فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 فرَّ الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو معلنًا نهاية نظامه الذي دام حكمه فيه 24 عامًا والذي مثَّل استمرارًا لنظام والده الذي تأسس في عام 1970 والذي مثّل أيضًا امتدادًا لحكم حزب البعث العربي الاشتراكي الذي صعد إلى السلطة عام 1963. هذا الحدث المفاجئ كان له عدة أسباب كان من ضمنها الحصار الذي أطبق على سورية بعد 13 عامًا من الحرب الضروس التي شنتها الولايات المتحدة بواسطة وكلائها وحلفائها من حلف شمال الأطلسي وعدد من الدول العربية ضد سورية بغية إسقاطها لتحقيق عدة أهداف، أولها هو ضرب هذا البلد الذي شكل رأس حربة في مواجهة التطبيع مع إسرائيل على مدى العقود السابقة وكذلك لضرب أهم حليف لإيران في المنطقة العربية الذي شكل مع إيران محورًا على مدى أربعة عقود ونصف العقد تقريبًا في مواجهة الهيمنة الأمريكية في المنطقة.

كيف سقط النظام؟

طبعًا كان هناك مقدمات أو أسباب ذاتية لانهيار النظام، أولها هو الحصار الاقتصادي الذي ألقى على كاهل المجتمع السوري وعلى الجيش بوصفه جزءًا من هذا المجتمع. وهناك أيضًا حرمان سورية من ثرواتها عبر احتلال الولايات المتحدة منطقة شرق الفرات بالتعاون مع قوات سورية الديمقراطية، علمًا أن شرق الفرات تعدُّ المنطقة التي تحتوي على السلة الغذائية لسورية عدا عن أنها ذات الموارد النفطية التي تستفيد منها البلاد، إضافة الى إقامة الأمريكيين قاعدة في منطقة التنف لعرقلة التواصل البري بين إيران والعراق وسورية، إضافة إلى دعم واشنطن والأردن تمردًا في منطقة جبل العرب ذات الأغلبية الدرزية والمسيحية، عدا طبعًا عن إطباق الحصار الاقتصادي عبر قانون قيصر.

والجدير بالذكر أن إسقاط النظام جاء بتدخل مباشر من تركيا التي نسقت استخباراتها هذه العملية بالتعاون مع الاستخبارات الإسرائيلية الموساد والاستخبارات الأمريكية والبريطانية بالتعاون مع عناصر أوكرانية وأخرى فرنسية، كل هذا جاء على حساب النظام الذي كان هو وجيشه قد وصلا إلى حالة من الإنهاك. الجدير بالذكر هنا أنه يجب تسجيل عدد من الأخطاء التي ارتكبها الرئيس السوري بشار الأسد، وذلك بابتعاده نسبيًا من إيران ومن حزب الله في السنوات الأخيرة وذلك عبر تقليل حضور الخبراء الإيرانيين من جهة وحضور حزب الله الميداني من جهة أخرى، إضافة إلى الحد من وجود بعض الحركات الجهادية الشيعية التي كانت تدعم النظام، من ضمنها فاطميون وبعض فصائل الحشد الشعبي العراقي، إضافة إلى تخفيف حضور فصائل المتطوعين أو ما يسمى الحرس الوطني وحصر السيطرة الميدانية بالجيش السوري. وهذا ما جعل هذه الفصائل غير قادرة على التدخل في الوضع الحرج الذي كان قد وصل إليه النظام السوري. من هنا فإن الدعم الجوي الروسي للجيش السوري في بداية الاشتباك مع الجماعات المسلحة لم يكن قادرًا على حسم المعركة، علمًا أن التجارب في الحروب السابقة اثبتت أنه من غير الممكن للقوة الجوية الحسم في المعارك، وأن الحسم يكون عبر القوى البرية.

ترافق ذلك مع تقارب بين الرئيس بشار الأسد، ممثلًا لسورية طبعًا، والإمارات العربية المتحدة والسعودية، وكذلك مصر في محاولة من الرئيس بشار الأسد للاستعاضة من الدعم الإيراني بحاضنة عربية. وهنا كان الخطأ الأساسي، إذ إن بشار الأسد حين راهن على دعم عربي في مواجهة تركيا لم يكن هذا الدعم العربي كافيًا لمنع الأتراك من الدفع بالفصائل الجهادية أو الجماعات المسلحة التي تمون عليها في منطقة إدلب للانطلاق نحو حلب ومن بعدها حماة فحمص. وهذا ما جعل النظام يقتنع بأنه لن يدوم، الأمر الذي جعل بشار الأسد يتجه إلى موسكو برفقة أخيه حيث كانت عائلته هناك. والجدير ذكره أن أنباءً تواترت عن محاولة الإمارات العربية المتحدة دعم بقاء بشار الأسد في السلطة في مقابل تنازلات يقدمها، إلا أن القرار الأمريكي كان حاسمًا في هذا الشأن.

طبعًا هناك أنباء عن أنه تم شراء ولاء بعض الضباط الكبار في الجيش السوري، وهو ما يفسر بعض الأنباء التي تواترت عن تسليم الجيش مواقعه من دون قتال، وهذا أتى بأوامر عليا، إضافة إلى أنه حدثت عملية إطلاق النار على عناصر أو قادة إيرانيين يعملون بصفة مستشارين إضافة الى قيام ضباط في الجيش السوري باغتيال قادة في حزب الله وإطلاق النار على بعض قوات حزب الله في حمص لرفضها الانسحاب من مواقعها في مواجهة الجماعات المسلحة. كل هذا يشير إلى عملية شراء لولاء بعض رجالات النظام وهو ما ساهم بإسقاط هذا النظام.

من هم الرابحون؟

أحدث سقوط النظام السوري تحولًا كبيرًا في التوازنات الإقليمية، وتبعه قيام القوات الصهيونية بضرب القواعد الجيش السوري لشل قدرات هذا الجيش. كذلك فإن إطاحة النظام وإضعاف سورية من شأنهما أن يفتحا المجال لإسرائيل لمد نفوذها في عمق منطقة المشرق كما كانت تطمح منذ تأسيس كيانها. والجدير ذكره أن سورية بصيغتها القومية البعثية كانت تطرح تحديًا متعدد الأبعاد أمام الكيان الصهيوني. فعدا عن التحدي العسكري الذي كان الجيش العربي السوري يمثِّله بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي، فإن المفهوم القومي الذي كانت تقوم عليه سورية حيث تتفوق الهوية القومية على الهويات الطائفية الجزئية، كان يتناقض تناقض صارخًا مع الهوية الدينية التي تقوم عليها إسرائيل، علمًا أن سورية كانت العقبة الرئيسية أمام المشروع الصهيوني لبسط نفوذه على المشرق العربي. وبضرب سورية أزيحت هذه العقبة من أمام المشروع الصهيوني.

وتعدّ الولايات المتحدة الرابح الأبرز ايضًا مما جرى في سورية، إذ إنها بذلك أطاحت بأهم حليف لإيران على مدى العقود الخمسة الماضية، وهو ما سيحد من نفوذ طهران في منطقة غرب الفرات ويحرمها إطلالة على شرق المتوسط ويقيم حاجزًا بينها وبين حليفها حزب الله في لبنان، وهو ما يجعل الأخير محاصرًا لوجستيًا بدرجة كبيرة ويحد من قدرته على مواجهة إسرائيل أو تقديم الدعم إلى فصائل المقاومة الفلسطينية. كما أن ما حصل في سورية يعلي من نفوذ الولايات المتحدة على حساب النفوذ الروسي التقليدي.

وحققت تركيا مكاسب هامة من تغير المشهد السوري، وذلك عبر إيصال نظام حكم إسلامي إلى دمشق، وهو ما يضع مشروع الإخوان المسلمين قاب قوسين أو أدنى من الرياض وأبو ظبي والقاهرة لتجديد الحلم بتعميم حكم اسلامي في هذه البلدان. لكن التوتر العلوي السني القائم حاليًا في سورية يمكن أن ينتقل إلى تركيا حيث يعيش نحو 15 مليون علوي. إضافة إلى ذلك، يمكن للمواجهات بين المسلحين المدعومين من تركيا وقوات سورية الديمقراطية الكردية، أن تنتقل إلى داخل تركيا حيث يعيش عشرين مليون كردي بما يهدد الاستقرار في الجمهورية التركية ويعيد مشاريع أمريكا لتقسيم المنطقة وإقامة كيان كردي يساهم في تفجير سورية والعراق والأهم من ذلك إيران حيث يعيش ملايين الأكراد في شمال غرب البلاد.

من هم الخاسرون؟

في المقابل تعدّ إيران الخاسر الأكبر مما حدث، إذ إنها فقدت حليفها الأبرز في المنطقة العربية الذي شكل معها محورًا صمد في موجهة التقلبات الدولية والإقليمية على مدى 45 عامًا. ومن شأن هذا أن يضعف نفوذ إيران في منطقة غرب الفرات وخصوصًا أنه يضعف تواصلها مع حزب الله في لبنان ومع فصائل المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة. كذلك من شأن هذا الأمر أن يعرض النفوذ الإيراني في العراق للاهتزاز والتزعزع ويجعل إيران عرضة لاضطرابات داخلية يمكن أن تؤثر في استقرار نظام الجمهورية الإسلامية. وتتخوف إيران من أن يمثّل التحول في سورية مقدمة لضرب النفوذ الإيراني في العراق وفي تحفيز الأكراد على إقامة وطن لهم في سورية والعراق كمقدمة لمطالبة أكراد تركيا وإيران بالاستقلال والانضمام إلى إخوتهم في سورية والعراق، بما يهدد الأمن القومي الايراني.

وتعدّ روسيا بدورها الخاسر الثاني مما حصل في سورية، إذ إنها خسرت أحد أهم حلفائها في المنطقة العربية على مدى العقود السبعة الماضية، عدا عن تزعزع حضورها في منطقة شرق المتوسط، وهو ما لا يمكن موسكو تعويضه عبر علاقاتها مع تركيا أو مصر أو السعودية أو الإمارات العربية المتحدة، ولا عبر حضورها العسكري في شرق ليبيا. ومن شأن تعزيز تركيا حضورها في سورية أن يجعلها تطمح إلى تعزيز حضورها في القوقاز والقفز منه الى وسط آسيا التي تعدّ الخاصرة للرخوة في الأمن القومي الروسي.

يبقى موقف الدول العربية، وخصوصًا الأردن الإمارات العربية المتحدة والسعودية ومصر، التي وإن تخلصت من نظام في سورية كان يحرجها بمواقفه الرافضة للتطبيع مع إسرائيل، فهي وجدت نفسها أمام حكم للإخوان المسلمين يمكن أن يشكل نموذجًا يحتذى للقوى المعارضة للأنظمة في هذه الدول، علمًا أن هنالك عناصر مصرية قيادية في الهيئة متورطة بأعمال إرهابية في مصر. لذا من غير المرجح أن تدع هذه الدول حكم هيئة تحرير الشام المدعومة من قطر وتركيا يستقر. والجدير ذكره أن بعض هذه الدول تدعم بعض الجماعات المسلحة الخارجة عن طوع أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، مثل أحمد العودة في درعا والمدعوم من الإمارات العربية المتحدة والسعودية، أو الشيخ الهجري في جبل العرب المدعوم من الأردن وإسرائيل والمرتبط بعلاقة قوية بالزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط. وتخشى مصر أن تشكل سيطرة الإسلاميين المدعومين من تركيا على سورية مقدمة لسيناريو مشابه في مصر، في ظل تمدد النفوذ التركي في غرب ليبيا وفي القرن الإفريقي عبر العلاقات التي تجمع أنقرة بعدد من اللاعبين في القرن الإفريقي وعلى رأسهم أثيوبيا التي تناصب مصر العداء.

خلاصة

من غير المتوقع أن يقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، المعادي للإسلاميين، أن يستقر حكم هيئة تحرير الشام في دمشق، كما أن الأوضاع الأمنية لم تستقر بعد للحكم الجديد في دمشق، مع حالة التوتر الطائفية بين العلويين والسنَّة والمعارك القائمة بين الأكراد والفصائل المدعومة من تركيا عدا عن تنافس 37 فصيلًا إسلاميًا على مناطق النفوذ في دمشق وحمص وحماة وحلب وحتى إدلب. كل هذا يؤذن بأن سورية ستكون أمام مرحلة جديدة من اللااستقرار والعنف.

كتب ذات صلة:

سوريا قوة الفكرة: المشروع الوطني والهندسات الدستورية للأنظمة السياسية

تدمير سورية وتشريد شعبها من المسؤول؟

العلاقات بين سوريا والعراق، 1945 – 1958: دراسة في العمل السياسي القومي المشترك

ثورة العشرين : الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية (الاستقلالية) في العراق

الحركة القومية العربية في القرن العشرين (دراسة سياسية)