مقدمة:
مرَّ على صدور كتاب الدَّولة في الفكر الإسلامي المُعَاصر أكثر من عقدين، فمنذُ صدورهِ من مركزِ دراسات الوحدة العربية في عام 2002، وهو يثيرُ بالنسبة إلى قرّائه كثيرًا من القضايا التي تشغلُهم، وتؤرق بالهمُ، ليسَ أقلّها علاقة الدّين بالدّولة، أو علاقةُ السُّلطة الدّينية بالمجال الاجتماعيّ. لقد انصرف الكِتَابُ – على حدِّ تعبير المُفكّر عبد الإله بلقزيز – إلى «البحثِ في الكيفيات الأيديولوجية المختلفةِ التي تمَّ الوعيُ من خلالها بمسألة الدَّولة، لكن لا في الخطاب الثقافي والفكريّ العربي ككلّ، بل حصرًا في خطابين إسلاميين معاصرين، همًا: خطابُ الإصلاحيّة الإسلاميّة، وخطابُ الإحيائيّةِ الإسلاميةِ، على ما بين الخطابينِ من اختلافٍ كبير في تحديد مسألةِ الدَّولة وبيان علاقتها بالدّين»[1]. يجدُ المرءُ في هذا الكتابِ تتبُّعًا دقيقًا وفحصًا حصيفًا، فطِنَ صاحبهُ إلى مواطنِ التمايزِ بين الخطابينِ في إدراكهما لمسألةٍ واحدةٍ، على أنَّه يعملُ على تصويبِ النظرِ الذي يجملُ «التيارات الفكرية الإسلامية» في كفّةٍ واحدةٍ، ويعيدُ تفكيكها من أجلِ تكوينِ نظرةٍ ثاقبةٍ تحدّدُ ما للإصلاحية والإحيائية من مقولةِ في العقل مقبولةٍ أو مرذولةٍ. جاء تحليلُ الخطابينِ على مستوياتٍ إشكالية أربعة هي: الدّولة الوطنية، ودولة الخلافة، والدولة الإسلامية، ثم الدّولة الدينية (الثيوقراطية).
انشغلَ الكتابُ – في جوهره – بدراسة مسألةٍ رئيسةٍ في حقل الفكر النّظريّ والسّياسيّ، تتمثلُ بالعلاقة التي تُنتسجُ بين الدّيني والسِّياسيِّ، وذلك في وعي النّخب الفكريّة الإسلامية الحديثة والمعاصرةِ، ووقفَ عند الكيفية التي تمثّل بها ذاك الوعيُ تلك العلاقة وعبّر عنها لما يزيد على قرن ونصف القرن، وهو ما برز، بشدّةٍ، مع إشكالية الدّولة «التي ستصبح – منذ تداعيات الغزوة الأوروبية لديار المسلمين في القرن التاسع عشر – نقطة انعقاد كافة القضايا والمعضلات المتّصلة بمسائل الاجتماع السياسيّ والاجتماع الدّينيّ في مجتمعات العالمين العربي والإسلامي»[2]. أصبحت الدّولة، إذن، قضيّةَ القضايا كلِّها، ورأس التّفكير في كلِّ ما يعترضُ الاجتماع السياسيّ والدّينيّ، وقد فرضت نفسها، بقوّة، في إثر احتكاك المسلمين بالمدنية الغربية التي بلغت قوّتها ديار المسلمين.
لا يمكنُ أن نقول إنَّ إشكالية الدَّولة في الفكر الإسلامي المعاصرِ، تُلُقّيَت بالصيغةِ عينها، أو أن نقول إنَّها ظهرتْ بالحدَّةِ نفسها عند كل جيل منهم، بل الحال أنّنا أمام حالاتٍ تتمايزُ وتتباينُ درجاتُ تعاطيها مع الإشكالية عينها، وقد عاشَ كل جيلٍ إشكالية الدّولةِ على نحو خاصّ، وأنتج حولها خطابًا، وبين تلك الخطابات خطوط اتصالٍ، بالرغم من تباينها في طرق تناول إشكالية الدّولة[3].
نفترضُ أنَّ البحثَ يتناول إشكالية الدولة في الفكر «الإسلامي»، ومنه كان الانفتاحُ على المكونات الإسلامية كلّها أمرًا لا مفرّ منهُ؛ ومن أجل ذلك تناولَ البحثُ «الفكر الإسلاميّ في كليته»، وفي تمظهرَيه المذهبيين الرئيسين: السني والشيعيّ[4]، بل يتّسعُ نطاق البحثِ ليشملَ نصوص الإسلام الهندي والباكستاني مع أبي الحسن الندوي، وأبي الأعلى المودودي، بغايةِ الكشفِ عن السياقات التي انبثق فيها نصٌّ أهل الحاكميّةِ.
أولًا: مِنَ الدَّولَةِ الوَطنيَّة إلى دَولَةِ الخِلَافة
يؤكِّد عبد الإله بلقزيز مسألةً في غاية الأهميَّةِ، وهي أنّ فِكْرَةُ الدَّولةِ قد خرجَتْ من رحمِ فكرةِ الإصلاح وكانت من ثمراتها النّظريةِ. لمْ يكُن التّفكيرُ في الدّولةِ عند الإصلاحيةِ الإسلاميّة بدعًا من القولِ، وإنّما كان الحاملُ عليها ما عاشهُ المسلمون من تأخِّرٍ مزدوجٍ: عن عصرهم، وعن ماضيهم المرجعي، وكما حملهم على التفكير فيها ما اتصل برغبتهم في طلب أسباب التّقدُّم وتدارك الفوات التاريخي الذي هم فيه[5]. وبالتّالي، فإنَّ سؤال الدّولةِ، في طورهِ الحديث، قدْ بَزَغَ مع سؤال الإصلاح الحديث، وعُدَّ بمنزلة امتدادٍ لهُ. يبدو أنَّ ثمَّة فارقًا جوهريًّا ميّز إصلاحية القرن التّاسع عشر عمَّا قبلها، ويتمثّل بأنَّ إشكاليتها كانت إشكاليةً سياسيّةً، ولم تكن مجرّد إشكاليةٍ ثقافيةٍ ودينيّةٍ، بل إنَّ الغالب على الإصلاح في هذا القرن هو الطّابعُ السِّياسيُّ[6]. انهمَّت الإصلاحيةُ الإسلاميةُ بتحليل العلاقة بين النّظام السّياسيّ والنظام الاجتماعيّ، مدفوعةً في ذلك بفرضيَّةٍ أُسُّها أنَّ الخلل إنَّما مردُّه إلى النّظام السّياسيِّ، وأنَّ الخللَ إنْ وقع في النّظام الاجتماعيّ الثقافي، وهو واقعٌ، فذلك من جرَّاء تأثرهِ بما أصابَ قرينهُ السياسيِّ، وأنَّ أيَّ إصلاحٍ ينبغي أن يُعنى بالسّياسةِ وبعدها سيمُ إصلاحُ أحوال الاجتماع[7].
اهتجاسُ الإصلاحيين بالمسألةِ السّياسية لهُ أسبابُ نزول، ومنها تلك الاستجابةُ التّلقائية المنبنيةُ على مقارنةٍ مفادُها أنَّ ما أحرزَهُ الأوروبيون من تقدُّم وتفوّقٍ أصلهُ قوَّةُ نظامهم السّياسيّ، وفي المقابل من ذلك فإنّ ما تعيشهُ البلدان الإسلاميةُ من تَقهقرٍ إنّما الأصلُ فيه تشبُّتها بالأشكال التّقليدية في التّنظيم السّياسيّ. كان هذا الإطار الطّبيعي لميلاد إشكالية الدولة في الفكر الإصلاحي، وفي الفكر السّياسيّ الحديث[8].
يذهَبُ عبد الإله بلقزيز إلى أنَّ «أولى الموضوعات الإصلاحية حول الدولة بدأت مع الطهطاوي وخير الدين التونسي اللذين اعتنيا بالمسألة كبير عناية، وكان أكثر ما حرَّراه على علاقة بها»[9]. وهذا معناهُ أنَّ حضورَ فكرة الدَّولةَ عندَ الطهطاوي والتونسي[10]، تعيدُ إلى الأذهانِ أهميَّةَ التّفكيرِ في ما ينبغي أنْ يكون ضدَّ ما هو كائنٌ، من أمور السّياسة والتّدبير، وما يترتَّبُ عنهما من مؤسساتٍ، تَهْتَمُ بتحديدِ العلاقات بين السّلط والأفراد. يستعيدُ الطّهطاوي في كتابهِ تلخيص الإبريز في تلخيصِ باريز، وبعد عودته من باريس سنة 1831، وكان قد قضى خمس سنوات هناك، مظاهرَ التّفوق الفرنسي (المدنية الفرنسية)، ويقف عند مظاهر تفوّقها، وهو على وعي بأنَّ الأصل في تقدُّمهم إنَّما يرجعُ إلى ما امتازت به سياستهم من تقدير لقيم الحريَّة. ولم يجهلِ الطهطاوي – ولا مجايلوه من الإصلاحيين أو من خَلَفَهُم – مستويات الحريَّة ومعانيها، بل كانوا يعونها جيِّدًا، ووضعوا لها ما يناسبها من تصنيفاتٍ، لكنّ دافعهم كانَ قويًّا حين يتعلَّقُ الأمرُ بالحريَّة السّياسية تحديدًا «من حيث إنها الحرية الضَّامِنَةُ للحقوق الطّبيعيّة للنّاس، والضَّامنة لحقوقهم العامَّة، وفي قلبها حقُّهم في المشاركة السِّياسية؛ أي من حيث هي مرادفة لمعنى العدل»[11].
لمْ يكنْ ثمَّة اختلافٌ حولَ أهميَّةِ العدلِ ودورهِ في بقاء العمران البشريِّ واستمراريَّتهِ، ألم يعلنها عبد الرحمن بن خلدون صراحةً حين قال: «والظلمُ مؤذن بخرابِ العمران»[12]، وهو ما استقرَّ أيضًا عند عَلَمٍ من أعلامِ هذه المرحلة، ويتعلَّقُ الأمر بابن أبي الضياف، الذي عدَّد أنواع الملك وميز فيه بين الملك القهريّ والجمهوريّ؛ إذ «لا مناص من العدل، إذن، لتأمين شوكة الدولة وبناء العمران، ولكن كيف السبيل إلى نظام سياسي عادل يقطع مع الملك القهري المطلق؟ هذا النظام موجود لدى الغرب وهو الصنف الثاني من أصناف الملك، إنه الملك الجمهوري بعبارة ابن أبي الضياف»[13]. من شأن الملك الجمهوريّ القطعُ مع ما يمكنُ أن يؤدِّيَ إلى الاستبداد وقهر العباد. أبان ابن أبي الضياف عن قاعدة العدل في نظامِ الحكمِ في الإسلام، كما بيَّن أوجه السبق فيه للأخذ فيها وجعلها أسَّ الحكم والنظام. لكنّ ابن أبي الضيافِ لا يقيمُ وزنًا للملك «الجمهوري» إن كان مدارهُ على العقل وحدهُ من دون استنادٍ إلى مقتضى الشَّرع، وتلكَ محاولةٌ توفيقيةٌ اهتدى إلى ركب غمارها فريقٌ من الإصلاحيين، مدارُ سؤالها على التوافق بين دولة العقل ومقتضيات الشرع[14].
لا خلاف، إذن، في أنَّ العدل هو اللبنة الأولى التي بنت عليها أوروبا تفوُّقها السياسيّ الحديث. والدفاع عن النظام العادل أساسُه العقلُ السليمِ، وما وافق العقل هو موافق للشرع بالضرورة؛ فلا يمكنُ أن يمنحَ الله الإنسان عقلًا ويمنحه شرعًا يناقضهُ، ولأن «العدل من مقتضيات النظام في الإسلام؛ والتبشير به هو مما في حكم الحكمة وهي ضالة المؤمن التي لا يجوز الإعراض عن الأخذ بها حتى ولو كان أهلها من غير المؤمنين بعقيدة الإسلام»[15]. لكن، بالرّغم من هذه النتيجة المنطقية التي يقودنا إليها العقلُ المجرّد، فإنَّ سؤال مقبولية هذه التنظيمات السياسية ضمن النطاق الدينيّ المحض، ظلت موضع سؤال بالنسبة إلى المفكرين الإصلاحيين الذين استيقنوا أنهم مانعهم تراثٌ فقهيٌّ ضخم عن تمرير مثل هذه المُقدّمة الواضحة والبديهية وبسؤال مقتضب: «هل تتعارض هذه التنظيمات مع الشريعة؟»[16]. لم يكن ثمَّة من بدٍّ في الدِّفاع عن تلك التّنظيمات وإقناع العامَّة بضرورتها، وبأنَّها ليست تتعارض مع ما جاءت به الشريعةُ، بل إنها – في جوهرها – تعبيرٌ عن مقصدِ الشريعة في حفظ الحقوق وإقامة العمران، ولم يكن ليتحقّقَ مثل هذا الأمر، أو نظيرهُ، إلا بكسبِ المؤسسة الفقهية وتسخيرها في خدمة الإصلاح وتعزيزه، فالمؤسسة الدينيةُ هي محركُ الإصلاح وقلبهُ، ومن دونها سيغدو مشروعهُ مشروعًا طوبويًا[17].
لم يكن إصلاحيو القرن التّاسع عشر ينظرون إلى الدّولة الحديثة على أساس أنها نموذج برَّانيٌّ خارجٌ عن المألوف، بل نظروا إليها على أساسِ أنها مطابقةٌ لمقتضيات الشّريعة، «إنها دولة العقل والشرع»[18]. وقد وضع هؤلاء الإصلاحيون في حسبانهم نموذجًا يقيسون عليه هو ما مثلته الخلافة السّلطانية، وقد وجدوا في الدّولةِ الحديثة، في صورتها الغربية، ما لم يجدوه في النّموذج التّقليدي الذي عكسته الخلافة (السّلطنة). لكن «لعلّ مما تقتضيه الأمانة العلميّة القول إنّ بعض الإصلاحيين المسلمين لم يندفع اندفاعًا أعمى إلى مهاجمة الخلافة (السّلطنة)، والتشنيع عليها، لمجرد رغبته في رؤية نظام دولة حديث ينشأ في البلاد الإسلامية، بل حرص شديد الحرص على وحدتها ووحدة أراضيها في مواجهة المطامع الاستعمارية المتزايدة[19]. وبالتالي، ظلّت الإصلاحية موجَّهةً بموجِّهين؛ الأولُ معياريٌّ الأصلُ فيه تقويم الذات في ضوء النموذج الغربيّ المتقدّم، والثاني ذاتيّ قوامه مواجهة التحدّيات الاستعمارية الرامية إلى تقسيم الأمة.
كرَّس التُّراثُ الفقهيُّ، الذي ترتَّبَ عن تاريخ الدّولة السلطانية في بلاد الإسلام، فكرة السّلطةِ الدّينية، وهو ما يعكسُ الصّورة التي كان يتقبَّلُ بها عامَّةُ الناسِ سلوك الأمراء والسلاطين، وربط هذا التراثُ بين مكونينِ لم يكنْ للقاء بينهما أيُّ مسوغ، وهما السلطة الزمنية والسلطة الروحية؛ فالسلطانُ – بحسبانه خليفة الله – لا يمكن الاعتراضُ عليه؛ لأنه الحاكم باسم الله. أعاد هذا التّراثُ صياغةً نظريّة «الحقّ الإلهي» من داخل الفكر الإسلاميّ.
نستعيدُ سؤالًا طرحهُ عبد الإله بلقزيز، في إطار تحليله مسألةَ الحكم وعلاقته بالدّين، باسم من يحكم الحكام، إذن، إن لم يكن ذلك باسم الله؟ عرض هذا السؤالُ لمحمّد عبده، وهو من مفكريّ الإصلاح، وَأَدْركَ أنَّه ليس من اليسير القول إنَّ الدين غير ذي صلة بالموضوع وبشرعية حكم الحاكم؛ لأنَّ ذلك قد يقود إلى نتيجة هي غيابُ العلاقةِ بين الشّريعة والسّلطة، وفي المقابل من ذلك لا يمكن القول ببساطةٍ بوجودِ علاقةٍ بينهما تفاديًا للسّقوط في فكرة الحقّ الإلهي. يبدو أنه لا مفرَّ من هذه الإشكالية إلّا بافتراضِ أنَّ الأمَّةَ هي المصدرُ الوحيدُ للشرعيةُ وبالتالي للسلطة، وهو أقصى ما يمكنُ أن يعبِّر، بجلاء، عن فكرة مدنية السلطة والنظام السياسيّ «وليس من شك في أن هذا الوعي، هو الذي ذهب بالأستاذ الإمام إلى الدفاع عن النظام التمثيلي النيابي، وعده الشكل السياسي – والشرعي – الوحيد لتحقيق مبدأ ممارسة الأمة لسيادتها، وحقها في الولاية على نفسها»[20]. لا حقَّ لأحدٍ في أن يتحدّث باسم الجميع، ولا أن يتحدّث بالنّيابة عنهم، إلّا إنْ هم ارتضوهُ وانتدبوه من أجل ذلك، وإلا فإن كل ممارسة من ذاك القبيل تعدُّ من باب الاستبداد السياسيِّ. ساقَ الإصلاحيون نماذجهمُ الفكريَة في إطار مواجهة الاستبداد السياسيِّ، الذي يبدو أنَّهُ استبدادُ نظامٍ (حكومة)، وليس، بالضّرورة، استبداد فردٍ واحد.
توجَّه الخطابُ الإصلاحيُّ إلى مطالبةِ الخلافةِ العثمانيّةِ بإجراء إصلاحاتٍ حقيقيّةٍ تمسُّ المجال السّياسيّ، ومن ثمّ انتقل هذا الخطابُ إلى نقدها نقدًا حادًّا عندما تبيّن أنّها قاصرةٌ عن تلبية المطلوب، وأنّه ما عاد في الإمكان التّعويلُ عليها.
عالجَ عبد الإله بلقزيز مسألة الدّولة في الفكر الإسلاميّ المعاصر، من زاويةِ الإصلاحية الإسلاميَةِ في شقها السّنيّ، ولكنّه ما جعل هذا النّموذج الوحيد والأوحد، بل انفتح على النّموذج الشيعي من خلال رسالةِ: تنبيه الأمة وتنزيه الملة لمحمد حسين النائيني[21]، التي عدَّها «نصًا فكريًا وفقهيًا فريدًا في تناول مسألة الاستبداد وفي الانتصار للفكرة الدستورية في السياق الفكري الشيعي»، كما أنَّ صاحبها «أحد كبار مجتهدي الشيعة في العصر الحديث»[22]. للنائيني منظورٌ خاصٌّ في تحديد شكل العلاقة بين الولاية والسّلطة، والكيفيّة التي تنعكس بها تلك العلاقة على معاني الحكم العادل، وفي هذا المعنى يمكن أن نفهم أمرين: أحدهما أن تولي السلطة تصريفٌ للقوة الخاصة بالدولة في أغراضها العامة، وليس لأغراض خاصة بصاحب السلطة، وهو ما يقيدُ أدوار الحاكم المطلقة، والثاني أنّ الشّعب يصيرُ شَريكًا في إدارة السلطة، وبيدهم حقُّ مساءلة السياسيين ومحاسبتهم، وضمان أكبر قدر من الحرية للأفراد[23].
وإذا تقرَّر أنَّ الحريَّة أساس للممارسة السِّياسيّة، فإنَّها لا تكتَملُ إلا بالعدل ومقاومة الاستبداد، وهو أمر واجب بالشَّرع، ولا مجرّد حاجةٍ سيّاسيّةٍ. وليس ذلك فقط، بل إنَّ مقاومة الاستبداد لا تستقيمُ إلى بالمدافعة عن المشروطةِ التي ستضربُ على يد الاستبدادِ، وستحفظُ القيم الدّستورية، ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا من خلال هذه السبيل[24]. تعكسُ رسالة النّائيني «ثورة فكرية حقيقيّة في سياق تاريخ الفقه السِّياسيِّ الشِّيعي: ثورة أعادت النّظر في جملة الثّوابت التي رسَا عليها ذلك الفقه، وأدخلت إلى منظومته مفاهيم سياسيّة جديدة: الدستور (أو المشروطة)، مجلس الشورى، نواب الشّعب المسؤولية أمام الشّعب، المواطنة، السّلطة الشّرعية الحديثة القانون… إلخ»[25].
يؤكّد عبد الإله بلقزيز أنَّ استحضارُ النّموذجِ الشيعيّ ليس من باب التأريخ للفقه السياسيّ، أو البحث عن جذور فكرة الإمامة وتأثيرها في الفكر السياسيّ الشيعي الحديث، وإنّما عُنيَ هذا البحثُ بتحليل لحظة فكرية إصلاحية حديثة في الدائرة الفكريّة الشّيعية.
عرف القرن العشرون اهتمامًا بفكرة الدَّولة الوطنية في الأوساط الفكريّة والثّقافيّة اللّيبرالية المصرية، وبالأخص في كتابات لطفي السيد، كما أنّها عرفت تراجُعًا وضُمُورًا على صعيدِ الخِطابِ الإسلاميّ عاشتهُ «الإصلاحية الإسلامية ككل: فكرة ورموزًا وجمهورًا!»[26]. وما استجدَّ، في هذه المرحلة، بالذّات، هو عودةُ فكرة الخلافة وما تعلَّق بها من موضوعات السّياسة الشّرعية إلى مسرح الأحداث، لكنّ هذه العودة وإن كان لها ما يعضدُها، فهي قد أتت على تراث الإصلاحية ولم تترك منه شيئًا. يسطعُ نجمُ رشيد رضا في هذه المرحلةَ، حتَّى عُدَّ رجل الإحيائية بامتياز، ويتعلَّق الأمرُ ب»إحياء» منصب الخلافة[27]، وما حملهُ على ذلكَ أمران: أولُهما يتمثَّلُ بغِيَابِ مرجعٍ دينيّ تكونُ إليه أوبةُ المسلمين في شؤون دينهم ودنياهم، وثانيهما صوريةُ الخلافةِ (العثمانية) وقصورها عن الاستجابةِ لمثل هذا المطلب. يبرّرُ رشيد رضا مسألة «إحياء الخلافةِ» في إطارٍ سياسيّ محض، لكنّهُ إلى ذلك مدفوعٌ بالتّسويغ الدّينيّ لمسألةِ الخلافةِ؛ حيثُ يوظفُ الشّرع في تقويم واقعٍ سياسيّ يعيشهُ. تبرزُ، إذن، معضلةُ العلاقة بين السّياسيّ والدّينيّ، وتتداخلُ عناصرهُما بما لا يدعُ مجالًا لإقامة نوعٍ من التمايزِ والفصل[28].
ينبّهنا عبد الإله بلقزيز إلى أن ما يلاحظُ على كتابات رشيد رضا المُهتمَّةِ بالسّياسة الشّرعية، وبالأخصّ كتابه الخلافة أو الإمامة العظمى[29]، أنها تأخذ من أفكار الماوردي من دون إحالة إليه أو الاستشهاد بهِ، لكنه في المقابل يستشهدُ بابن تيمية من خلال إيراد كتابه السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعي، وهو الذي لم يكنْ مهتمًّا بمسألة الخلافة من الأصل. أعادت الإحيائية الحياة إلى نصوص السّياسة الشّرعية التي لم تكن شيئًا يذكرُ أمام ما جاءت به الإصلاحيةُ من أفكارٍ تجديدية تهم مجال الفكر السّياسيّ[30]. وهذا الأمرُ يقيمُ الدّليل على ما يمكنُ توصيفهُ بالعقل التّقليديّ الذي يحملُ في طياته إمكانَ مواجهة التّغيير، ويحدّدُ نفسهُ بسياجٍ دوغمائيٍّ.
ليستْ قضيةُ الخِلَافة أو الإمامة وحدها التي أعيدت إلى دائرة النقاش، في هذه المرحلة بالذّات، بل أعيدَ طرحُ كل ما يتعلَّقُ بها؛ ومن أهمّ المسائل التي أعيد إحياؤها ما اتصل بـ«أهل الحلّ والعقد»، كون وظيفتهم مرتبطةً بالمجال السياسيّ والدينيّ، ومع الماوردي يظهرُ التحديدُ جليًّا وتبرز سماتهُ[31]. وفي هذه المسألة، أيضًا، يتقفّى رشيد رضا أثرَ الماوردي، ويعيدُ تسليط الضّوء على مكنونات رسالته، من دون أن يتحفّظ في ذلك أو أن يقرأ المسائل في إطارها التّاريخيّ والاجتماعيّ. يقفُ رشيد رضا عند مفارقةٍ مركّبةٍ مؤدّاها أنَّ دفاعهُ الفقهي والأيديولوجي عن فكرة الخلافةِ لم يخْدُم الفكرة إطلاقًا، ولم تتبيّن – في إطار رؤيته السّياسية – الغايةُ منها، والدّليلُ على ذلك أنَّ منواله في التّفكير لم يستأنف من بعده، وما سمح بهِ لم يكن «سوى إنجاز قطيعة مع الفكر الإسلامي الإصلاحي، وفتح أوسع الأبواب أمام ميلاد الفكر الإسلامي «الصحوي» (= فكر الإخوان المسلمين ومن انتسل من نسلهم!)[32]. كان خطابُ رشيد رضا – على حدّ تعبير المفكّر عبد الإله بلقزيز – خطابًا طوبويًا ممتنعًا عن التَّحقّق، وذلك بسبب الفجوة الهائلة بين منطق الدولة ومنطق الخلافة.
انشغلَ علي عبد الرازق بمسألة الخلافة[33]، ولكن من منظورٍ نقيضٍ ومخالفٍ لرشيد رضا. يمكنُ أن يلحظ المرء موضوعاتٍ نظريةً أربعةً نظمت فكر علي عبد الرازق في مسألة الخلافةِ، وهي عينها نواةُ الأطروحات النقدية التي يقومُ عليها كتابه الإسلام وأصول الحكم؛ أوَّلها يرتبطُ بطبيعة السلطة المطلقة التي يقوم عليها نظامُ الخلافة؛ وثانيها مدارهُ على عدم جواز نظام الخلافة وشرعيته؛ وثالثها، يتعلقُ بالقواعد التي تؤسس لنظام الخلافة؛ ورابعها يتعلقُ بالطبيعة السياسية للحكومة في الإسلام. «وهي الموضوعات النقدية التي ما زالت تمثل حتى اليوم وبعد انصرام ثلاثة أرباع القرن على صياغتها، سقفًا نقديًا لسائر محاولات السجال النظري ضد فكرة الوصل بين السياسي والديني في الفكر الإسلامي المعاصر، التي تصدت لها أقلام مختلفة من تيارات ومشارب متباينة في الفكر العربي المعاصر»[34]. ظلَّ التصوّرُ الفقهيُّ متقوقعًا حول نفسه ومتكلّسًا، يعيدُ إنتاج الخطاب عينه من دون رغبةٍ في التَّجديد. لم يكن عبد الرازق ليقبل مثل هذا التَّصور، ولا لِيَأخُذَ فيه، وإنَّما جنَّد نفسه لمواجهته، ويستنكرُ على الفقهاء إعراضهم عن الإتيانِ بالحجج التي تدفعُهم إلى تعظيم الخليفةِ والخلافة، بل إنّه لا يجدُ في كلامهم أيّ صلة بالشرع والدّين[35].
لم يجد علي عبد الرازق أيَّة مشكلةٍ في التَّوظيف السِّياسيّ لمسألة الخلافة بما تواضع عليه علماء السياسة، كيما يتحقّقَ للمسلمينَ نظامٌ سياسيّ خاصٌّ بهم، وإنَّما المعضلةُ الحقيقة تكمن في التَّوظيفِ الفقهيّ للمفهوم بغايةِ إلباسه طابعًا شرعيًّا. سيتحَّقُق الوعيُ بالبُعدِ الدنيوي للتجربة السياسيّةِ في الإسلام متى تحقَّقَ الفصلُ بين الأفعال النبويَّةِ ذاتِ الطابع السِّياسيّ والرسالةِ؛ لأنَّ ذلك وحدهُ هو ما يمكنُ أنْ يقيم فصلًا بين الوعي السياسيّ وإلزامية الدّين، أو لنقل الحؤول من دون تسخير الدّين لأغراضٍ سياسيةٍ. ذاك، إذن، هو مضمون المقاربة التي عني علي عبد الرازق بالدّفاع عنها، ومدارُ تصوُّره للتجربة النبويَّة وحدودها الدينيّة والسياسيّة[36]. مثلت دعوى عبد الرازق محاولةً لاستمرارية النموذجِ الإصلاحيّ في قراءة الواقع السياسيّ وتحولاته، وفي نقده لنموذج الخلافةِ.
قصارى القول إنَّ ما يتأكَّدُ من خلالِ مقالة علي عبد الرازق، وكذا ابن باديس، يمثلُ امتدادًا للفكرة الإصلاحية، وهو طرحٌ على درجة كبيرة من الصعوبة، ويقتضي قدرًا كبيرًا من الجرأة، لتواجه واقعًا غلب عليه التراجعُ، وفشت فيه المقالةُ الإحيائيةُ فشوًّا.
ثانيًا: من الدولة الإسلامية إلى الدولة الدينية
يُنبِّهنا بلقزيز إلى الارتباط الذي حصل بينَ التّيار الإحيائيّ وحركة الإخوان المسلمين؛ حيث «تتلمذ حسن البنا، على نحو غير مباشر للسيد محمد رشيد رضا، وظل يَعُدُّه من مراجعه المعاصرة؛ لكنه لم يحفل – لا من قريب ولا من بعيد – بالمسألة التي شغلت أستاذه الخلافة فلا يكاد القارئ في نصوص مؤسس حركة الإخوان المسلمين ومرشدها يجد إلا إشارات قليلة إلى موضوع الخلافة، يحكمها تقدير صريح بأنها مسألة مؤجّلة، وإن كانت في حقيقة أمرها مسألة شرعية لا سبيل إلى إسقاط التكليف الديني بأمرها»[37]. مارس حسن البنا نوعًا من الانتقائية في ما يتعلَّقُ بالأطروحةِ الإحيائيةِ وموقفها من الخلافة، وهذا التعاطي يمكنُ تفسيرهُ من خلالِ فهمِ المنزع الواقعي الذي يسعى إلى تكريس نقاش «الدّولة الإسلامية»، والتحول الجذري في إطار دلالي لا يخلو من طوباويةٍ، «إن «الدولة الإسلامية»، على نحو ما رسم ملامحها وتقاسيمها حسن البنا، لا تعدو أن تكون في الطبيعة مُجسَّمًا تمثيليًا صغيرًا للخلافة، وإذ نستدرك – منهجيًا – فنقول إنها لم تكن كذلك في التفاصيل نضيف أنها ما خرجت عنها في الجوهر والمحتوى»[38].
بيِّنٌ، إذن، أنَّ المقالة التي منها انطلق الإخوانُ المسلمون، ترى أنَّ مبدأ الدَّولةِ هو الحاجةُ إلى منع الفوضى وإلى إقرار النِّظامِ، وهي الحاجةُ عينها التي عبَّر عنها القدامى حين دعوا إلى طلب ما به تكون وحدة الجماعة وإلى اتقاءِ أسباب الفتنةِ. كانت تلك هي الغاية عينها التي سخّرَ القدامى دفاعهم عن مبدأ الدَّولة والحامل عليه، «ولكن ماذا يعني إقرار النظام في هذه الأطروحة عن ضرورة الدولة في الإسلام، وعن ضرورتها للإسلام؟»[39]. يُعَدُّ حسن البنّا مؤسس فكرة «الدولة الإسلامية» بتنبيهه إلى تميزُ هذه الدولة عن «الدولة الدينية»؛ حيث لم يأت في كتاباته أيّ تفصيل في الأمر، بل عُنيَ بذلك تلامذتهُ، وأشهرهم على هذا حرصًا يوسف القرضاوي، وقد استقى في سبيل القيام بذلك مفاهيم الدّولة الحديثة.
لا يمكن أن تكون الدولة الإسلامية دولة للشّريعة إلا إذا كان هناك وعي يقيم الروابط والتواصل بين الدّين والحياة العملية، وبين العقيدة والشريعة، تلك هي الدعوى التي بنى عليها «الإخوان» مشروعهم. والأصلُ في الدِّفاع عن فكرة الوصل بين الدِّين والسياسة والاجتماع، والدفاع عن ضرورة تطبيق الشّريعة الإسلامية، هجوم على أولئك الذين يرون أن الدّين والسّياسة يجب أن يكونا منفصلين. وقد أدى ذلك إلى حدوث صدامٍ بين دعاة تطبيق الشريعة ودعاة فصل الدولة والسياسة عن الدِّين، وتم تسميتهم في بعض الأحيان العلمانيين أو «اللائكيين»، على حدّ تعبير عبد السّلام ياسين.
يعود هذا الصراع الفكريّ المزمن إلى اختلاف الآراء حول دور الدّين في المجال الزمني، والعلاقة بين الشريعة الإسلامية والعلمانية. في الوقت الذي يروّج بعض المثقفين العرب والمسلمين المعاصرين للفكرة العلمانية، والفصل الكامل بين الدّين والحياة العامة، تؤكد فكرة شمول الإسلام وجوب إخضاع المجال الزّمني لأحكام الشريعة. تُشير فكرة شمول الإسلام إلى أن الإسلام ليس مجرد دين يتعلق بالشؤون الدّينية فحسب، بل يمتد ليشمل جميع جوانب الحياة بما في ذلك المجال الزّمني. وبالتالي، فإن الشريعة الإسلامية تُعَدُّ مرجعيةً أساسيةً – في اعتقاد أصحاب الربط بين الدين والسياسة – من أجل تنظيم الحياة العامّة، وتحديد القوانين والأعراف التي يجب اتباعها. من جهة أخرى، يؤمن البعض بفكرة العلمانية وفصل الدّين عن الحياة العامة، ويرون أن الشّريعة الإسلامية يجب أن تكون مسألة شخصيةً، وليست أمرًا ساريًا على المجتمع بأكمله. يرى هؤلاء المثقفون أنَّ الدّين ينبغي أن يكون اختيارًا شخصيًا لا قيدًا قانونيًا. تستمر هذه النقاشات والصراعات الفكرية بين مؤيدي الشّمول الإسلامي والعلمانية، وتتأثر بالعوامل الثقافية والسِّياسية والاجتماعية. ويُعَدُّ فهم وتفسير الشَّريعة وكيفية تطبيقها في المجال الزمني من أبرز نقاط الصِّراع والتناقض. يجب أن نلاحظ أن هذا الصراع ليس ضرورةً فكريَّة متبادلةً، وإنما يعكس تنوع الآراء والمدارس الفكرية في المجتمع العربي والإسلامي المعاصر[40].
كان للتحولات التّاريخية والاستعمار الغربي تأثيرٌ كبير في النَّسيج السِّياسي للبلاد الإسلامية؛ فقد تعرضت هذه البلدان للاستعمار السِّياسي والثَّقافي والاقتصادي، الأمر الذي أدى إلى تأثيرات سلبية في الهوية السّياسية والاجتماعية لتلك الدُّول والمجتمعات. ومن الأمثلة على ذلك نقف عند تجربة تركيا؛ حيث أقدمت الحكومة العثمانية على إجراءات علمنة شاملة في بداية القرن العشرين، وأدَّت تلك العملية إلى فصل الدّين عن الدّولة وإعلان تركيا جمهوريةً علمانيةً. وبالرغم من التّحولات السِّياسية والاجتماعية التي شهدتها تركيا منذ ذلك الحين، فإن هذا السِّياق العلماني لم يزل له تأثير في النُّخب الحاكمة والتّفكير السِّياسي في البلاد. أضف إلى ذلك أنهُ ينبغي أن يلاحظَ صعود الدعوة العلمانية في أوساط النُّخب في البلاد الإسلامية المُستقلة.
* * * * *
يتبنى الخطاب الإسلامي موقفًا يرفض فكرة الفصل بين الدّولة والدّين ويعدُّ العلمانيةَ فلسفةً محصورة في السياق الثقافي الغربي. يرى الخطاب الإسلامي أن العلمانية لا يمكن تطبيقها في البلاد الإسلامية، نظرًا إلى تفرّد تجربتها التّاريخية والدّينية، لذا فهي غير قابلة للاستدعاء أو التطبيق على واقع الاجتماع السياسي في المجتمعات الإسلامية. تؤكد المقولة تلك أنَّ النّظام السّياسي الذي يعتمد على أساس العلمانية غير قابل للانطباق على واقع الاجتماع السياسي في البلاد الإسلامية، وذلك يرجع إلى الاختلافات التّاريخية والدّينية والثّقافية التي تميز تلك البلدان، والتي تتطلب نظرةً مختلفةً للعلاقة بين الدّين والدّولة. وبالنظر إلى تجربة البلدان الإسلامية، فإن الدّين يمثِّل جزءًا أساسيًا من الهوية والثقافة والقيمية في هذه البلدان، ومنه ينبغي تفسير العلاقة بين الدّين والدّولة بطريقة مختلفةٍ عن النّمط العلماني الذي ينتشر في العالم الغربيّ.
يتجاوز هذا السجال مُجَافاة العلمانية لنظام الحكم في الإسلام، ويسعى إلى تسفيه الدعاوى العلمانية بوجه عام. يتقدم الخطاب الإسلامي خطوة إضافية لدحض حجج العلمانيين واعتراضاتهم على الشريعة الإسلامية، ويعبر عن حجية القول بمرجعية الشّريعة في تنظيم المجال السّياسي الإسلاميّ. يهدف الخطاب الإسلامي، في هذا السياق، إلى توضيح قضية مفادها أنّ الشّريعة الإسلامية لديها مرجعية حقيقية، وقوة تنظيميّة في المجال السّياسيّ، وأنها تمتلك الأسس والقوانين التي تتناسب مع تحقيق التّوازن والعدالة في المجتمع الإسلامي. تُعَدُّ الحجج والاعتراضات العلمانية على الشّريعة – في منظور الخطاب الإسلاميّ – غير مقنعة أو غير صحيحة، ويتم تقديم حجج لدعم صلاحية الشّريعة الإسلامية في تنظيم الحياة السّياسية.
ينبغي أن نذكّر بأن هذا النّوع من السّجال والمحاولات لتسفيه الدعاوى العلمانية والدّفاع عن الشريعة الإسلامية، يتمّ تقديمها من وجهة نظر الخطاب الإسلامي المحافظ، وقد تختلف وجهات النَّظر الأخرى في المجتمع الإسلامي في شأن هذه المسائل.
عند تجاهل كتابات الإسلاميين الغلاة الذين انحرفوا عن الاعتدالية، كما هي الحال مع الإخوان المسلمين وتبنوا أفكارًا متطرفةً، نجد أن معظم المفكِّرين الإسلاميين المعاصرين يرون أنه يجب تبنّي نهج التّدرج في تطبيق أحكام الشّريعة. يعتقدون أن الشّريعة الإسلامية قد اكتملت وتم تحديد قواعدها الأساسيّة، ولكن تطبيقها يتطلب التهيئة والإعداد لتحويل المجتمع إلى الالتزام بها. ولا يتنازلون، في رؤيتهم، عن وجوب تطبيق الشّريعة ككل، لكنهم يرون أن التطبيق يجب أن يتم بالتّدرج وعلى مراحل، ويُؤكّدون أن التَّدرج في تطبيق الشَّريعة هو سنَّة من سنن الله في خلقه، ويعتقدون أن الشّريعة قد اكتملت، ومع ذلك، يشدِّدون على أن تطبيقها يحتاجُ إلى تهيئة وإعداد من أجل تحويل المجتمع نحو الالتزام بتعاليم الإسلام الصَّحيحة. ومن المهمّ أن نلاحظ أن هذا النّهج الذي يتبناه بعضُ المفكرين الإسلاميين يختلف عن نظام الأفكار المتطرّفة التي تدعو إلى تطبيق الشريعة على نحوٍ فوريّ وكامل، من دون الالتزام بالتّدرج والمرحلية. أولئك الذين يتبنون النّهج المغالي قد يتجاوزون حدود الشّريعة ويشجّعون على التّطرف في تطبيقها.
يتّفق الإسلاميون المعاصرون على أهمية مبدأ الشّورى في الإسلام وفي تَنظيم الحياة السّياسية، وقد نجد بينهم اختلافًا في تفسير معنى الشّورى وتطبيقاتها في الواقع السّياسي، وقد يكون هناك اختلافٌ في النِّطاق الذي يمتد إليه مفهوم الشورى؛ فمن بعض الأصوات، يمكن أن نجد محاولة لتوسيع دائرة الشورى لتشمل مفاهيم سياسية حديثة أو محاولة لتقييد الشورى بإطار إسلامي تقييدًا صارمًا. ومع ذلك، تُعَدُّ هذه الاختلافات ثانوية وتفصيلية، ولا تؤثر كثيرًا في «الوعي الأصولي الإسلامي الجمعي»[41] في إقراره بأهمية مبدإ الشورى كمبدإ أساسيٍّ في النّظرة الإسلامية للسياسة.
يُعَدّ مبدأ الشّورى في الإسلام أمرًا أصوليًا، حيث يستند إلى فكرة العبودية لله وحده، ويُعدُ الله السّيد الأعلى والمطلق، وجميع البشر عبيد له بلا شريك. تتجلى المساواة بين البشر في الإسلام في الحقوق والواجبات، باستثناء العبودية لله، حيث يُعَدُّ الناس متساوين في الحقوق والتزاماتهم. ومن خلال هذه المساواة، فإنّ الشورى تُفرض كنظامٍ سيّاسيٍ على المجتمع، بحيث لا يحق لأي فردٍ استخدام السّلطة على نحوٍ تعسّفي أو تُحتل معه قاعدة المساواة التي أرساها الإسلام. وبالتالي، فإن التحرر السّياسي للأفراد والشعوب يكون نتيجة للعبودية لله؛ حيث يُعَدُّ التحرر من أنظمة القهر والظلم ثمرة لالتزام الفرد بعبوديته لله. لذلك، مبدأ الشورى في الإسلام ناتجٌ من قاعدة عقدية أصولية وهي قضيةً سياسيةً في تعريفها المباشر، حيث تجمع بين المفهومين الأصوليّ والسياسيّ في آن واحد.
يتجاوز القرضاوي، مثلًا، حدود قول فقهاء السّياسة الشّرعية حول وجوب العمل برأي الإمام، ويرى أن الواجب هو العمل برأي الإمام بعد مشاورة أهل الرّأي والاختصاص[42]. يرى أن الإمام لا يحسب نفسه مستغنيًا عن مشاورتهم أو يحلّل نفسه من لزومهم. يستدل القرضاوي على ذلك من خلال قوله إنّ النّبي الذي يتلقى الوحي مأمور بالمشاورة. في هذا السياق، يطرح السؤال: هل الشورى ملزمةٌ فعلًا؟ يؤكد القرضاوي أنه يعتمد على وجوب الشورى وأن نتائجها ملزمة طالما صدرت من أهلها في موضعها. ومع ذلك، يَعُدّ «أهل الحل والعقد»، أي الخُبَراء وأهل الاختصاص، هم من يحدّدون إلزامية الشّورى، ورأي هؤلاء يُعَدُّ ملزمًا للإمام.
يتضح بجلاء، في السِّياق السّياسي المقارن، أن هناك فصلًا وانفصالًا بين الشّورى والدّيمقراطية، وهذا لا يترك مجالًا للارتباك. يرى فتحي يكن، على سبيل المثال، أن الدّيمقراطية تعني حكم الشّعب وسيادته في الدّولة. ومن هذا المنطلق، يمكن استنتاج أن الشّعب يحكم نفسه ويخلقُ نِظَامًا للحكم يتناسب معه. في المقابل، يحسب الشّورى مجرد استطلاعٍ للرّأي لدى فرد أو فريق من النَّاس في تفسير الشَّرع أو فهمه أو اجتهاده في القضايا وفقًا للتشريع الإسلامي. ومن هذا التّقابل، يمكن التّوصل إلى نتيجة مفادها أنّ الحكم في الإسلام يكون فرديًا، وأنّ الشّورى تُطبّق كآلية للاستشارة من دون أن تكون واجبةً ومُلزمةً. يُصْبِحُ من الواضح أن هذا الفصل بين الشّورى والدّيمقراطية، لم يكن ليُبْرِزَ قيمة الشّورى الدّينية أو يثبت تفوقها على الجوانب السّياسية، بل كان الهَدَفُ منه تشويه صورة الشّورى وتقليص حقوق الجمهور والشّعب والأمّة في المشاركة في صنع القرارات السّياسية. وبالتّالي، يتم استغلال الشّورى كغطاء للسّلطة المطلقة، ولمنح الحاكم سلطات من أجل إلغاء مبدأ الشّورى نفسه، وهذا يعني أنه يتم تزييف الشّورى لمصلحة الاستبداد والسّيطرة من دون وجود محتوًى ديمقراطي حقيقيّ.
تطوّرت فكرةُ «الدّولة الإسلامية» بمرور الوقت منذ بدايتها في ثلاثينيات القرن العشرين مع حسن البنا، وقد شهدت تحويرًا جوهريًا في النّصف الثّاني من الخمسينيات بفضل سيد قطب ومحمد قطب. في هذا التحول، انتقل التركيز من مفهوم الدولة الإسلامية ككيان سياسي يطبق الشريعة إلى استخدام مصطلحات مثل «الدّولة الدينية» أو «الدولة الثيوقراطية» التي تُشير إلى نموذج سياسي يقوم على توازن السلطة الدينية والسلطة الحكومية، وهذا النموذج قد عرفته أوروبا في العصور الوسطى[43]. بذل حسن البنا وتلامذته جهودًا كبيرة لتمييز فكرة الدولة الإسلامية عن النموذج الثيوقراطي الأوروبي ولدحضه. وعلى الرغم من الانتقادات التي توجه اليوم لسيد قطب وعبد القادر عودة بسبب تبنيهما منهجًا جديدًا في فهم الدولة الإسلامية بعيدًا من تصور حسن البنا، إلا أنه يظل واضحًا أن تراث هؤلاء المنشقين يحمل بعض الأفكار والمقدمات التي ساهمت في صوغ فكرة الدولة الإسلامية وتأسيسها على الأرض.
خلال النصف الثاني من الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات، تراجعت فكرة الدولة الإسلامية وظهرت فكرة الدولة الثيوقراطية كمفهوم «الحاكمية»، وهي فكرة اعتمدها سيد قطب وأبو الأعلى المودودي. ترجع هذه التحولات النظرية إلى عجز القائلين بها عن بناء تصور واضح ومتكامل للنظام السياسي الإسلامي. تحت شعار «الإسلام دين ودولة»، كانت هناك بعض الالتباسات وعدم الوضوح في هذه الصيغة النظرية، وذلك يعود إلى عدم قدرة المفكرين على بناء تصور حقيقي ومتكامل للنظام السياسي الإسلامي. في هذه الحقبة، كان هناك حاجة إلى إعادة بناء وإعادة صوغ الفكر السياسي الإسلامي لتكون منسجمة ومتوافقة مع التحديات الحديثة وحاجات المجتمعات المسلمة. عرف منتصف السبعينيات بداية إعادة بناء فكرة الدولة الإسلامية بصيغة جديدة، حيث حاول المفكرون في تلك الحقبة إحداث تطورات في الفهم السياسي الإسلامي وتأسيس نماذج جديدة تتجاوز التحديات السابقة وتستجيب لمتطلبات العصر الحديث.
كانت فكرة إدخال العنصر الديني في العمل السياسي موجودة قبل توجه سيد قطب، حيث كان حسن البنا ينتهج ذلك الأسلوب أيضًا. ومع ذلك، قام قطب بدفع هذا النهج إلى مستويات أبعد، مستفيدًا من الأفكار السابقة. وهذه الطريقة تكاد تكون شائعة بين القوى الدينية المعارضة، حيث تستمد من مكاسب سابقة لتعزيز قدرتها على المشاركة في الحراك الاجتماعي. ويمكن التوقع أن تؤتي ثمارها في تطوير «الفكر» بمزيد من التطرف في السبعينيات والثمانينيات، مع ظهور أشخاص مثل عبود الزمر وعبد السلام فرج وعمر عبد الرحمن وعلي بلحاج، وآخرين الذين انتسبوا إلى هذا النهج السياسي[44].
في علاقة بما أقرته مشاريع كل من سيد قطب، وسعيد حوى، وفتحي يكن، وعبد السلام فرج، سيكون الإسلام على موعد مع مواجهة العصر الحديث، وسيواجه المسلمون صراعًا مع مجتمعاتهم؛ حيث يقومون بمواجهة «الجاهلية» والكفر. يهاجرون لتأسيس دولة إسلامية نموذجية بناءً على الهجرة النبوية، بهدف العودة لفتح معاقل الكفر ونشر العقيدة الإسلامية فيها[45]. وكنتيجة لهذا التوجه الاستعادي للتجربة النبوية، نشأت حركات التكفير والهجرة التي بدأت في مصر وانتشرت في أنحاء مختلفة من المجتمعات الإسلامية، ووصلت ذروتها في باكستان وأفغانستان. يرجى ملاحظة أن هذه العبارات تصف وتعبر عن وجهة نظر محددة لمجموعة معينة من الأشخاص، ولا ينبغي عَدُّها محايدة أو مطلقة الصحة.
ليست الثنائية الحادة بين «المجتمع الجاهلي» و«المجتمع المسلم» جزءًا من الفكر السياسي الإخواني، كما صاغه حسن البنا وطوره عبد القادر عودة فيما بعد، بل تستمد هذه الفكرة مقدماتها من فكر سياسي إسلامي آخر نشأ وازدهر خارج العالم العربي، منذ ثلاثينيات القرن العشرين وحتى ستينياته. وقد أدى أبو الحسن النّدوي وأبو الأعلى المودودي دورًا مهمًا في تطوير هذا الفكر. وبينما ساعد الندوي قطب في بناء تمايز ماهوي بين «المجتمع الجاهلي» و«المجتمع المسلم»، كان المودودي يركز على مفهوم «الحاكمية» ويرى فيها جوهر قوله في مسألة الدولة والنظام السياسي.
يعتقد المودودي بأن نظام الحكم الثيوقراطي، كما عرضه، يؤدي بالضرورة إلى تشكيل طبقة سياسية – دينية تتمتع بسلطة مطلقة تستمد قوتها من «الإنابة الإلهية». تتمتع هذه السلطة بتفوق يجعلها فوق أي نقد أو محاسبة، فهي لا تحكم باسم أي فكرة مدنية أو قوة اجتماعية مماثلة للسلطة التي كان يتمتع بها رجال الإكليروس في أوروبا المسيحية الوسطى قبل «الإصلاح الديني والثورة». المودودي نفسه قد أعلن أن نظام الحاكمية هو بالأساس نظام ثيوقراطي، وقال إنه غير مناسب لاستخدام مصطلح الديمقراطية لوصف النظام الإسلامي، وأن التعبير الأكثر دقة هو «الحكومة الإلهية» أو «الثيوقراطية». على هذا النحو، يكون المودودي هو أول فكر إسلامي حديث يحدث تحولًا في مفهوم السياسة والسلطة في الإسلام، خارج الدائرة الشيعية. ويتطابق هذا المفهوم في نهاية المطاف مع مفهوم الإمامة الشيعية وفكرة ولاية الفقيه، ويتشابه مع نظرية الحق الإلهي (Droit divin) التي كانت تمثل الأيديولوجيا السياسية للدولة المسيحية الدينية في أوروبا قبل النهضة[46].
ليست الشريعة مجرد قوانين أو مبادئ للحكم والنظام السياسي، بل إنها نظام شامل يمتد إلى الجوانب الاجتماعية والأخلاقية والمعرفية. إنها نظام حياة يشمل مختلف مجالاتها. لا يمكن المسلم أن يقبل أو يتبع أمورًا تتعلق بعقيدته، وفكره، وسلوكه، وقيمه، ونظامه الاجتماعي والسياسي إلا من خلال هذا المصدر الإلهي. فإذا خالف ذلك، فإنه يخرج عن دائرة الإسلام ويقبل العبودية لغير الله. عندما يكون التحكم الأعلى في المجتمع هو سيادة الشريعة الإلهية، يكون ذلك هو المفهوم الوحيد الذي يتحرر به البشر على نحوٍ كامل وحقيقي من العبودية للبشر.
لم ينتهِ تأثير هذه الأفكار بعد مأساة صاحبها. بل على العكس، ساعدت عملية إعدام سيد قطب على تعزيز رمزيته وإبراز أبعاده لدى جيل جديد من القوى الإسلامية. وتحوّلت أفكاره بفضل ذلك إلى دليل عمل لثورة جديدة عنيفة شنتها قوى إسلامية راديكالية التي تتبنى التكفير والهجرة، والتي لا تزال مستمرة، ضد الأنظمة السياسية القائمة. أصبحت تلك الأفكار مقدمة لأفكار جديدة أشد تطرفًا من سابقاتها، تم تحريرها بواسطة قادة ومرشدي تنظيمات العنف، الذين ابتعدوا من المسار الواضح، ومن بين هؤلاء القادة البارزين في العقدين الأخيرين محمد عبد السلام فرج، وهو أحد قادة تنظيم «الجهاد» الذي تم إعدامه بتهمة التخطيط لاغتيال الرئيس المصري أنور السادات. وقد حرر رسالة شهيرة أطلق عليها «الفريضة الغائبة»، وتحولت هذه الرسالة إلى نص مرجعي للحركات الإسلامية الجهادية خلال العشرين عامًا الماضية[47].
بدايةً، لاحظنا انحسار الوعي الإسلامي السني بالفكرة الدستورية منذ منتصف الخمسينيات نتيجة تأثير اندثار الحقبة الليبرالية في مصر، وظهور «دولة إسلامية في باكستان»، وغياب قادة حركة «الإخوان المسلمين»، وارتفاع أهمية قضية الحاكمية في التفكير السياسي لجيل «الصحوة» الثانية. وكانت الفكرة تعاني المصير نفسه في الوعي الإسلامي الشيعي في إيران خلال الحقبة الزمنية نفسها. وربما تكون الأسباب متشابهة إلى حد ما. فإيران عاشت موجة دستورية ثانية في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، بعد فشل الموجة الأولى في النصف الأول من القرن العشرين. ولكنها سرعان ما تعرضت لانقلاب دكتاتوري سوداء أثرت على المكاسب السياسية التي حققتها بعد الحرب العالمية الثانية، وكان من أبرزها التطور الديمقراطي والدستوري[48].
يقترح الخميني نموذجًا للحكومة الإسلامية يعتمد على مجلس تخطيط يضع خططًا للوزارات كافة وفقًا لأحكام الإسلام. وإذا تم التعبير عن مخاوف في شأن أن هذا الأمر يُعطي سلطة قانونية لفئة لم يخترها الشعب بإرادتها من خلال الانتخاب، يجد الخميني أن هذا ليس مشكلة، لأن المسلمين يقبلون ويطيعون القوانين الإسلامية التي وردت في القرآن والسنة. وهذا يجعل الحكومة مترابطة مع الشعب ويُسهل عملها. وفي نظر الخميني، يكون النموذج المثالي للحكومة الإسلامية هو حكومة إلهية يحكمها الأبرار ويتم بناء نظامها بناءً على أحكام الإسلام. يُناقش التشريع في هذه الحكومة بموجب الشريعة، ويقوم نخبة الفقهاء بتخطيط السياسات العامة. ويُعَدُّ الفقهاء، وفقًا لمبدأ «ولاية الفقيه»، هم الذين يشغلون المرتبة الأعلى في الحكومة ويتولون أمور الولاية العامة على الأمة. يمكن ملاحظة هذا النموذج في الحكومة التي تأسست في إيران بعد الثورة، حيث تتركز السلطة في يد «الولي الفقيه»، وهو مرشد الثورة وقائد الجمهورية. بينما يفتقر رئيس الجمهورية المنتخب إلى سلطة حقيقية ومجلس الشورى ليس لديه سلطات قرارية تُذكر، وهذا في حين يحتفظ الفقهاء في «مجلس الخبراء» بسلطات تقريرية تفوق تلك الممنوحة لمجلس الشورى. وفي هذا النموذج، لا يُعَدُّ أعضاء البرلمان أعلى مرتبة من نواب الإمام وأوصياء النبي، وإنما يُعَدُّون وفقًا للنظرية هم أقل مرتبة.
* * * * *
قصارى القول، لقد عرضَ عبد الإله بلقزيز لمفهوم الدولة – في هذا الكتابِ – وحلَّلهُ في الفكر الإسلامي، وتعقّب الكيفية التي بها تطوّر مع مرور الزمن، إضافة إلى وقوفه عند العلاقة بين الديمقراطية والشورى والكيفيات استغلت بها مسألةُ الشّورى في إطار السّياسة. يتضح مما سبق عرضهُ أنّ هناك علاقة تداخليةً بين الفكر السّياسي والفكر الدّيني في الإسلام، وهذا يشير إلى التّحديات والتوترات التي يمكن أن تنشأ عند محاولة تطبيق الشريعة والمفاهيم الدّينية في حقل السِّياسة. على سبيل المثال، يظهر التحليل أن الفكر الإصلاحي الإسلامي في القرن التاسع عشر كان محوره الرئيسي هو إصلاح الشّؤون الدينية والثقافية، ولم يكن لديه اهتمام كبير بالقضايا السياسية. ومع ذلك، مع تقدم الزمن وتغيُّر السياق السياسي والاجتماعي، بدأ الفكر الإصلاحي يتجه نحو التفكير في الطريقة التي يمكن للمجتمعات أن تواجه من خلالها التَّحديات السِّياسية والاقتصادية. أضف إلى ذلك كلِّه، أن عبد الإله بلقزيز قد أشار إلى طبيعة التّوتر القائم بين مفهومي الشّورى والديمقراطية في السياق الإسلامي؛ فالشورى هي مفهوم ديني يشير إلى الاستشارة والتفاوض بين الناس والحكام، وهي جزء من تقاليد الشريعة، ومع ذلك، استخدمت معانيها بطريقة مختلفة من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة، وهذا يمكن أن يثير تساؤلات حول مدى حدود السّلطة الدّينية في الحكم. وفيما يتعلق بفكرة الدولة الإسلامية، يظهر التحليل الذي قدّمه عبد الإله بلقزيز الكيفية التي تطورت من خلالها أفكار الإخوان المسلمين السياسية من حسن البنا إلى سيد قطب ومحمد قطب، ومركزًا على جوانب التغيير التي حصلت لديهم في زعمهم تطبيق الشريعة والانتقال إلى منطق توازن السلطة بين الدين والحكم. يمكن رؤية هذا التحول كمحاولة لتطبيق مفاهيم سياسية معاصرة على الفهم الإسلامي للدولة. في النهاية، يجمع التحليل بين الجوانب الدينية والسياسية في الإسلام ويظهر المنوال الذي به تتداخل هذه الجوانب وتتفاعل مع بعضها البعض، وهو ما يسهم في فهم أعمق للتحديات والفرص التي تواجه المجتمعات الإسلامية في العالم الحديث.
كتب ذات صلة:
الرجاء الضغط على الرابط للحصول على كتاب الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر
المصادر:
نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 551 في كانون الثاني/يناير 2025.
محمد زكّاري: باحث في الفلسفة من المغرب.
[1] تناول عبد الإله بلقزيز موضوع العلاقة بين الدولة والدين، في الاجتماع العربي الإسلامي القديم والمعاصر، في مؤلَّفاتٍ مهمّة. انظر: عبد الإله بلقزيز: الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي (بيروت: منتدى المعارف، 2015)؛ الإسلام والسياسية: دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2001)؛ الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008)، والدولة والسلطة والشرعية (بيروت: منتدى المعارف، 2013).
إضافةً إلى عشرات الدّراسات. انظر مثلًا: عبد الإله بلقزيز: «ما قبل نظرية الدولة: المسألة السياسية في إسلام الصدر الأول،» التسامح، السنة 7، العدد 25 (كانون الثاني/يناير 2009)، ص 187 – 208؛ «الدولة والسلطة والأيديولوجيا: نحو إعادة نظر مفهومية وسياسية،» المستقبل العربي، السنة 15، العدد 167 (كانون الثاني/يناير 1993)، ص 61 – 68؛ «العروبة والإسلام: وصل تاريخي لم ينقطع إلا في فصل أيديولوجي،» المستقبل العربي، السنة 22، العدد 254 (نيسان/أبريل 2000)، ص 122 – 129، و«مفارقات الجدل في إشكالية الدين والسياسة،» المستقبل العربي، السنة 20، العدد 223 (أيلول/سبتمبر 1997)، ص 129 – 138… إلخ.
[2] انظر: عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004)، ص 9.
[3] المصدر نفسه، ص 12.
[4] المصدر نفسه، ص 12 – 13.
[5] المصدر نفسه، ص 19.
[6] المصدر نفسه، ص 22.
[7] المصدر نفسه، ص 23.
[8] المصدر نفسه، ص 25.
[9] المصدر نفسه، ص 27 – 28.
[10] انظر: خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك (بيروت: دار القلم، 2022)، ورفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز (القاهرة: دار ومكتبة الهلال، 2005).
[11] بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، ص 30.
[12] انظر: أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، المقدّمة، تحقيق عبد الواحد وافي (القاهرة: دار نهضة مصر، [د. ت.])، ص 741. يقول عبد الرحمن بن خلدون، في هذا الصّدد، ما نصُّه: «اعلم أنَّ العدوان على النّاس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم».
[13] بلقزيز، المصدر نفسه، ص 32.
[14] انظر: أحمد بن أبي الضياف، اتحاف الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، تحقيق لجنة من وزارة الشؤون الثقافية (تونس: الدار العربية للكتاب، 1999)، ج 4.
[15] بلقزيز، المصدر نفسه، ص 34.
[16] المصدر نفسه، ص 36.
[17] المصدر نفسه، ص 37.
[18] المصدر نفسه، ص 39.
[19] المصدر نفسه، ص 44.
[20] المصدر نفسه، ص 51.
[21] انظر: محمد حسين النائيني، تنبيه الأمة وتنزيه الملّة (بيروت: دار التنوير، 2014).
[22] بلقزيز، المصدر نفسه، ص 62.
[23] المصدر نفسه، ص 69 – 70.
[24] المصدر نفسه، ص 72.
[25] المصدر نفسه، ص 77.
[26] المصدر نفسه، ص 81.
[27] المصدر نفسه، ص 97. حين لا تتوافر للخلافة الشرائط الشرعية التي تكون بها خلافة لا تسقط، بل تقام على مقتضى الواجب والضرورة ثم يسعى إلى استجماع ما ليس متوفرًا من شروطها نقرأ في الخلافة أو الإمامة العظمى: «اتفق محققو العلماء على أنه لا يجوز أن يبايع بالخلافة إلا من كان مستجمعًا لما ذكروه من شرائطها وخاصة العدالة والكفاءة والقرشية، فإذا تعذر وجود بعض الشرائط تدخل المسألة في حكم الضرورات والضرورات تقدر بقدرها، فيكون الواجب حينئذ مبايعة من كان مستجمعًا لأكثر الشرائط من أهلها، مع الاجتهاد والسعي لاستجماعها كلها».
[28] المصدر نفسه، ص 86.
[29] انظر: رشيد رضا، الخلافة أو الإمامة العظمى (القاهرة: مطبعة المنار، 1922).
[30] بلقزيز، المصدر نفسه، ص 91.
[31] المصدر نفسه، ص 95.
[32] المصدر نفسه، ص 101.
[33] انظر: علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم (بيروت: دار الكتاب اللبناني، 2011).
[34] بلقزيز، المصدر نفسه، ص 107.
[35] المصدر نفسه، ص 109.
[36] المصدر نفسه، ص 116. يشير عبد الإله بلقزيز إلى المسألة بقوله: «في كل حال، يظل خطاب علي عبد الرازق في نقد الخلافة ونظريتها من بقايا خطاب الإصلاحية الإسلامية التي لم يخنقها ضغط المد الرجعي الفكري. بل هو يظل دليلًا على أن الموضوعات النظرية والسياسية، التي استنبتها الإصلاحيون ظلت قادرة على أن تينع على الرغم من كل معاول الهدم التي أنت على شجرتها» (ص 117).
[37] المصدر نفسه، ص 126.
[38] المصدر نفسه، ص 127.
[39] المصدر نفسه، ص 128.
[40] المصدر نفسه، ص 149.
[41] المصدر نفسه، ص 169.
[42] المصدر نفسه، ص 177. انظر أيضًا: يوسف القرضاوي، السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة الإسلامية ومقاصدها (القاهرة: مكتبة وهبة، 1998)، ص 82.
[43] المصدر نفسه، ص 191.
[44] المصدر نفسه، ص 196.
[45] المصدر نفسه، ص 199.
[46] المصدر نفسه، ص 205.
[47] المصدر نفسه، ص 209 – 210.
[48] المصدر نفسه، ص 213.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.