مقدمة

يقصد بالأعراف المعايير الاجتماعية السائدة، التي تمثل الموروث الثقافي لدى المجتمع، وهي قواعد غير مكتوبة للمعتقدات والمواقف والسلوكيات، يتقاسمها الناس في مجتمع أو مجموعة معينة أو ثقافة معينة، وتحدد ما يُعد سلوكًا «طبيعيًا» ومناسبًا، ومن ثم مقبولًا. ومع ذلك، فإن الأعراف الاجتماعية دينامية ويمكن أن تتغير بمرور الوقت، مع ظهور أعراف جديدة لتحل محل الأعراف القديمة. والأعراف الجنسانية هي مجموعة فرعية من الأعراف الاجتماعية التي تتعلق على وجه التحديد بالأدوار الاجتماعية للجنسين وبالفوارق بينهما. وهي معتقدات راسخة ومنتشرة على نطاق واسع تحدد أدوار الجنسين أو علاقات القوة أو التوقعات التي تحكم السلوكيات والممارسات المتوقعة من الجنسين في سياق اجتماعي معين وفي وقت معين‏[1].

ويعدّ اختلاف القيم والمعايير الثقافية بين المجتمعات أحد العوامل الرئيسية المفسرة لاختلاف أوضاع حقوق المرأة، فالتقاليد السياسية وحدها غير كافية لتعزيز فكرة حقوق المرأة وتمكينها في المجتمع، بل يتطلب ذلك رسوخ بعض القيم الثقافية، كقيم حقوق الإنسان، وتكافؤ الفرص والعدالة، وتقبل الآخر في الوعي الجمعي للأفراد، فهذه القيم تسهم على نحو أكبر في تأهيل المجتمع للتعامل مع قضايا المرأة بصورة أكثر جدية والتزامًا وإنصافًا.

تتمثل المشكلة الرئيسية لهذه الدراسة بتحليل طبيعة الأعراف الاجتماعية المتعلقة بحقوق المرأة، ودراسة مدى تأثيرها في حقوق وسياسات المرأة، مع التطبيق على نموذج المرأة المصرية.

أولًا: الأعراف وتحديد الأدوار الاجتماعية (الإطار النظري)

خضعت الأعراف الاجتماعية للدراسة على نطاق واسع في العلوم الاجتماعية، فوصف علماء الأنثروبولوجيا كيفية عمل الأعراف الاجتماعية في الثقافات المختلفة، وركز علماء الاجتماع على وظائفها الاجتماعية، وكيف تحفز الناس على التصرف، واستكشف الاقتصاديون كيف يؤثر الالتزام بالأعراف في سلوك السوق. وفي الآونة الأخيرة، روّج علماء القانون أيضًا للأعراف الاجتماعية بوصفها بدائل فعالة للقواعد القانونية‏[2].

يتم تعلم الأعراف الاجتماعية وقبولها منذ سن مبكرة، غالبًا في مرحلة الطفولة، ويتم تثبيتها من خلال العقوبات الاجتماعية لعدم الالتزام بها والمزايا أو المكافآت الاجتماعية للالتزام بتلك الأعراف. وإذا التزم الناس بالأعراف، فإنهم يتوقعون أن يتم قبولهم أو مكافأتهم اجتماعيًا؛ وإذا لم يمتثلوا، فإنهم يتوقعون أن يتم معاقبتهم أو استبعادهم اجتماعيًا.

ويمكن أن يكون للأعراف الاجتماعية عواقب مفيدة أو ضارة للناس، لكنها في كل الأحوال أساسية في إنتاج النظام الاجتماعي والحفاظ عليه، فهي تساعد المجتمعات على أداء وظائفها، وتربطها بعضها ببعض، وتعزز السلوكيات الجماعية. ومع ذلك، في بعض الأحيان، قد يكون النظام الاجتماعي وسلوكيات المجتمع التي يتم الحفاظ عليها متضمنًا أعرافًا اجتماعية ضارة تعزز ديناميات القوة غير المتكافئة، وتؤدي إلى التمييز وعدم المساواة الاجتماعية والجنسانية‏[3].

والعلاقة وثيقة بين الأعراف الاجتماعية والأدوار الاجتماعية؛ فالناس لا يتصرفون بطريقة عشوائية، ولكنهم يتصرفون بطرائق معيّنة في مواقف معيّنة، بحيث يستلزم كل موقف اجتماعي مجموعته الخاصة من التوقعات حول الطريقة «الصحيحة» للتصرف. ويمكن أن تختلف هذه التوقعات من مجموعة إلى أخرى.

إحدى الطرائق التي تصبح هذه التوقعات واضحة بها هي عندما ننظر إلى الأدوار التي يؤديها الناس في المجتمع؛ فالأدوار الاجتماعية هي الدور الذي يؤديه الناس كأعضاء في مجموعة اجتماعية. ومع كل دور اجتماعي يتبناه الفرد يتغير سلوكه ليتناسب مع توقعاته والآخرين في شأن هذا الدور. لذلك تزودنا الأعراف بفكرة متوقعة عن كيفية التصرف والعمل لتوفير النظام والقدرة على التنبؤ في المجتمع‏[4].

  • مكوِّنات الأعراف الاجتماعية

تتكون الأعراف الاجتماعية مما نقوم به، ومما نعتقد أن الآخرين يفعلونه، وما نعتقد أن الآخرين يوافقون عليه ويتوقعون منا أن نفعله. لذلك تنقسم الأعراف إلى:

أ – الأعراف الوصفية (التوقعات): «ما أعتقد أن الآخرين يفعلونه»، وهي تقود السلوك أو الممارسة عندما ينخرط شخص ما في سلوك معين لأنه يعتقد أن الآخرين في مجتمعه ودائرته الاجتماعية يفعلون الشيء نفسه.

ب – الأعراف الزجرية (المعيارية): «ما أعتقد أن الآخرين يوافقون عليه»، وهي معتقدات الناس حول ما يوافق عليه الآخرون أو يتوقعون منهم القيام به. وتؤثر في السلوك عندما ينخرط الناس في ممارسة ما لأنهم يعتقدون أن أولئك الذين يهمونهم يتوقعون منهم أن يفعلوا ذلك، وسوف يكافئونهم اجتماعيًا إذا فعلوا ذلك، ويعاقبونهم إذا لم يفعلوا ذلك.

ج – أعراف النتائج: «كيف أعتقد أن الناس سوف يستجيبون لسلوكي»، وهي معتقدات الشخص أو توقعاته حول كيفية استجابة الآخرين إذا انخرطوا (أو لم ينخرطوا) في سلوك معين. ويمكن أن تكون توقعات النتائج إيجابية (مكافآت) أو سلبية (عقوبات).

د – الأعراف الأخلاقية: «ما أعتقد أنه الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله»، وهي تؤثر في السلوك عندما يختار الأفراد الانخراط في ممارسة ما على أساس ما يعتقدون أنه صحيح من الناحية الأخلاقية، وليس لأنهم يشعرون أنه يتوقع منهم اجتماعيًا أن يفعلوا ذلك‏[5].

ثانيًا: الأعراف الاجتماعية والثقافية في مصر وتأثيراتها

وفقًا للمسح الدولي والمساواة بين الجنسين لعام 2017 الذي أجرته هيئة الأمم المتحدة للمرأة، يعتقد 87 بالمئة من الرجال المصريين أن الدور الأساسي للمرأة هو أن تكون ربة منزل. ويعتقد 90.3 بالمئة منهم بأن الرجال هم من يتخذون القرار النهائي في الأسرة.

في الغالب تبدأ هذه الأنماط في مرحلة الطفولة، حيث يتبع الرجال والنساء في كثير من الأحيان النماذج التي وضعها آباؤهم. وتكاد الدراسات تجمع على دور الأعراف الاجتماعية التي تحكم ديناميات النوع الاجتماعي في مصر، وتغلغلها دائمًا عبر المستويات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة‏[6].

تعزو دراسة البنك الدولي حول التمكين الاقتصادي للمرأة في مصر الفجوة بين النسبة العالية من الخريجات في مجالات التكنولوجيا والهندسة والرياضيات وتمثيلهن المنخفض في مناصب هذه التخصصات إلى حد كبير إلى الأعراف الاجتماعية التي أنتجت أوجهًا من التحيُّز ضدهن في هذه القطاعات‏[7]. كما أكد تقرير آخر لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية حول المشاركة السياسية للمرأة في مصر، نُشر عام 2018 أن إحدى العقبات الرئيسية التي تواجه مشاركة المرأة وتمثيلها في الحياة العامة تتعلق بالأعراف الجنسانية (الأعراف والممارسات المتأصلة في الثقافة التي تعيق وصول المرأة إلى المجال العام بصورة مباشرة وغير مباشرة) والقوالب النمطية‏[8].

وقد تناولت دراسة البنك الدولي هذه القوالب النمطية، ووصفتها بأنها تصور عام للمرأة على أنها غير قادرة أو مؤهلة، وهو ما يمثل عائقًا أمام مشاركة المرأة وانخراطها على نحو كامل وفعّال في المجال العام‏[9]. وتكرر هذا أيضًا في أبحاث المركز المصري لبحوث الرأي العام في عام 2014، كما ورد في استراتيجية المجلس القومي للمرأة لتمكين المرأة المصرية 2030، حيث يرى 55 بالمئة أن المرأة غير صالحة لشغل مناصب معينة بغضّ النظر عن مكانتها‏[10].

ويمكن إلى حد كبير أن يُعزى ضعف المشاركة السياسية للمرأة المصرية – ولا سيَّما على المستوى القيادي – إلى ما أنتجته الأعراف من تصور حول الأدوار الاجتماعية المحددة للجنسين والمواقف تجاه النساء في المناصب القيادية. على سبيل المثال، وجدت دراسة استقصائية أجريت عام 2013 أن نسبة كبيرة بلغت 83 بالمئة من المصريين وافقت على عبارة «الرجال يصنعون قادة سياسيين أفضل من النساء»‏[11].

وعلى الرغم من أن النساء في مصر حققن بعضًا من أكبر المكاسب على مستوى المنطقة، فهنَّ حققن أقل تقدم في القرى، وترجع هذه الاختلافات إلى أن الأعراف الاجتماعية في المدن تكون – نسبياً – أكثر تساهلًا مع إشراك المرأة في المجال السياسي‏[12].

يعيش في الريف المصري 58 بالمئة من سكان مصر تقريبًا. وتتميز المناطق الريفية بهياكل أسرية واجتماعية أبوية أكثر صرامة من المناطق الحضرية. وتبدو الأعراف الاجتماعية أشد وطأة على المرأة المصرية الريفية في حرمانها حقوقها، إذ تعاني النساء المصريات الريفيات المحرومات من جرّاء أعراف اجتماعية منتشرة تبدو في كثير من الأحيان أنها تتعارض مع الدور العام للمرأة وتحد من قدرة المرأة على المشاركة في دور متساو في المجال العام على المستويين الوطني والمحلي.

وفي الاستعراض الأخير لمصر من جانب لجنة القضاء على جميع أوجه التمييز ضد المرأة التي ترصد تنفيذ اتفاقية سيداو، أدرجت اللجنة ملاحظات حول النساء في المناطق الريفية. وأعربت عن قلقها إزاء نقص البيانات والمعلومات المتعلقة بالمرأة الريفية، ولا سيَّما في ما يتعلق بقضايا مثل الصحة والتعليم والعمل والتوظيف والمشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية. ويوجد تباين واضح في تمكين المرأة بين المرأة الريفية ونظيرتها في المدن الكبرى. ويمثل هذا التفاوت تمييزًا ضد المرأة الريفية، حيث يحرمها حقوقها الأساسية للمشاركة في الحياة العامة. يطرح هذا الواقع الحاجة إلى أساليب مختلفة قادرة على الوصول إلى واقع المرأة وتجاربها الحياتية اليومية من أجل استيعاب التحديات الفريدة غير المعترف بها التي تواجهها للمشاركة في الحياة العامة، ويفرض على واضعي السياسات أن يكونوا على دراية بالقضايا غير المعترف بها التي تعوق مشاركة المرأة الريفية في الحياة العامة‏[13].

وكما هي الحال في الكثير من البلدان الأخرى، تأثر المجتمع المصري بحجج ثقافية قوية لا تشجع مشاركة المرأة في الحياة العامة وتعدّ تلك المشاركة تحديًا للأدوار الاجتماعية للمرأة، ومحاولة لتفكيك النسيج الاجتماعي في مصر.

كما أظهرت المقابلات التي أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن المواقف الأبوية تجاه المرأة في مصر لا تزال متكررة جدًا، وهو ما يتضح في الرأي القائل بأنه من الأفضل ترك العمل السياسي في أيدي الرجال، ويقال في كثير من الأحيان إن النساء يفتقرن إلى القدرة على إقناع الآخرين، وعلى التفاوض وإنشاء تحالفات سياسية فعالة. ومن الصعب بوجه خاص على النساء القيام بحملات في أجزاء معينة من البلاد. على سبيل المثال فرضت الأعراف الاجتماعية أن المقاهي في القرى والمحافظات مواقع مناسبة للسياسيين الذكور لا للنساء، للقيام بحملاتهم الانتخابية‏[14].

وفي محاولة للحدّ من قيود الأعراف الاجتماعية في مصر، أطلق المجلس القومي للمرأة حملته الوطنية الأولى، تحت عنوان «تاء مربوطة»، لمعالجة المفاهيم الخاطئة، وتعزيز مشاركة المرأة في جميع مجالات الحياة، بما في ذلك في هيئات صنع القرار. وصلت الحملة إلى أكثر من 48 مليون مشاهد على وسائل التواصل الاجتماعي و12 مليون مشاهد على شاشة التلفزيون؛ وحققت ما يقرب من 498.000 تفاعل على أرض الواقع ابتداءً من تشرين الثاني/نوفمبر 2017. وخلال الانتخابات البرلمانية عام 2015، طور المجلس القومي للمرأة موقعًا إلكترونيًا للمرشحات أطلق عليه اسم «برلمانيات مصر»، لتوفير منصة لجميع المرشحات للترويج لحملاتهن الانتخابية وزيادة وعي الناخبين بالمرشحات في دوائرهن الانتخابية، ونجح في زيادة وصول هؤلاء المرشحات من خلال حملة على وسائل التواصل الاجتماعي‏[15].

وفي 9 من أصل 12 دولة شملها استطلاع البارومتر العربي، وافق أغلبية المواطنين أو وافقوا بشدة على عبارة «الرجال أفضل من النساء في القيادة السياسية». وأيد ذلك في الجزائر 76 بالمئة من عيّنة الرجال وفي السودان (71 بالمئة)، وليبيا (69 بالمئة)، والعراق (69 بالمئة)، والأردن ومصر (66 بالمئة)، وفلسطين (65 بالمئة) والكويت (65 بالمئة)، في حين أن أغلبية السكان في لبنان وتونس فقط لا يوافقون أو لا يوافقون بشدة.

وعلى الرغم من ذلك فإن عمليات تحليل الاتجاهات بدءًا من البارومتر العربي الأولى التي أجريت في عام 2006 وحتى آخر استطلاع له أجري بين تشرين الأول/أكتوبر 2021 وتموز/يوليو 2022، يكشف أن الرأي العام في جميع أنحاء المنطقة يتجه في الواقع نحو المساواة بين الجنسين وإن كان ببطء وبدرجات متفاوتة بين البلدان‏[16].

وتشير تلك التغيرات تجاه الموقف من المساواة بين الجنسين إلى وعي متزايد، مكّن المرأة من تحقيق مكاسب في التمثيل السياسي وفي المؤشرات المتعلقة بالتعليم والصحة مدعومة بحركات نسوية ترعاها الدولة. لكن الطابع الأبوي للمجتمع يحول دون بذل جهود فعالة للتأثير في البنى الثقافية والاجتماعية السلبية، وهذا ما يحد من القدرة على إحداث تغيير نوعي في علاقات القوة والأدوار الاجتماعية السائدة.

ولا تزال الدعوات إلى تمكين المرأة تواجه مقاومة مؤسسية واجتماعية نابعة من فكرة راسخة مفادها أن دور المرأة في الحياة العامة ثانوي بالنسبة إلى دورها في أسرتها كأم ومقدمة رعاية يتعين عليها ترك اتخاذ القرارات المهمة لأفراد الأسرة الذكور. فقد اتفق أغلبية المشاركين في 8 من أصل 12 دولة شملها استطلاع البارومتر العربي الأخير2021 مع العبارة القائلة بأن «الرجل يجب أن يكون له القول الفصل في جميع القرارات المتعلقة بالأسرة»، ورغم ذلك فهو موقف متقدم عن نتائج بارومتر 2016؛ إذ انخفض هذا الاتفاق بما لا يقل عن 10 نقاط في خمسة من البلدان التسعة التي شملها الاستطلاع، بما في ذلك مصر (11 نقطة)، ولبنان (12 نقطة)، وتونس (15 نقطة)‏[17].

وفي دراسة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مع منظمة العمل الدولية وتضمنت 24 دراسة حالة تفصيلية للإصلاحات التشريعية والسياسية والمؤسسية الأخيرة لدعم التمكين الاقتصادي للمرأة في مصر والأردن والمغرب وتونس، خلصت إلى أنه من دون اتخاذ المزيد من الإجراءات، فإن الأعراف الاجتماعية التقييدية والتمييز الراسخ من شأنه أن يقوض التقدم، كما ثبت أن الإصلاحات الواعدة على الجبهات السياسية والتشريعية والمؤسسية صعبة التنفيذ، حيث لا تزال الأعراف الاجتماعية والقوالب النمطية التقييدية تعيق تمكين المرأة وتتغاضى عن العنف ضد النساء والفتيات. وبعض هذه الأعراف منصوص عليها في تشريعات للدول الأربع‏[18].

ويظهر مؤشر المنتدى الاقتصادي العالمي 2020 أنه على الرغم من تحسن المشاركة الاقتصادية للمرأة المصرية في أسواق العمل (ينخرط 24.7 بالمئة من النساء في سن العمل في سوق العمل، يمثِّلن 15.4 بالمئة من القوى العاملة في مصر بحسب إحصاءات البنك الدولي، في حين ترفع إحصاءات المجلس القومي للمرأة الرقم إلى23.1 بالمئة)، فإن هذه النسبة لا تزال منخفضة نسبيًا، لأن الثقافة الأبوية السائدة تؤدي دورًا حيويًا في وضع المرأة في المجال العام، وقنوات التأثير الرئيسية في المجتمع، وهي وسائل الإعلام الحكومية والمناهج التعليمية ودور العبادة، لا تشجع تمكين المرأة، بل تدعم الدور التقليدي للمرأة في المخيّلة العامة من خلال تكوين وتغذية الوعي الذي يقرأ المرأة كأم مطيعة أو زوجة أو ممرضة أو فلاحة، بما يتمشّى مع مفهوم الأخلاق العامة والقيم العائلية التقليدية. ومن ثم، يجوز للمرأة أن تشارك في الحياة العامة، لكن هذا لا يمنحها الاستقلال عن سيطرة الذكور أو يعني ضمنًا مساواتها بالرجل‏[19].

وعلى عكس توقعات النظريات التي تؤكد أهمية دور التعليم في تغيير الأعراف والأفكار المتعلقة بأدوار الجنسين، والتجارب العملية التي تؤكد ذلك، تظهر بعض الدراسات أن التعليم في مصر لا يؤدي دوره المتوقع في تنمية الوعي وتحويل الأفكار المتعلقة بأدوار الجنسين. يمكن تفسير هذه النتيجة المفاجئة بحقيقة أن نظام التعليم في مصر نفسه يخضع للأعراف الاجتماعية التي تعزز تصورات النساء والرجال حول أدوارهم، وهي تصورات متحيزة ضد النساء‏[20].

وإذا كانت الأعراف الاجتماعية تحد من انخراط المرأة في المجال العام، ولا سيّما السياسي منه، فإن تلك الأعراف مثلت أكبر عائق أمام تفعيل القوانين والتشريعات المتعلقة بحماية المرأة من العنف، ومن أبرز الأمثلة:

1 – على الرغم من النص على تجريم ختان الإناث عدة مرات في القوانين المصرية منذ عام 2008، فإن الأعراف الاجتماعية شجعت على استمرار هذه الممارسة في الخفاء، فظلت منتشرة بنسبة 92.3 بالمئة في عام 2014، وانخفضت إلى 87.2 بالمئة في عام 2015، وعلى الرغم من التعديلات القانونية الأخيرة التي أكدت تجريمه من دون أي مبررات، ورفعت الحد الأقصى للعقوبة واستحدثت عقوبات ضد من يجرونها من الأطباء ومزاولي مهنة التمريض، وضد المنشآت المشاركة في هذا الفعل، وأدرجت كل من يشجع أو يحرض على ارتكاب هذه الجريمة على قائمة العقوبات ‏[21]. إلا أن نسبة الانخفاض كانت ضئيلة، فوصلت إلى 86 بالمئة عام 2022 وفق المسح الإحصائي للأسرة المصرية‏[22].

2 – على الرغم من تجريم القانون المصري التحرشَ الجنسيَ، ومن تغليظ عقوباته عدة مرات، فإن 83 بالمئة من سيدات مصر، بحسب تقرير المركز المصري لحقوق المرأة عام 2013، يتعرضن لجريمة التحرش الجنسي‏[23]. وارتفعت النسبة أكثر فأكثر في تقرير الأمم المتحدة لعام 2013 لتصل إلى 99.3 بالمئة‏[24]. وبالرغم من التعديل الأخير الأقوى والأكثر حدة لجريمة التحرش في قانون العقوبات، الذي رفع العقوبة بحدّيها الأدنى والأقصى، من الحبس لعامين والغرامة مئة ألف جنيه، إلى الحبس 4 سنوات والغرامة مئتي ألف جنيه‏[25]، إلا أن تقارير المجلس القومي للمرأة والمجلس القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية تشير إلى استمرار انتشار جريمة التحرش بنسبة 88 بالمئة تقريبًا‏[26]، ومن ثم لم تسهم العقوبات في تغيير السلوك بمقدار كبير، وبخاصة مع انتشار ثقافة إلقاء اللوم على الضحية، ومنعهن وتهديدهن في حالة تقديم محاضر إلى الشرطة.

3 – على الرغم من ارتفاع نسب العنف المنزلي بدرجة كبيرة، إذ وصلت إحصاءاته الصادرة عام 2022، إلى التأكيد أن مصر تحتل المركز الأول عالميًا في الضرب والاعتداء ضد الزوجات من جانب أزواجهن، وأن نسبة الزوجات اللاتي يتعرضن للعنف المنزلي تصل إلى 75 بالمئة‏[27]، فإن التعديلات على قوانين الأحوال الشخصية دائمًا ما تواجه مقاومة شعبية قوية من المجتمع المصري. فعارض الكثير من المؤسسات الدينية والاجتماعية عدة تشريعات مقترحة لإدراج عقوبات مغلظة للعنف المنزلي، بحجة مخالفتها الأعراف الاجتماعية القائمة‏[28].

يتأكد مما سبق أن القيود الثقافية كانت – وما زالت – من أبرز وأقوى العوامل ذات التأثير في فعالية سياسات حقوق المرأة في مصر، وعلى رأسها الأعراف والممارسات الجنسانية التمييزية، والنظرة التقليدية السلبية، والبيئة الحاضنة المشجعة لجرائم العنف. هذه العوامل مجتمعة أثرت في مواقف الأفراد حتى عندما نصت التشريعات على قواعد أخرى. وهو ما جعل العبء على النظام السياسي أعمق وأشدّ، وخفف من إلقاء اللوم على سياسات الحكومة وحدها بحسبان أن الشعب نفسه يرفض بعض هذه السياسات ويقاومها، أو على أقل تقدير لا يتحمس لها. وهو ما يضع الدولة دائمًا في مأزق التعامل مع هذه القضايا، وضرورة بلورة إصلاحاتها على أنها متوافقة مع الأعراف وتؤيدها المؤسسات الدينية.

ثالثًا: الأعراف الاجتماعية المتحيِّزة
ضد النساء ظاهرة عالمية

لا يقتصر الإطار الثقافي المناوئ للمرأة على الدول العربية أو الإسلامية فقط، بل تنتشر الأعراف الاجتماعية المتحيِّزة بين الجنسين في جميع أنحاء العالم، وهو ما يؤدي إلى التمييز ضد النساء والفتيات في مجالات مختلفة؛ فوفقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 9 من بين كل 10 رجال ونساء لديهم تحيُّز ضد المرأة‏[29].

وهذا ما أكدته منظمة اليونيسيف أيضًا من خلال الأدلة المستقاة من 160 دراسة شبه تجريبية، ودعت الباحثين والممارسين وصانعي السياسات إلى معالجة اختلالات توازن القوى وعدم المساواة الاجتماعية على أساس النوع الاجتماعي من خلال تصميم برامج تستهدف بصورة مباشرة المواقف حول النوع الاجتماعي، وتعميم مراعاة المنظور الجنساني عبر السياسات‏[30].

ومن أبرز الدروس الشاملة المستفادة من هذه الأدلة أن الأعراف الجنسانية يمكن أن تحد من آثار التدخلات التي تهدف إلى دعم المرأة وتمكينها، ففي باكستان مثلًا، كان للقروض والتدريب على الأعمال التجارية الموجهة إلى النساء آثار محدودة على نجاح المشاريع المملوكة للنساء، بسبب الأعراف الاجتماعية، ولم تستفد صاحبات الأعمال في الهند وغانا وسريلانكا من فوائد تذكر من برامج الائتمان الأصغر ومنح الأعمال، وقمن بتوجيه الموارد المالية المكتسبة إلى أعمال أزواجهن بدلًا من أعمالهن الخاصة، بسبب الأعراف التي تتوقع أن يكسب الرجال أكثر من النساء، وأن يعولوا على الأسرة. وفي الصين، أدى تبادل المعلومات مع النساء حول حقوقهن في التصويت إلى زيادة معرفتهن بالتصويت، ولكن ذلك لم يكن له أي تأثير في سلوكهن الانتخابي، بسبب الوصمة الاجتماعية ضد تصويت النساء والأعراف التي تقيد حركتهن.

ويمكن تصورات الرجال وسلوكياتهم أن تؤدي إلى تغيير الأعراف الجنسانية المتجذرة، فقد وجدت دراسة أجريت في الهند أن المناقشات التفاعلية في الفصول الدراسية حول أدوار الجنسين والتمييز أدت إلى تحسين المواقف والتطلعات الجنسانية لدى المراهقين، وشجعتهم على المزيد من السلوكيات المنصفة بين الجنسين، ودفع الطلاب إلى اتباع سلوكيات أكثر إنصافًا.

وفي السعودية كشفت دراسة لقياس آثار تصورات الأعراف الاجتماعية على مشاركة الإناث في القوى العاملة، أن الرجال عندما يتلقون معلومات دقيقة عن آراء الرجال الآخرين، فإنهم في كثير من الأحيان يغيرون وجهات نظرهم حول ما إذا كان ينبغي على زوجاتهم العمل خارج المنزل، فقد ارتفعت نسبة الرجال الذين سجلوا زوجاتهم للحصول على وظائف بنسبة 36 بالمئة بعد تزويدهم بمعلومات دقيقة حول تصورات الآخرين المؤيدة لعمل زوجاتهم‏[31].

وبسبب الأعراف الاجتماعية لم ينعكس التقدم المحرز في تضييق الفجوة بين الجنسين في التعليم في العالم على زيادة مشاركة الإناث في قوة العمل على نحو كافٍ، إذ تعمل 21 بالمئة من النساء في العمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا و28 بالمئة في جنوب آسيا، مقارنة بـ75 بالمئة من الرجال. وعلى الصعيد العالمي تشير التقديرات إلى أن النساء يتلقين نحو 77 بالمئة مما يتلقاه الرجال من أجور‏[32].

وفي جذور عدم المساواة بين الجنسين تكمن هياكل اجتماعية أبوية تقليدية يتم فيها توزيع السلطة على نحو غير متساوٍ، بحيث يتمتع الرجال تقليديًا بالسلطة على النساء. ويتجلى اختلال توازن القوى في ترتيبات الحكم، التي تعتمد على قوانين رسمية تمييزية وأنظمة عرفية غير رسمية تعمل على إدامة عدم المساواة بين الجنسين.

وعلى الرغم من التحسينات الكبيرة في مجال المساواة بين الجنسين في عدد من المجالات، مثل التعليم والصحة على مدار الأعوام الخمسين الماضية على مستوى العالم، فإن هذه التحسينات لم تنعكس بالكامل في مكاسب مماثلة في فرص العمل، أو في صوت سياسي معتبر للنساء، ولا تزال الفجوات بين الجنسين في الفرص الاقتصادية والمشاركة السياسية قائمة في كثير من البلدان.

وفي عام 2017، بلغت نسبة المقاعد التي تشغلها النساء في البرلمانات الوطنية 23.5 بالمئة في جميع أنحاء العالم، مقابل 28 بالمئة فقط من المناصب الإدارية، وحتى عندما يتم تمثيل المرأة في المناصب السياسية، فإن التمثيل لا يترجم تلقائيًا إلى تأثير، والنساء المعينات في مناصب وزارية يتم تكليفهن بمجالات سياسية تُعَدُّ أكثر «أنثوية» وأقل استراتيجية وفقًا لوصف مؤشر الجندر التابع للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة‏[33].

ومن خلال المقاييس الموضوعية، فإن تمثيل المرأة ناقص في السياسة والإدارة العامة وقيادة الأعمال. وتمثل النساء 11 بالمئة فقط من رؤساء الدول و9 بالمئة من رؤساء الحكومات، وتشغل النساء 22 بالمئة فقط من المناصب الوزارية. وتتركز أغلبية الأدوار الوزارية في وزارات المرأة، والأطفال، والشباب، والمسنين، والمعوقين، أو القطاعات الاجتماعية والبيئية. وحتى عندما تصل المرأة إلى مناصب قيادية، فإن التحيزات بين الجنسين تؤدي إلى عدم المساواة في المعاملة والحكم.

لقد تمكنت النساء من اللحاق بركب التعليم، وأصبحن أكثر تعليمًا مما كنَّ عليه في الأجيال السابقة. لكن الفجوات بين الجنسين في التمكين الاقتصادي لا تزال قائمة، وهو ما يشير إلى أن الزيادة الأخيرة في إنجازات التعليم لم تترجم إلى نتائج وفرص اقتصادية أفضل للنساء. حيث أكد مؤشر الجندر التابع للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أنه في 59 دولة النساء البالغات فيها أكثر تعليمًا من الرجال، بلغ متوسط فجوة الدخل 39 بالمئة. ومع اللحاق بالتعليم، لم يعد من الممكن تفسير الفجوات المستمرة بين الجنسين في الدخل بالفجوات في التعليم، بل ترتبط بالأعراف الاجتماعية العميقة الجذور والقوالب النمطية الجنسانية‏[34].

وفي أكبر 200 شركة في العالم، مثّلت النساء 17.8 بالمئة فقط من أعضاء مجلس الإدارة في عام 2014. ويبلغ متوسط حصة القاضيات في المحاكم الدستورية في جميع أنحاء العالم 22.4 بالمئة، وتشغل النساء منصب رئيس القضاة في 26 دولة فقط.

ومن بين التفسيرات لنقص تمثيل المرأة بين صناع القرار في المجالين الاقتصادي والسياسي، تبرز القيود المؤسسية الرسمية (مثل القانون الرسمي) والأعراف غير الرسمية، بما في ذلك الأعراف الجنسانية الراسخة حول مكانة المرأة وأدوارها في المجتمع. تعزز هذه القيود بعضها البعض وتميل إلى ترسيخ اختلال توازن القوى لمصلحة الرجال، وتنتشر في الكثير من الثقافات في جميع أنحاء العالم. ولا تنجو النساء أنفسهن من هذه الأعراف، فقد أظهرت الأدلة أن النساء، مقارنة بالرجال، أقل احتمالًا للاعتقاد بأنهن مؤهلات للترشح للمناصب، كما أنهن أقل طموحًا على المستوى السياسي. وهذا ما يسلط الضوء على السبب وراء استمرار النساء في مواجهة معركة شاقة في الوصول إلى السلطة السياسية وممارستها، على الرغم من إزالة الكثير من الحواجز الرسمية التي تحول دون تولي مناصب سياسية‏[35].

في المجتمعات التي تخضع لسيطرة التسلسل الهرمي الأبوي، تمتلئ حياة المرأة بالكثير من الالتزامات والقيود العائلية والأعراف الثقافية التي تحدد الأدوار والمسؤوليات والتوقعات المتعلقة بالجنسين. وفي هذا السياق تبرز العلاقات الزوجية كأبرز العلاقات التي تمر بعلاقات القوة ويبرز الزواج كأكثر المجالات تحديًا للتفاوض في شأن المسؤوليات الجنسانية، حيث يتم التحكم في حياة المرأة من جانب المجتمع والأعراف والثقافة؛ لأن الأسر تخشى الوصمة والتمييز الذي قد يرتبط بفتياتها‏[36].

وتؤدي الأعراف الاجتماعية المتحيزة بين الجنسين التي تدعم التقليل من قيمة قدرات المرأة وحقوقها في المجتمع، إلى تضييق خيارات المرأة وفرصها، وتلك مشكلة منتشرة في جميع أنحاء العالم، في كل من البلدان المنخفضة في مؤشر التنمية البشرية والمرتفعة أيضًا، وفي المناطق ذات مستويات الدخل المرتفعة والمنخفضة أيضًا، وفي مختلف الثقافات، وهذا ما يجعلها قضية عالمية. فقد كشف مؤشر الأعراف الاجتماعية الذي يغطي 85 بالمئة من سكان العالم، ويستند إلى أحدث البيانات الصادرة بين عامي 2017 و2022 أن ما يقرب من 9 من كل 10 رجال ونساء لديهم تحيِّز ضد المرأة. كما يعتقد ما يقرب من نصف سكان العالم أن الرجال قادة سياسيون أفضل من النساء، ويعتقد اثنان من كل خمسة أشخاص أن الرجال قادة أعمال أفضل من النساء‏[37].

وعلى الرغم من إزالة الكثير من الحواجز الرسمية التي تحول دون تولي النساء مناصب سياسية في معظم البلدان، فإن الفجوات بين الجنسين في التمثيل السياسي لا تزال كبيرة. وعلى الرغم من أن المرأة تتمتع بالحق في التصويت والترشح للمناصب السياسية في كل مكان تقريبًا في العالم، فمع ذلك، تشغل النساء في المتوسط ما يزيد قليلًا على ربع مقاعد البرلمان و22 بالمئة من المناصب الوزارية. وفي أعلى المستويات، ظلت نسبة رؤساء الدول أو الحكومات من النساء 10 بالمئة منذ عام 1995‏[38].

وعلى الرغم من تطور الأطر الدولية الداعمة للمساواة وتمكين المرأة أكثر فأكثر في المدة الحالية، فإن مسارات التقدم العالمي في اعتماد تشريعات حقوق المرأة منذ منتصف التسعينيات قوبلت بفزع شديد من جانب الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية المحافظة التي شرعت في التعبئة للطعن في هذه الحقوق، وسعت إلى تحقيق مزيد من التعاون بينها في إطار مؤتمرات الأمم المتحدة، فتحالفت مجموعة واسعة من الجماعات المحافظة مثل الجماعات الدينية المسيحية والإسلامية ، والدول ذات الحكومات المحافظة التي تشترك في منظور محافظ وتقليدي معين في شأن قضايا النوع الاجتماعي، للطعن في حقوق المرأة، وتقويض التقدم الدولي في هذا المجال. وكادت التعبئة المضادة تهدد الاتفاقيات والالتزامات الدولية القائمة وتقوض عمل المنظمات الدولية، وهيئات مراقبة المعاهدات‏[39].

ظل تطوير إطار دولي لحقوق المرأة محل نزاع طوال الوقت، وكان من بين أول وأبرز قادة هذه المعارضة الفاتيكان الذي تحالف أول مرة مع الدول الإسلامية أثناء الاستعدادات لمؤتمر القاهرة الدولي للسكان والتنمية عام 1994، وخلال المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة في بكين عام 1995، ومؤتمري بكين التاليين اللذين عقدا في نيويورك في عامي 2000 و2005، أصبحت قوى المعارضة واضحة ومنظمة على نحوٍ متزايد. وظهر تحالف مرن يضم دولًا (الدول ذات التراث الكاثوليكي القوي، والحكومات ذات التوجه الإسلامي، والولايات المتحدة في عهد إدارة بوش)، والمنظمات الدولية، والجهات الفاعلة غير الحكومية مثل اليمين المسيحي وغيرها من الجهات، ورغم ما بين هذه الجهات من وجهات نظر متعارضة تمامًا في شأن الكثير من القضايا، إلا أنها اتفقت على معارضة حقوق المرأة الواردة في المعاهدات الدولية.

وألّفت المنظمات غير الحكومية المحافظة في أمريكا الشمالية تحالفات مع المنظمات غير الحكومية في الدول الإسلامية والكاثوليكية ودول ما بعد الاتحاد السوفياتي، ونظمت مؤتمرات عالمية في براغ وجنيف ومكسيكو سيتي ووارسو وأمستردام ومدريد وسيدني. اشتركت هذه الجهات المعارضة في عدم اعترافها باتفاقية السيداو كوثيقة مشروعة، ورفضت قبول لجنة الاتفاقية كمفسر رسمي لمعنى حقوق المرأة. ومع ذلك، استخدمت هذه الجهات لغة الإعلانات والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان وفسرتها بطرائق تتعارض مع بعض عناصر اتفاقية السيداو أو الاتفاقيات الدولية الأخرى، كما استخدمت المنصات التي توفرها مؤتمرات الأمم المتحدة لتصبح أفضل تنظيمًا، وطورت قنوات وهياكل معلومات جديدة، وإنشاء أطر مضادة مشتركة. وهو ما انعكس بشدة في التحفظات التي أبدتها عدة دول على اتفاقية سيداو، والتي كان من بينها تحفظات جوهرية تهدد التطبيق الفعلي للالتزامات المنصوصة، وهو ما عبرت عنه لجنة الاتفاقية في مناسبات كثيرة‏[40].

رابعًا: أعراف النوع الاجتماعي: أسباب استمرارها وسبل تغييرها

تكوِّن السياقات الاجتماعية مواقف الناس في شأن النوع الاجتماعي. ويتم غرس الأعراف الجنسانية في البيئات الاجتماعية، عادة منذ سن مبكرة، وبخاصة من خلال المواقف الأبوية. وعندما يكبُر الأطفال، تتم تنشئتهم اجتماعيًا على الأعراف والتوقعات المتعلقة بالجنسين والسلوكيات المرتبطة بهم من خلال المدارس وأماكن العمل، والمؤسسات الدينية، والمعالجات الإعلامية وغيرها.

هكذا تفسر التنشئة الاجتماعية استمرار الأعراف الاجتماعية، التي غالبًا ما تكون جزءًا لا يتجزأ من الترتيبات المؤسسية والممارسات الاجتماعية. ويمكن الممارسات التمييزية، وتوزيع المسؤوليات بين الجنسين في المنزل وفي مكان العمل، والتسلسل الهرمي بين الجنسين في الممارسات الحياتية أن تؤثر بقوة في السلوكيات والمواقف، حتى عندما تنص القوانين والسياسات على نقيض ذلك.

وغالبًا ما يتم الحفاظ على الأعراف الاجتماعية بين الجنسين – كغيرها من الأعراف الاجتماعية – من خلال العقوبات الاجتماعية، إذ تتم مكافأة السلوك الملتزم بها ومعاقبة من ينتهكها. ويمكن أن تكون العقوبات الاجتماعية قوية بما يكفي لجعل الناس يلتزمون بأعراف لا يتفقون معها. فمواقف الناس وسلوكياتهم لا تعتمد فقط على معتقداتهم الخاصة، بل على ما يعتقدونه عن الآخرين أيضًا، وهو ما يسلط الضوء على سبب بقاء بعض الأعراف الاجتماعية المتعلقة بالجنس في كل مكان، حتى عندما تكون ضارة بوضوح. ويمكن أن يؤدي الاعتماد على مواقف الآخرين إلى استمرار الأعراف الاجتماعية مدة طويلة بعد تضاؤل الدعم الفعلي للناس لها.

ولدى بعض المجموعات أو الأفراد مصلحة راسخة في ضمان استمرار الأعراف التي تدعم تهميش المرأة، وغالبًا ما يستفيد الرجال والفتيان من الأعراف الجنسانية التي تديم ممارسة الرجال لسلطتهم على النساء، مثل اتخاذ القرارات في الأسرة. ويمكن النخب الاجتماعية أن تؤسس ممارسات أو عادات تقلل من وصول المرأة إلى الموارد والسلطة. ويمكن أن تؤيد النساء هذه التحيزات أيضًا؛ فقد تحافظ النساء الأكثر ثراءً على أعراف الانسحاب من قوة العمل كدليل على المكانة الاجتماعية والاحترام.

تمثل التنشئة الاجتماعية، والتوقعات المعيارية المشتركة، السياق الأوسع للعوائق الطويلة الأمد التي تعترض المرأة، وتحدّ من قدرتها على التصرف ودخول المجال العام. ويمكن الظروف الاجتماعية القمعية التي تعيش فيها النساء، وتتعلم وتعمل، أن تجعل من الصعب عليهن تحدي الأعراف الاجتماعية في آرائهن ومواقفهن ومعتقداتهن. ولعل أبرز الدلائل في ذلك أن المحظورات الاجتماعية وإلقاء اللوم على الضحية قد تؤدي بالنساء إلى الامتناع عن الإبلاغ عن العنف الواقع عليهن، ليس بسبب الخوف من العقوبات الاجتماعية فقط، ولكن أيضًا بسبب اللوم الذاتي الداخلي‏ أيضًا[41].

وتعد الأعراف والثقافة والعوامل الاجتماعية من أهم ما يعتمد عليه تمكين المرأة، وأهم ما يحتاج إلى التغيير لتحقيق هذا التمكين، وتميل هذه الأعراف إلى الاستمرار ويصعب تغييرها، وعندما تتغير فإن هذا التغيير يبدأ من خلال الأشخاص ذوي النفوذ في المجتمعات، أو من خلال إضعاف الأعراف والممارسات الضارة بتعريض الناس لمعلومات حول الآثار السلبية لها. ويمكن الوصول إلى نقاط التحوُّل في تغيير تلك الأعراف عندما يتخذ عدد كافٍ من الأشخاص مواقف ضد عرف قائم، وهو ما يؤدي غالبًا إلى تأثير متسلسل، ومع ذلك، لا تتغير جميع الأعراف من خلال عمليات التحول هذه، وبخاصة عندما ترتبط بهوية المجتمع‏[42].

يتطلب تغيير الأعراف الاجتماعية المتعلقة بالجنسين تدخلات تولِّد الظروف الاجتماعية والسياقية الأوسع، ويمكن تحقيق ذلك من خلال التعليم الذي يعزز قدرات المرأة، ويشجعها على تشكيل مستقبلها، والاعتراف بحقوقها وتمثيلها، ويؤدي التعليم الذي ينمي التفكير النقدي دورًا مركزيًا في فهم الأعراف الاجتماعية وكيفية ظهورها، وهو ما يمكن أن يساعد بدوره على التغلب على السلبي منها.

ويتأثر تمكين المرأة بتفاعل بين الترتيبات الاجتماعية الرسمية وغير الرسمية، وهو لا يتطلب فقط سياسات ومؤسسات رسمية تدعم مشاركتها السياسية والاقتصادية وجود، بل يتطلب أيضًا معالجة الأعراف الاجتماعية العميقة الجذور بين الجنسين التي يمكن أن تقوض جهود التمكين. يقدم تقرير التنمية البشرية 2021/2022، إطارًا شاملًا للتغيير في هذا المجال، يتألف من مجموعتين رئيسيتين من الأعمال: تهدف الأولى إلى تشكيل تدخلات سياسية تراعي الفوارق بين الجنسين والإصلاحات المؤسسية، وتركز الثانية على الدور المهم للسياق الاجتماعي في تشكيل المواقف والسلوكيات ‏[43].

ويمكن أن تكون معالجة التحيُّزات، وتشجيع الأعراف الإيجابية بين الجنسين جزءًا مهمًا من المناهج التعليمية والسلوك الاجتماعي في المدارس، كما يمكن دعمه من خلال التغييرات القانونية التي تدعم الحقوق المتساوية للمرأة، ومن خلال حملات الاتصال ووسائل الإعلام الجماهيرية التي تغير سرديات الأعراف الاجتماعية المتعلقة بالجنسين.

ويمكن لزيادة تمثيل المرأة في المؤسسات العامة، وفي الإدارة والمناصب القيادية وصنع القرار أن تغير الصور النمطية لها، وتدعم التغييرات في القوانين والسياسات التي تدافع عن حقوق المرأة ‏[44].

هناك أدلة دامغة على أن وجود القيادات النسائية يمكن أن يقلل من التحيُّز ضد القيادات النسائية ويقدم نماذج قد تكون مصدر إلهام قوي للتغيير. وغالبًا ما يؤدي وجود قيادات نسائية في أعلى المستويات الحكومية إلى تغييرات أكثر وضوحًا في الأعراف الاجتماعية بين الجنسين، ففي العقد الماضي ارتفعت نسبة الأشخاص الذين ليس لديهم تحيُّز في الأعراف الاجتماعية بين الجنسين بنسبة 7.6 بالمئة في البلدان التي ترأسها أو ترأس حكومتها امرأة، مقارنة بـ 2.7 بالمئة في البلدان الأخرى‏[45].

وقد عرفت العقود القليلة الماضية اختراقات كبيرة في الأعراف الاجتماعية المتعلقة بالجنسين من خلال السياسات واللوائح والتقدم العلمي. على سبيل المثال، أحدثت حبوب منع الحمل تغييرًا في الأعراف الاجتماعية القائمة بين الجنسين، وفتحت مجالات للتمكين لم تكن متاحة من قبل، وكان لها تأثير هائل في قدرة المرأة على التخطيط لأسرتها وحياتها المهنية، وإحداث تحول في صحة الطفل والأم.

كما أدت بعض السياسات دورًا مهمًا في تغيير الأعراف، فالتوجه الدولي نحو تعميم التعليم الابتدائي والثانوي في صورة تعليم إلزامي مجاني حتى الصف الثامن غيّر مشهد حضور المرأة في التعليم، وغيّر أعراف تعليم الفتيات، وأصبح عدد النساء الآن أكبر من عدد الرجال في التعليم العالي في معظم البلدان، بما فيها بلدان كانت تمنع تعليم الفتيات قبل عقود قليلة، وكانت هذه السياسات أكثر نجاحًا عندما سمحت الأعراف الاجتماعية المتعلقة بالجنسين بمشاركة المرأة في القوى العاملة، وشهد المجتمع الآثار الإيجابية لذلك. ومع الإقرار بضغوط الأعراف الاجتماعية، فهي لا تمنع الدول من الإقرار بحقوق المرأة وإجراء الإصلاحات والتعديلات وفقًا للسياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتغيرة، وإعادة هيكلة القوانين المتعلقة بوضع المرأة في المجال العام‏[46].

ويمكن التغيرات القانونية أن تسهم في تغيير الاعراف الثابتة أو تفشل في ذلك، فالعوامل التي تسهم في فعالية القوانين في إحداث التغيير الاجتماعي معقدة، وتعتمد أكثر فأكثر على السياق ومدى التفعيل‏[47].

خامسًا: أبرز النتائج والتوصيات

خلصت الدراسات إلى بعض النتائج المبنية على التجارب والممارسات، من أهمها:

1 – من غير المرجح أن تنجح القوانين التي تتعارض على نحو كبير مع الأعراف والثقافة القائمة في تغيير السلوك، ويمكن أن تؤدي إلى ردود فعل عكسية. على سبيل المثال فشلت بعض القوانين التي تحظر بعض أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي في تغيير السلوك؛ لأن هذه الممارسات راسخة جدًا في الثقافة، في الهند مثلًا، لم يُثبت القانون الذي يحظر الإجهاض لتحديد الجنس فعاليته في تحقيق الهدف المقصود؛ ويرجع ذلك إلى فشل القانون في معالجة التفضيل الثقافي للأبناء الذكور.

2 – يمكن القانون أن يؤدي إلى التأثيرات المقصودة من خلال تمكين أولئك الذين يرغبون في ممارسة السلوك الاجتماعي أو التخلي عنه، مثل منح النساء في السعودية رخص قيادة السيارات، فالجميع لم يكونوا مع أو ضد هذه الممارسة، لكن القانون أعطى من يرغبون فيها الحق في ذلك، ففتح الطريق أمام التخلص من هذا العرف. وفي بعض الحالات قد يكون القانون أشبه بـ«مغناطيس» يجذب بعيدًا من العرف من خلال تقديم خيار للفئات التي ترغب في التخلي عن العرف، وهو ما يزيد من قدرتها على المساومة، وبالتالي يؤدي إلى تغيير اجتماعي متزايد، كما حدث في قانون الميراث الغاني الذي أعطى الزوجات والأطفال حقوق الميراث من الزوج أو الأب، مخالفًا عادات الأم.

3 – هناك حاجة إلى التنفيذ التدريجي للقانون لإتاحة الوقت لتغيير العرف، على سبيل المثال، تحسنت المواقف تجاه القيادات النسائية وتجاه ترشح المرأة والفوز بمناصب في الهند بعد عشر سنوات من تطبيق قانون يخصص للنساء مقاعد محجوزة في البرلمانات.

4 – في بعض الحالات، قد يؤدي مجرد وجود القانون إلى إحداث «تحول ثقافي». مثلًا، مجرد وجود سبل الانتصاف القانونية للعنف المنزلي يتعارض مع العرف القائل بأن العنف المنزلي مشكلة شخصية أو خاصة تقع على عاتق الضحية. ومن ثم، يمكن القانون أن يعزز مفردات جديدة، ومنظورًا جديدًا، وفهمًا ثقافيًا جديدًا للعنف المنزلي‏[48].

خاتمة

يمكننا القول إن الأعراف الاجتماعية المتحيزة مثلت أحد أبرز وأهم عوائق تمكين المرأة على كل المحاور، كما أنها لا تحد من حريات ومساحات المرأة وخياراتها فحسب، بل تحرم المجتمعات أيضًا الفوائد الكثيرة للمشاركة النسائية، وتنوعَ وجهات النظر والخبرات والقدرات والأصوات والأفكار. وتخلق ضغوطًا كبيرة تقيد جهود الدول والأنظمة السياسية والأطر الدولية للتقدم في مسيرة حقوق المرأة.

ويتطلب تحقيق المساواة بين الجنسين القضاء على الأعراف الاجتماعية الجنسانية المتحيزة، وهي عملية دينامية طويلة تتطلب جهودًا مستمرة من الدولة والمجتمع، بحيث يتم من خلالها تطوير وسائل للتعليم والاعتراف والتمثيل وتفعيل الإصلاحات القانونية لتعالج بصورة مباشرة هذه الأعراف. كما يمكن أن تساهم الناشطات من النساء، في خلق نهج فعّال يسير من القاعدة إلى القمة، يفتحن من خلاله مساحة أكبر لمشاركة المرأة، وينشرن قدرًا أكبر من الوعي بقضايا حقوق المرأة وإشكالياتها.

كتب ذات صلة:

المرأة العربية: من العنف والتمييز إلى المشاركة السياسية

النسوية العربية: رؤية نقدية