أعادت عملية طوفان الأقصى، وما أعقبها من تداعيات محلية وإقليمية وعالمية، القضيةَ الفلسطينيةَ إلى مكانتها المحورية عربيًا وإقليميًا وعالميًا، بل جعلتها تحتل مكانة مركزية في قضايا التحرُّر من الاستعمار والقضاء على العنصرية لدى معظم شعوب العالم. وهو أمر يوفر فرصة تاريخية استثنائية لإعادة تفعيل القضية الفلسطينية كقضية تحررية عالمية تواجه أكثر المشاريع الاستعمارية العنصرية ظلمًا وخطرًا على الإنسانية في التاريخ الحديث والمعاصر، وهو ما يضع على كاهل أصحاب القضية، أي الشعوب العربية الحية بالدرجة الأولى، وعلى نحو أكثر تحديدًا القوى التحررية منها، مسؤولية وواجب تفعيل كل ما يمكن من وسائل وبرامج لمساندة القضية الفلسطينية ومواكبة المناخ التضامني العالمي مع هذه القضية والبناء عليه لدعم هذه القضية على مختلف الصعد السياسية والدبلوماسية والقانونية والإعلامية والثقافية والفكرية وغيرها. فأي نوع من المساندة مطلوب القيام بها في هذه المرحلة من التحديات والمخاطر والفرص التي تواجهها القضية الفلسطينية في هذه المرحلة التاريخية التي فتحت عملية طوفان الأقصى وتداعياتها آفاقًا جديدة فيها؟
يفترض البحث في مشروع مساندةٍ للقضية الفلسطينية في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى أن تكون هذه المساندة في حجم الحدث وتداعياته وفي حجم التحديات والتهديدات التي تواجهها القضية الفلسطينية اليوم وفي المستقبل. وهذا أمرٌ يَفترِض بدوره الانطلاقَ من مجموعة أسئلة في ضوئها تتحدد سبل المساندة وإمكاناتها؛ فمن أي واقع فلسطيني وعربي ودولي ننطلق لمساندة القضية الفلسطينية؟ وما هي أبرز التغيُّرات التي أحدثتها، أو ظهّرتها، طوفان الأقصى، التي يجب البناء عليها في مساندة القضية الفلسطينية؟ وما هو الخطاب والخطوات العملية التي يُفترض أن تكون في حجم التحديات والتهديدات التي تواجهها القضية الفلسطينية في هذه المرحلة؟ ومن هي القوى الفاعلة، السياسية والثقافية والاجتماعية، القادرة على مساندة القضية الفلسطينية وما هي الصيغ والأطر التنظيمية المناسبة لذلك؟
ينطلق التفكير في هذه المسألة من رؤية جديدة لمقاربة الصدمة التاريخية تُعنى بفهم وتفسير التأثيرات النفسية والنفس اجتماعية والإدراكية والسلوكية للأفراد والجماعات والاستجابة وردود الفعل التي تعقب الأحداث الكبرى الصادمة التي تترك بصمتها في التاريخ، وبالتالي التأثير في إعادة إنتاج الوعي الجماعي حيال قضايا متعلقة بتلك الأحداث. فعملية طوفان الأقصى وحرب الإبادة الجماعية التي تلتها في غزة أحدثتا صدمة تاريخية مزدوجة قلّما عرف العالم مثيلًا لها في التاريخ الحديث والمعاصر، صدمة تغيرت معها الكثير من المفاهيم العسكرية والاستراتيجية، وتحطّمت معها مسلّمات، وسقطت سرديات، وانتُهكت نظم قيم وشرائع، ربما ستضع النماذج الفكرية لبعض الحضارات أمام أسئلة، أو حتى مساءلة، كبرى بعد الحرب.
لذلك، نحن نعيش اللحظة التاريخية المؤاتية لطرح الأفكار الكبرى والتأثير في شرائح ومجموعات واسعة من الرأي العام العالمي وفي الاصطفافات السابقة، ولإطلاق حركة عالمية لدعم القضية الفلسطينية؛ فصدمة تاريخية بهذا الحجم ستُحدث مراجعات على مستوى الأفكار الكبرى والمواقف المسبقة والسرديات والصور النمطية السائدة واتجاهات الرأي العام، وتوفر اللحظة المؤاتية لإعادة تموضع شرائح ومجموعات واسعة من الشعوب والجماهير والنخب في مختلف بقاع الأرض. لكن هذا الاهتزاز الذي يعيشه العالم اليوم ليس أمرًا حتميًا انتقالُ العالم معه إلى حالة أفضل وحدَه ومن دون جهد محرِّك له، بل يجب أن يكون هناك من يدرك الظروف الموضوعية لهذه اللحظة التاريخية وتحولاتها، وكيف يمكن أن تُقطف هذه الفرصة التي قلّما تتكرر في التاريخ.
1 – الواقع الفلسطيني والعربي والدولي والقضية الفلسطينية
ربما تكون القضية الفلسطينية من أكثر القضايا ظلمًا وتعقيدًا في التاريخ الحديث والمعاصر؛ فالوقائع والتوازنات الجيوسياسية التي استطاعت القوى الاستعمارية فرضها في المنطقة وفي العالم عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية، لتصدير أزماتها الداخلية وفرض هيمنتها على العالم، وتشكُّل نظام إمبريالي تقوده الولايات المتحدة بعد الحرب الثانية (خطة مارشال، ونظام بريتون وودز، والتفوُّق العسكري المفعَّل) هي التي منحت المشروع الصهيوني إمكان النجاح والتحقق كمشروع استيطاني استعماري عنصري اقتلاعي، وجعلت من مواجهة هذا المشروع في فلسطين والمنطقة مواجهةً مع القوى الاستعمارية نفسها. وبالتالي، اتخذت المواجهة الرسمية العربية مع هذا المشروع والدعم الغربي له منحىً انكساريًا، منذ نكسة عام 1948 التي أُعلن معها قيام دولة «إسرائيل»، مرورًا بحرب عام 1967 التي انتهت بهزيمة عربية كبرى وبإقرار النظام العربي بحق «إسرائيل» في الوجود على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ثم بحرب عام 1973 التي انتهت باتفاقيات كامب دايفيد وخروج مصر من دائرة الصراع العربي – «الإسرائيلي»، ثم بحرب عام 1982 في لبنان، التي وجهت ضربة قوية للكفاح المسلح الفلسطيني في الخارج، لكنها في الوقت نفسه أسست لولادة عصر جديد من المواجهة المسلحة ضد «إسرائيل».
لكن المنعطف الانكساري الأكبر في المنطقة بعد هزيمة عام 1967 كان حرب الخليج الثانية عام 1991، التي أسست لنظام رسمي عربي يخضع للنظام العالمي الأحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الذي تكرس بانهيار الاتحاد السوفياتي في العام نفسه، وينحو باتجاه التخلي عن القضية الفلسطينية، وهو ما تم التأسيس له في مؤتمر مدريد في العام نفسه ثم في مسار أوسلو عام 1993، ثم حاولت الولايات المتحدة وإسرائيل استكماله وإزالة العقبات التي وضعت أمامه بالقوة، فكان غزو العراق عام 2003 ثم حرب لبنان عام 2006، حتى جاءت تحولات الربيع العربي، التي انتهت بتدمير أو إنهاك من تبقى من دول عربية ممانعة لمسار التطبيع وبإمساك الاتجاه التطبيعي المتخلي عن القضية الفلسطينية بالنظام الرسمي العربي وتفرُّده به.
لكن في ظل هذا المنحى العام الانكساري والتراجعي للنظام الرسمي العربي تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي والأمن القومي العربي بوجه عام، كان مشروع المقاومة ينمو في لبنان منذ عام 1982، ثم امتد إلى فلسطين، وما لبث هذا المشروع أن توسّع إلى العراق واليمن في مراحل لاحقة. وهكذا نشأت المقاومة كحالة عسكرية وحيدة تقود الصراع في وجه المشروع الصهيوني ومشاريع الهيمنة الأمريكية في المنطقة، مقابل جيوش عربية عاجزة أو غير معَدَّة ولا معبّأة لخوض حرب ضد «إسرائيل». فبدأت قوى المقاومة تؤسس لمعادلات جديدة للمواجهات العسكرية مع الكيان الصهيوني ومشاريع الهيمنة الإمبريالية في المنطقة، وهي مقاومة وُلدت من خارج صندوق النظام الرسمي العربي، وأسست لمرحلة جديدة من الأمن القومي العربي انتقل مركز التأثير والدفاع عن هذا الأمن فيه من يد النظام الرسمي العربي وجيوشه المدافعة عن أنظمتها السياسية وحسب إلى أيدي قوى شعبية غير نظامية أخذت تتحمل الأعباء عن القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي ومواجهة الهيمنة الإمبريالية في المنطقة وصون الأمن القومي العربي بوجه عام.
لكن المفارقة الإشكالية في هذه المعادلة هي أن المقاومة، التي تمثل الطرف الوحيد باتخاذ قرار المواجهة العسكرية وبفعلها ضد «إسرائيل» والقواعد الأمريكية في المنطقة، لا تملك القرار السياسي الموازي، سواء في دولها أو على مستوى النظام الرسمي العربي عمومًا، ربما لأن فصائل المقاومة لم تعمل كفايةً على مراكمة عناصر القوة الكافية على المستوى السياسي كما راكمته على المستوى العسكري. لذلك حافظ النفوذ الأمريكي والمسار التطبيعي لدى معظم الأنظمة العربية على زخمه حتى لحظة انطلاق طوفان الأقصى.
واليوم نحن أمام مشهد نظام رسمي عربي تطبيعي يعمل على إنهاء الصراع مع «إسرائيل» والتنازل عن كل الحقوق الفلسطينية والعربية، بالتزامن مع ذهاب «إسرائيل» نحو مزيد من التشدُّد والعنصرية وسياسة الاقتلاع بهدف تحقيق مشروع الدولة اليهودية الصرفة، مقابل حركة مقاومة تراكم خبراتها وعدتها العسكرية لمواجهة «إسرائيل» والمصالح الإمبريالية في المنطقة، في ظل مشهد سياسي واقتصادي واجتماعي متداعٍ في كل الدول العربية التي نشأت فيها المقاومة.
2 – التغيرات التي أحدثتها طوفان الأقصى حتى الآن: محليًا وعالميًا
في ظل الوضع الصعب الذي تواجهه القضية الفلسطينية فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا، جاءت طوفان الأقصى لتعيد فرض واقع جديد في ما يتعلق بهذه القضية على الساحات الفلسطينية و«الإسرائيلية» والعربية والعالمية.
أ – فلسطينيًا، أعادت عملية طوفان الأقصى فرض القضية الفلسطينية كقضية محورية على الصعيدين العربي والعالمي، وأعادت حقوق الشعب الفلسطيني إلى يد المقاومة الفلسطينية بعدما كانت هذه الحقوق عرضة للمساومة والتنازل والتهميش على أيدي السلطة الفلسطينية والنظام الرسمي العربي، والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي تدير الملف الفلسطيني على الصعيد الدولي. وإذا لم تؤدِّ هذه العملية، وحرب الإبادة الجماعية التي أعقبتها في غزة، إلى إلغاء مشاريع التطبيع العربية مع «إسرائيل» فهي ستلجمها وتحدّ من توسعها على الأقل؛ كما أكدت هذه العملية تمسك الشعب الفلسطيني بخيار المقاومة في مواجهة الكيان الصهيوني، الرافض لأي تسوية تعيد للشعب الفلسطيني أي جزء من حقوقه، وهذا ما أدى إلى تعميق مأزق السلطة الفلسطينية، التي بات إنهاء وجودها ضرورة تاريخية لاستعادة الشعب الفلسطيني ومقاومته الإمساك بقرار النضال السياسي إلى جانب الكفاح المسلح، لتحرير فلسطين واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، وبناء الدولة الوطنية الفلسطينية المستقلة على كامل تراب فلسطين.
ب – «إسرائيليًا»، أدت طوفان الأقصى والحرب التي تلتها إلى إحداث تصدُّعات خطيرة في بنية الكيان الصهيوني المادية واللامادية وفي أمنه الوجودي؛ فانكشفت هشاشة هذا الكيان، وتآكَلَ تفوُّقُه الأمني والعسكري واستقرارُه السياسي والاجتماعي، وتعمَّق عجزه عن الدفاع عن نفسه بمفرده؛ فهو يستمد قوته وشروط بقائه من كونه كيانًا وظيفيًا في النظام الإمبريالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. كل ذلك ساهم في فقدان رعايا هذا الكيان من اليهود الثقة بدولتهم العبرية، وبمؤسستها العسكرية، وبمقولة المجتمع الآمن المحمي، كما تكشّف زَيفُ سرديته وصورته على مستوى العالم. وقد أظهرت حرب الإبادة الجماعية التي يخوضها الجيش «الإسرائيلي» ضد غزة الوجه العنصري الهمجي لـ«إسرائيل» التي تسعى للقضاء على الشعب الفلسطيني، إما بالتهجير وإما بالقتل، وهي سياسة أخذت شخصيات حكومية «إسرائيلية» تعبّر عنها قبل عملية طوفان الأقصى بوقت طويل.
ج – عربيًا، أظهرت حرب الإبادة الجماعية الشاملة التي يخوضها الكيان الصهيوني ضد غزة مدى تخلي معظم الأنظمة العربية عن القضية الفلسطينية، وعجزِ النظام الرسمي العربي حتى عن تقديم أبسط عناصر الدعم إلى الشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة، بل حتى إن بعض الأنظمة العربية يشارك في حصار غزة مقابل مشاركة أنظمة أخرى في تسهيل وتسريع إيصال السلع إلى الكيان الصهيوني عبر أراضيها. فضلًا عن تواطُؤ بعض هذه الأنظمة ضد المقاومة التي تدافع عن القطاع، بل ضد كل دور المقاومة في المنطقة، فلم تتردد بعض الأنظمة والجيوش العربية في استخدام أسلحة الدفاع الجوي لديها لحماية الكيان الصهيوني من الضربات الصاروخية للمقاومة اليمنية. في المقابل لم يقم الشارع العربي بالحد الأدنى من الدور المطلوب منه دفاعًا عن غزة، على الرغم من هول المجازر وأعمال الإبادة الجماعية التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضد أهلها؛ الأمر الذي يطرح الأسئلة حول أسباب خمول الشارع العربي وعدم القيام بدوره في دعم القضية الفلسطينية، وبالتالي عدم قدرته على إحداث تغيير داخل حكوماته أو أنظمته لمصلحة القضية الفلسطينية والصراع العربي – «الإسرائيلي».
د – عالميًا، كشفت عملية طوفان الأقصى، وما تلاها من حرب همجية، مدى الترابط الاستراتيجي بين «إسرائيل» والغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، كما كشفت مدى أهمية الدور الوظيفي الذي تؤديه «إسرائيل» في مشروع الهيمنة الإمبريالية الغربية على العالم، بما فيه الشرق الأوسط. وكشف هذا الدفاع الغربي المستميت عن «إسرائيل»، وتبرير وإباحة المجازر التي ترتكبها في غزة، مدى زيف الهوية الثقافية التنويرية والإنسانوية التي يقدم الغرب نفسه بها ويخوض حروبه ومشاريع هيمنته في العالم تحت غطائها، ومدى السقوط الأخلاقي والقيمي والفكري للنظام الرسمي في الغرب، ولدى الكثير من نخبه الفكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية، التي تبرر أبشع صور الإجرام والإبادة الجماعية في غزة وتدافع عن السرديات المزيفة للكيان الصهيوني.
لكن، في الوقت نفسه، وهذا هو الأهم، أظهرت حرب غزة حدوث تحوُّلات مهمة في الرأي العام الغربي، وبخاصة لدى جيل الشباب، بمن فيه الشابات والشبان الجامعيون في الولايات المتحدة، الذي يتبنى رؤية جديدة للقضية الفلسطينية تتعدى كونها مجرد رد فعل على المجازر وصور آلاف الضحايا الأطفال في حرب الإبادة الجماعية في غزة، وتصل إلى حدود نسف السردية «الإسرائيلية» وتبني الحقائق التاريخية للقضية الفلسطينية بوصف فلسطين التاريخية هي أرض فلسطينية منذ آلاف السنين وبوصف «إسرائيل» دولة احتلال استعمارية عنصرية اقتلاعية. حتى إن استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة تظهر أن أغلبية واسعة من المستطلعين تؤيد إزالة «إسرائيل» وبناء دولة فلسطينية تقودها المقاومة الفلسطينية.
3 – ماذا نقول وماذا نفعل؟ من رد الفعل إلى الفعل
في ظل الظروف العربية والإقليمية والعالمية وتحوُّلات الرأي العام العالمي حيال القضية الفلسطينية عقب طوفان الأقصى وحرب الإبادة الجماعية الصهيونية في غزة، ما هي الخطوات الجدية المطلوبة لمساندة هذه القضية؟ هل تكفي إدانة الإبادة الجماعية الشاملة التي يرتكبها الكيان الصهيوني بدعم أمريكي وغربي في غزة، والدعوة إلى التظاهر والمشاركة في أنشطة مساندة للقضية الفلسطينية وداعية إلى وقف إطلاق النار في غزة؟ هذا سيكون مجرد رد فعل على الحرب في غزة، وهو أمر مطلوب آنيًا للضغط من أجل وقف الحرب. لكن التوقف عند حدود إدانة الإجرام الإسرائيلي فيه اعتراف بـ«إسرائيل» كونه يتوقف بدوره عند حدود إدانة السلوك، فماذا عن إدانة ومحاربة جوهر المشروع الاستعماري الصهيوني العنصري ووجوده نفسه؟ هذا يعني أننا يجب أن نخرج من آليات رد الفعل وننتقل إلى الفعل، على أن يكون هذا الفعل بحجم التحدي والتهديد اللذين يواجهان القضية الفلسطينية، وبحجم الخطر الذي يمثله المشروع الصهيوني وكيانه العنصري الهمجي، وبالتالي، لن يقتصر الدور المطلوب منا اليوم على مجرد الدفاع عن غزة، بل سيشمل هذا الدور الدفاع عن الشعب الفلسطيني وبالتالي العمل على تحرير فلسطين. إذًا، لا بد من تأسيس حركة عالمية لتحرير فلسطين تواكب التحولات العالمية التي يتعمق معها مأزق النظام الإمبريالي العالمي – بما فيه المشروع الصهيوني – اقتصاديًا وسياسيًا وفكريًا وأخلاقيًا، وتعيد المكانة المركزية للقضية الفلسطينية عالميًا، فاللحظة التاريخية التي يعيشها العالم في ظل الصدمة التاريخية التي أحدثتها طوفان الأقصى وحرب الإبادة الجماعية التي تتعرض غزة لها توفر الشروط الموضوعية لإطلاق حركة عالمية لتحرير فلسطين، تخلق الرؤى والبرامج والأدوات السياسية والفكرية والثقافية والإعلامية والقانونية والحقوقية التي تصب في مجرى التاريخ نحو تحرير فلسطين.
لقد حان الوقت لنقوم بتأسيس حركة سياسية عالمية تكون بحجم التحدي والتهديد الذي تمثله «إسرائيل» والصهيونية العالمية من جهة، وتواكب مستوى التراكمات والإنجازات التي حققتها المقاومة العسكرية الفلسطينية والعربية دفاعًا عن هذه القضية من جهة أخرى. إن نسر المقاومة وتحرير فلسطين يحلِّق بجناحين، جناح عسكري وجناح سياسي، بمعنى آخر بقوتين، قوة خشنة وقوة ناعمة، لنواجه بهما قوة العدو الصهيوني والإمبريالي الخشنة وقوته الناعمة في آن معًا.
وكما أن فصائل المقاومة في حركة التحرر العربية تطور كل إمكانياتها العسكرية لمواجهة القوة العسكرية للعدو الصهيوني ببعده الإمبريالي علينا أن نطوِّر كل إمكانياتنا السياسية التي نواجه بها القوة السياسية المتفوقة علينا بامتياز لدى هذا العدو، بدءًا بمواجهة الأنظمة والقوى السياسية المعادية والمنظمات الدولية الخاضعة لها، وصولًا إلى مواجهة الصورة والسردية والدعاية والتضليل والنموذج الحضاري والسياسي والقيم الاجتماعية والإنسانية ومعايير العدالة الاجتماعية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المدمرة المفروضة علينا…
لذا يمثل الهدف والشعار العام الذي يُفترض تحديده لحركة عالمية كهذه تحدِّيًا جديًّا، فأي حركة تحررية عالمية لا يمكن أن تطرح أنصاف حلول، أو حلولًا نصف عادلة، لقضايا الشعوب المحقَّة، وبخاصة إذا كانت القضية التي تدافع عنها هذه الحركة هي القضية الفلسطينية وإذا كان العدو هو الكيان الصهيوني الاستعماري العنصري الاقتلاعي، الذي لا يبدو أن هناك أنصاف حلول ممكنة مع صفاته، سواء صفة الاستعمار التوسعي أو صفة العنصرية أو صفة الاقتلاع الهمجي. لذا يُفترض بالشعار الأساسي لحركة تحررية كهذه أن يكون تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وإنهاء الكيان الصهيوني الاستعماري العنصري الاقتلاعي من فلسطين، وضمان عودة كل الشعب الفلسطيني إلى أرضه وبناء دولته المستقلة على أرضه التاريخية. هذا هو الخطاب وهذه هي الرؤية التي يجب العمل على خلق أو استقطاب تيار جماهيري عالمي لنصرة القضية الفلسطينية بناء عليها. إنها اللحظة التاريخية المؤاتية لإطلاق هذه الحركة، على الرغم من كل التحديات والضغوط الإمبريالية التي يمكن أن تواجه حركة تحررية كهذه.
كتب ذات صلة:
المصادر:
هذه المقالة هي افتتاحية العدد 540 من مجلة المستقبل العربي، لشهر شباط/ فبراير 2024.
فارس أبي صعب: باحث، ومدير تحرير مركز دراسات الوحدة العربية.
فارس أبي صعب
مدير قسم التحرير ومدير تحرير مجلة المستقبل العربي
فارس أبي صعب مدير التحرير في المركز ومدير تحرير مجلة المستقبل العربي منذ عام 2012. باحث في العلوم الاجتماعية، نشر عدداً من الدراسات في دوريات عربية، أو فصولاً في كتب، حول قضايا عربية أو عالمية معاصرة، كتجارب الأحزاب السياسية في العالم العربي، والثقافة السياسية للفساد، والانتخابات وأزمة الديمقراطية في لبنان، والعرب والحداثة، والقضية الفلسطينية، والثورات العربية في عالم متغير ومستقبل الشرق الأوسط… فضلاً عن مجموعة من الدراسات والمقالات حول موضوعات متنوعة نشرت في صحف لبنانية أو عربية، وعن غيرها من الأبحاث غير المنشورة.
منذ بداية التسعينيات حتى اليوم، أدار الباحث على التوالي أقسام التحرير والنشر أو الدراسات في عدد من مراكز الدراسات العربية، منها مركز دراسات الوحدة العربية (2012-2018)، والمركز اللبناني للدراسات (1993-2006)، ومركز الخليج للأبحاث (2009-2006)، والمعهد المالي – بيروت (2011-2009). وهو ساهم في تأسيس مجلة أبعاد الفصلية (بيروت) وأدار تحريرها (1997-1993)، كما ساهم في تأسيس مجلة السادسة الفصلية (بيروت) ورَأَس تحريرها (2011).
حائز دبلوم الدراسات العليا في علم اجتماع التنمية من الجامعة اللبنانية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.