراب جغرافياً، وبالتالي ميدانياً، من إسرائيل بإقامة قواعد جوية وصاروخية في سورية لدعم رادعها الدفاعي بقوة نارية هائلة تعوّض نقصها في السلاح النووي.
تركيا يحركها هاجسان رئيسان: الأول حرصها على وحدتها الجغرافية والديمغرافية التي يهددها كُرد الداخل وكرد الجوار الساعون إلى دولة انفصالية؛ والثاني مواجهة رفض انتسابها إلى الاتحاد الأوروبي وذلك بالتوجه شرقاً بقيادة رجب طيب أردوغان، الإسلامي المترسمل بالإرث العثماني، لتزعّم عالم الإسلام المنتشرة شعوبه في قارات ثلاث، لتعزيز اقتصادها وتوسيع مصالحها ومشاريعها وأسواق صناعتها وتجارتها. يوظّف أردوغان في سعيه لتحقيق الأغراض السالفة الذكر، سلاحين جاهزين: موقعَ تركيا الاستراتيجي الفاصل والواصل بين قارتين وبحرين، «والإسلامَ الإخواني» ذا الانتشار المحسوس في بلاد الشام وبلاد الرافدين ووادي النيل والجزيرة العربية وشمال أفريقيا. ذلك كله شجعه على انتهاز أحداث دولية وإقليمية لبناء حضور تركي سياسي وعسكري في قواعد في قطر والسودان، وقبلهما في الصومال، ولاستغلال نصرته السياسية والإعلامية لقضية فلسطين في زمن التراجع العربي الشامل.
إسرائيل ما زالت ممعنة في توسيع رقعة استيطانها أرضَ فلسطين التاريخية حتى أضحى أكثر من 78 في المئة من مساحتها الإجمالية في قبضتها، هذا فضـلاً عن استيلائها منذ 1967 على الجولان في جنوب سورية وعلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا في جنوب لبنان. إلى ذلك، تخطط إسرائيل لتهويد مناطق واسعة في القدس الشرقية والأغوار وبالتالي إلى طرد سكانها العرب. ولا يستبعد خبراء استراتيجيون أن تقوم إسرائيل، تحت حكم بنيامين نتنياهو واليمين العنصري المتطرف، بشن هجوم يستهدف صناعة إيران النووية ومراكز إنتاج وتصدير نفطها، كما مهاجمة قواعد ومراكز وبيئات حاضنة ومساندة للمقاومة العربية في قطاع غزة ولبنان، وذلك في محاولة يائسة لتصفية القضية الفلسطينية.
ألعاب وألاعيب وصراعات اللاعبين الكبار والصغار في ساحات العرب وحدائقهم الخلفية ستتخللها تحالفاتٌ واتفاقات وخلافات بعضها مديد وبعضها الآخر عابر ومؤقت، لكن الأغلب أن فاعليها هم دائماً اللاعبون الخمسة الكبار، وأن المفعول بهم هم دائماً العرب الصغار السائرون في ركاب أمريكا ومهادنو دول الغرب الأطلسي، وأن الاستثناء الوحيد الممكن هو فعل المقاومة الفلسطينية والعربية.
يُستشفُّ مما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أن قوى محور المقاومة تمتلك قدرات وازنة، عسكرياً وتكنولوجياً، وأن في إمكانها الردّ باقتدار على «الحرب الكبرى» التي يُحتمل أن تشنّها «إسرائيل»، وذلك لتوافر ثلاثة شروط استراتيجية لديها: الأول، الأسلحة الكاسرة للتوازن؛ والثاني، اختلال موازين القوى لمصلحتها عاجـلاً أو آجـلاً؛ الثالث، وحدة الجبهتين اللبنانية والسورية من الناقورة على شاطئ البحر المتوسط إلى نقطة التقاء الجولان السوري بالحدود الأردنية.
المرجّح أن تتردد هذه القوى في توسيع دائرة الاشتباك مع العدو الصهيوني في حال مشاركة الولايات المتحدة في «الحرب الكبرى» أو مساندتها الوازنة له. ومع ذلك، فإن أطراف محور المقاومة قد تُقدم على الرد بقوة في حال امتلاكها أحد أسلحة الدمار الشامل، كالأسلحة الكيميائية أو الأسلحة البيولوجية. ذلك بأنها تستطيع باستعمالها تعويض النقص في السلاح النووي الذي يمتلكه العدو وقد يستعمله. كيف؟ بالقوة التدميرية المتعاظمة لسلاح الدمار الشامل (الكيميائي أو البيولوجي) وبالصواريخ الموجَّهة وغير الموجَّهة التي تمتلك منها مئات الألوف وتستطيع إطلاقها من قواعد قريبة في محيط «إسرائيل» الجغرافي.
يبقى أنه يقتضي، في هذه الحالة، وجود قدرة وازنة لدى أطراف محور المقاومة على تصنيع أسلحة الدمار الشامل، وعلى إشعار العدو بوجودها توخِّياً لتفعيل عامل الردع، كما لإشعاره بالإرادة الحاسمة لاستعماله بلا تردد إذا ما استدعى الخطر المحدق والضرورة القصوى ذلك.
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 468.
(**) عصام نعمان: محامٍ ووزير سابق – لبنان.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.