تأسّست مدرسة فرانكفورت في بداياتها سنة 1923 مع أستاذ الاقتصاد السياسي فليكس فيل (Felix Weil) الذي افتتح معهد البحوث الاجتماعية وتم تعيين كارل غرونبرغ(Carl Grunberg)  مديرًا له. وهو كذلك أستاذ للاقتصاد السياسي في جامعة فيينا. والحق أن المدرسة لم تُخف انتماءها للتصور الماركسي منذ البداية وحاولت تجديد النظرية الماركسية بناءً على الفهم الجديد لمتغيرات العالم؛ لذلك كانت تحركاتها الأولى وأنشطتها الفكرية مرتبطة بالأحزاب الشيوعية والاشتراكية من جهة، وبمعهد ماركس وإنجلز بموسكو من جهة ثانية. وقد عرفت المدرسة منعطفها الأول سنة 1931، وهي سنة تولي الفيلسوف ماكس هوركهايمر(Max Horkheimer)  إدارة المعهد، وتَقلُّده مسؤولياتٍ جسيمة؛ هذا الذي بدأ بتغيير مجال اهتمامها من الاقتصاد والسياسة وطبيعة العلاقة بينهما إلى الاهتمام بالفلسفة الاجتماعية والعلوم الاجتماعية وتشجيع كل البحوث التي تقوم على تعدد التخصصات، وقد كان هذا المنعطف بتعاون مع صديقه الفيلسوف تيودور أدورنو(Theodore Adorno)  (1903-1969)؛ حيث اشتغلا بدايةً بالمواضيع التي تهم الفرد وعلاقته بالعائلة والمجتمع والسلطة… وهو اهتمام تم الاعتماد فيه على علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة. ولقد وُظفت هذه المباحث والعلوم لفهم المجتمع بصيغ أكثر مواكبة للوضع الاجتماعي. وقد انضاف إلى هؤلاء فلاسفة آخرون أمثال هيربرت ماركيوز(Herbert Marcuse) (1898-1979) صاحب الكتاب المعروف: الإنسان الأحاديّ. ومن ثم يمكن طرح الأسئلة الآتية: كيف اشتغلت هذه المدرسة؟ وما أهم الأفكار التي حفلت بها؟ ومَن أبرز روادها وأجيالها؟ وكيف حضر مفهوم النقد داخل نسقها الفكري؟

حظيت مدرسة فرانكفورت بأهمية بالغة لما اتسمت به من غنى في كتاباتها وانفتاحها على مُختلف المرجعيات الفلسفية الحديثة منها والمعاصرة؛ كالفلسفة الكانطية والهيغلية والنيتشوية وحتى الفيبيرية… والحق أنها أصبحت منطلقًا لأكثر النظريات والتصورات التي انتقدت مفهوم التقنية في مختلف تجلياتها، غير أن الأحداث التي عرفتها أوروبا عمومًا وألمانيا على وجه الخصوص عجلت بتوقف أعمال المدرسة. ولعل أهم سبب لهذا التوقف هو صعود النازية لسدة الحكم الألماني سنة 1933 وتجميع كل صلاحيات السلطات السياسية في يد الحزب النازي؛ الأمر الذي أفضى إلى التضييق على كل الأنشطة الحرة التي يمكن أن تنتقد السلطة السياسية. وهذا ما دفع مفكري مدرسة فرانكفورت إلى الهجرة خارج أوروبا، ومنهم من اضطر إلى اللجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية باحثًا عن الحرية.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تمت عودة فلاسفة مدرسة فرانكفورت إلى ألمانيا واستئناف أنشطتهم الفكرية والتي عدّوها أنشطة تدخل في إطار الممارسة النقدية للمجتمع الاستهلاكي الرأسمالي من جهة، ونقد الماركسية بوصفها نظرية كلاسيكية غير مواكبة للتحول الاجتماعي من جهة ثانية، ولذلك ستُعرف مدرسة فرانكفورت بالمدرسة النقدية وحضور مفهوم النقد في أعمالها، ولعل ما ينمُّ عن ذلك هو المحاضرة الافتتاحية للمعهد التي ألقاها ماكس هوركهايمر والتي رسمت خريطة طريق المدرسة وتوجهها الفكري، وسيكون كتاب النظرية التقليدية والنظرية النقدية هو الكتاب الموجه والمؤسس لعمل المدرسة([1]).

كان سياق ظهور هذه المدرسة ونشأتها مرتبطًا بجملة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفلسفية على وجه الخصوص يمكن أن نجملها في النقط التالية:

– فشل الثورات الاشتراكية في الدول الأوروبية؛

– انزياح الاشتراكية الروسية إلى نظام شمولي؛

– صعود النازية للحكم؛

– تجليات الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929؛

– تحول النزعة الوضعية من وضعية “ساذجة” إلى وضعية علمية منطقية بلغة رودولف كارناب([2])؛

– انتشار الفلسفة البراغماتية وصعود التوماوية الجديدة([3]).

شكلت هذه التيارات الفلسفية الثلاثة موضع سجال ونقاش ونقد من طرف المدرسة النقدية على طول مسار تاريخها الفلسفي وكانت حافزا لفلاسفة المدرسة النقدية أمثال ماكس هوركهايمر، تيودور أدورنو، هربرت ماركيوز، إريك فروم، يورغن هابرماس، أكسيل هونيث… على إنتاج مساهمات فكرية تقارع هذه التيارات الفلسفية. وقد كانت المدرسة النقدية بمثابة مراجعة نقدية للنظرية الماركسية وما سقطت فيه من أزمة سواء على مستوى التنظير أو على مستوى الممارسة، لذلك كانت عودة فلاسفة مدرسة فرانكفورت إلى ما قبل ماركس وخصوصًا إلى فريدريك هيغل والفلسفات المحاورة لهيغل وأهمها كارل ماركس، وسيغموند فرويد، وفريدريك نيتشه، وغيرهم ممن حاولوا خلق فلسفةٍ تروم مساجلةً المتن الهيغلي.

أخذت هذه المدرسة على عاتقها تحقيق كوكبةٍ من الغايات سعت، وذلك في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي سبق الحديث عنها، فقد “عملت النّظرية النقدية على تحقيق غايات أساسية أهمها التحرر أو الانعتاق، وبحسب عبارة ماكس هوركهايمر، فإن النظرية النقدية تشكل أداة في المعركة من أجل المستقبل”([4]). وقد يُفهم من هذا التوصيف لماركس هوركهايمر وحديثه عن المستقبل أنّ المدرسة النقدية هي تأويل جديد للفلسفة الماركسية، بمعنى أنّها لم تكتفِ بالتحليل المادي للمجتمع الاقتصادي، واقتصارها على الحديث عن البنية التحتية والبنية الفوقية، أو الحديث عن النقد الإيديولوجي لمفهوم الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج… إلخ، وإنما وسّعت من دائرة اشتغالها سواء على مستوى الموضوع (الفرد، المجتمع، العائلة، السلطة…) أو على مستوى المنهج الموظف للدراسة (منهج علم النفس، منهج التحليل النفسي، علم الاجتماع، الفنون، الثقافة…).

انشغلت المدرسة النقدية بموضوع “التقدم والتقهقر” في الحضارة الغربية، واعتبرت أن تقهقر وانحطاط الحضارة الغربية ليس مرده الفرد ذاته، كذاتٍ حرة ومستقلّة ومسؤولة عن اختياراتها، وإنما مردّه المُجتمع وارتباطه بفساد نظمه وتحولها إلى نظم شمولية يفقد فيها الفرد استقلاله الذاتي الذي يمكنه من تحرير نفسه وتحقيق الانعتاق من كل هيمنة أو سيطرة.

ويعَدّ مفهوم “الهيمنة أو السيطرة” من المواضيع التي أخذت نصيبًا من الدراسة والاهتمام من قبيل فلاسفة مدرسة فرانكفورت، وخصوصًا الجيل الأول منها (ماكس هوركهايمر، تيودور أدورنو، هيربيرت ماركيوز …)، ولذلك نجد مقدمة كتاب جدل التنوير، وهو كتاب مشترك بين ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو، تصريحًا بالهدف الأساسي من الكتاب هو التحليل النَّقدي للحضارة الغربية الحالية التي تحملُ صفتين متلازمتين هما: الصناعة والسيطرة.

أولًا: جيل هوركهايمر وأدورنو

من العقلانية الأداتية إلى العقلانية النقدية

حظيَ مفهوم التنوير باهتمام بالغ من أهل الفكر والفلسفة خلال العصر الحديث، حيث اعتبر السؤال الكانطي ما الأنوار؟  رمز الحداثة الغربية بامتياز؛ لما له من تأثير في المنظومة الفكرية ككل، غير أن هذا المفهوم سيعرف مراجعة نقدية مع فلاسفة “التوجس” خلال القرن التاسع عشر ونقصد بهم نيتشه وفرويد وماركس، حيث سيتم مع هؤلاء قلب جملة من الشعارات التي تغنت بها الفلسفة الحديثة عمومًا، وفلسفة الأنوار على وجه التحديد، لكن مع مطلع القرن العشرين سيأخذ النقد طابعًا مؤسساتيًا مع مدرسة فرانكفورت أو ما يُسمى بالمدرسة النقدية وهو الاسم الذي اشتُهرت به. والتي يُعد ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو من مؤسسيها عند إبداعهما لنظريتهما النقدية التي جاءت بين دفتي كتابهما جدل التنوير والذي يعَدّ كتابا مرجعيًا لمدرسة فرانكفورت، وأهم نصٍ فلسفي لجيلها الأول.

ظهر كتاب جدل التنوير في سياق تاريخي عرفته أوروبا وهو صعود الأنظمة الشمولية في أكثر من دولة، حدث ذلك في ألمانيا وصعود النازية، في إيطاليا وظهور الفاشية، في روسيا القيصرية وفشو الستالينية الاشتراكية… وقد عجلت هذه التحولات بهجرة مفكري مدرسة فرانكفورت والهروب من ملاحقات هذه الأنظمة الشمولية، فكانت أغلب هجراتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية. والحق أن هجرتهم لم تكن بسبب الملاحقات التي تعرضوا لها فقط،  بل بسبب الانقلابات التي حدثت على مفاهيم الحداثة كمفهوم “العقل” و”الحرية” و”الفرد”… فإذا كانت الأنوار والحداثة ترفع مبادئ العقلانية والفردانية والحرية وقيم حقوق الإنسان واحترام كرامته ضد مختلف أنواع الظلم والاستبداد الذي تعرض لها الإنسان في العصر القديم، وفي العصر الوسيط تحديدًا، من طرف الكنيسة والملكيات المطلقة والإقطاع، فإن هذه المبادئ ما لبثت الحداثة أن تخلت عنها وصار الإنسان أكثر استلابًا وتعرضًا للقهر والجور من طرف الأنظمة التوتاليتارية.

هنا سيكون تدخل فلاسفة مدرسة فرانكفورت من أجل إعادة تحرير الإنسان، نقرأ ما جاء في مقدمة كتاب جدل التنوير: “لم يكن لدينا أدنى شك أن الحرية في المجتمع لا انفصال لها عن الفكر المتنوِّر، كانت هذه نقطة انطلاقنا الأولى بل لقد كان علينا أن ندرك وبوضوح أنّ مفهوم هذا الفكر ناهيك عن الأشكال التاريخية العينية، ومؤسسات المجتمع التي يتواجد فيها هذا الفكر، إنما تنطوي على بذرة هذا التراجع الذي نعانيه في أيامنا في كل مكان. والتنوير إن لم يبادر بعمل تفكيري يطال هذه اللحظة من التراجع فهو كمن يقوم بترسيخ قدره الخاص”([5]).

إذًا هو تراجع عن الحريّة التي كانت من ركائز الحداثة وأُسِّس التنوير، والحق أن هذا التراجع أصاب أكثر ركيزة انبنت عليها الفلسفة الحديثة وهو مفهوم “العقل”، فإنسان العصر الحديث رفع شعار السيطرة على الطبيعة من خلال استعمال العقل الاستعمال السليم وِفق منهج يُساهم في التقدم، لكن السيطرة هاته سرعان ما انقلبت على الإنسان نفسه وصار التحكُّم في الطبيعة وفي الإنسان كذلك، وهنا أصبحنا نتحدث عن عقلٍ أداتي تقني بدل عقلٍ تنويري تحرري. تحولٌ جعل مفكري المدرسة النقدية يرون أن فكرة تحرير الإنسان مجرد أسطورة تخفي وراءها فكرة الهيمنة والسيطرة على هذا الإنسان، إنها أسطورة جعلت العقل يدمر نفسه بنفسه، والإنسان يستغل الإنسان، وقيمه وحقوقه تُنتهك باسم حقوق الإنسان.

هي ذي المفارقة التي عجَّلت ودفعت بفلاسفة مدرسة فرانكفورت بأن يبلوروا مشروعًا جديدًا كبديل أو مراجعة نقدية للمشروع الحداثي التنويري، وقبل أن نبسط القول في المشروع الجديد لا بد من الوقوف عند أعطاب المشروع الحداثي ومكامن الخلل فيه، وهي أعطابٌ شخَّصها مفكرو المدرسة النقدية أنفسهم، وسيكون تحديد مطبات العقل الأنواري كخطوة منهجية لفهم أسس ومنطلقات مشروع مدرسة فرانكفورت.

ارتبطت العقلانية التي تبلورت في الفكر الأنواري الغربي بوصفه الإطار المرجعي والفكري والتاريخي للحضارة الغربية بفكرة “السيطرة على الطبيعة” وقد كانت هذه الفكرة هي منطلق الفلسفة الديكارتية، حيث كان هدفها هو سيادة الإنسان على الطبيعة عبر إبداع الآلة والتقنية، غير أنَّ المُفارقة التي تبدت ملامحها خلال صيرورة تطور الظاهرة التقنية، هي أنّ الإنسان انعتق من سيطرة الطبيعة ليصير هو المسيطر. إلا أنه سيسقط تحت سيطرة أخرى أخطر من سيطرة الطبيعة عليه؛ إنها سيطرة التقنية ذاتها ليصير الإنسان والطبيعة معًا موضوع السيطرة بعد هيمنة النموذج التقني العلمي؛ حيث سيفقد الإنسان استقلاله الذاتي وحريته التي كانت لبِنة المشروع الأنواري الحداثي الغربي، لينقلب الحلم بالحرية والسيادة على الطبيعة إلى كابوس ينخرُ الإنسان. ولعل هذا ما دفع الجيل الأول من فلاسفة مدرسة فرانكفورت في شخص كل من تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر إلى إنقاذ هذا المشروع الحداثي الأنواري بوضع عقلانيةٍ نقديةٍ تصحيحيةٍ عوض العقلانية الأداتية التي كانت سبب المنزلق الذي وقع فيه المشروع الفكري الحداثي الغربي.

إن الوظيفة الجوهرية للعقلانية النَّقدية كما جاء بها رواد مدرسة فرانكفورت تقوم بالأساس على جعل “النقد الأسلوب الرئيسي في النظر إلى الأشياء والمواقف والأفكار، لهذا فهولا يختزل في الجانب المعرفي وإنما يتوجه أيضا إلى الواقع الاجتماعي الملموس”([6])، وبهذا فهو نقدٌ اجتماعيٌّ قريبٌ إلى ما ذهب إليه كارل ماركس، أي النَّقد الذي يرتبط بالممارسة؛ فالنقد بالدرجة الأولى مرتبطٌ بالواقع الملموس، وليس نقدًا لبُنًى مجردة. وهنا يتضح مدى استعانة مفكري مدرسة فرانكفورت بمفهوم النقد الاجتماعي لدى ماركس. إلا أن هذه الاستعانة بماركس لا تعني البتة الوقوف عند حدود ما عناه ماركس بالنقد الاجتماعي، بل تجاوزوه ليشمل النقد الجذري لعقلانية الأنواري ولما أفرزته من مظاهر السيطرة السياسية والفكرية والثقافية.

إنّ تحقق عملية التحرر الإنساني، وتجاوز الاغتراب والتشيؤ قصد تحقيق خلاص الإنسان حسب مبدعي العقلانية الأداتية، مرتبط بقدرة تجاوز الوضع القائم ورفضه، كما يرتبط أيضًا بجَهدٍ نقديٍّ تجاه الأفكار والمؤسسات السائدة والمهيمنة، غير أن هذا التحرر والخلاص لا يمكن أن تنجزه الطبقة العاملة بحكم أنها تحمل بذور الثورة ضد كل ما هو قائم كما ذهبت إلى ذلك الماركسية؛ لأن الطبقة العاملة في نظر مفكري النظرية النقدية تم احتواؤها من طرف المجتمع التكنولوجي. وبالتالي صارت جزءًا من هذا النظام القائم، فعجزت عن أداء دورها الثوري، ويظهر لنا جليًّا الانزياح الفكري لمدرسة فرانكفورت للماركسية لدى جيلها الأول، إلا أنّ هذا الانزياح لم يثمر ما كان منتظرًا منه من تغيير وتجاوز للوضع القائم، حيث “فشلت مدرسة فرانكفورت في جيلها الأول في إيجاد حلول بديلة، واستنفد مشروع الجيل الأول من المدرسة كل شروط استمراره؛ لأنه افتقد لكل بدائل واقعية وملموسة لتغيير الواقع”([7]). ولعلّ خير دليلٍ على هذا العُقم الفكري الذي وصلت إليه مدرسة فرانكفورت هو ارتماء رائدها “هوركهايمر في أواخر حياته في أحضان اللاهوت الديني اليهودي لينهل منه مُدافعا عن تداخل الديني بالفلسفي”([8])، في حين اتجه كل من أدورنو وماركيوز صوبَ البعد الفني والجمالي بوصفه أفقًا يُحرر الإنسان من طغيان العقلانية.

إن الدارس لرواد الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت يجدُ نفسه أمام صعوبة التنكُّر للجهد الذي بذلوه في نقدهم للمشروع التنويري والوقوف عند جوانب الضعف والخلل فيه، خصوصًا بعد تحول العقلانية الأنوارية إلى عقلية أداتية أنتجت مظاهر السيطرة والتشيؤ وكل أشكال الاغتراب التي شهدتها المجتمعات الغربية المعاصرة. لذلك سعوا جاهدين لإنقاذ الإنسان من قبضة هذه العقلانية الأداتية عبر التنظير لنظام اجتماعي يوفر كل شروط السعادة والحريّة الإنسانيتين. وهذا من طريق إبداع فلسفةٍ اجتماعيةٍ تعملُ على تحقيق هذا الهدف، لكن هذا لا يعني أنَّ جهد الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت قد حظيَ بقبول الدارسين لأفكارهم وتصوراتهم. فأطروحاتهم وتحليلاتهم للأمراض الاجتماعية لم تجد لها موطئ قدم حتى بين المنتمين لهذه المدرسة من الأجيال التي ستليهم، ناهيك من خارجها. لهذا ستتهاوى معاول النقد على رواد الجيل الأول من أقرب الناس إليهم وهو الفيلسوف الذي سيدشن جيلًا ثانيًا للنظرية النقدية، ونقصد به يورغن هابرماس، فكيف كان نقده لرواد المدرسة؟ وما الجديد الذي أتى به؟ وما قيمة تصوره وحدودها الفلسفية؟

ثانيًا: جيل يورغن هابرماس

من العقلانية النقدية إلى العقلانية التواصلية

يُعدُّ الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس واحدًا من أهم وأبرز الفلاسفة المنتمين إلى مدرسة فرانكفورت، ويشكل زعيم جيلها الثاني الذي عمِل على نقد النَّظرية النقدية بذاتها وكما قدمها جيل الرواد هوركهايمر أدورنو وماركيوز. وقد عمل هابرماس على تشخيص الأعطاب والنّواقص التي اعترت المشروع الفكري الأول للمدرسة، وكرس هابرماس جلّ أعماله لتصحيح وتقويم ما عدّه مثالب شابت النظرية النقدية، مستعينًا في ذلك بعُدَّةٍ مفاهيمية تستند إلى العقل والعقلانية، ليقدم نظريته المشهورة بنظرية الفعل التواصلي، قصد تجاوز النظرية النقدية التي جاء بها الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت مستعينًا في ذلك بالتراث النقدي لنفس المدرسة، منتقدًا من خلالها تصورات فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة لمفهوم العقل والعقلانية.

ظلَّت مدرسة فرانكفورت وفيةً للمبدأ الهيغيلي القائل بالتجاوز مع الاحتفاظ؛ حيث شكَّل هابرماس مثالًا حيًّا لهذا المبدأ عندما حافظ على الطابع النّقدي لمدرسة فرانكفورت، غير أنه تجاوزها حينما وجد أن روّادها انتهوا إلى نُشدان التغيّر في عالم الفن والجمال وهو ما جعل المدرسة في جيلها الأول تسقط في مأزق اليوتوبيا، الأمر الذي جعل هابرماس يبحث عن بدائل لتصحيح المسار النقدي للمدرسة ككل.

وفي هذا الصدد أسس نظريته الموسومة بنظرية الفعل التواصلي بوصفها إمكانية تنفلت منها المدرسة من قبضة اليوتوبيا ليصير مسارها النقدي محايثا للواقع وغير متعالٍ عليه، وذلك من منطلق أن العقلانية الأنوارية لم تستنفد كل طاقاتها وبخاصة في جانبها التواصلي. هكذا ستتشكل العقلانية التواصلية مع هابرماس كعقلانيةٍ إجرائيةٍ مكملة لمسار الحداثة. ومن هنا يمكن أن نفهم عبارة هابرماس أن “الحداثة مشروع لم يكتمل بعد”([9])، وكأنّ نظرية الفعل التواصلي تكملة للحداثة الأنوارية في مستوياتها المتعددة: الفكرية والسياسية والأخلاقية… عالج هابرماس المجال الفكري عندما حاور معظم النَّزعات والاتجاهات العقلانية ما بعد الحداثية التي تعتقدُ أن مشروع الحداثة فشل، وأنتج أضداده، ومن تم وجب تجاوزه. أما الحداثة في شقها السياسي فقد تطرق إليها في كتابه الفضاء العمومي، وستصير الحقيقة نتاجًا لما تمّ الاتفاق عليه والتوافق حوله وذلك بالاعتماد على المناظرة والمحاجّة والنقاش البناء داخل فضاء عمومي مشترك. هكذا إذًا تقوم نظرية الفاعلية التواصلية على مجموعة من الذوات التي تعالج قضايا وإشكالات مطروحة تحاول حلها والوصول إلى نتيجة معينة حولها، والتواصل هنا لا يقوم على الهيمنة والضغط والسيطرة وفرض وجهة نظر معينة، بل يقوم على أسس أخلاقية بمعنى أنّ العملية التواصلية تقوم على مجموعة من الأخلاقيات التي سماها هابرماس بأخلاقيات المناقشة.

ستشكل أخلاقيات المناقشة تصحيحًا لمسار الحداثة في مجالها الأخلاقي التي ستجعل من الأخلاق الكانطية في شقها المتعالي الترانسندنتالي أخلاقًا مُحايثة للواقع، وحيث ستصبح الأخلاق هي ما تم الاتفاق عليه والاتفاق بشأنه من طرف الذوات المتحاورة وهذا ما عالجه هابرماس في كتابه أخلاقيات المناقشة. هكذا سيتم حل  القضايا المصيرية  للإنسان بالاعتماد على النقاش والتواصل الذي يقوم على أفضل الحجج الممكنة التي تؤسس لاتفاق ملزم لكل الذوات المتحاورة، وهو ما سنجد له حضورًا في كتاب هابرماس: “التقنية والعلم كإيديولوجية”، حيث وجد أن حلّ مشكلة التقنية لا يكمن في التقنية ذاتها، كما أن التقنية ليست شرًّا في ذاتها كما قد يفهم من كلامه، ويرجع المشكل، في تقديره، إلى الاستعمال الإيديولوجي للتقنية التي أصبحت توظف في الحروب والسيطرة على الآخرين والهيمنة على عقولهم؛ الأمر الذي يقتضي إرادة سياسية بين الذوات بالاتفاق في فضاء عمومي حر ومعقلن. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: هل الذوات البشرية تحتاج إلى التواصل أم أنها تجاوزته إلى ما دون ذلك؟ وهل يمكن تحقيق التواصل المنشود بعيدًا من الاعتراف؟ وكيف تنجح الذات في التواصل وهي غير معترف به داخل المجتمع؟

ثالثًا: جيل أكسيل هونيث

من إيتيقا التواصل إلى إيتيقا الاعتراف

لم يسلم رواد الجيل الأول من نقد أكسيل هونيث بعدما تعرّضوا  للنقد اللاذع من طرف يورغن هابرماس، ولعل أهم انتقاد وجه لها هو أنها ظلت حبيسة الفهم الماركسي ذي النزعة الاقتصادية والذي ضيّق معنى الحياة الاجتماعية، لذلك يرى هونيث أن “هوركهايمر وأدورنو قد تسرَّعا في تفسير الأبعاد النَّفسية الفردية والظواهر الاجتماعية والثقافية بالاستناد إلى جملة الأسس الوظيفية للبنية الاقتصادية بالارتكاز على مقولة العمل الاجتماعي، ومن تم لم يهتما، بالقدر الكافي، بمفهوم التفاعل الاجتماعي الذي يمكن أن يسمح بظهور قناعاتٍ أخلاقية”([10])، وهي قناعات معيارية تشكل نواة الحياة الاجتماعية، التي تبلور فيها الذات الفاعلة جُملةً من التفاعلات.

والحقّ أنَّ المُجتمعات الأوروبية ظهرت بها أمراض اجتماعية لا يمكن حلها بالنظرة الضيّقة لأصحاب الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت، حيث لا يمكن إرجاعها إلى المشكل الاقتصادي أو التوزيع المادي للثَّروة، بل هي أمراض تتجاوز البعد المادي إلى ما هو اعتباري ومعنوي. لذلك وجب تشخيص الأمراض الاجتماعية التي عرفتها الحداثة الغربية والتي استشرت في الواقع الاجتماعي. والنظرية النقدية الأولى حسب هونيث “لم تتمكن من إدراك أهمية أشكال المعاناة الاجتماعية والأخلاقية التي يعرفها الأفراد في مجتمعاتهم» ([11]). هذا العجز الذي اتسمت به النظرية النقدية الأولى حسب هونيث في إدراك أهمية الحياة الاجتماعية قد شكّل لها عائقًا معرفيًّا ونظريًّا أمام معرفة الحياة الاجتماعية والأخلاقية.

اعتقد رواد مدرسة فرانكفورت الأوائل أنّ الأمراض الاجتماعية التي هيمنت على المجتمعات الرأسمالية تعود إلى هيمنة العقلنة الأداتية على الواقع الاجتماعي، وهو تفسير ظلَّ أحاديًا وإلى حد ما تفسير تشاؤمي. “إن ما يؤكد استمرارية حضور الطابع التشاؤمي في كتاب أدورنو الجدل السلبي الذي نجد فيه تجذيرًا أخر للنقد، من خلال تحليل الحياة الاجتماعية والعالم المعيش التي عرفت سيطرة شاملة وكلية بصورةٍ ممأسسة (Institutionnalisé) بحيث يمكن الحديث عن تشويهات عميقة وبنيوية أصابها عالم المعيش (Le monde vécu) والعناصر المكونة له كالمجتمع والثقافة والشخص وما يرتبط بها من قيم ومعايير”([12]).

لقد حاول الفيلسوف الاجتماعي أكسيل هونيث وضع تفكير نقدي لنظرية التواصل في الإطار الممارساتي فتبيّن له أنَّها تُعاني عدَّة نواقصَ تَحولُ بينها وبين تحقيق ما يصبو إليه رائد الفلسفة النَّقدية داخل مدرسة فرانكفورت. إذ أدى ذلك بالجيل الثالث من رواد مدرسة فرانكفورت بأخذ النظرية التواصلية إلى ساحة العلاقات الاجتماعية ليتبيّن لأكسيل هونيث أن هذا فضاء “العلاقات الاجتماعية”، التي تسمى الفضاء العمومي لدى أستاذه هابرماس، لا تختزن فقط وجود نزاعات اجتماعية يمكن حل انعكاساتها ببعض مبادئ أخلاق التواصل، بل لا بد من التفكير في تلك النزاعات الاجتماعية على أنها “أمراض اجتماعية” تقتضي وجود علاج ملائم تمثل أساسًا في التأصيل لنظرية جديدة وهي “الاعتراف”. وذلك انطلاقًا من كتابه المؤسس الصراع من أجل الاعتراف فقد كان أكسيل هونيث يراهن على القضاء على مختلف “الأمراض الاجتماعية”: الذل، الإهانة، الاحتقار، وسلب الحق… على الحب والقانون والتضامن كإطار عام للاعتراف.

على سبيل الختم

معلومٌ أن تاريخ الفكر عمومًا يعرف تقدمًا نحو الأمام انطلاقًا من الممارسة النقدية، فالإنسان يبدع حلولًا جديدة لأزماته، ويبني مختلف النَّظريات العلمية المتقدِّمة لمقاربة مآسيه من خلال ممارسة عقلانية تأتي تحت اسم جميل بتعبير بول ريكور وهو: “النقد”. فإذا كان هابرماس بنظريته النقدية حول التواصل يستطيع تقديم مساهمته حول سبل بلوغ مجتمع إنساني جدير بحمل لفظ “الإنساني”، وإذا كانت نظريته لم تسلَم من النقد؛ حيث قدمه عدد من الفلاسفة على رأسهم أكسيل هونيث، إذ أسفرت ممارسته النقدية بتقديم نظرية جديدة موسومة بـ “نظرية الاعتراف” واستطاعت فرض مكانتها داخل الساحة الفكرية والاجتماعية والسياسية على حد سواء لما تحمله من دلالات عملية فعّالة في ترسيخ أسس مُجتمع التعايش والعيش المشترك، مجتمعٌ تسوده قيم العدالة والحريَّة والمساواة من خلال المفتاح الرئيس الذي هو “الاعتراف”. بيد أن نظريته بدورها لم تنفلت من النقد. لعل ذلك ما تقدمت به نانسي فرايزر وآخرون… ولربما يكون الاعتراف نفسه بوسمه نظريَّةً حاملة في أحشائها لأدوات نقدها وعوامل تجاوزها أو على الأقل ملامح نقصها من أجل الدفع بها نحو الأمام. فلا نظرية نقدية جامدة يمكن لها أن تستفيد منها البشرية إذا لم تحمل في طياتها إمكان تجاوزها أو على الأقل هامش تصحيحها، ونظرية أكسيل هونيث لا تخرج عن هذا الإطار. يتضح لنا إذًا من خلال هذا العرض المختصر أن مفهوم العقلانية في سياقها الفلسفي الغربي هو مفهوم متحول على الدوام، فهو يتخذ صورًا وأشكالًا مختلفة: عقلانية أداتية، عقلانية نقديَّة، عقلانية تواصلية…إلخ. وقد عملت النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت على تتبع مسار هذه الأشكال المختلفة قصد الوصول إلى صورة العقلانية المناسبة التي يمكن أن يحقق فيها الإنسان حريته وسعادته([13])، إلا أنّ هذه المدرسة الفلسفية الكبيرة كما يقول الأستاذ عبد الغفار مكاوي نظرت إلى العقلانية والتنوير من منظور غربي فحسب. وهكذا سقطت في فخّ التمركز حول الذاتية الغربية التي تصورت وما زالت تتصور إلى حد كبير أن تاريخها هو تاريخ العالم([14]).

كتب ذات صلة:

نقد الثقافة الغربية: في الإستشراق والمركزية الأوروبية

محمد عابد الجابري ونقد العقل العربي

قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر